المغربي المؤلف

كان للأستاذ المغربي خلق الأسلاف الصالحين، ودءوبهم على التحصيل وانصرافهم إلى التحقيق والتأليف، وقد خلف لنا آثارًا جليلة من مؤلفاته ومحاضراته ومقالاته، فقد كان له قلم سيال وفكر جوال، عالج بهما قضايا الدين واللغة والأدب معالجة اللقن الذكي المجتهد، الذي لا يألو في خدمة دينه ولغته وآدابها وله في هذه الحقول مؤلفات عديدة طبع منها:
  • (١)

    كتاب «الاشتقاق والتعريب» طبع في سنة ١٩٠٨م ثم أعادت لجنة التأليف والترجمة والنشر طبعه في سنة ١٩٤٧م.

  • (٢)

    «كلمتان في السفور والحجاب» طبع سنة ١٩١٠-١٩١١م.

  • (٣)

    كتاب «البينات» في مجلدين طبع سنة ١٣٤٣-١٣٤٤ﻫ.

  • (٤)

    كتاب «الأخلاق والواجبات» طبع سنة ١٩٢٠م، ثم سنة ١٩٢٩م/١٣٤٧ﻫ.

  • (٥)

    محاضرات عن «محمد والمرأة. مع محاضرات في موضوعات أخرى» طبعت سنة ١٣٤٧ﻫ.

  • (٦)

    كتاب «جمال الدين الأفغاني، ذكريات وأحاديث» نُشِر في سلسلة «اقرأ» سنة ١٩٤٨م.

  • (٧)

    «مناظرة أدبية لغوية» بين المغربي والبستاني والكرملي، نشرها الأستاذ حسام الدين القدسي سنة ١٣٥٥ﻫ.

  • (٨)

    تائية عامر بن عامر البصري بشرح المغربي وتحقيقه، نشرها المعهد الفرنسي بدمشق ١٩٤٨م.

  • (٩)

    تفسير جزء تبارك، طبعته الحكومة المصرية في المطبعة الأميرية ١٣٦٨ﻫ/١٩٤٩م.

  • (١٠)

    كتاب على هامش التفسير، طبعته مكتبة الآداب المصرية ١٣٦٨ﻫ/١٩٤٩م.

  • (١١)

    كتيب «عثرات اللسان»، طبعه المجمع العلمي العربي بدمشق ١٣٦١ﻫ/١٩٤٩م.

  • (١٢)

    تحقيق كتاب «التنبيه على غلط الجاهل والنبيه»، نشره في مجلة المجمع العلمي ٦ / ٤٣ وما بعدها.

أما مؤلفاته التي ما تزال مخطوطة فهي:
  • (١٣)

    مجموعة مقالاته وأبحاثه التي نشرها في الصحف والمجلات. وقد صنفها تصنيفًا كاملًا وأعدها للطبع في مجلدات عديدة تبلغ العشرة.

  • (١٤)

    مجموعة محاضراته التي لم تنشر، وهي في مجلد واحد ضخم.

  • (١٥)

    أحسن القصص والتاريخ النبوي المقدس.

  • (١٦)

    المعجم اللغوي.

  • (١٧)

    أقرب الطرائق إلى كنز الدقائق في الفقه الحنفي.

  • (١٨)

    العقائد الإسلامية.

  • (١٩)

    شرح مقصورة ابن دريد.

  • (٢٠)

    طائفة من الأشعار في وصف الصحاري والقفار.

  • (٢١)

    تاريخ آداب اللغة العربية.

  • (٢٢)

    فنون البلاغة.

  • (٢٣)

    التعليم بالمراسلة.

  • (٢٤)

    النُّغَب أو نوادر العلوم وفرائد الأدب.

  • (٢٥)

    النجم الآفل.

هذا ثبت كتبه التي خلَّفهما، وهي — كما ترون — متنوعة النواحي إلا أنها تدور في فلك الدين واللغة والأدب والاجتماع، ويجدر بنا هاهنا أن نشير إلى كتاب «النجم الآفل»، وهو ترجمة للرواية الاجتماعية المشهورة ﺑ «غادة الكاميليا» التي ألَّفها إسكندر دوماس، فقد كتب المغربي عن هذه الرواية بحثًا في مجلة الحديث الحلبية ١٩٢٩م قال فيه: إنه اشترك هو ومواطنه الطرابلسي السيد أميل شبطيني في ترجمتها، وإنهما أتما الترجمة في أربعة أشهر، وإنهما تصرفا فيها بعض التصرف، فكانا يحذفان ما لا يتفق وذوقهما، مراعين في ذلك أخلاقنا وأساليب تفكيرنا. وبعد أن أتما ترجمتها أعاد المغربي قراءتها فحرر عبارتها، وأضاف إليها من الأشعار والأدوار الغنائية ما رآه لازمًا في بعض فصولها حتى إذا فرغت سماها «النجم الآفل» إشارة إلى أفول نجم مرجريت بطلة الرواية، وذهب بعد إتمام الترجمة والتصنيف إلى زيارة الشيخ سلامة حجازي الممثل المصري المشهور آنئذ فتلاها عليه في عدة جلسات، وأعجب بها الشيخ سلامة، فمثلها على مسرحه ليلة الأحد ٣ تشرين الأول (أكتوبر) ١٩٠٨، وكان الإقبال عليها عظيمًا … ويظهر أنَّ المغربي لم يكن يرغب في أن يعرف الناس أنه قد ترجم هذه الرواية، وأنه نظم أغانيها ووضع أدوارها الغنائية؛ فلذلك لم يوافق زميله في ترجمتها السيد أميل على طبعها لبعض العبارات المتعلقة بشخصه، وما تزال الرواية محفوظة في خزانة المغربي، ويظهر أنه كان لا يحب أن يعرف عنه أنه اهتم بالروايات والمسرحيات لما في ذلك من الغض من سمعته ومكانته الدينية.

ولا بد لنا من الوقوف أمام بعض كتبه المطبوعة وتحليلها لنتبين طريقته في التأليف، وأسلوبه، وأهدافه، وما أفادته العربية من جهوده التي بذلها في تآليفه، وسنخص البحث بالكتب الآتية:

(١) الاشتقاق والتعريب

هو كتاب يبحث فيما يعرض للغة العربية من تكاثر كلماتها بواسطتي الاشتقاق والتعريب، وأنَّ هذا الأخير طبيعي في لغتنا وفي غيرها من اللغات، وأنَّ استعمال المعرب لا يحط من قدر فصاحة الكلام، وقد أثبت ذلك وأكثر من التدليل عليه والاستشهاد على صحته بأقوال أئمة ورجال مشهود لهم.

