الفصل الثامن

الاحتكار والمسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال والنقابات العمالية

تحمل المنافسة مدلولين مختلفين تمامًا؛ ففي المحادثات العادية تعني المنافسة التنافس الشخصي من جانب فرد يسعى للتفوق على منافسٍ معروفٍ له، أما في عالم الاقتصاد، فتعني العكس تقريبًا. ليس هناك تنافس شخصي في السوق التنافسية. ليس هناك خصومة شخصية. إن مزارع القمح في السوق الحرة لا يشعر بوجود تنافس شخصي مع جاره، أو بأنه مهدد بوجود جاره، الذي يمثل المنافس له في واقع الأمر. وليس بوسع أي مشارك تحديد الشروط التي سيتمكن المشاركون الآخرون بواسطتها من الحصول على سلع أو وظائف. إن الجميع يقبل الأسعار التي يحددها السوق ولا يمكن لأي فرد أن يكون إلا تأثير واحد محدود على السعر مع أن المساهمين جميعًا يحددون السعر عن طريق التأثير المشترك لإجراءاتهم المنفصلة.

يوجد الاحتكار عندما يكون لفرد بعينه أو لشركة بعينها سيطرة كافية على منتج أو خدمة ما للتحديد الدقيق للشروط التي بناءً عليها يحصل أفراد آخرون عليها أساسًا. يقترب الاحتكار بطريقة أو بأخرى من المفهوم العادي للمنافسة بما أنه يشمل فعلًا التنافس الشخصي.

يثير الاحتكار نوعين من المشكلات للمجتمع الحر؛ الأول يتمثل في أن وجود الاحتكار يعني تقييد التبادل الطوعي عن طريق تقليص الخيارات المتاحة أمام الأفراد. أما النوع الآخر فهو أن وجود الاحتكار يثير قضية «المسئولية الاجتماعية»، كما اتُفِقَ على تسميتها، للمحتكرين. إن المساهم في السوق التنافسية ليست لديه أية سلطة كبيرة لتغيير مصطلحات التبادل التجاري؛ فدوره غير ملحوظ تقريبًا ككيان منفصل؛ ومن ثم من الصعب الزعم أن لديه «مسئولية اجتماعية» باستثناء تلك المسئولية التي يشترك فيها كافة المواطنين فيما يتعلق بالإذعان لقانون الوطن والعيش وفقًا لقواعده. إن للمحتكر دورًا أساسيًا ولديه تأثير وسلطة، ومن السهل الزعم أنه ينبغي له تفعيل سلطته ليس فحسب لتعزيز مصالحه الخاصة بل أيضًا لتعزيز الأهداف المرغوبة اجتماعيًا. ومع ذلك، فإن التطبيق واسع النطاق لهذا المبدأ قد يدمر المجتمع الحر.

لا شك أن المنافسة أمر مثالي، كالخط أو النقطة في الهندسة الإقليدية. لم ير أحد الخط الإقليدي قط — فهو ليس له عرض أو عمق — مع ذلك نجده جميعًا مفيدًا في أنه يجعلنا ننظر إلى العديد من المقاييس الإقليدية — كمقياس مهندس المساحة — باعتبارها خطوطًا إقليدية. على نحو مماثل، لا يوجد ما يسمى بمنافسة «محضة»؛ فكل منتج له بعض التأثير — بصرف النظر عن ضآلة هذا التأثير — على سعر المنتج الذي ينتجه. إن القضية الأساسية الضروري فهمها والضرورية لرسم السياسة هي ما إذا كان هذا التأثير مهمًا أو ينبغي تجاهله كما يستطيع مهندس المساحة تجاهل سُمْك ما يسميه «خطًا.» بالطبع، تتوقف الإجابة على المشكلة، لكن نتيجةً لدراستي الأنشطةَ الاقتصاديةَ في الولايات المتحدة، تتزايد دهشتي من مدى اتساع نطاق المشكلات والصناعات التي يكون من الملائم فيها التعامل مع الاقتصاد كما لو كان تنافسيًا.

إن المشكلات التي يثيرها الاحتكار هي تقنية وتشمل مجال لا أملك فيه أية كفاءة خاصة. بالتالي، يقتصر هذا الفصل على دراسة استقصائية سطحية تمامًا لبعض القضايا الأوسع مجالًا: نطاق الاحتكار، ومصادر الاحتكار، والسياسة الحكومية الملائمة، والمسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال والنقابات العمالية.

(١) نطاق الاحتكار

هناك ثلاثة مجالات رئيسية للاحتكار يستدعي كل منها اهتمامًا خاصًا: الاحتكار في الصناعة، والاحتكار في النقابات العمالية، والاحتكار الذي تسببه الحكومة.

(١-١) الاحتكار في الصناعة:

إن أهم الحقيقة فيما يتعلق باحتكار الشركات هي عدم أهميته نسبيًا من وجهة نظر الاقتصاد ككل؛ فهناك أربع ملايين شركة عاملة مستقلة في الولايات المتحدة تقريبًا؛ وما يقرب من أربعمائة ألف شركة جديدة تُؤَسَّسُ كل عام إلى جانب عدد أقل بعض الشيء يُغْلَقُ سنويًا، كذلك فإن ما يقرب من خمس السكان العاملين هم من أصحاب المهن الحرة، وفي كل صناعة تقريبًا يمكن ذكرها هناك عمالقة وأقزام جنبًا إلى جنب.

وبعيدًا عن هذه الآراء العامة، من الصعب تحديد مقياس موضوعي ومُرْضٍ لتحديد نطاق الاحتكار والمنافسة، ولقد أشرنا إلى السبب الرئيسي فعلًا وهو أن هذه المفاهيم كما تُسْتَخْدَمُ في النظرية الاقتصادية هي افتراضات مثالية تهدف إلى تحليل مشكلات خاصة بدلًا من وصف الأوضاع الحالية. كنتيجة لذلك، لا يمكن أن يوجد تحديد قاطع لما إذا كانت مشروعات أو صناعات بعينها يمكن اعتبارها احتكارية أو تنافسية. إن صعوبة تحديد معاني محددة لهذين المصطلحين تؤدي إلى الكثير من سوء الفهم؛ حيث تستخدم الكلمة نفسها للإشارة إلى أشياء مختلفة، حسب خلفية التجربة والخبرة من حيث ماهية حالة التنافس التي تُنَاقَش فيها. ولعل المثال الأبرز هو المستوى الذي يصفه الطالب الأمريكي بأنه احتكاري، والنظم التي يرى الأوربي أنها عالية التنافسية. كنتيجة لذلك، فإن الأوربيين — الذين يفسرون الأدب والفكر الأمريكيين وفقًا للمعنى المرتبط بمصطلحي المنافسة والاحتكار في أوربا — يميلون إلى الاعتقاد أن هناك مستوى من الاحتكار في الولايات المتحدة أكبر كثيرًا مما يوجد في الواقع.

