القسم الأول

في مكانٍ ما على هذا الوجود

أخبروني قبل قليلٍ أن ابنتي بخير وأنهم أدخلوها إلى المستشفى، كنتُ أجلس على كرسي خشبي حينما أخبروني عنها، كنتُ أجلس وحيدًا، وسط تلك القاعة، التفتُّ في كل مكان، لم يكن هناك نوافذ، لا شيء سوى تلك الجدران الخشبية التي تُشبه في تكوينها أرضية القاعة، التفتُّ إلى الخلف في استدارةٍ جزئية، ولمحتُ على بُعدٍ ما جمعًا من الأشخاص يجلسون على كراسي مُتقاربة، وكان يفصلهم عني حاجز خشبي، كانوا يتحدثون بعضهم إلى بعض، ويكاد يُسمع حديثهم، ولمَّا لمحوني استداروا نَحوي استدارةً جماعية وتوقَّفوا عن الحديث. رمقوني بنظرةٍ غريبة وكأنني مُذنب بشيءٍ ما. خفتُ من تلك النظرات فالتفتُّ مُجددًا إلى الأمام، ثم وبعد مدةٍ وبسذاجة طفلٍ صغير أعدتُ النظر إليهم، كانوا ينظرون إليَّ في غرابة، وكان البعض منهم يضحك. تهامَس البعض الآخر أيضًا، لكن المؤكد أنهم كانوا ينظرون بحقارةٍ إليَّ، وخفتُ من نظراتهم تلك، أحسستُ بالبردِ حينها فجمعتُ جسدي بذراعي، أُعانق نفسي، ثم نظرتُ إلى الأمام، ولم أكن قد انتبهتُ له قبل هذه اللحظة، فقد انشغلتُ في التفكير بابنتي وأنا شاردُ العقل أنظر في ثباتٍ إلى الأرضية الخشبية، وعلى بُعدٍ مني استقرَّت طاولة ترتفع أمتارًا وخلفها تصطفُّ كراسي ضخمة أين جلس القضاةُ سابقًا، وقد زُيِّنت ببساطٍ أبيض تدلَّى إلى الأسفل وكُتبت عليه كتابة بلغةٍ لم أفهمْها، ثم إنه بالقُرب من تلك الطاولة الضخمة درج ينتهي إلى بابٍ في الأسفل، باب يقف عنده رجل ضخم أسود البشرة، كان ينظر نحوَنا في ثبات، يجمع يدَيه في اعتدال، ما كان يتحرَّك بل ولم أشعُر أنه يتنفَّس حتى، كنتُ قد نسيتُ لِمَ أنا هنا، بل إنني نسيتُ كيف آل بي الأمر في هذا المكان، واستغربتُ وجودي هنا ثم جلستُ أُفكر.

كنتُ قد عشتُ أغلب ما كُتب لي أن أعيشَه وأنا أبحث عن حقيقة الوجود، عشتُ غريبًا، وكثيرًا ما ضحك الناس لغرابتي هذه — هذا يفسِّر لِمَ يضحك عليَّ الجميع في القاعة — اعتقدوا أنني مجنون، وأنه لم يتوجَّب عليَّ أن أدرس، فحسبُهم سبب جنوني هو دراستي، مع أنهم أحبُّوا تلك الصفة بي، حتى إن والدتي كانت قد اعتقدت يومًا أنني شخص آخر، خاف الجميع مني، فتعجبوا لوجود شخصٍ مثلي بهذا العالم، ومرضتْ والدتي بسببي، حتى إنَّ والدي استسلمَ لشُرب الخمر بسبب ما فعلتُ، وأنهى ما تبقَّى من حياته وهو يطارد جرعات النبيذ يملأ بها روحه المُنتشية، ولم أتحدث يومًا إلا وأَصبتُ الناس بالخوف لما أتحدَّث به من غرابةٍ وجنون، وقد درستُ الطبَّ بأكبر الكليات بباريس، وفعلت ذلك لسببٍ واحد، إلَّا أن امتهاني للطب لم يمنحهم إلا سببًا آخر ليعتقدوا بجنوني، وكانوا مُحقِّين. ربما كنتُ مجنونًا، فقد تحدَّيتُ القدَر في أغلب الأحيان، وكان الطبُّ مجرد ورقة بيدي لإيقاف ألعابه الشريرة، كان يقتل مزيدًا من البشر، وكنتُ أعمل على إنقاذ ما تقدَّر لي أن أُنقذه — ربما كلمة «تَقدَّر» تجعل الفكرة خاطئة، ربما توجَّب أن أقول «ما كان باستطاعتي إنقاذه.» فبهذا الشكل أكون قد انفردتُ بذلك دون تدخُّلٍ من القدَر — وفكرتُ؛ ربما هو كان يسمح لي بأن أفعل ذلك، ففي الأخير كان بإمكانه أن يجعلني أتوقف عن التنفُّس فيُنهي بذلك معركتي معه، لكنه لم يفعل، لأنها لم تكن معركةً في نظره، كان يستمتع بعجرفتي البشرية، بلعبي معه، كنتُ أشبهَ بطفلٍ صغير يحاول الإمساك بإصبع والده، أو أشبه بقطٍّ صغير يطارد خيطًا يُحركه رجل بالغ. والأهم أنَّ القدَر كان يودُّ أن يُعلمني درسًا في الوجود، فقد كنتُ أعتقد سابقًا أنني الوحيد من بلغ درجة الحِكمة العُليا؛ أنني أفهم البشر وأفهم ما فوق ذلك، أنني أُقدِّر الظروف أشدَّ التقدير فلا يُصيبني منها إلا ما درسته، وأفسِّر القصص أحسنَ التفسير فلا يخفى عليَّ سبب الأحداث أو غايتها من الحدوث؛ لذا أراد القدَر أن يُعلمني درسًا، درسًا حول القدَر نفسه، أراد أن يُظهر لي أنه مع قدرة الخلق التي يملكها تكمُن مسئولية كبيرة، وأن تلك المسئولية لهي نتاج عِلمٍ وفير يملكه، ويكمُن فوق ذلك العِلم حكمة عظيمة؛ أن خلفَ البشر قصة وأن خلفَ كلِّ خطوة هدفًا مُقدسًا وأن ما قبلها سببٌ علويٌّ لن يفهمه عامة البشر؛ أن الفراشة قد تُحرك الرياح، أن الرياح قد تُشكل الأزهار، أن الأزهار قد تُنشئ الفراشة، وأن الثلاثة مُنفردون بوجودهم فلا يندثِر أحدٌ باندثار الآخر — كان ذلك أشبهَ بتناقُضٍ عجيب — ولهذا أراد أن يُعلمني درسًا حول الوجود وعن حقيقة ذلك.