وقد قال في مطلع الطبعة الثانية ١٩٤٧م من هذا الكتاب مبينًا أهدافه: «ولقد طُبع كتابي «الاشتقاق والتعريب» طبعته الأولى في مصر سنة ١٩٠٨م، فيكون قد مضى عليه زهاء أربعين سنة، وهو يؤدي رسالته، وينشر دعوته إلى قبول التعريب وإثبات أنه قانون طبيعي في كل لغة من لغات البشر، لا اللغة العربية وحدها، وأنَّ على أبناء هذه اللغة أن يستفيدوا منه في تنمية لغتهم وتوسيع دائرة التخاطب بها»،١ فالمغربي يرى أنَّ التعريب والاشتقاق طبيعيان في اللغة، وأنهما فصيحان كالكلمات الأصلية، وقد كان لهذا الرأي الجريء الذي قال به المغربي قبل نصف قرن صداه البعيد، على الرغم من قوة خصومه القائلين بوجوب تنقية اللغة من المفردات المعربة الدخيلة، وقصر الاشتقاق على ما كان سار عليه القدماء، فإن الألفاظ الأعجمية إذا ما دخلت اللغة وصقلها اللسان العربي استعربت، وأصبحت كأنها من المفردات الأصلية. والمغربي بهذا الرأي يريد أن تبقى اللغة العربية متطورة مع الزمن تطورًا سليمًا صحيحًا، تأخذ من اللغات الحية مما تزيد به مفرداتها زيادة تجاري بها سير ركب العلم والحضارة. وقد كانت كلمة المغربي هذه حافزًا لأهل الحل والعقد، يحفزهم إلى إيجاد مؤسسات ثقافية أو مجامع علمية تقوم بهذا العمل قيامًا صحيحًا، يُبْعِد الفوضى عن اللغة، ويوقف سيل الهجوم على بعض الكتَّاب، الذين يستعملون بعض الكلمات المعربة والدخيلة في كتبهم ومقالاتهم ومحاضراتهم، فيحتدم الجدال بينهم وبين المحافظين، وقد كان الشيخ المغربي في مقالاته التي كتبها في جريدة المؤيد ما بين عامي ١٩٠٦، ١٩٠٩م مسعر نار الحرب الكلامية في هذا الباب، واضطر خصومه إلى عقد جلسات مناظرات ومحاورات اشترك فيها نفر كبير من أساطين اللغة والأدب المعروفين في ذلك الحين أمثال: حفني ناصف، وعبد العزيز جاويش، ومحمد الخضري، وأحمد الإسكندري، وأحمد زكي، وحسين والي. وكان ختام تلك المناظرات جلسة عقدت في مساء ٢٠ حزيران ١٩٠٨م خطب فيها نفر من هؤلاء الأعلام، وقد انقسموا قسمين: قسم يرى رأي المغربي، وقسم يخالفه، وانتهى بهم المطاف إلى تحكيم العلامة أحمد فتحي زغلول، فألقى كلمة رائعة جاء فيها: «إذا عرض لنا لفظ أعجمي ترجمناه إلى لغتنا، وإذا تعذرت ترجمته اشتققنا له اسمًا من لغتنا، وإذا تعذر ذلك استعملنا مكان الأعجمي كلمة عربية مصوغة بإحدى طرق المجاز، وإن لم يمكن شيء من ذلك نلجأ إلى تعريبه أسوةً بالمعربات السائدة في لغتنا.»٢
وقد كانت هذه الكلمة انتصارًا لمذهب المغربي، الذي انصرف منذ ذلك الوقت إلى بحث موضوع الاشتقاق والتعريب والكتابة فيه؛ لتأكيد وجهة نظره طوال فترة بقائه في مصر، ولما عاد المغربي إلى الشام أخذ يدعو إلى فكرته ويكتب فيها، فلما أسس المجمع العلمي العربي بدمشق سنة ١٩١٩ واختير المغربي في عداد مؤسسه، وأنشأت الحكومة العربية الفيصلية دائرة أسمتها «شعبة الترجمة والتأليف» ١٩١٩ كانت مهمتها تدبر شئون مفردات اللغة في دواوين الدولة العربية الفتية، واستبدال الكلمات التركية والأجنبية بكلمات عربية، وكان الأساتذة فارس الخوري، وعبد القادر المغربي، وعبد الرحمن الشهبندر، ومحمد كرد علي من القائمين بهذه المهمة العلمية، ثم بعد فترة؛ أي في يوم (٨ / ٦ / ١٩١٩) رأى جلالة الملك فيصل الأول إنشاء مجمع علمي تابع لوزارة المعارف؛ للقيام بهذه الأعمال، فأمر بإنشائه وعهد برئاسته إلى الأستاذ محمد كرد علي، وكان المغربي من أبرز أعضائه العاملين، وكانت مشكلة الوضع والتعريب من أخطر المشاكل التي استقبلها المجمع، ولكن الشيخ المغربي استطاع هو وإخوانه أن يذلل صعوباتها، ويضع عددًا كبيرًا من المفردات المعربة، كما كان لهم سعي مشكور، وأثر واضح في السعي؛ لإيجاد معجم جديد في اللغة العربية ينظم المفردات الحديثة. ويجمع اللغة المستعملة، وقد تقدم الأستاذ المغربي بتقرير مفصل عن فكرة المعجم إلى زملائه أعضاء المجمع في جلسة يوم الجمعة ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٢٤، وإليكم خلاصة ذلك التقرير: هناك ثلاثة أمور يذكرها الفضلاء في صيغة المعجم وشرائط تأليفه وهي:
  • (أ)

    حسن اختيار الكلمات، فنختار له من الكلمات ما نحن في حاجة إليه، ونهمل ما لا حاجة لنا به.

  • (ب)

    أن يضاف إليه كلمات جديدة دخيلة ومولدة ومنحوتة ومشتقة، مما تستدعيه حاجة الفنون المعربة والاختراعات الحديثة.

  • (جـ)
    أن لا يشتغل واضعو المعجم بالعمل منفردين؛ بل عليهم أن يستعينوا برأي علماء اللغة أو مجامعها في الأقطار العربية توحيدًا لكلمات اللغة وطرق استعمالها،٣ ولكن هدف المغربي لم يتحقق لصعوبة القيام بعبء هذا المعجم، فانصرف إلى كتابة المقالات، ونشر البحوث اللغوية في الصحف والمجلات العلمية وبخاصة مجلة المجمع العلمي العربي إلى أن أسس مجمع فؤاد الأول للغة العربية «مجمع اللغة العربية المصري» في سنة ١٩٣١، وانتخب المغربي عضوًا فيه، فقال في كلمته يوم الافتتاح:

    يكاد لا يفهم الجمهور من وظائف المجمع إلا أن عليه أن يتتبع الكلمات — الدخيلة والأعجمية المتفشية في لغته اليومية، وأن يستبدل ألفاظًا عربية لها، حتى كان هذا العمل أو هذا الغرض هو كل ما يرتجى من المجمع، وقد نسوا ما للمجمع من فضل في توجيه الأغراض الأخرى حقها، ولا سيما وضع ألوف الكلمات للغة الدراسة؛ أي لغة العلوم والفنون … ماذا صنع حماة اللغة، الغير على سلامتها بكلمات: براشوت «شتوكا» جستابو كوماندوس … هما رأيان بدآ يتصاولان منذ زمن الشيخ رفاعة الطهطاوي، أو نقول منذ عهد الترجمة الأول، وما زالا في الصيال حتى أسلما أمرهما أخيرًا إلى مجمع فؤاد ونزلا على حكمه. حقًّا إنَّ مسألة التعريب أو نقول: إنَّ مسألة التردد في قبول الكلمات الأعجمية، وعدم قبولها أخل بنهضتنا اللغوية وأخرها إلى الوراء أكثر من نصف قرن؛ ولذا كان التعريب من أعظم الأغراض التي ينبغي أن تعنى بها المجامع اللغوية، وهو فوق ذلك موضوع معقد خطر، ولم ننس بعد ما كان من اختلاف الرأي حول وضع اصطلاحات عربية للجيش المصري مكان اصطلاحاته القديمة، وكم عالم غيور من رجال نهضتنا الحديثة قضى نحبه وبقلبه شيء أو حسرة من التعريب!