حاولت العديد من الدراسات — وعلى وجه الأخص تلك التي أجراها جيه وارين ناتر وجورج جيه ستيجلر — تصنيف الصناعات كاحتكارية، وتنافسية بمستوى يجعلها تحقق نتائج، وصناعات تديرها الحكومة أو تشرف عليها، وحاولت الدراسات أيضًا تقفي أثر التغييرات عبر الزمن في هذه الفئات،1 وخلصت الدراسات إلى أنه اعتبارًا من عام ١٩٣٩، يمكن النظر إلى ما يقرب من ربع الاقتصاد باعتباره خاضعًا لإدارة أو إشراف الحكومة. ومن بين الثلاثة أرباع المتبقية، يمكن النظر إلى الربع بحد أقصى — وربما ١٥٪ في المائة — على أنه احتكاري، وفيما يمكن وصف ثلاثة أرباع وربما ٨٥٪ بأنها تنافسية. لقد شهد القطاع الخاضع لإدارة أو إشراف الحكومة نموا كبيرًا على مدار نصف القرن المنصرم تقريبًا، ولكن من الناحية الأخرى، لم يبدُ أن هناك أي اتجاه في نطاق القطاع الخاص نحو زيادة نطاق الاحتكار بل إنه من الممكن أن يكون قد تقلص كثيرًا.

أظن أن هناك انطباعًا منتشر على نطاق واسع يقول بأن الاحتكار أهم مما تشير إليه هذه التقديرات وكان آخذًا في النمو بخطى ثابتة على مر الزمان، ويكمن أحد أسباب هذا الرأي الخاطئ في النزعة إلى الخلط بين الحجم المطلق والحجم النسبي. فأثناء نمو الاقتصاد، ازداد حجم الشركات في المطلق، وفسر البعض ذلك على أن تلك الشركات أصبحت تمثل قطاعًا أكبر من السوق، في حين أن السوق ربما تكون قد نمت نموًا أسرع بكثير. سببٌ ثانٍ لهذا الرأي الخاطئ هو أن الاحتكار يتمتع بقدر من الأهمية ويستدعي مستوى من الاهتمام أعلى من المنافسة. فإذا طلب من الأفراد إعداد قائمة بالصناعات الرئيسية في الولايات المتحدة، سيدرج الجميع تقريبًا في تلك القائمة إنتاج السيارات، فيما سيدرج القليل تجارة الجملة. على الرغم من ذلك، تفوق تجارةُ الجملة إنتاجَ السيارات أهميةً بمقدار الضعف، ولكن لأن تجارة الجملة أعلى تنافسيةً، فتجذب اهتمامًا أقل، ولا يستطيع إلا القليل أن يذكروا أسماء شركات رائدة في تجارة الجملة، ومع ذلك فبعض منها ضخم للغاية في الحجم المطلق. ومع أن إنتاج السيارات صناعة تتميز بتنافسية عالية في بعض الأوجه، فإنها تضم شركات أقل وبالطبع أقرب إلى الاحتكار، وبإمكان الجميع ذكر الشركات الرائدة في إنتاج السيارات. وإذا أردنا مثالًا بارزًا آخر، يمكن ذكر الخدمات المنزلية وهي صناعة أهم كثيرًا من مجال الهاتف والبرق. أما السبب الثالث فهو الانحياز العام والميل إلى المغالاة في التأكيد على أهمية الكبير مقابل الصغير، وهو الأمر الذي تُعِدُّ النقطة السابقة مجرد توضيح خاص له. وأخيرًا فإن السمة الأساسية لمجتمعنا هي طبيعته الصناعية، وهذا يؤدي إلى المغالاة في التأكيد على أهمية قطاع الصناعة من الاقتصاد، والذي لا يمثل سوى ربع الإنتاجية أو التوظيف، كما أن الاحتكار مهيمن في الصناعة أكثر من أية قطاعات أخرى من الاقتصاد.

إن المغالاة في تقدير أهمية الاحتكار مصحوبة — للأسباب نفسها إلى حد بعيد — بمغالاة في تقدير أهمية تلك التغيرات التكنولوجية التي تعزز الاحتكار مقارنة بتلك التي تعزز المنافسة. على سبيل المثال، نبِّه تنبيهًا شديدًا إلى أهمية انتشار الإنتاج الكمي انتشارًا كبيرًا، ولم تحظ التطورات في وسائل النقل والاتصال التي عززتها المنافسة — عن طريق التقليل من أهمية الأسواق الإقليمية المحلية واتساع نطاق المنافسة — سوى باهتمام أقل كثيرًا. فالهتمام المتزايد بصناعة السيارات أمر عادي، مع أن نمو صناعة النقل بالشاحنات التي تقلل الاعتماد على السكك الحديدية الضخمة مر دون اهتمام يُذْكَرُ، وكذلك التركيز المتضائل على مجال الصلب.

(١-٢) احتكار النقابات العمالية:

هناك ميل مشابه للمغالاة في تقدير أهمية الاحتكار في القطاع العمالي. تضم نقابات العمال ما يقرب من ربع السكان العاملين وهذا يقود إلى المغالاة في تقدير أهمية النقابات من ناحية هيكل الأجور حق التقدير؛ فالعديد من النقابات ليس لها أي أثر، حتى النقابات القوية والفعالة ليس لها سوى تأثير محدود في هيكل الأجور. ويتضح — في نقابات العمال أكثر من الصناعة — سببُ وجود ميل قوي للمغالاة في تقدير أهمية الاحتكار. في نقابة عمالية ما، تأتي أية زيادة في الأجور عبر النقابة، مع أنها قد لا تكون نتيجة لمنظومة النقابة. لقد ارتفعت أجور الخدم المنزليين ارتفاعًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، وإذا كان هناك نقابة للخدم المنزليين، لجاءت الزيادة عبر النقابة وكانت نُسِبَتْ إليها.