وقد فعل ذلك في نهاية المطاف؛ أقحمَني في قصة غريبة، لم أضحك بعدها على غرابة القصة، بل ولم أضحك بعدها على غرابة أي شيءٍ غريب، على عكس ما فعل الناس مع غرابتي. ربما هم فعلوا ذلك لأنهم يجهلون ماهيتي، مِثلما جهلتُ سابقًا ماهية القدر، لكنني محظوظ بما يكفي، إنَّ غرابتي لَجزء من غرابة تلك القصة، قصة أوجدَها لي قدر غريب، والبقية من البشر يجهلون ذلك، حتى أولئك الذين شاركوني جزءًا منها، كل من ضحِك عليَّ يجهل ذلك. أنا لا ألومهم؛ فالبشَر يجهلون البشر، ولا يعلمون مثلما أعلم، أنَّ خلفَ كل إنسان قصة، وأن خلف كل قصةٍ قدرًا، وأن خلف كل قدرٍ إنسانًا؛ إنسانًا يؤمن بذلك القدَر، أو إنسانًا أشبهَ بي، رجلًا لا يمكن تحريكه.

صيف ١٩٣٩م

«كيف يُمكنك أن تقتل إنسانًا أنت تحبه؟»

كانت هذه آخر كلمات زوجتي قبل أن ننفصِل، لم أفهم معناها يومَها فكبريائي كانت تمنعني من فَهم أي شيءٍ، ثم إنني طبيب ولم أكن أومن سوى بما يؤكده العلم أو ينفيه، مع أنني أتناقض مع نفسي في كثيرٍ من الأحيان، أيُمكن أن أُكذِّب كل الظواهر وأصدِّق وجود قوة أُسميها قدرًا، لكنني صدقتُ ما أفعل، ولم يرتقِ تفكيري إلى الفلسفة يومًا، وما كنتُ أفهم الرموز وإن تجلَّت من حولي، كنتُ تطبيقيًّا جدًّا، ولم أكن أعرف ما تعني بقولها ذلك، فقد كان يجِب أن ننفصل، لأنني رأيتُ أنه يجب أن نفعل، حتى بعد زواجٍ دام ١٨ سنة كُلِّل بفتاةٍ جميلة أشبه بوالدتها، إلا أنني رجل هو سيدٌ لقراره، وكان قراري أن أُطلق زوجتي، حتى وإن لم يكن السبب منطقيًّا بالنسبة لها، لكنه كان يجب أن أطلقها ففعلت. كثيرًا ما اعتقدتُ أنني تزوَّجتُها لأنها جميلة، وفي كثيرٍ من الأحيان كان يُخالجني شعور بأنني تزوجتها لثروتها التي سترِثها عن عائلتها في فرنسا، ربما فعلت ذلك لأنني أحببتُها، لكنني كنتُ متأكدًا من حُبي لها، أجل إنه الشيء الوحيد الذي لن أُنكره، وقد أحببتُ زوجتي لأنها كانت فتاة مغامرة صبيانية المعشر، كنتُ أكبُر في كل يوم وكانت تستقرُّ وكأنها مُحصنة أمام الزمن، كانت تُحب كل شيءٍ يتعلق بالحياة، أو حتى بالموت، أذكر أنها كانت تُضحكني عندما تُخبرني أن الموت حياة أخرى، عادة كانت تفعل ذلك حينما تُقبلني، تُخبرني أن هذه القبلة هي إكسير الحياة، تملأ بها نفسها استعدادًا لحياةٍ أخرى، حينما ستتقمَّص شخصًا آخر، وضحكتُ لأنني اعتقدت أن تفكيرها ليس له أساس في العلم؛ كيف يمكن أن يحدُث ذلك؟ الموت هو التوقُّف؛ التوقُّف الأبدي ولا عودة بعد ذلك التوقُّف. وأجمل ما فيها هو استمتاعها بكونها حُرة في طريقة عيشها للأشياء وللأحداث وللزمن كذلك، فقد كانت تفتخر بكل تلك المغامرات التي خاضتها وتسترجع كل تلك الذكريات، تُخبرني أن الذكرى نوع من الخلود، وهذا ما أعجبني فيها أو ربما هذا ما جعلني أتزوَّجها؛ فقد كنتُ أكره أن أتزوج فتاةً أشبهَ بصخرةٍ لا حياة فيها، أردتُ حقًّا أن تجعلني أستمتع بالحياة مثلها، أن أكون غبيًّا لبعضٍ من الوقت وطائشًا إن استلزم الأمر، لكنها لم تفعل، فبعد أن تأكدتُ أنها ملكتْ كلَّ ما فيَّ من روحٍ وزمنٍ وشعور، توقفتُ عن عيش الحياة من أجلِها، بل انشغلتُ بحُبها لي فقط. تخلَّتْ عن حياتها تلك، وانشغلتْ فقط بي، ١٨سنة من المكوث إلى جانبي جعلَني أنسى الفتاة التي أحببتُها سابقًا، وجعل زوجتي مجرد جثةٍ بشرية تُحبني وتُقدِّسني. لقد أخمدَتِ النار التي بداخلها، وكان ذلك بسببي، كنتُ أودُّ أن أصير شبيهًا بها، لكنها تحوَّلتْ إلى نسخةٍ مني، وأحسستُ أنني أصبحتُ الشخص الوحيد الذي يمنحها سببًا في البقاء على قيدِ الحياة، لهذا كرِهتُها. تخلَّتْ عن مبادئها من أجلي، قتلَتِ الفتاةَ المغامرة بداخلها من أجلي.