    فأنتم ترون أنَّ المغربي ظلَّ وفيًّا لفكرته في وجوب التعريب، وقد دافع عن ذلك دفاعًا مجيدًا في كتابه المشار إليه، وفي بحوثه العديدة التي نشرها في مجلة مجمع دمشق وفصلها في بحوثه في مجلة مجمع القاهرة.

(٢) عثرات اللسان في اللغة

هو كتيب لطيف يمت بصلة قوية إلى الكتاب السابق، بحث فيه عن عثرات الكتَّاب والخطباء في اللغة، وأصل هذا الكتاب محاضرة كان ألقاها المغربي في ردهة مجمع دمشق بعنوان «عثرات الأفمام» في ١ شباط (فبراير) ١٩٤٤، ناقش فيها الأغلاط اللغوية التي يظهر خطؤها حين النطق بها. وهي لو كتبتها الأقلام لما كان بين خطئها وصوابها من فرق، وقد قسم المؤلف هذه الأغلاط إلى عشرة أصناف «فالكلمة يكون أولها مفتوحًا في فصيح اللغة فيضمه الناس أو يكسرونه، أو مكسورًا فيضمونه أو يفتحونه، أو يكون وسطها متحركًا فيسكنونه، أو ساكنًا فيحركونه، أو مشددًا فيخففونه، أو مخففًا فيشددونه كل ذلك يفصلونه على خلاف الفصيح المعروف لدى أهل اللسان».٤

وقد اهتم المغربي بهذه الناحية اهتمامًا شديدًا فجمع أكثر من ثلاثمائة كلمة تعثر بها الأفمام وتلفظها لفظًا خاطئًا، فصنفها تصنيفًا دقيقًا، عمد من ورائه إلى إحياء اللغة الفصيحة وتطهيرها من العاميَّة المبتذلة واستعمال الكلمات الصحيحة مكانها.

وقد ذكر في صدر كتابه ملاحظة لطيفة بين فيها أنَّ الكلمات اللغوية قسمان: قسم سماه «الكلمات الأدبية»، وهي التي تستعمل في الخطابة والكتابة والتأليف، وقسم سماه «الكلمات اليومية»، وهي التي تستعمل في لغة الحياة العامة في البيت والشارع ومجالات الأنس والسمر. وإنه قصر بحثه في كتابه هذا على الكلمات اليومية. ولا بأس أن أورد عليكم طرفًا من مباحث ذلك الكتاب لتعرفوا طريقة الشيخ ومقدار حرصه على اللغة العربية وعنايته بحمايتها قال: يقولون «حَلَوِيَّات» مجموعة الأطعمة الحلوة، يفتحون اللام ويكسرون الواو ويشددون الياء خطأ كأنها جمع حَلوِيَّة، ولا يوجد في كلام العرب حلوية، وإنما «حَلْوَيَات» جمع «حَلْوَى» بالألف المقصورة، فالواجب أن تلفظ بفتح الحاء وسكون اللام وفتح الياء من دون تشديد، وإذا جعلناها جمعًا لحلواء بالألف الممدودة زدنا ألفًا بعد الواو في الجمع، فنقول «حَلوَيات»، والياء مخففة أيضًا إلا أن يدعي مدع بأن «حلويات» المشددة الياء نسبة إلى «حلو»، فيقال فيه «حُلويٌّ» وجمعه «حُلوِيات»، فيكون خطأ العامة فيه فتح الحاء واللام وصوابه ضم الحاء وسكون اللام.

وقال «حمَّارة الحرِّ صبَّارة البرد»؛ أي شدتهما، يشددون ميم «حمَّارة» وباء «صبَّارة» ويخففون راءهما، وهو خطأ من فعلهم والصواب العكس؛ أي تخفيف الميم والباء وتشديد الراء فيهما، وقيل بجواز ما قالوا.٥

هذا نمط من مباحث «عثرات اللسان» وللمغربي مباحث ومقالات عديدة نشرها في مجلات مجامع مصر والشام والعراق كلها تنطق عن تعمقه في مباحث اللغة، وتبين حرصه الشديد على حمايتها من عبث العابثين.

وله في مباحث اللغة دراسات طويلة وآراء صائبة في القضايا اللغوية لا يتسع المجال للإفاضة فيها، فمن ذلك رأيه في أنَّ كثيرًا من الكلمات الرباعية والخماسية يمكن إرجاعه إلى كلمتين ثلاثيتين بسهولة، فقد تبين أن تكوُّن تلكم الكلمات في لغة العرب إنما كان بوساطة ما سماه «الاشتقاق النحتي»، فكلمة «دحرج» منحوتة من «دحره فجرى»، وكلمة «هرول» من «هرب وولى» و«خرمش» من «خرم وشوه» وما إلى ذلك من المباحث التي تدل على عمق تفكير وسعة اطلاع، ولقد عرف فضله في هذا الباب المرحوم الشيخ محمد عبد المطلب الشاعر المصري الفحل، فقال فيه من قصيدة بمدحه عام ١٩٠٩م، ويعتذر عن عدم تمكنه من توديعه حين مغادرته مصر إلى الشام:

فهل مبلغٌ أشواقَ مصر وأهلها
نسيمٌ يوافي «المغربي» فيسمعا
أقام بها حينًا من الدهرِ لم يكن
سوى البحر فيَّاضًا سوى الليث أروَعا
له قلمٌ يعلو به الحقُّ إن جرى
وكان به «يحلو» المؤيد مشرعا
إذا استله في المعضلات رأيته
به الله تبيان الحقائق أودعا
ثوى بيننا في سيرة نبوية
نشُمُّ لها روحًا من المسك أسطعا