ليس من المقصود من هذا الحديث أن النقابات لا تشكل أهمية؛ فكما في احتكار الشركات، تلعب دورًا مهمًا ذا مغزى في جعل معدلات الأجور مختلفة عما كان سيقرره السوق، والاستخفاف بأهميتها خطأ لا يختلف عن المغالاة في تقدير أهميتها. طَرَحْتُ ذات مرة تقديرًا تقريبيًا يوضح إنه لأن العاملين المسجلين في النقابات يمثلون ما يتراوح بين ١٠٪ إلى ١٥٪ من السكان فقد ارتفعت أجور العاملين بنسب تتراوح بين ١٠٪ إلى ١٥٪ من السكان. هذا يعني أن ما يقرب من ٨٥٪ أو ٩٠٪ من السكان العاملين انخفضت أجورهم بنسبة ٤٪ تقريبًا.2 ومنذ أن طرحت تلك التقديرات، أجرى العديد من الأشخاص دراسات أكثر تفصيلًا؛ ورأيي في هذا الصدد أن تلك الدراسات تركت نتاج على نفس القدر من قوة حجة التقديرات التي طرحتها.

إذا رفعت النقاباتُ الأجورَ في وظيفة ما أو مجال بعينه، فهذا يؤدي بالضرورة إلى جعل فرص التوظيف المتاحة في تلك الوظيفة أو المجال أقل مما يمكن أن يحدث في حالات أخرى، تماما كما يؤدي ارتفاع سعر أية سلعة إلى انخفاض الكمية التي تُشْتَرَى منها. والنتيجة سوف تتمثل في زيادة عدد الباحثين عن وظائف أخرى، وهذا يجبر الأجور على الانخفاض في وظائف أخرى. ونظرًا لأن النقابات العمالية كانت الأقوى بشكل عام بين الجماعات المهنية التي كان أفرادها يحصلون على أجور مرتفعة بأية حال، تمثل أثرها في رفع أجر العامل الذي يحصل على أجر مرتفع على حساب العمال الذين يحصلون على أجور منخفضة؛ ومن ثم لم تضر النقابات المواطنين عامةً والعمال ككل فحسب بسبب سوء استخدام طريقة عمل النقابة؛ بل أدت أيضًا إلى زيادة الفروق بين دخول أفراد الطبقة العمالية بشكل أكبر نتيجة لتقلص عدد الفرص المتاحة أمام معظم العمال المتضررين.

فإذا نظرنا للأمر من إحدى زواياه، سنجد اختلافًا مهمًا بين احتكار النقابات العمالية واحتكار القطاع الخاص. ففي حين أنه لم يبدو أن هناك أي ميل متصاعد في أهمية احتكار القطاع الخاص على مدار نصف القرن المنصرم، إلا أن هذا الميل ظهر في احتكار النقابات العمالية بكل تأكيد. وزادت أهمية النقابات العمالية على نحو ملحوظ أثناء الحرب العالمية الأولى، وتناقصت أثناء العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، ثم حققت طفرة كبيرة صعودًا أثناء عهد برنامج الصفقة الجديدة؛ ورسخت أقدامها أثناء الحرب العالمية الثانية وفي أعقابها. وفي الآونة الأخيرة، حافظت على مكانتها بالكاد أو تدنت، ولكن ذلك التدني لا يعكس تدنيًا موازيًا داخل نطاق مجالات أو وظائف بعينها بل يعكس تدنيًا في أهمية تلك المجالات أو الوظائف التي تكون فيها النقابات مهمة مقارنةً بتلك التي تكون فيها النقابات ضعيفة. إن المقارنة التي أعقدها بين احتكار النقابات العمالية واحتكار القطاع الخاص دقيقة للغاية في أحد الجوانب. فإلى حد ما، لعبت النقابات العمالية دور الوسيلة لتطبيق الاحتكار في بيع المنتجات، ويتجلى المثال الأوضح على ذلك في مجال الفحم؛ حيث كان قانون جافي للفحم محاولةً لتقديم الدعم القانوني لاتحاد احتكاري لتحديد الأسعار (كارتل) تَشَكَّلَ من شركات تشغيل المناجم. وعندما أُقر بعدم دستورية ذلك القانون في منتصف الثلاثينات، ملأ جون إل لويس إلى جانب اتحاد عمال مناجم أمريكا الشمالية الفراغ الناجم عن إسقاط القانون؛ إذ استطاع لويس — من خلال الدعوة إلى الإضراب عن العمل وتعليق العمل متى كانت كمية الفحم في السوق كبيرة للغاية بدرجة تهدد بخفض الأسعار — التحكمَ في الناتج ومن ثم الأسعار مع دعم غير معلن من الصناعة. انقسمت المكاسب من إدارة ذلك الكارتل بين شركات تشغيل مناجم الفحم وعمال المناجم، وجاءت المكاسب بالنسبة لعمال المناجم في صورة ارتفاع معدلات الأجور، وهو ما أدى بالطبع إلى انخفاض عدد عمال المناجم؛ ومن ثم لم يشترك في جني المكاسب من ذلك الكارتل إلا عمال المناجم الذين استمروا في وظيفتهم فحسب حتى أنهم حصلوا على جزء كبير من المكاسب في صورة فترات راحة عمل أطول. إن احتمال اضطلاع النقابات بهذا الدور مستمد من إعفائها من قانون شيرمان لمكافحة للاحتكار؛ حيث استغلت العديد من النقابات هذا الإعفاء حتى إن التوصيف الأدق لها صار أنها شركات تقدم خدمات تطبيق الكارتل في أية صناعة لا منظمات عمالية؛ ولعل نقابة سائقي الشاحنات المثال الأبرز على ذلك.

(١-٣) الاحتكار الحكومي والاحتكار الذي تدعمه الحكومة:

إن الاحتكارَ الحكوميَّ المباشرَ في إنتاج سلع البيع في الولايات المتحدة ليس واسعَ النطاق للغاية. والأمثلة الواضحة على ذلك هيئة البريد، وإنتاج الطاقة الكهربية التي تحتكرها سلطة وادي تينيسي وغيرها من محطات توليد الطاقة الكهربية المملوكة للحكومة، وقطاع خدمات الطرق السريعة التي تباع بيعًا غير مباشر عن طريق فرض ضريبة البنزين أو بيعًا مباشرًا عن طريق رسوم دخول المدن. علاوة على ذلك، أصبحت الحكومةُ الفيدراليةُ أساسيًا المشتريَ الوحيدَ لمنتجات العديد من الشركات وصناعات كاملة مع ازدياد موازنة الدفاع والفضاء والبحث، كما هي الحال الآن. هذا الأمر يثير مشكلات خطيرة للغاية فيما يتعلق بالحفاظ على المجتمع الحر، لكن ليست بالمشكلات التي يأتي «الاحتكار» كسبب لها.