وما دفعني الآن إلى التفكير بزوجتي هو أنني كنتُ أجلس بأحد المقاهي في هذا اليوم الحار، وأيام الصيف بالجزائر حارة جدًّا، كان كلُّ شيءٍ يذوب وسط هذا الزحام تحت هذه الشمس، لم أُولَد بهذا المكان مع أنني أمضيتُ جزءًا من طفولتي هنا حينما كنَّا نزور ممتلكات والدي «أراضي شيلون» لذا كان من الصعب عليَّ أن أتحمَّله، كنتُ أرتدي قميصًا أبيضَ وقد اخترتُ واحدًا أوسع لمنح جسدي مزيدًا من التهوية، ووضعتُ قبعةً على رأسي، ونظارة شمسية، حتى إنني جلستُ إلى طاولة بالقُرب من شجرة توت، فقد كان يجب أن أحظى ببعض الظلال، حقيقةً ما كان يجب أن أخرج بيومٍ كهذا، لكن المهمة تستوجِب خروجي، وكانت حقيبتي اليدوية تُذكرني في كل لحظة بتلك المهمة.

ومع كل رشفةٍ من فنجان القهوة كنت أتذكَّر زوجتي، لا أعرف لِمَ أتذكرها الآن، فهي على الأرجح بمكانٍ ما بالشيلي مُحاولةً إنقاذ قطيعٍ من البقر، أو هي تساعد بعض الرهبان بالتِّبت. هي عادت إلى حياتها السابقة، فقد طلبتْ منِّي قبل أن تُغادر أن أحتفظ بابنتنا صوفيا — اسم جدَّتها من والدتها — لثمانية عشر شهرًا، ريثما تعود. أخبرتْني أيضًا أنها بحاجةٍ إلى مغامرة كي تنسى ما حدث بيننا وأنها تتمنَّى أن أتغيَّر حينما تعود؛ فهي تودُّ أن نبقى صديقَين حتى بعد ما حدث؛ ١٨ سنة لن تذهب هباءً بالنسبة لها، ربما هي قامت بالرحلة فقط لأنها أرادت منحي مُتسعًا من الوقت للتفكير بما فعلتُه، لتأنيب الضمير الذي لا أملكه. لم يكن ذلك هروبًا منها، هي جهدَتْ في الحفاظ على العلاقة، ولا أُنكر أنها أحبَّتني بشدَّة، إلا أنَّ الخطأ كان خطئي، ليس لأنني أرى أن ما فعلتُه كان خطأً — ربما هي تعتقد ذلك — لكنني مَن قرَّر أن يتوقَّف عن كونه زوجًا لها، وكان بعقلي شيء يُخبرني أن ما فيَّ من روحٍ لا يحتاج إلى الحبِّ بالشكل الذي قدَّمَتْه زوجتي لي، وببساطة أردتُها أن تبقى على حالتها الأولى، أقصد قبل الزواج. أنا أعرف أن الحُبَّ هو كل شيءٍ في حياة المرأة، لكنه جزء فقط في حياة الرجل، ولا يمكن أن يكون جُزئي المُخصص لها ليتطابق مع كُلِّها الذي منحتْه لي. أحببتُها أكثر من أي شيءٍ آخر، لكنني لم أكن قصةَ حُبٍّ لتمتلئ حياتي بكلام الحُب، كنتُ نظريةً من دون حلٍّ لها؛ رزمة من الأسئلة. وعلى خلاف زوجتي فقد كنتُ مجرد كيانٍ فكري وفلسفي مليء بسائل الحياة، ولم يتحمَّل هذا الكيان تلك الرومانسية الزائدة، لذلك طلَّقتُها وكان ذلك قبل ثلاثة أشهر، كنتُ لبقًا وهي وافقت على ذلك، ثم استضفتُ ابنتنا معي، ستجول هي العالَم بينما سأتكفَّل بتلك الفتاة الشقية، وتحت ضغط هذه الحرارة، ولأول مرة، ندمتُ على قراري بالتكفُّل بالفتاة، الفتاة التي ورثتْ كلَّ شيءٍ عن والدتها؛ ذلك الجمال وتلك العجرفة وحتى ذلك الشعور اللامُتناهي للحياة البشرية، ولم ترِث عني شيئًا سوى شكل أنفي الذي أثار زوجتي في أول لقاءٍ لنا، لكنني أعشق ابنتي؛ لذا ربما هي ضربة شمس، فأنا أُحب ابنتي صوفيا كحُبي لتلك الأفكار المُترسِّبة بنواة عقلي الوجودي، أجل هي