(٣) الأخلاق والواجبات

انصرف المغربي بعد تركه نشاطه السياسي الذي كان يزاوله في العهد العثماني، وبخاصة خلال الحرب العالمية الأولى، إلى التأليف العلمي الهادئ، وكان كتاب «الأخلاق والواجبات» أول ثمرات هذه الفترة من حياته، وهو مؤلف إصلاحي اجتماعي ألَّفه حينما رأى (أنَّ المكتبة الإسلامية — على وفرة ما حوته من الكتب والأشعار المؤلفة في الفنون المختلفة — لم يكن فيها من المؤلفات المترجمة للأخلاق، الخاصة على الآداب، المرغبة في الفضائل. وإذا تساءلنا عن كتب الأخلاق المتداولة بيننا اليوم لم نكد نعد منها سوى «كتاب الأخلاق» لابن مسكويه، و«أدب الدنيا والدين» للماوردي و«الجزء الرابع من إحياء الإمام الغزالي». إنَّ الكتب الثلاثة التي ذكرناها هي نفسها، لا يكاد يفهمها أو يستفيد منها إلا أفراد قلائل أيضًا، وكتاب ابن مسكويه احتذى فيه مثال الحكماء والفلاسفة وسلك طرائقهم في البيان والشرح وما لنا ولما قاله أولئك الحكماء الأقدمون وهذا قرآننا وحديث نبينا تضمنا من روائع الحكم في الفضائل والآداب والحث على مكارم الأخلاق ما يبذ القائلين، ويفي بحاجة المحتاجين، وكل ما نريد اليوم كتب أخلاقية يستعين بها المسلمون والآباء والمتصدون لإرشاد العامة ولتربية الطلاب والناشئين، وقد ألَّف المغربي كتابه هذا فجاء ضخمًا إذ تعمَّد فيه إلى توفية الأمور الأخلاقية والدينية، التي عالجها ما تستحقه من العناية، وأسهب، ورأى وزير معارف الحكومة العربية الفيصلية إذ ذلك الأستاذ الكبير ساطع الحصري أنَّ ما كتبه الشيخ مطول جدًّا فطلب إليه اختصاره، وأن يقتصر فيه عن المنقول والمأثور — على ما ورد في الكتاب السماوي والحديث النبوي، اللهم ما جاء عرضًا من أقوال الحكماء مما يلتحم معناه مع معنى الآيات والأحاديث، ففعل ذلك كله، وأفرغ الكتاب في أسلوب سهل المأخذ قريب المتناول.

والكتاب مقسم إلى «مقدمة» بحث فيها القرآن والحديث بحثًا جد مفيد، يلخص فيه كافة علوم القرآن والحديث ومباحثها مما لا يدع مزيدًا لمستزيد. ثم ذكر «تمهيدًا» بحث فيه عن مكانة الأخلاق وعن الأخلاق والإيمان، وعن الأخلاق والعبادات، وعن الدنيا والآخرة والخير والواجب، ثم شرع في ذكر مباحث الواجبات بعد أن قسمها إلى أربعة أقسام:
  • (١)

    الواجبات الشخصية وبحث فيها عن وجوب اهتمام المرء بالصحة والتداوي والنظافة والطهارة، والعلم والعقل، والصبر والشجاعة، والصدق والكذب، والعمل والسعي والزراعة والصناعة، والكسب والتجارة وما إلى ذلك.

  • (٢)

    الواجبات العائلية وبحث فيها عما ورد في الدين عن الأهل والعيال والنكاح والطلاق وأحكام النساء والأيتام وما إلى ذلك.

  • (٣)

    الواجبات الاجتماعية وبحث عن مزايا الجماعة والتعاون والرحمة والصدقة والأمانة والعدل، وما إلى ذلك من مباحث الأخلاق الاجتماعية.

  • (٤)

    الواجبات المدنية وفيها بحث لطيف عن واجبات الفرد نحو الوطن والحكومة ووجوب الدفاع عن الوطن، والنصح للحكام والطاعة لهم وما إلى ذلك.

ثم ختم الكتاب بمختارات من القرآن والحديث يستظهرها الفرد، ويستعين بها على تدارس أموار الأخلاق والواجبات الدينية.

وقد لقي الكتاب رواجًا عظيمًا في كافة أرجاء العالم الإسلامي بسهولة عبارته، وصفاء سريرته، ونقاء سيرة مؤلفه، وصدقه في دعوته.

ومما يلحق بهذا الباب «كتاب البينات» الذي نشر منه جزأين اختار فيهما بعض مقالاته الاجتماعية الإصلاحية عن «الإصلاح الإسلامي والباعث عليه وفهرس أركانه» وعن «البطالة والعمل» و«العائلة» و«الحرية العلمية في الإسلام» و«الزواج والحب» و«الطلاق في الإسلام» و«التربية النفسية والمقارنة بين كتبها الابتدائية». و«الإنفاق في الكماليات» و«الأخلاق والعقائد والأولياء والمراقد» وما إلى هذه الأمور من مباحث الإصلاح الاجتماعي الديني الذي نذر المغربي نفسه للقيام بأعبائه، والمغربي في حملته الإصلاحية سائر على خطى شيخه الأفغاني ومحمد عبده، متخذ سنة السلف الصالح من الاعتماد على ما ورد في معالجة هذه الأمور في الكتاب السماوي والحديث النبوي والاسترشاد بأقوال الحكماء والفلاسفة المعاصرين من شرقيين وغربيين، وهو على الرغم من كونه نشأ نشأة دينية تقليدية، كان نزاعًا إلى التجديد محاولًا أن يطلع على كل ما جد في عصره من أقوال الفلاسفة والمذاهب الحديثة ومناقشتها مناقشة تلائم طبعه وبيئته، فقد ناقش في بحث له نشر سنة ١٩٠٨م/١٣٢٥ﻫ موضوع الفقر والعدالة الاجتماعية وخطر «الاشتراكية» فقال: «إنَّ الزكاة الشرعية هي دواء الاشتراكية، وبما أنَّ أمور الزكاة غير منتظمة، وهذا سينشأ عنه انتشار الاشتراكية» وقال أيضًا: «إنَّ الأسباب الحائلة بين المسلمين وبين اطراد إخراج الزكاة وجني ثمرتها الاجتماعية هي أمور ثلاثة:
  • أولها: ترك إخراجها إلى تقوى المرء بحيث لا يكون له محاسب سوى نفسه، ولما انحطت الأمة في علمها ومجموع أخلاقها وشئونها الاجتماعية والسياسية، تبع ذلك إهمال الفريضة فلم يعد يخرجها إلا القليل ممن تشبع بروح الدين.
  • وثانيها: أنَّ هذا القليل يوزع مبالغ طفيفة — حسب رأي الفقهاء — فلا يكون لها أثر في تحسين حالة الفقراء.
  • وثالثها: أنَّ مصارف الزكاة — أي مستحقيها — اختلط حابلهم بنابلهم، فلم يعد يعرف المستحق من غيره، وربما كان في هذا ما يثبط عزائم المزكين.»

وقد اقترح المغربي حلًّا لهذه المشاكل أن تؤلف في كل بلدة إسلامية لجنة من أهل الدين والعفة والأمانة، بحيث تتوفر على الوساطة بين الأغنياء، وتعد لذلك الأمر عدته من اتخاذ الأعوان والنقباء للبحث عن المستحقين وما مبلغ حاجة الواحد منهم، وأيهم الأكثر استحقاقًا وأشد عوزًا، ثم تتناول هذه اللجنة أموال الزكاة من الأغنياء وتصرفها عنهم بالوكالة إلى الفقراء بتعليم أولادهم العلوم والصنائع وإعطائهم رءوس أموال يشتغلون بها وبناء ملاجئ للزَّمنَى ومستشفيات للمرضى … إلخ.