ازدادت الاستعانة بالحكومة في إقامة الاتحادات الاحتكارية والنظم الاحتكارية بين المنتجين في القطاع الخاص ودعمها وتفعيلها تفعيلًا أسرع من الاحتكار الحكومي المباشر، وأصبحت أهمية الاحتكار المدعوم حكوميًا في الوقت الحالي تفوق كثيرًا أهمية الاحتكار الحكومي المباشر. وتُعَدُّ لجنة التجارة بين الولايات مثالًا على ذلك نشأ في مرحلة مبكرة، وقد اتسع مداها من السكك الحديدية إلى النقل بالشاحنات وغيرها من وسائل والنقل، ولا شك أن أسوأ مثال معروف هو البرنامج الزراعي؛ فهو عبارة عن اتحاد احتكاري تتولى الحكومة بشكل أساسي تنفيذه. من الأمثلة الأخرى لجنة الاتصالات الفيدرالية، بسيطرتها على الراديو والتليفزيون؛ لجنة الطاقة الفيدرالية، وبسيطرتها على البترول والغاز المتداول بين الولايات. وهيئة الطيران المدني، بسيطرتها على الخطوط الجوية، وتطبيق مجلس الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة القصوى التي يمكن أن تدفعها المصارف على الودائع الآجلة، والحظر القانوني على دفع الفائدة على الودائع تحت الطلب.

هذه الأمثلة على المستوى الفيدرالي. وإضافة إلى ذلك، كان هناك تزايد كبير لحالات مماثلة على مستوى الولايات والمستوى المحلي؛ فهيئة سكك حديد تكساس — والتي، حسبما أعرف، ليس لها علاقة بالسكك الحديدية — تطبق قيودًا إنتاجيةً على آبار النفط عن طريق تحديد عدد الأيام التي يمكن أن تنتج فيها الآبار، وتقوم الهيئة بذلك تحت مسمى الحفاظ على البيئة لكنها في الواقع تفعل ذلك بغرض التحكم في الأسعار. وفي الآونة الأخيرة، وفرت حصص الاستيراد الفيدرالية على البترول دعمًا كبيرًا للهيئة، ويبدو لي أن إيقاف آبار البترول عن العمل في معظم الأوقات للحفاظ على مستوى الأسعار نوعًا من البطالة المقنعة يشبه تمامًا دفع مال لرجال إطفاء حرائق قاطرات الديزل لبقائهم عاطلين عن العمل. وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض ممثلي المشروعات التجارية الذين هم أكثر من يدين البطالة المقنعة باعتبارها انتهاكًا للاقتصاد الحر — وهو ما يحدث في مجال النفط بشكل واضح — لا ينبسون ببنت شفة على الإطلاق فيما يتعلق بتعيين عدد كبير من الموظفين أكثر مما تتطلب حاجة العمل في قطاع النفط.

تعد شروط ترخيص مزاولة المهن، التي سنناقشها في الفصل القادم، مثالًا آخر على الاحتكار الذي تخلقه الحكومة وتدعمه على مستوى الولايات. كذا، تضرب القيود المفروضة على عدد سيارات الأجرة التي يمكن تشغيلها مثالًا على القيود المشابهة على المستوى المحلي. ففي ولاية نيويورك، يباع الشعار الذي يمثل الحقَّ في تشغيل سيارة أجرة مستقلة الآن بما يقرب من ٢٠ ألف دولار إلى ٢٥ ألف دولار، وفي ولاية فيلادلفيا يباع بما يقرب من ١٥ ألف دولار. ويأتي سن قوانين البناء كمثال آخر على المستوى المحلي، وهي القوانين التي تهدف في ظاهرها إلى سلامة المجتمع، لكنها في الواقع تخضع لسيطرة نقابات البناء التجارية أو جمعيات لشركات المقاولات الخاصة. إن مثل هذه القيود عديدة وتنطبق على مجموعة كبيرة من الأنشطة على مستوى المدينة والولاية، وكل ذلك يشكل قيودًا استبدادية على قدرة الأفراد على ممارسة تبادل تجاري طوعي بعضهم مع بعض، كما أنها تقيد من الحرية وتعزز من إهدار الموارد في آن واحد.

يأتي منح براءات الاختراع للمخترعين وحقوق النشر للمؤلفين من بين الأنواع الأخرى للاحتكار الذي تخلقه الحكومة وهو مختلف تمامًا من حيث المبدأ عن الأنواع التي أخذناها بعين الاعتبار حتى الآن. وهذان المجالان مختلفان، لأنه يمكن النظر إليهما على حدٍ سواء على أنهما يعرفان حقوق الملكية. بمعنى حرفي، إذا كنت أملك حق ملكية قطعة معينة من الأرض، يمكن زعم أنني احتكر هذه القطعة، وهذا الاحتكار حددته الحكومة وطبقته. وفيما يتعلق بالاختراعات والمطبوعات، تتمثل المشكلة فيما إذا كان محبذًا تطبيق حق ملكية مماثل أم لا. إن هذه المشكلة جزء من الحاجة العامة لاستخدام الحكومة في تحديد ما يجب اعتباره كملكية وما لا يجب اعتباره كذلك.

في كل من براءات الاختراع وحقوق النشر على حدٍ سواء، هناك حجة مشروعة قوية لتحديد حقوق الملكية. وما لم يتحقق ذلك، سيرى المخترع أنه من الصعب أو من المستحيل الحصول على مقابل للإسهام الذي يقدمه اختراعه في الإنتاجية، أي أنه سيقدم فائدة لأشخاص آخرين ولا يمكن تعويضه عنها في المقابل؛ ومن ثم، لن يجد أي حافز لتكريس وقته وجهده اللازم لتقديم الاختراع، وتنطبق الاعتبارات نفسها على الكاتب.

وفي الوقت نفسه، هناك تكاليف ضمنية في الأمر؛ فمن ناحية، هناك العديد من «الاختراعات» غير قابلة للتسجيل كبراءة اختراع. على سبيل المثال، «مخترع» متجر البقالة الكبير (السوبر ماركت)، حقق مكاسب كبيرة لأشخاص آخرين ولا يمكنه أن يطلب منهم مقابلًا لما فعل. وبقدر ما كانت إمكانية الحصول على براءة والمطلوبة لنوع من الاختراعات مطلوبةً في الأنواع الأخرى، فإن وجود براءات الاختراع يميل إلى تحويل النشاط إلى اختراع يمكن الحصول على براءة له. ومن ناحية أخرى، فإن الاختراعات الهامشية أو تلك التي قد تكون شرعيتُها محلَّ شك إذا نوقشت في المحكمة تُسْتَخْدَمُ غالبًا كوسيلة للإبقاء على النظم التواطؤية الخاصة التي كان استمرارها سيصبح أصعب أو مستحيلًا في ظروف أخرى.