ضربة شمس فأنا أجلس هنا منذ ٢٠ دقيقة في انتظار الباص وهو لم يأتِ بعد، لديَّ مهمة للانتهاء منها، شخص ما بحاجةٍ إليَّ لأساعده، وسيارتي لدى الميكانيكي، وقد تأخَّر في إتمام العمل عليها على غير عادته مع السيارات، كان يجب أن أتحمَّل ذلك؛ أن أتحمَّل عدم إتمامه للعمل مع أنني دفعتُ مُسبقًا المال المُتوجِّب عليَّ دفعه، وتوجَّب أن أتحمَّل البقاء هنا لمدةٍ أطول بسبب عدم قيام أي شخصٍ على هذا الكوكب بدوره، فيجب أن أساعد تلك المرأة، امرأة عرفتُها من قبل، بل عرفَتْها زوجتي إن صحَّ القول، لم أكن أعرف أحدًا هنا بالمعنى الحقيقي للمعرفة الشخصية، بل ولم أُرِدْ أن أعرف أحدًا، كانت زوجتي تترك ابنتنا لدى تلك العجوز العربية، تتكفَّل بها ريثما نقضي حوائجنا، كانت أشبهَ بحاضنةٍ لنا مُقابل ٥ فرنكات تدفعها زوجتي لها، مع سلَّةٍ من البرتقال عادة، لم أكن أدفع فلسًا آخر، فقد توجَّب على زوجتي أن تتكفَّل بابنتنا وليس عجوزًا عربية لا تفقَهُ آداب المائدة، لكنَّ زوجتي كانت ترى شيئًا في هذه العجوز، فلا أُنكر أنها علَّمَت ابنتنا ما لم يكن ليُعلِّمه لها أي بشري، وأنا بشكلٍ ما مُمتن على ذلك، صنعَتْ تلك العجوز من ابنتي إنسانًا حقيقيًّا، مثلما صنع العرب والدي سابقًا، وها أنا بعد ١٨ سنة أحاول إنقاذها، بعد أن اتَّصلت بي ابنتي تُخبرني أنها بحالةٍ خطرة، لم أكن أكره تلك العجوز، ولم أكن أُحبها أيضًا، لكنني كنتُ أحب إنقاذ البشر ومعالجتهم أو دفعهم للاستمرار في العيش، فلم تكن مُشكلتي مع الناس يومًا، بالرغم من أنني كنتُ غريبًا عنهم، ولم أتصرف بودٍّ مع أي أحد، إلا أن مشكلتي كانت مع القدَر وحدَه، هو كان سيِّدًا عليَّ، وعدوًّا لي في نفس الوقت، أما تلك العجوز فلسببٍ ما كان يجب أن أساعدها؛ على الأقل هي ساهمت في بلوغ ابنتي ما بلغته، لكن يبدو أنَّ القدَر يقضي على كلِّ فُرَصي الآن، وهو على الأرجح قد يكون تسبَّب بحادثٍ للباص، أو أنه دفع زوجتي لتسقط بطائرتها على الباص فيهزمني بذلك مرَّتين، فيقتل زوجتي ويتسبَّب في تعطُّلي عن اللحاق بالدقائق الأخيرة لأنفاس تلك العجوز، وهكذا أفقد بشرِيَّين بدل واحد. كانت تلك الأفكار الغريبة تتملَّكني، ما كان بمقدوري التوقُّف عن ربط الأمور السيئة بالقدَر، حتى إنني نسيتُ كمَّ الجمال الذي تسبَّبَ فيه من حولي، الجمال الذي يُخفي خلفه بشاعةَ وجوده في حياة جميع الأحياء، وكنتُ من دون إرادةٍ منِّي مؤمنًا، مؤمنًا بأنه يُوجَد قدَر لِما يحدُث، لم أختر أن أومن به، حاربتُه طيلة الزمن الذي عشتُه، وكانت حربي تلك ومِن دون قصدٍ إيمانًا به، فلا يُمكن أن تُحارب عدمًا، إلا إذا صدَّقتَ بوجوده، اعترفتُ بوجوده فحاربته؛ لذلك أنا مؤمن به، رغم أنه لم يتمكن يومًا من شراء قناعاتي، حتى حينما كان يُسهِّل عليَّ الأمور أو حينما كان يمنحني حظًّا لم أكن لأملكه، ولو كان لي بالقدَر صلة قوية كشأن جميع المؤمنين، لكنني لستُ كالبقية من المؤمنين، هو لن يشتري قناعاتي، لم يفعل ذلك من قبل، ولن يفعل يومًا.