هذا العلاج الإسلامي لفشو «الاشتراكية» في رأي المغربي؛ لأن الغرض منها «التوفيق بين الطبقة العالية والطبقات السفلى من الفقراء والعمال، وأن يكون لهؤلاء نصيب من الحظوظ التي ساقتها التقادير إلى أولئك»، وإذا كان الأمر كذلك «فروح الاشتراكية تكونه موائمة لروح الدين، ويكون للاشتراكية من الزكاة الإسلامية دواء ناجع لدائها. أما إذا كان الغرض من الاشتراكية معنى غير الذي قلنا، فلنبحث لها عن دواء غير الذي ذكرناه ولا نظننا نجده، بل لا تظنه موجودًا».٦

هذا نمط من طريقة المغربي في معالجة بعض المشاكل الاجتماعية الصعبة، ولا شك عندنا في أنَّ المعلومات التي كان يعرفها عن الاشتراكية كانت معلومات أولية؛ لأن الناس في ذلك الحين كانوا لا يعرفون عنها إلا معلومات ساذجة، وما كانت الخزانة العربية قد ترجمت بعدُ المهم من مباحث العلماء عن الاشتراكية، إذ ليس ثمة من صلة بين موضوع فريضة الزكاة التي شرعها الإسلام، وبين الاشتراكية كبحث اقتصادي، فإن ما جاء به الإسلام ليس إلا دعوة دينية إصلاحية. أما الاشتراكية فمذهب اجتماعي وسياسي واقتصادي يقول الدكتور عبد الوهاب حومد: «إنَّ الدعوات الدينية ليست دعوات اشتراكية اقتصادية، وإنما هي مذاهب إصلاحية هالها هذا التفاوت بين طبقات المجتمع وهي مكونة من أفراد أمهم حواء وأبوهم آدم، فعملت على تحسين أوضاع المحرومين، وهذا الطابع الإصلاحي واضح جدًّا في الدعوة الإسلامية حتى إنها جعلت الزكاة ركنًا من أركان الدين، وحفل القرآن بكثير من الآيات التي تحض على التصديق، أما الاشتراكية فهي مسألة اقتصادية خالصة يترتب عليها نتائج اقتصادية قد تنعكس عكس الأخلاق، ولكنه انعكاس غير مباشر وعلى هذا يكون ما قاله شوقي:

الإشتراكيُّون أنتَ إمامُهم
قول شاعر يرصف الكلام ويجيد قوله، لكنه ليس من العلم في شيء.٧

ومهما يكن من أمر فإن نظرة المغربي إلى كل المذاهب الغربية كانت نظرة المسلم المحافظ الذي يرى في كتاب الله وسنة رسوله وأقوال السلف جماع كل شيء، ومنها علاج كل قضية اجتماعية وسياسية، على هذا نشأ وعليه رحل فلا مساع لمجادلته في آرائه ومعتقداته.

(٤) كتابا «تفسير جزء تبارك» و«على هامش التفسير»

ألَّف المغربي كتابه في تفسير جزء «تبارك» في سنة ١٩٢٠ تتميمًا لما كان بدأ به أستاذه الإمام محمد عبده من تفسير جزء «عمَّ»؛ لأن هذين الجزأين «من أكثر الأجزاء شيوعًا بين طلاب المدارس، وتداولًا بين عامة المسلمين وأيدي صغارهم، وآياتهما أشد علوقًا بالنفس، وترديدًا في الأفواه عن سائر آيات الكتاب». وتفسير جزء «عمَّ» للأستاذ الإمام من خير الكتب التي لقيت أحسن القبول لإتقان تأليفه وسموُّ أسلوبه وتقريبه معاني الذكر الحكيم إلى أذهان العامة والمتعلمين، وقد راج رواجًا عظيمًا وطبع عدة مرات، فأراد المغربي أن يحذو حذو أستاذه، ويعمل على سد الثغرة التي تركها أستاذه الإمام، فقد بلغه أنه كان فكر في تفسير جزء «تبارك» وأنه «كان هيأ صحائف بيضاء رقم في رءوسها آيات ذلك الجزء، وتركها غفلًا من الكتابة على أمل أن يصطحبها معه في بعض أسفاره، ويملأها تفسيرًا وتعليقًا، كما كان أمره في تفسير جزء عمَّ الذي ألَّفه في غضون سفره إلى البلاد المغربية لكنه اخترمته منيته قبل أن تتحقق أمنيته». ألَّف المغربي تفسير جزء تبارك متوخيًا طريقة أستاذه الجليل «فيما علقه على جزء «عمَّ» من جهتي الصحة في التعبير، والاقتصار على المفيد من القول»٨ إلا أنه اضطر فيما يظهر إلى التوسع قليلًا والإكثار من الاستشهاد والتنظير ولا سيما في المباحث اللغوية بأكثر مما فصله الأستاذ الإمام مراعيًا في ذلك حالة قراء جزء «تبارك» ومقدرًا أنَّ قارئيه أكبر سنًّا، وأتم استعدادًا وأشد اهتمامًا. والكتاب في ثلاثمائة صحيفة بالقطع الكبير طبعت منه وزارة المعارف المصرية للمرة الأولى في سنة ١٣٦٨ﻫ/١٩٤٩م خمسة عشر ألف نسخة، وأعيد طبعه في هذه الآونة طبعة شعبية.
وقد سلك المغربي فيه طريقة الإمام في التعليق على الآيات الكريمة، ولكنه وسع في شرح المفردات اللغوية وأكثر من الشواهد الأدبية، وقد صدره ببحث لطيف ذكر فيه أنَّ جميع سور هذا الجزء المبارك، قد أنزلت بمكة؛ أي قبل الهجرة، ومن ثم كان الخطاب الإلهي فيها موجهًا إلى المشركين وهو في الأغلب يدور حول إثبات وجود الله والاستدلال عليه بما خلق من الكائنات، ثم إثبات نبوة محمد وأنه صادق في دعوى الرسالة والوحي، ثم تقريع المكذبين وتخويفهم ما بين أيديهم من هول الحشر والحساب، وأنَّ هذا الحشر ممكن وسيقع بالفعل، فيلقى كل فريق من الجاحدين والمؤمنين جزاه اللائق به، في داره المعدة له، ووصف هاتين الدارين وصفًا بديعًا في أسلوبه عجيبًا في نسقه وتركيبه، ويتخلل الآيات تسلية النبي وتقوية قلبه الشريف وحثه على الصبر والتجلد والتأسي بإخوانه الأنبياء الذين تقدموه ولقوا من أممهم مثل ما لقي أو أشد.٩ ويلاحظ أنَّ المغربي قد أسهب في تفسير آيات نعيم المؤمنين في دار الآخرة فقد فسرها تفسيرًا قال عنه: «كانت تعرض لي وأنا أباشر التفسير، آيات النعيم ووصف ملذات الجنة والأشياء التي يستمتع بها في بحابحها فكنت أفسرها تفسيرًا ينفي الشبهة، ويزيح الشكوك، ويلتحم مع العقل السليم من دون أن أخرج عن قواعد اللغة والمعهود في أساليب العرب ومذاهبهم الكلامية، ومن دون أن أتخطى قواعد الإسلام وسلامة أصوله، التي تبنى عليها علاقة العقيدة، غير أني (من حيث لا أشعر)، كنت أسهب في تفسير آيات الملذات إسهابًا رأيتني فيه خرجت عن الاختصار الذي التزمته في تفسير آيات جزء تبارك». والحق أنَّ المغربي قد سلك في هذا الطريق مسلكًا ارتآه، ولكن جماعة من العلماء خالفوه فيه قديمًا وحديثًا ذاهبين إلى أنَّ ملذات الآخرة كملذات الدنيا التي يتمتع بها الجسم وتلذها العين واليد لا كما يقول هو من أنها ملذات روحية روحانية.
وقد انقسم أولئك العلماء إلى فريقين: فريق أول هم جمهور العلماء المتقدمين ومن تبعهم من عامة المسلمين إلى اليوم ممن قالوا بأن ما ذكره الله في القرآن عن الجنة وأسباب نعيمها داخل كله تحت القدرة الإلهية والإمكان العقلي، وقد خلق نظيره في دنيانا هذه، ومن خلق هذا قادر بالضرورة على خلق ذاك، فالواجب تصديقه والإيمان به من دون تأويل أو تعليل، حتى قال أبو قلابة المفسر المحدث البغدادي (٢٧٩) في تفسير قوله تعالى: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا: إنَّ أهل الجنة يؤتون بالطعام والشراب ممزوجًا بالكافور والزنجبيل، فإذا أكلوا وشربوا ما شاءوا دعوا بالشراب الطهور المذكور فيشربونه، فتطهر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم كريح المسك، فتضمر بذلك بطونهم.١٠ وفريق ثانٍ هم الصوفية الذين اشتهروا بعشق الحضرة الإلهية والاستغراق في تقديس الذات الأحدية، فكلام هؤلاء يشعر بأن للأكل والشرب ولحم الطير والفاكهة والخمر واللبن والأكواب والحور والولدان والأساور والستور والوسائد، معاني أخر وراءها ما يستفاد منها لغةً، وأنَّ هذه المعاني هي المقصودة في الخطاب الإلهي.
والمغربي لا يرى رأي الفريقين وإنما يقول: إنَّ ثمة فريقًا ثالثًا لا يقيم وزنًا لما استند إليه الفريق الثاني من الكاشفات ومعرفة الأسرار، لا لأنهم ينكرون ذلك؛ بل لأنهم يقولون: إنَّ الله أنزل علينا القرآن بلسان عربي مبين، وكلفنا أن نتدبر ونتفهَّم معانيه ونعمل بها، وبديهي أنَّ الواسطة في فهم هذه المعاني واستخراجها من إطواء الخطاب الإلهي إنما هي اللغة العربية وطرق بلاغتها ومختلف أساليب التخاطب بها، وأنَّ تفسير آيات القرآن بواسطة «الذوق والمكاشفة» يروي الدعاوي الفاسدة، والمزاحم الفاسدة وينقلنا إلى عالم من الوهم والخيال، لا منتهى لحدوده، فلم يبق لنا حبل نتمسك به في الوصول إلى فهم القرآن سوى اللغة ومذاهب العرب في ملاحن كلامهم.١١