إن ما سبق ملاحظاتٌ سطحيةٌ للغاية حول مشكلة صعبة ومهمة، لا أهدف فيها إلى اقتراح أية إجابة خاصة بل أهدف لتوضيح سبب وجود براءات الاختراع وحقوق النشر في فئة مختلفة من الاحتكارات المدعومة حكوميًا، ولتوضيح مشكلة السياسة الاجتماعية التي تثيرها. ثمة شيء واضح هنا؛ ليست الظروف الخاصة المتعلقة ببراءات الاختراع وحقوق النشر — على سبيل المثال، منح حماية براءة الاختراع لسبعة عشر عامًا وليس مدة أخرى — مسألة مبدأ بل مسألة ذريعة نفعية تقررها الاعتبارات العملية، وأميل شخصيًا إلى الاعتقاد أن فترة أقصر كثيرًا لحماية براءة الاختراع قد تكون محبذة أكثر. لكن هذا حكم عرضي على قضية أُجريت بشأنها الكثير من الدراسات التفصيلية ولا يزال هناك حاجة إلى إجراء المزيد؛ من ثم فهو جدير بثقة أقل.

(٢) مصادر الاحتكار

هناك ثلاثة مصادر رئيسية للاحتكار: الاعتبارات «التقنية» والدعم الحكومي المباشر وغير المباشر وتآمر القطاع الخاص.

(٢-١) الاعتبارات التقنية:

كما أشرت في الفصل الثاني، ينشأ الاحتكار إلى حد ما نتيجة للاعتبارات التقنية التي تجعل وجود شركة واحدة بدلًا من عدة شركات أفعل أو أوفر. والمثال الأبرز على ذلك شبكات الهاتف وشبكات المياه وما شابه في مجتمع واحد. ليس ثمة أي حل مُرْضٍ للاحتكار التقني للأسف، ولا يوجد سوى اختيار بين ثلاثة حلول سيئة: احتكار القطاع الخاص غير الخاضع للتشريعات، واحتكار القطاع الخاص الخاضع للتشريعات الحكومية، والإدارة الحكومية.

يبدو من المستحيل وضع اقتراح عام يفيد بأن أحد هذه الحلول السيئة أجدر بالتفضيل عن الحلين الآخرين في كافة الحالات. وكما ذكرنا في الفصل الثاني، يتمثل الضرر الكبير للتنظيم الحكومي أو الإدارة الحكومية للاحتكار في الصعوبة البالغة لإلغائه. بالتالي، أميل إلى تأييد أن أفضل الأسوأ هو احتكار القطاع الخاص غير الخاضع للتشريعات الحكومية حيثما كان ذلك ممكنًا. ومن الراجح للغاية أن تقوض التغيراتُ الديناميكيةُ هذا الاحتكارَ لكن على الأقل هناك مجال لإتاحة الفرصة لهذه التغيرات أن تحدث تأثيرًا. حتى على المدى القصير، هناك عامةً نطاق من البدائل أوسع مما يبدو للوهلة الأولى؛ ومن ثم فإن نشاط شركات القطاع الخاص محدود تمامًا في النطاق الذي تكون فيه مربحة من أجل الحفاظ على الأسعار فوق التكلفة. علاوة على ذلك، وكما شاهدنا، فإن الهيئات التنظيمية غالبًا ما تميل إلى السقوط تحت طائلة تحكم المنتجين؛ وبالتالي قد لا تصبح الأسعار أقل مع وجود التنظيم من عدمه.

ولحسن الحظ، فإن المجالات التي تجعل فيها الاعتبارات التقنية الاحتكارَ نتيجةً محتملةً أو ممكنةً محدودةٌ تمامًا، وقد لا تشكل أي تهديد خطير للحفاظ على الاقتصاد الحر، لولا الاتجاه نحو تطبيق تشريعات تنظيمية — وهو ما يُبَرَّرُ بأن الاعتبارات التقنية سوف تؤدي إلى الاحتكار — على حالات تكون فيها هذه التشريعات غير مبررة التطبيق.

(٢-٢) الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر:

لعل أهم مصدر للسلطة الاحتكارية هو الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر، وقد ذكرنا أعلاه العديدَ من الأمثلة على الدعم الحكومي المباشر المقبول. يتألف الدعم غير المباشر للاحتكار من إجراءات تُتَّخَذُ لأغراض أخرى ويترتب عليها — بشكل غير مقصود في أغلب الأحيان — فرض قيود على المنافسين المحتملين للشركات الحالية. ولعل الأمثلة الثلاث الأوضح هي التعريفة الجمركية، والتشريعات الضريبية، وتطبيق القوانين والتشريعات المتعلقة بالمنازعات العمالية.

فُرِضَتْ التعريفة الجمركية بالطبع لحماية الصناعات المحلية عامةً، مما يعني وضع معوقات أمام المنافسين المحتملين. ودائمًا ما تتعارض التعريفة الجمركية مع حرية الأفراد في الاشتراك في أي تبادل طوعي. وفوق هذا وذاك، يتعامل الليبرالي مع الفرد، وليس شعب أو مواطن دولة بعينها، على أنه وحدته التي يقيس عليها؛ ومن ثم يعتبر الموقف الذي يُمْنَعُ فيه مواطنو الولايات المتحدة وسويسرا من إتمام تبادل تجاري سيحقق مكاسب للطرفين انتهاكًا للحرية لا يختلف عن انتهاك الحرية عند منع مواطنين من الولايات المتحدة من فعل الأمر نفسه. ولا تؤدي التعريفة الجمركية بالضرورة إلى الاحتكار إذا كانت السوق المفروضة عليها التعريفة خاصة بصناعة محمية كبيرة بدرجة كافية وتسمح الظروف التقنية بوجود العديد من الشركات؛ فيمكن أن تكون هناك منافسة فعالة على المستوى المحلي للصناعة المحمية، كما في الولايات المتحدة مع صناعة المنسوجات. ولكن من الواضح أن التعريفة الجمركية تعزز فعلًا من الاحتكار، فمن الأيسر كثيرًا أن تتواطأ بضع شركات لتثبيت الأسعار عن أن تتواطأ عدة شركات، ومن الأيسر بوجه عام أن تتواطأ شركات في البلد نفسها من أن تتواطأ شركات في بلدان مختلفة. وقد وفرت التجارة الحرة الحماية لبريطانيا من الاحتكار واسع النطاق في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، على الرغم من صغر حجم سوقها المحلية نسبيًا وكبر حجم العديد من الشركات، ثم أصبح الاحتكار مشكلة شديدة الخطورة في بريطانيا منذ التخلي عن التجارة الحرة، للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى ثم أصبح أوسع نطاقًا في أوائل الثلاثينات من القرن العشرين.