وجلستُ ارتشف قهوتي، كان يجب أن أرتاح قليلًا، أن أزيح تلك الأفكار ببعضٍ من القهوة المُرة، ثم رأيتُ على بُعدٍ مِني رجلًا يتقدَّم بخطًى متثاقلة، ينظر بعينَيه الشاحبتَين إلى كل مكان، وقد بدا أنه عاش في هذه الحياة حتى سئم فعل العيش، لم أتمكن من تقدير عمره، لكنَّ جسدَه الهزيل ووجهه الأسود الذي أخفتْهُ التجاعيد، وحتى تلك المساحات الفارغة من الشعر أعلى رأسه، أظهرت أنه طاعنٌ في السن، كان يتحرك ببطءٍ شديد، وأذكر أنني كدتُ أقسِم أن هذا الرجل ليس ببشري، أو أنه كذلك على غير ما يُظهره للعالَم، بشري تأخَّر كثيرًا عن اكتشاف العالَم، عن تقدير ما حوله من الموجودات، كان يجهل ما يرى، أو … لحظة … أو أنه يعِي أفضلَ من أي شخصٍ آخر ما يرى الآن. أجل هو يُقدِّر ما يرى أفضل التقدير ويعلَم حقيقةً ماهية هاته الأشياء.

تقدَّم وهو يستدير نحو كل مكان، يستمتع برؤية كل شيءٍ من حوله، وكأنه يُبصر لأول مرة، لم يكن يعبأ بشيءٍ ممَّا يحصل، كان يعيش رؤية الأمور وكأنه سيفقدها للأبد، يتلذَّذ الثواني وهي تتعاقب لتُذيقه ألوانَ الحياة، ألوانًا اختصرَها بقية البشر في الأبيض والأسود، وجعلوا الأبيض خيرًا والأسودَ شرًّا، كان يرى ألوانًا أُخرى غير الخير والشر، كان يرى لون الأطفال، لون الغبار، ألوانًا نسينا أنها موجودة، أنها هي الأحقُّ ببناء عالَمِنا. لم يكن العالَم يومًا أسود وأبيض، لكنني لا ألوم البقية من البشر، فقد بنَوا عالمًا آخر وضعوه بحجرةٍ خشبية أسمَوها التلفاز، ومُجددًا لم يتجاوزوا فكرة الأسود والأبيض، لكن هذا الرجل، لم يعبأ بشيءٍ من ذلك، لم يعبأ بالأسود والأبيض، لم يهتمَّ للشمس ولا للحر، لم تُزعجه تحركات الآخرين، ربما كان يُحب ذلك، تأمَّلتُه جيدًا، حتى إنني توقفتُ عن ارتشاف القهوة، كان مُشرَّدًا غريبًا، وعلى خلاف باقي المُشردين، لم يكن ميتًا، كان يحيا كلَّ شيءٍ في تساؤلٍ أجهله من مكاني هذا، تساؤل جعله يستفسِر عن الأمور البسيطة والتي لا نلحظها عادة، كالسماء التي أخذت جُلَّ وقته في النظر، الأطفال وحتى الأشجار، يفعل كل ذلك وهو يتحسَّس نفسه، يرفع يدَيه، يراقبهما، يتلمَّس مرفقيه ويسير نحو كل اتجاه، يكتشف الجَمال في كل شيء، ثم بعد وهلةٍ اقترب منَّا، وعلى بُعد أمتار ووسط الطريق توقف، اصطدم به المارة، لم يتحرَّك، وصرخ عليه الراكبون، حتى إنَّ رجُلا شرطةٍ قاما بدفعه ناحيتنا يُبعدانه عن الطريق، لكنه لم يهتم. توقَّف عن فعل ما كان يفعل، وفكَّر للحظات، كان شيءٌ ما يشغل باله، شيء من الجنون يشغل باله، لحظتها وددتُ أن أعرف ما يُفكر به، فقد بدا سعيدًا، بل أسعد من ذلك بكثير، بينما لم تُظهر ثيابه تلك السعادة التي تغمُره، كانت رثةً وأبسطَ من أن تفعل ذلك؛ قميصًا أبيض اتَّجه لونُه إلى الاصفرار، وسروالًا يحافظ على لونه الأسود بصعوبة، حافيَ الرِّجلَين وكانت تصلُّبات أصابعه كتصلُّبات يدَيه اللتين ملأتهما الجراح والندوب. بدا لي كأنه كان يخوض حربًا في الجوار، لم يُبالِ بشيءٍ من حوله، بل تقدَّم نحو المقهى وجلس على بُعد مِني، جلس جلسة ملِك، وقد ركض صاحب المقهى بعصاه نحوَه محاولًا منعه من المكوث هنا، إلا أنه سرعان ما تراجع عن قراره وبدَّله بابتسامةٍ شيطانية، فقد أخرج المُشرَّد قِطعًا نقديةً كانت كفيلةً بشراء مودة الرجل المُصطنعة، بل كفيلة بتحويل ذلك العُنصري إلى إنسانٍ مُجددًا، ولو أنه تصنَّع إنسانيته تلك. وقد جلس المُشرد وكأنه ملك لمملكةٍ لا يعرفها أحد سواه، ولا يشاركه فيها أحد غيره، كان ملِكَها الواحد، ساكِنَها الوحيد، حارِسَها وعبدًا فيها، كان كل شيءٍ في تلك المملكة، مملكة الرجل الواحد، كان ملك مملكة الضمير، وبدا أن مملكته فوق كل شيء، فوق العالَم الذي نعرفه، فوقنا نحن البشر، فوق الوجود الذي ننشده، فوق العالَم الذي أوجده البشر وفوق البشر الذين أوجدَهم الوجود، والأهم فوق الوجود بصمة الربِّ على العدم.