هذا هو رأي المغربي في فهم نصوص القرآن وقد طبقه في تفسير كل ما ورد في القرآن من نعيم الجنة، فذكر في ذلك بحثًا طويلًا سماه «رسالة الحجج الظاهرة في ما هي ملذات الآخرة». أسهب فيها عن هذا الموضوع وأعاد وبدأ، وذهب إلى أنَّ الوحي الإلهي أراد أن يصف للمخاطبين آيات الملذات في الجنة بما ألفوه وكلفوا به من ملذاتهم الدنيوية على نحو ما يشعرون به مفرغًا، ذلك الوصف في التراكيب والأساليب التي اعتادوها في التخاطب بينهم ودرجوا عليها في ملاحن كلامهم؛ وذلك لعجز فطرهم وضعف استعدادهم عن فهم تلك الملذات الأخروية، وتعلقها بالكنه والحقيقة، فضرب لها مثلًا ملذات الدنيا ووسائل اجتلابها وأسباب الشعور بها من مثل الحور، واللحم، والخمر، واللبن، والفاكهة، والأسرة، والحرير، والذهب، والفضة، واللؤلؤ، ولا يخفى أن تمتع النفس بهذه المذكورات وتقليب النظر فيها، وممارسة الحواس لها من أكبر ملذات الدنيا وأسباب الترف فيها عند البشر عامةً، وعند العرب المخاطبين بالوحي لذلك العهد خاصة. فالمنعم في الجنة يشعر بلذة عجيبة، ثم يحس بمسرة غيرها شديدة التأثير في نفسه، ثم بلذة ثالثة وبأخرى غيرها رابعة وهكذا. فتتألف من مجموع هذه الملذات والمسرات وشعور النفس بها حالة صورها الوحي الإلهي للبشر بحالتهم التي يشعرونه بها، مذ يتناولون ملذوذاتهم الدنيوية المتعددة الأنواع والمختلفة الأشكال، ويمارسون أسبابها ووسائلها كل ذلك تشويقًا لهم وحفزًا لهممهم إلى الإيمان والعمل الصالح وطاعة الله. ولا يلزم من هذا أن تكون ملذات الجنة روحانية أو معنوية لا وجود لها في الخارج ولا يشعر بها الجسم؛ لأنك إذا ضربت جود حاتم المعهود لك مثلًا لجود زيد لا يلزم منه أن يكون جود زيد أمرًا معنويًّا لا وجود له في الخارج، وإذا ضرب الله لنا لحم الطير مثلًا لملذة من ملذات الجنة، لا يلزم منه أن تكون ملذة الجنة روحانية لا يحس بها الجسد، ويوشك أن يكون الشرح قد نقل الكلمات الدالة على المسرات من معناها اللغوي الدنيوي إلى معنى اصطلاحي جديد أخروي، فنقل كلمات الخمر واللبن واللحم والطير والحور والولدان من معانيها المعهودة في الدنيا إلى معانٍ أخرى؛ وهي وسائل اللذات والمسرات التي تكون في الجنة، فهذه الكلمات إذن لها معانٍ لغوية أخرى، ومعان أخرى عرفية أو شرعية، وهذه الكلمات الصوم والصلاة والزكاة وغيرها مما له معان لغوية ومعانٍ شرعية. ونحن نقول بأن لتلك الألفاظ «كالخمر والحور والولدان» مدلولات علوية تلائم الحياة الأخروية التي لا نستطيع اكتناهها في حياتنا الدنيا، وإنما فصل الشرع ذلك تفاديًا من وضع كلمات جديدة لهذه المسرات الأخروية، ليست من لغة العرب المخاطبين ولا يفهمونها، والحكمة تقضي أن لا يخاطبهم إلا بما يفهمون لتنهض الحجة عليهم. ولما كانت اللذات المادية كما نفهمها في هذه الحياة الدنيا غير ممكنة في تلك الحياة الأخرى وجب أن نحمل آيات النعيم ووصف اللذائذ الأخرى على المعنى الكنائي والأسلوب التمثيلي — كما وقع في قول الخنساء وأقوال كثيرين غيرها من فحول فصحاء العرب وبلغائهم — ولا يضر تلك الآيات، ولا يحط ذلك من قدر بلاغتها وقيمة إعجازها، بل على العكس يزيدها رونقًا وبلاغةً وحسنًا ويرفعها درجات في معارج الإبداع والإعجاز.