أما تأثيرات التشريعات الضريبية، فكانت غير مباشرة أكثر لكنها لا تقل أهمية. ومن أهم العوامل الربط بين ضريبة دخل الأفراد والشركات معا وبين المعاملة الخاصة لأرباح رأس المال في إطار ضريبة دخل الأفراد. لنفترض أن شركة تجني دخلًا يعادل مليون دولار أمريكي بالإضافة إلى ضرائب الشركة. فإذا دفعت الشركة المليون دولار بالكامل للمساهمين كحصص ربحية، لا بد من إدراج هذا المبلغ كجزء من دخلها الخاضع للضريبة. لنفترض أنها ستضطر إلى دفع ٥٠٪ في المتوسط من هذا الدخل الإضافي كضريبة على الدخل، سيتوفر لديها حينئذ ٥٠٠ ألف دولار فقط لإنفاقها على الاستهلاك أو لادخارها واستثمارها. وإذا لم تدفع الشركة بدلًا من ذلك حصصًا ربحية نقدًا للمساهمين، سيتوفر لديها المليون دولار كاملًا لاستثماره داخليًا. ستتجه إعادة الاستثمار هذه إلى رفع القيمة الرأسمالية لسهم الشركة، ويمكن للمساهمين — الذين كان من الممكن أن يدخروا المال إذا تم توزيعه — الاحتفاظ بالسهم ببساطة وإرجاء كافة الضرائب حتى بيع السهم. سيدفعون — هم وغيرهم ممن يبيعون في وقت مبكر لتحويل الدخل إلى نقود للاستهلاك — الضرائب بمعدلات الأرباح الرأسمالية، والتي تقل عن المعدلات المفروضة على الدخل المنتظم.

يشجع هذا الهيكل الضريبي الاحتفاظ بمكاسب الشركة، حتى إذا كان العائد الذي يمكن كسبه داخل الشركة أقل على نحو ملحوظ من العائد الذي يمكن لحامل السهم كسبه بنفسه عن طريق استثمار أمواله خارج الشركة؛ إذ أن عائد الاستثمار داخل الشركة قد يصبح أعلى نظرًا نتيجة ادخار الضريبة، ويؤدي هذا إلى إهدار رأس المال، نتيجةً لاستخدامه في أغراض أقل إنتاجية بدلًا من أغراض أكثر إنتاجية، وكان ذلك من بين الأسباب الرئيسية للاتجاه الذي ساد فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية نحو التنويع الأفقي؛ إذ بحثت الشركات عن منافذ لأرباحها، وأيضا فإنه يمثل مصدرَ قوة رائعًا للشركات الكبيرة المعروفة مقارنةً بالشركات الجديدة. ويمكن أن تكون الشركات المعروفة أقل إنتاجية من الشركات الجديدة، إلا أنه يتوفر لدى حملة أسهم هذه الشركات حافز للاستثمار فيها بدلًا من توزيع الدخل بحيث يمكنهم الاستثمار في الشركات الجديدة من خلال سوق رأس المال.

من أهم مصادر احتكار النقابات العمالية الدعم الحكومي، وتأتي شروط ترخيص مزاولة المهنة وقوانين البناء وما إلى ذلك، وما ناقشناه أعلاه من بين المصادر. كذا تعد التشريعات التي تمنح حصانات خاصة للنقابات العمالية — كالإعفاء من قوانين مناهضة الاحتكار والقيود على مسئولية النقابة والحق في المثول أمام محاكم خاصة وما إلى ذلك — مصدرًا آخر. ولعل ما لا يقل أهمية أو هو أهم من كلا المصدرين هو المناخ العام للرأي وتنفيذ القانون بتطبيق معايير مختلفة للإجراءات التي تُتَّخَذُ لتسوية أي نزاع عمالي عن الإجراءات نفسها التي تُتَّخَذُ في ظل ظروف أخرى. فإذا خرب أشخاص سيارة أو دمروا ممتلكات، لمجرد الأذى أو على سبيل الانتقام، لن يسعى أحد للدفاع عنهم من العواقب القانونية. أما إذا ارتكب الأشخاص الأفعال نفسها في سياق نزاع عمالي، فقد يفلتون من العقاب. إن من الصعب أن تمر الإجراءات النقابية التي تنطوي على عنف أو قهر مادي سواء كان فعليًا أو محتملًا، لولا الرضوخ غير المعلن للسلطات.

(٢-٣) تآمر الشركات الخاصة:

المصدر الأخير للاحتكار هو تآمر القطاع الخاص. وكما قال آدم سميث: «فنادرًا ما يجتمع أرباب تجارة واحدة، حتى على سبيل السمر واللهو، إلا وانتهت محادثاتهم بمؤامرة ضد عامة الناس أو بحيلة ما لرفع الأسعار.»3 لذا، فإن مثل هذه الترتيبات التآمرية أو الاتحادات الاحتكارية السرية في ازدياد مستمر، لكنها غير مستقرة ولا تدوم لفترة طويلة عامةً ما لم تدعمها الحكومة. إن إقامة اتحادات احتكارية، عن طريق رفع الأسعار، يجعل من المربح بالنسبة لغير الأعضاء في أحد التنظيمات أن يدخلوا في الصناعة التي يعمل بها هذا التنظيم. علاوة على ذلك، نظرًا لأنه لا يمكن وضع سعر مرتفع سوى عن طريق تقييد المساهمين بالاتحاد للإنتاج بحيث يبقى دون المستوى الذي يودونه بسعر ثابت، فهناك حافز أمام كل مساهم على حدة لخفض السعر في سبيل زيادة إنتاجه، ويأمل كل مساهم بالطبع أن يلتزم باقي الأفراد بالاتفاق، ولا يتطلب انهيار الاتحاد سوى وجود شخص «مخادع» واحد أو على أقصى تقدير بضعة «مخادعين» ممن يكونون في الواقع من رموز العمل الخيري والاجتماعي. وعند غياب الدعم الحكومي عن تفعيل الاتحاد الاحتكاري، يكتسب أعضاء الاتحاد ثقة كبيرة في أنهم سيحققون النجاح الكامل الفوري.