لم أعرف سرَّه، سرَّ سعادته تلك، وتساءلتُ وأنا ألتفتُ إلى باقي البشر، لم يُراقبه أحد، لم ينتبه إليه أحد، كان أشبه بحقيقةٍ لا يعرفها أحد سواي، قصة لا يراها أحد غيري، وتساءلتُ: لِمَ أنا الوحيد الذي يُراقبه، لم أعهد نفسي مُباليًا بالناس من قبل، لكنني أفعل الآن، أنا أهتمُّ مُجددًا، وبمُشرَّد، مُشرَّد غني، ابتسمت، ابتسمتُ وأنا أُراقبه الآن بينما تخلَّى البقية عن فعل ذلك، رفع يدَه مُناديًا على النادل، استمتع بفعل ذلك، غريبة هي الحياة، التي تجعل مُشردًا يجلس إلى جانبي مُتخطيًّا كل الحواجز التي أقامتها عُنصريتنا، أم أنني المُشرَّد وها أنا أجلس قُرب ملكٍ ما، مُشرَّد يتصرف وكأنه ملك، وطبيب مِثلي بطباع مُشرَّد أناني، وفكرتُ مُجددًا، ربما هو الملك وبقيتنا مُشرَّدون في عالمٍ نحن بَنيناه. ولمَّا اقتربَ النادل العربي، وضعتُ قهوتي جانبًا، اقتربَتْ في تلك اللحظة حافلة على بُعدٍ منَّا، حافلة يجدُر بي ركوبها الآن، لأنها ستكون آخِر حافلة، لكنَّني ما اهتممتُ لذلك، اخترتُ أن أراقب المُشرد، شيءٌ ما دفعني إلى البقاء جالسًا، شيءٌ ما ثبَّتني في مكاني، كان يتحدَّث إلى النادل، بينما التفتُّ إلى الحافلة في عجلٍ ثم فكرتُ في عجل، لكنها لم تعُد تُهمني، وفكرتُ ربما لم يجب أن أنتظرها، ربما كنتُ أنتظر هذا المُشرد، استدرتُ مجددًا إليهما — إلى المُشرد والنادل — وكنتُ أفهم كلماتٍ قليلةً من لغة العرب هنا، وسمعتُه يقول للنادل العربي: ماء.

شعرتُ أنه يقول، سأكتفي بكوب ماءٍ فقط، لكنه بدا أتعَبَ من أن يشرح احتياجاته، وقد اختصر كل شيءٍ في كلمة ماء، كما اختصر الربُّ الحياةَ في الماء.

وأضاف كلمةً كان العرب يتحدثون بها كثيرًا بالجزائر، وعلى خلافنا نحن في فرنسا، كانوا دائما يتعاملون باسم الرب، يربطون فِعل الشكر بجزاءٍ منه، وكأنَّ أبسط الأمور لا تتمُّ إلا بمباركة تلك السلطة المُطلقة التي يسمُّونها مشيئة الرب، وإن تمَّت الأمور فيختمونها بطلب المباركة؛ لذا أضاف المُشرَّد في كلمات: حفظك الرب، وبارك أيامك.

كان من الجميل أن أرى بشريًّا يعتقد أنَّ الإله سيحفظ النادل لأنه سيسقِيه من الماء، كوب ماء مُقابل رعاية أبدية من الإله الأعظم، كان تبادُلًا جميلًا، ولو كنَّا بقدْر إيمانهم بأمور الاعتقاد، لَما احتجْنا إلى المال والقوة في فرنسا، لَما احتجْنا لشيء، لكانت كلمة الرب فوق كل التعامُلات، بالطبع أنا لا أومن بكل هذا، وإن ذكرتُهُ الآن فإن العديد من البشر بفرنسا كانوا سيذكرونه، العديد منهم، أو بالأحرى العديد من معارفي بحاجةٍ إلى شيءٍ يؤمنون به وإن كان فكرة الله، لكنني على خلافهم ما زلتُ أومن أن تلك الفكرة أكبر من أن أستوعبها، كما لا تستوعِب الخلية أنها جزءٌ من شيءٍ أكبر، وكما لا تعي أنها تشترك والملايين من الخلايا في خدمة جسدٍ سيتخلى عنها بعد أيام، وقَولي «لِحاجتنا إلى الاعتقاد بذلك.» هو نتاج حاجة العديد منَّا إلى الأمل، أمل يبدو أنه سهل المنال عند العرب، لذا سأختصر كلمة الربِّ في كلمة الأمل، وبعد كل ما أشعُر به، أعتقد أنني أغار منهم، من العرب، يتمسَّكون بفكرة الإله، كتمسُّك الغريق بفكرة النجاة، ربما العديد منهم لا يدرون ذلك، لكن الإسلام في جوهره يجعل من فكرة الإله حقيقيةً جدًّا، وإن كان هناك إله حقًّا فلا أرى سوى أنَّ الدين عنده لن يكون غير دين العرب؛ الإسلام.