والمغربي في تفسير جزء «تبارك» يسلك طريقة المفسرين الأول من رجال مدرسة أبي عمرو بن العلاء، وأبي عبيدة الذين يمزجون التفسير بالآداب ويتفهمون القرآن بأساليب العرب، ولعل كتاب المجاز الذي ألَّفه أبو عبيدة وملأه بالشواهد الشعرية، وبحث فيه عن مجازات القرآن وكناياته دليل على ما قلناه.

وتفسير المغربي كتفسير محمد رشيد رضا وتفسير شيخهما محمد عبده، وهي من التفاسير الحديثة التي سار فيها أصحابها على مذهب السلف، ولعل رائد هذه الطريقة في العصور المتأخرة هو الإمام أبو الثناء الألوسي في العراق، والمصلح الشيخ جمال الدين القاسمي في الشام.

أما بعد فهذا بحث موجز عن المغربي المؤلف عمدنا فيه إلى دراسة بعض آثاره المطبوعة، لئلا يطول البحث بدراسة آثاره كلها، ولا بد لنا قبل ختام هذا الحديث من الوقوف أمام كتاب من أواخر كتبه التي نشرها هو شرح تائية عامر بن عامر البصري الصوفي الحكيم، فقد نشر التائية مع شرح موجز لأبياتها كشف فيه عن رموز الصوفية في أشعارهم وأفكارهم. ومن هذه الرسالة تتكشف لنا ناحية من نواحي الشيخ ما كنا لنعرفها عنه لولا هذه الرسالة، وهي معرفته الواسعة بالتصوف ومذاهبه، فقد قدم لنا الشيخ فيها «صورة من صور التفكير العربي جمع مصورها البارع في نقشها بين لونين: لون أدبي مشرق باسم، ولون صوفي عابس قاتم».

أما آثاره المخطوطة فنجمل الحديث عنها بما يلي:

(٥) «كتاب أحسن القصص أو التاريخ النبوي المقدس» في سيرة نبينا محمد وتاريخ نشأته إلى حين وفاته

هو كتاب في السيرة أتى فيه المؤلف على تفاصيل حياة نبينا محمد مبوبًا ومرتبًا ترتيبًا عصريًّا وقد ضمنه كثيرًا من الأبحاث والفوائد المتعلقة بأخلاق النبي الكريم وحقائق الشريعة التي أتى فيها بما يروق لدى الفضلاء المعاصرين، وصدره بمقدمة قال فيها: «إنَّ الغرض من هذا الكتاب فائدتان الأولى، تقوية إيماننا وازدياد ثقتنا بصحة ديننا، والثانية هي التأمل في أخلاق النبي، وروائع آدابه، وتدبر أعمال الصحابة وجليل مآثرهم، والمقارنة بين جميع ذلك، وبين ما نحن عليه اليوم من الأخلاق والآداب، وأن نتخذ من سيرته وآدابه وآداب صحابته ما نقتدي به ونعمل على شاكلته.»

وقد أفرد في مستهله بحثًا من المؤلفين في سيرة النبي ، ثم وصفًا لحالة العالم قبيل البعثة، وبحثًا عن حال جزيرة العرب قبل الإسلام وعن قريش وطفولة النبي وشبابه وزواجه، ثم تكلم عن الوحي وعن صبر النبي على أذى المشركين وعن صحابته وغزواته، وما تخلل ذلك من الحوادث التي تشيد بصدق هذه الدعوة المحمدية، كل ذلك بأسلوب بالغ الروعة، غير أنَّ المؤلف بعد أن تكلم على سرية زيد بن حارثة وقف عند غزوة أحد ولم يكمل الباب.

(٦) المعجم اللغوي

هو معجم لطيف جمع فيه ما يحتاجه المؤلفون والكتاب في الفنون المختلفة العصرية والإدارية من الألفاظ والتراكيب التي يجدر بهم استعمالها في كتاباتهم وتآليفهم، فتحيا بها اللغة العربية وتجاري غيرها من اللغات الحية في حلبة التأليف الفني الصحيح، وقد نهج في هذا المعجم نهجًا جديدًا، وهو أنه قسم كلمات اللغة إلى ألفاظ زراعية، وصناعية وإدارية، وعسكرية، واقتصادية، وحقوقية، وتجارية، وفنية، وكلمات علمية عامة أدرجها تحت عنوان «المعارف» ثم ذكر كلمات مختلفة لمعان مختلفة، وجعل كل نوع من هذه الألفاظ في باب خاص، كما أورد معناها والمراد منها بأسلوب سهل واضح إلا أنَّ هذا التأليف لم يتم ووقف المؤلف فيه عند حرف الذال.

(٧) أقرب الطرائق إلى كنز الدقائق

هو كتاب كان وضعه وهو في طور التحصيل شرح فيه «متن الكنز» في الفقه الحنفي شرحًا قرب مسائله إلى أذهان المتعلمين، ومما قاله في مقدمته: «إنه قد اقتصر على المسائل الفقهية التي يكثر حدوثها وتحاشي الألفاظ التي يقبح سمعها بقدر الإمكان»، ولم يتعرض للخلافات بل ذكر القول المعتمد، وقد توخى الإيجاز حين يرى الإيجاز ألزم، والإسهاب حين يراه أنفع، وهو شرح سهل العبارة بسط فيه المسائل الفقهية تبسيطًا علميًّا قريبًا من أذهان أهل العلم والمراجعين.

(٨) رسالة العقائد الإسلامية

هي رسالة في العقائد الإسلامية أفرغها المغربي بأسلوب يقرِّبها من أذهان الطلاب، وقد جمع فيها ما ينبغي معرفته في هذا الموضوع، كما ضرب أمثلة، وأتى باستدلالات معقولة تساعد على تفهم مسائل هذا العلم، لا سيما ما يتعلق بوجود الله تعالى والنبوات والمعجزات.