لقد كان الدور الرئيسي لقوانين مكافحة الاحتكار الحد من مثل ذلك التآمر بين الشركات الخاصة، إلا أن إسهامها الأساسي في هذا الصدد من خلال الملاحقة القضائية الفعلية كان أقل من إسامهما المتحقق من خلال بنتائجها غير المباشرة؛ فقد استثنت هذه القوانين الحيل التآمرية الواضحة — كالاجتماعات العامة لهذا الغرض بعينه — ومن ثم جعلت التآمر أعلى ثمنًا. الأهم من ذلك، أنها أكدت ثانية على مبدأ القوانين العرفية الذي يفيد بأن الاتحادات الرامية إلى تقييد التجارة لا يُعْتَدُّ بها في المحاكم. في البلدان الأوروبية المختلفة، ستنفذ المحاكم اتفاقية اشتركت فيها مجموعة من الشركات للبيع من خلال هيئة بيع مشتركة فحسب، وتلتزم الشركات بدفع غرامات محددة إذا أخلت بالاتفاق. أما في الولايات المتحدة، قد لا يكون ذلك الاتفاق نافذًا في المحاكم، وهذا الاختلاف واحد من الأسباب الرئيسية لاستقرار الاتحادات الاحتكارية في البلدان الأوربية بقدر أكبر وأوسع نطاقًا عن الولايات المتحدة.

(٣) السياسة الحكومية الملائمة

إن الضرورة الأولى الملحة في سياق السياسة الحكومية هي القضاء على تلك الإجراءات التي تدعم الاحتكار دعمًا مباشرًا، سواءً كان احتكار الشركات أو احتكار النقابات العمالية، والتفعيل العادل للقوانين المفروضة على الشركات والنقابات العمالية على حدٍ سواء. فلا بد من أن يخضعا لقوانين مكافحة الاحتكار، ولا بد من أن يعامل كلاهما على قدم المساواة فيما يتعلق بالقوانين الخاصة بتدمير الممتلكات وبالتدخل في الأنشطة الخاصة.

وبخلاف ذلك، من الممكن أن تكون الخطوة الأهم والأفعل نحو تقليص سلطة الاحتكار إصلاحًا شاملًا لقوانين الضرائب؛ فيجب إلغاء الضرائب المفروضة على الشركات، وسواء حدث ذلك أم لم يحدث، ينبغي أن تلتزم الشركات بنسب الأرباح التي لم توزع كحصص ربحية على المساهمين الأفراد. بعبارة أخرى، عندما تصدر الشركة شيكات بحصص الأرباح، ينبغي أن ترسل أيضًا وثيقة تقول فيها: «إضافة إلى هذه الحصة الربحية المقدرة ﺑ… سنتًا لكل سهم، ربحت شركتكم أيضًا … سنتًا لكل سهم أعيد استثماره.» ينبغي أن يصبح المساهم ملزمًا بعد ذلك بإضافة الأرباح المتحققة والتي لم تُوَزَّعْ بعد إلى عائد الضرائب الخاص به إضافةً إلى حصته الربحية، ومع ذلك، ستبقى الشركات حرة في إعادة توظيف المال بقدر ما تريد، غير أنه لن يصبح لديها أي حافز لفعل ذلك سوى الحافز المناسب وهو أن تكون قادرة على تحقيق مكاسب داخل الشركة أكثر مما يمكن للمساهم كسبه خارجها. هناك بضعة إجراءات من شأنها الإسهام في إنعاش أسواق رأس المال وتشجيع المشروعات التجارية الصغيرة وتعزيز المنافسة الفعالة.

لا شك أنه ما دامت ضريبةُ الدخل على الأفراد تصاعديةً بدرجة عالية كما هي الآن، سيستمر الضغط الكبير للبحث عن سبل للتهرب منها. بهذه الطريقة إلى جانب الطريق المباشر، تشكل ضريبة الدخل التصاعدية عائقًا خطيرًا أمام الاستخدام الفعال لمواردنا. لذا، فإن الحل الملائم هو خفض المعدلات العالية بشكل كبير، إضافةً إلى القضاء على وسائل التهرب التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من القانون.

(٤) المسئولية الاجتماعية للشركات والنقابات العمالية

اكتسبت وجهة النظر القائلة إن للمسئولين بالشركات وقادة النقابات العمالية «مسئولية اجتماعية» تتجاوز خدمة مصالح المساهمين بالشركة أو الأعضاء بالنقابة تأييدًا واسع النطاق. وتظهر وجهة النظر هذه اعتقادًا خاطئًا أساسيًا لشخصية الاقتصاد الحر وطبيعته. ففي إطار الاقتصاد الحر، هناك مسئولية اجتماعية واحدة فحسب للشركات وهي استخدام مواردها والاشتراك في أنشطة تهدف إلى زيادة أرباحها، طالما أنها لم تخرج عن نطاق قواعد اللعبة وهي الدخول في منافسة مفتوحة وحرة دون خداع أو تضليل. وبالمثل فإن المسئولية الاجتماعية لقادة النقابات العمالية هي خدمة مصالح أعضاء النقابة. وتقع مسئولية تأسيس إطار عمل قانوني على باقي الأفراد، بحيث يكون الفرد أثناء سعيه وراء مصالحه — وفق ما قال آدم سميث — «منساقًا بيد خفية لبلوغ هدف لم يكن جزءًا من طموحاته، ولكن ليس دائمًا من الأسوأ للمجتمع أن هذا الهدف لم يكن جزءًا من طموحاته. وبسعي الفرد وراء مصالحه الخاصة، كثيرًا ما يعزز من مصالح المجتمع بفاعلية أكثر مما كان ينوي. لم أسمع أبدًا بخير تحقق للمجتمع من هؤلاء الذين آثروا الدعوة للصالح العام.»4

بإمكان بضعة توجهات أن تقوض الأسس الفعلية التي قام عليها مجتمعنا الحر كلية، على غرار قبول المسئولين بالشركات مسئولية اجتماعية بخلاف تحقيق أرباح للمساهمين بالشركة قدر المستطاع. هذا مبدأ هدام في أساسه؛ فإذا كان لرجال الأعمال مسئولية اجتماعية بخلاف تحقيق الحد الأقصى من الأرباح للمساهمين، فكيف يتسنى لهم معرفة تلك المسئولية؟ هل يجوز أن يقرر أفراد من اختيارهم ما هي المصلحة الاجتماعية؟ هل يمكن أن يحددوا قدر العبء الكبير الذي برروا لأنفسهم وضعه على كاهلهم أو على المساهمين بشركتهم في سبيل خدمة المصلحة الاجتماعية؟ هل من المقبول أن يمارس تلك الوظائف العامة من فرض ضرائب لإنفاق ورقابة أشخاص تصادف أنهم في تلك اللحظة كانوا مسئولين عن شركات بعينها، واختارتهم جماعات خاصة محددة العضوية لتلك المناصب؟ إذا كان رجال الأعمال موظفين حكوميين وليسوا موظفين لدى مساهميهم، فَسَيُخْتَارُوا في إطار دولة ديموقراطية عاجلًا أم آجلًا بالوسائل العامة للانتخاب والتعيين.