التفتُّ إلى الحافلة مُجددًا، كان كل شيءٍ يحدُث ببطء، تمدَّد الزمن بفعل تفكيري، لكن الحافلة كانت أسرع من أفكاري، فقد غادرت مكانها، وفكَّرْت: اللعنة، تبًّا لهذا المُشرد! (ابتعدتُ عن الكرسي الذي انقلب جرَّاء اندفاعي للوقوف بسرعة.)

وبسرعةٍ حملتُ حقيبتي وركضتُ خلفها، كان يجب أن أُغادر المكان، وركضتُ مدة لم تكفِ السائق ليلتفِتَ إلى المرآة الجانبية ليراني، لم يهتمَّ بفعل ذلك، لم يكن يعي أنه بتوقُّفه لي سيُساعد طبيبًا على إنقاذ شخصٍ ما، أو أنه سيكون السبب الأساسي في إنقاذ العجوز، لَمْ ألُمْه على ذلك، فنحن البشر لا نعي أن خلف كل رجلٍ يركض كالمجنون سببًا ما، لا نعي شيئًا إن صحَّ القول، توقَّفتُ عن الركض ونتاج الخيبة التي تملَّكتني فتحتُ يديَّ أرفعهما أمسح وجهي، لحظتها تركتُ حقيبتي تسقُط أرضًا، انفتحتْ بمجرد مُلامستها للأرض، خفضتُ رأسي ورأيتُ أدواتي مرميةً حول الحقيبة، تُذكِّرني بفشلي، التفتُّ إلى المقهى، وفكرت، سأنتظر نصف ساعةٍ آخر، حافلة أخرى ستتقدَّم إلى هذا المكان بعد نصف ساعةٍ من الآن، إذا لم يحدُث شيءٌ ما، فعلى السائق ألا يتعطَّل في فعل شيءٍ آخر، ألَّا يقوم بخطأ ما، هو على الأرجح في المحطة الرئيسية الآن، ينتظر ركوب الراكبين، سيتَّجِه لإشعال سيجارته، فقد كرِهَ عمله كسائقٍ وتلك السيجارة تُنسيه ما يكره، وأنا من مكاني هذا أشعر أنَّ هناك بعض الحركة للرياح، مع أنَّ الجوَّ ساخن إلا أنَّ الهواء لم يكن ساكنًا، والمحطة الرئيسية في مكان مرتفع، لذا سيشعر بقوة الرياح هناك أكثر، الرياح التي تتسبَّب فيها فراشات في أستراليا، ربما لن تشتعِل سيجارته لسببٍ أو لآخر، ربما بسبب الرياح، لذا سيتأخَّر في ركوب حافلته ومُغادرة المكان، سيغضب، وسينشغل بمحاولة إشعال السيجارة، أو حتى تدخينها، وبينما هو يفعل ذلك ستُغادر فتاة على بعد ٤ كيلومترات منزلها، ستخرج من المنزل فتاة في مُقتبل العمر ولم تكن تهتمُّ سوى بمظهرها في يومٍ حارٍّ كهذا، أو هذا ما سيبدو عليه الأمر لمن سيلتقيها بالشارع، تُحاول أن تُثير اليوم أحد الشبَّان بينما تتَّجِه إلى صالونها الخاص، لكنها ستتأخَّر بدَورها عن الخروج، فبتفكيرها في إثارة شابٍّ ما تردَّدتْ بخصوص أناقتها، ستتوقَّف قبل أن تبلُغ الباب، ستعود إلى غرفتها، تُعيد ترتيب ملابسها، ربما بعض من التزيين سيفي بالغرض، والأهم، ربما قُبعة كبيرة بيضاء ستُتمُّ الأمر، قبعة تُضفي إلى سُمرتها شيئًا من الجاذبية، ربما ستتأخَّر لسببٍ آخر، أو لألف سببٍ أجهله، لكن الأهم، تأخَّر السائق وتأخَّرَت الفتاة، ولو لم يتأخَّر أحدهما لَما حدَث ما سيحدث، مع أنه كان لِما حدث من إمكانية عدم الحدوث نصيب، فلو أنَّ السائق لم ينشغل بسيجارته، لقطعَتِ الفتاة الشارع على بُعد ٤ كيلومترات و٧٠٠ متر، لو أنها فكَّرت أن الشبَّان في الشاطئ في هذا اليوم الحار، لو حتى رضِيَت بما كانت عليه من جمال، أو ربما هي واجهت مشاكلها دون فرار، لو ربما توقَّفَت قبل خروجها، لو هي استدارت إلى والدها، لو هي تشجَّعت على قَبول قدَرِها، والأهم لو لم يُغادر والدٌ بيته قبل ثلاثين سنة، لو لم يُغادر فرنسيٌّ فرنسا إلى مُمتلكاته بالجزائر، والأفضل من ذلك كله، لو لم يحدُث ما حدَث قبل مائة سنة، لاستمرَّ العالَم فيما