(٩) كتاب شرح مقصورة ابن دريد

هو كتاب كبير شرح فيه أبيات المقصورة الدريدية بأسلوب طلي رائع في الإبانة، وحلل ألفاظها تحليلًا لغويًّا يغني المتعلم والمتأدب عن الرجوع إلى أستاذ يساعده على فهمها، وصدَّرها بمقدمة أفاض فيها في ضرورة العناية باللغة العربية لأمم «الجامعة الدينية والجامعة الوطنية»، وشرح المزايا التي تتحلى بها المقصورة الدريدية وما جمعته من ضروب المديح والفخر والحماسة والغزل والتاريخ، وشكوى الزمان، ووصف السحاب والخيل والإبل، والحكم الرائعة، والأمثال البديعة، والمواعظ البليغة، ثم عقد فصلًا أوجز فيه سيرة صاحب المقصورة أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي.

(١٠) مجموعة طائفة من الأشعار في وصف الصحاري والقفار

جمع المؤلف في هذا الكتيب قطعًا شعرية لبعض الشعراء في العصر الجاهلي، ثم لبعض الشعراء الإسلاميين المتقدمين ولبعض الشعراء الإسلاميين المتأخرين في وصف الصحاري، وقد علق على هذه الأشعار بشروح لطيفة توضح معناها الذي أراده الشاعر، وصدر هذه المجموعة بمقدمة نقل فيها ما قاله المسعودي في مروج الذهب عن السبب الذي جعل العرب يفضلون سكنى البوادي على سكنى المدن والأمصار.

(١١) تاريخ آداب اللغة العربية

هو كتاب ضخم صدره بمقدمات عن الآداب التي يجب أن يروض المشتغل بالآداب العربية نفسه بها، وعن معنى التاريخ وفن تاريخ الآداب والتأليف فيه، وعن معنى الأدب والآداب عند الإفرنج والعرب، ثم انتقل إلى الكلام عن عرب الجزيرة ولغاتهم وطبائعهم وعلمهم، ثم بسط مسائل هذا العلم مبتدئًا بتاريخ الآداب العربية في عصر الجاهلية الأولى، ثم عصر الجاهلية الثانية الذي ينتهي بظهور الإسلام، ثم العصور الإسلامية، وقد أفاض في كل هذه المواضيع، وما يتعلق بها، وأتى على نموذجات من مطالب اللغة، وعلى أبحاث لغوية تتعلق بتاريخ الآداب العربية، ثم ذكر المؤلفين في اللغة، ثم بحث في الألفاظ التي عاشت، ثم ماتت، والمعرَّب، والمولَّد، والأمثال والشعر والشعراء وطبقاتهم، والخطباء، والأنساب، وأسواق العرب إلى آخر ما يحتاج إليه المتأدبون في هذا العلم.

ويلحق بهذا الكتاب جزء عنوانه: «الآداب العربية».

استهله الشيخ بمقدمة في تحديد وظيفة أستاذ الآداب العربية، ثم انتقى مختارات من أبلغ الشعر والنثر في العصور المختلفة مع شرح لغريب ألفاظها، والمعنى الذي أراده قائلها بعد تعريف موجز بهذا القائل إن كان معروفًا.

(١٢) كتاب «فنون البلاغة»

هو كتاب في فنون البلاغة الثلاثة مصدر بآمال شيقة في تاريخ البلاغة، ثم في التعريف بعلومها الثلاثة وتحديد كل من هذه العلوم بإيجاز، ثم تلا ذلك مقدمة في ماهية الفصاحة وماهية البلاغة، ثم ينتقل إلى مباحث علم المعاني، ومن المؤسف أنَّ هذا الكتاب غير كامل.

(١٣) كتيب في التعليم بالمراسلة

هي دروس في رسائل كان يبعث بها المغربي يوم كان في القدس عام ١٩١٥م إلى ولديه مصطفى ونعيمة في طرابلس تضمَّن نصوصًا أدبية وأخلاقية بليغة منتقاة من أمهات كتب الأدب العربي، و«شرحها شرحًا وافيًا، وعلَّق عليها، وفسر ما فيها من غريب الألفاظ تفسيرًا على غاية في الوضوح، وهي خمس وعشرون رسالة متنوعة المواضيع.»

(١٤) النغَب: أو نوادر العلوم وفرائد الآداب

هي مختارات قطع أدبية متفرقة في الأدب والتاريخ واللغة، حوت البليغ من النظم والنثر ويظهر أنَّ الأستاذ كان جمعها وشرحها وحلل ألفاظها، وهو يريد أن يطبعها في كتاب أدبي على نمط الكامل للمبرد.

•••

هذا وقد ترك الأستاذ كراريس كثيرة وتساويد في علوم الدين واللغة والأدب منها «كتاب في أصول الفقه» على طريقة السؤال والجواب و«كتاب في النحو» ورسالة عنوانها «إثبات الحسِّ اللغوي»، كما ترك مقالات وأبحاثًا في مختلف المواضيع معدة للنشر في الصحف والمجلات. وله حواش وهوامش وتعاليق كثيرة على بعض الكتب مثل: المزهر للسيوطي، وحماسة أبي تمام وغيرهما.

أما محاضراته التي تنيف على المائة في الإصلاح الديني والاجتماعي واللغة وآدابها والتاريخ، فقد كان ألقاها في مدن مختلفة في سوريا ولبنان ومصر وأكثرها ألقي في ردهة المجتمع العلمي بدمشق ومنها ما ألقي على السيدات ومعظمها لم ينشر بعد، وله تأليف خاص بأسرته (آل المغربي) في سورية ومصر وتونس تكلم فيه عن منشئها وعن العلماء الذين ظهروا فيها، كما كتب شيئًا عن نشأته وعن شيوخه وتاريخ والده وأجداده والأعمال العلمية التي مارسها، واستطرد بالمناسبة إلى ذكر وقائع من تاريخ طرابلس وحالتها الاجتماعية في الماضي والحاضر.

هذا هو الإمام المغربي في نواحيه العلمية والأدبية والإصلاحية، وهذه هي صفحة مشرقة من صفحات تاريخها الحديث خطها المغربي في سفر الحضارة العربية الخالدة.

فعليه من الرحمة والرضوان بقدر ما خدم أمته ولغته ودينه.

هوامش

(١) مقدمة الطبعة الثانية ص١.
(٢) راجع تفصيل تلك المناظرات في جريدة المؤيد ١٩٠٨ ومقدمة «الاشتقاق والتعريب» ص٢.
(٣) راجع مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق ٥ / ٢٧٧.
(٤) عثرات اللسان ص٥.
(٥) انظر «عثرات اللسان» ٨٨-٨٩.
(٦) البينات ٢ / ١٩٥–٢٠٠.
(٧) «الاشتراكية الدستورية» للدكتور عبد الوهاب حومد ١٠–١٣.
(٨) مقدمة تفسير «جزء تبارك» المغربي.
(٩) تفسير جزء تبارك ص١.
(١٠) تفسر الطبري جزء ٢٩ / ص١٣٧ وتفسير النيسابوري بهامشه ص١٢٢.
(١١) على هاشم التفسير ص١٤-١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