وقبل أن يتحقق هذا بوقت طويل، ستكون قوة صنع القرارات قد سُلِبَتْ منهم. ومن بين الأمثلة المثيرة على ذلك إلغاء شركة يو إس ستيل لزيادة أسعار الصلب في أبريل/نيسان عام ١٩٦٢ وسط مظاهر السخط العام على الرئيس كينيدي وتهديدات بالانتقام على مستويات مختلفة تتراوح بين دعاوى قضائية لمكافحة الاحتكار إلى فحص تقارير الضرائب الخاصة بالمسئولين التنفيذيين عن الصلب. كانت ذلك الحادثة لافتة للنظر نظرًا لمشاعر السخط العام على السلطات الواسعة المتركزة في يد الحكومة. وحينها أدركنا جميعًا أن كم السلطات اللازم لإقامة دولة بوليسية كان متوفرًا لدى حكومتنا. وتفسر هذه الحادثة ما نناقشه الآن أيضًا؛ فإذا كان للشعب أن يقرر ثمن الصلب — حسبما يؤكد مبدأ المسئولية الاجتماعية — فلن يسمح حينها بأن يكون قرارًا فرديًا.

إن الجانب الخاص للمبدأ الذي يوضحه هذا المثال، والذي أصبح بارزًا بشكل كبير في الآونة الأخيرة، هو المسئولية الاجتماعية المزعومة لرجال الأعمال والنقابات العمالية تجاه الحفاظ على انخفاض الأسعار ومعدلات الأجور في سبيل تجنب تضخم الأسعار. لنفترض أنه في وقت معين كان هناك ضغط تصاعدي على الأسعار — وهو ما يعكس في النهاية زيادة في المخزون النقدي بالطبع — ووافق رجال الأعمال وقادة النقابات العمالية جميعًا على هذه المسئولية، ولنفترض أنهم نجحوا جميعًا في الإبقاء على الأسعار دون أي ارتفاع، سيكون لدينا إذًا رقابة طوعية على الأسعار والأجور دون تضخم مفتوح. ماذا ستكون النتيجة؟ ستكون النتيجة بوضوح نقصًا في المنتجات والعمال وأسواق رمادية وسوداء. فإذا لم تُتْرَكْ الأسعار تتحكم في السلع والعمالة، لا بد من أن تكون هناك وسيلة أخرى لفعل ذلك. هل يمكن لخطط التسعير الأخرى أن تكون خاصة؟ ربما لبعض الوقت وفي نطاق محدود وغير مهم. إلا أنه إذا كانت السلع التي تشملها خطط التسعير هذه كثيرة ومهمة، سيكون هناك ضغط بالضرورة، وعلى الأرجح سيكون ضغطًا لا يُقَاوَمُ يرمي إلى تولي الحكومة بتسعير السلع وإلى وضع سياسة حكومية للأجور وإلى اتخاذ إجراءات لتقسيم العمال وتوزيعهم.

إذا طُبِّقَتْ الضوابط الرقابية على الأسعار — سواءً كانت قانونية أو طوعية — بفاعلية، ستفضي في النهاية إلى تدمير نظام السوق الحرة وإلى إبداله بنظام رقابة مركزي؛ وهو النظام الذي لن يكون فعالًا حتى في الحيلولة دون حدوث تضخم. يذخر التاريخ بدلائل تؤكد أن ما يحدد المستوى المتوسط للأسعار والأجور هو كمية النقود في الاقتصاد وليس جشع رجال الأعمال أو العمال. وتطالب الحكومات بانضباط رجال الأعمال وقيادات النقابات العمالية وذلك بسبب عجزها عن إدارة شئونها الخاصة — والتي تتضمن رقابة النقود — وبسبب النزوع الإنساني الفطري لتحميل الآخرين مسئولية أفعال الفرد.

هناك جانب في سياق المسئولية الاجتماعية يحتم عليَّ الواجبُ التطرقَ إليه، وذلك لأنه يؤثر على مصالحي الشخصية، وهو الادعاء بأنه ينبغي لرجال الأعمال المساهمة في دعم الأعمال الخيرية لا سيما الجامعات. إن الهبات التي تقدمها الشركات هي استخدام غير لائق لأموال الشركة في مجتمع يطبق سياسة الاقتصاد الحر.

إن الشركة أداة في أيدي المساهمين المالكين لها، وإذا قدمت الشركة هباتٍ، فهي تحول بذلك دون حرية اتخاذ المساهم الفردي بنفسه القرار المتعلق بطريقة تصرفه في ماله. لكن مع الضرائب المفروضة على الشركات وإمكانية استقطاع الضرائب من مال التبرعات، من الممكن أن يرغب المساهمين في أن تقدم الشركة هبات بالنيابة عنهم، ما دام ذلك سيمكنهم من تقديم هبات أكبر. ومن الممكن أن يكون الحلُ المثاليُّ إلغاءَ الضرائب على الشركات، لكن طالما أن هناك ضرائب على الشركات، فليس هناك مبررًا للسماح باستقطاع الضرائب من أموال التبرعات للمؤسسات الخيرية والتعليمية، وينبغي أن يقدم الأصحاب الأصليون لهذه المؤسسات في مجتمعنا مثل هذه التبرعات.

إن الأشخاص الذين يطالبون بزيادة مستوى هذا النوع من تبرع الشركات باسم الاقتصاد الحر يضرون أساسًا بمصالحهم الخاصة. ومن بين الاتهامات الهامة الموجهة لمجال التجارة الحديث هو أنه ينطوي على الفصل بين الملكية والسيطرة؛ أي أن الشركة أصبحت مؤسسة اجتماعية مستقلة لا تعبأ بالقواعد أو الأعراف يديرها رجال غير مسئولين لا يخدمون مصالح المساهمين. إن هذا الاتهام غير صحيح، لكن المنحنى الذي تسلكه السياسة الآن — من حيث السماح للشركات بتقديم تبرعات لأهداف خيرية والسماح بالاستقطاع من ضريبة الدخل — هو خطوة نحو الانفصال الحقيقي بين الملكية والتحكم، وهدم الطبيعة والشخصية الأساسيتين لمجتمعنا. إنه انحراف عن مسار المجتمع الفرداني نحو دولة الشركات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