يفعل، لَما حدَث شيء، لَما ضحك القدَر، لكنهما تأخَّرا كلاهما (الفتاة والسائق) وبزمن دقيق لدرجة أنني تأكدتُ أن هناك قوةً علوية حرصتْ على دِقة ما يجري، لذا كان من المُقدَّر وبسبب تأخُّرهما أن يصطدم بها، سيجتمع حشدٌ من الناس حولَها، سيحملونها ميتةً ثم سيتوقَّف السائق وسيُشعِل سيجارةً أخرى لينسى بها كعادته، سيجلس القرفصاء وهو يدخن السيجارة، سيلوم نفسه، سيلوم نفسه على المغامرة التي قام بها قبل مدة، وسيفعل كل ذلك مُعطلًا بذلك رحلتي، سوف أتأخَّر لنصف ساعةٍ أُخرى ولن أبلُغ العجوز سوى متأخرًا، وستموت مُربية طفلتي، ستحزن هذه الأخيرة، وسيهزمني القدَر بلعبة، لعبة تَحكَّم في شروطها تحكُّمًا تامًّا، وقطعت تفكيري أبواق السيارات المُتوقفة، شتمَني البعض من السائقين، حتى أنني رددتُ بنفس الشتم، نظر إليَّ السائرون بوقاحة، حتى إنَّ إحدى النساء قالت لصديقتها إنه على النُّبلاء ألَّا يُشبهوني، أخرى قالت إنها تكرَه الرجال لعجرفتهم، ما اهتممتُ للأمر وكما ذكرتُ سابقًا، مازال البشر يجهلون البشر، لذا وأنا أقف مُتوجِّهًا بنظري إلى المقهى، تمنيتُ ألا يحدُث شيء ممَّا سيحدث، ألا يُعطلني شيءٌ ما مثلما فعل هذا المشرَّد، انخفضتُ أجمع لوازمي في سرعة، أغلقتُ حقيبتي وتوجهتُ إلى المشرَّد، حتمًا ستغضب ابنتي، فقد وعدتُها أن أصل بالوقت، هي اتصلتْ بي صباحًا تُخبرني بحالة مُربيتها الحرجة، كنتُ بالمكتب مُنشغلًا بعض الشيء بتلك الفواتير التي يجب دفعها، انشغالًا لا يخصُّني على وجه الخصوص، فأنا أدفع المال لأشخاصٍ ليهتموا بهذه الأمور عادة، وها أنا أدفع لهم المال وأقوم بعملهم، حتى إنهم أخذوا عطلة أغسطس جميعًا، لذا توجَّب أن أشتغل لوحدي في العيادة، وها أنا تأخَّرتُ بسبب ذلك المشرَّد، وبسبب انشغال السائق في الحديث. لن يُصدقني أحد إن قلتُ إن السائق لم يرَني عبر مرآته فقد كان يتحدَّث إلى الشرطيَّين اللذين دفعا المُشرَّد جانبًا، سيكون ذلك مجرد تكهُّنٍ جميل لذِكره في سهرةٍ ما حينما يتحدَّث الجميع عن الأمور الغريبة التي حدثت معهم ويثملون جميعًا بعدَها، لكن ماذا لو اعترفتُ أنني عرفتُ أنَّ ما حدث توجَّب حدوثه؟ وبما أنني أعلم ذلك فإنني أعلم صفة حدوثه؛ كان الشرطيَّان يتحدَّثان إلى السائق بخصوص المُشرَّد العربي، وكيف يجب على فرنسا أن تُبيد هذه الأشكال من الحياة، كانا قد انتهَيا من مناوبتهما وتوجَّها إلى الحافلة بعد أن دفعا المُشرَّد عن الطريق، كانت عُنصريتهما تجاه العربي، تفُوق عُنصريتي تجاهه؛ فعلى الأقل أرى أنه ما زال بشريًّا كبقيتنا، إلا أن ارتباطاتي بقوميتي الأوروبية، وانتمائه إلى العِرق العربي، جعل مِني شخصًا غريبًا عنه، جعله أدنى من أن يكون إنسانًا، وجعلني أكون أكثرَ من مجرد ذلك، امتيازات مُنحت لي بتقسيمٍ غبي، قام به فردٌ من أجدادي نتاج نشوةٍ تافهة، نتاج أنانيةٍ حيوانية، ونسِيَ الجميع أن الفرنسيين والعرب وبقية البشر من رحمٍ واحد.

لكن يجدُر الذكر أنه لو أنَّ المُشرد لم يتقدَّم إلى الطريق ولم يتوقف هناك يتأمَّل السماء، لما دفعه الشرطيَّان، لَما منحهما موضوعًا للتحدُّث بشأنه، لَما تعطَّلتُ عن الركوب، والأهمُّ، لتمكَّن السائق من رؤيتي من خلال مرآته الجانبية، ولجلس الشرطيَّان دون أن يُزعجا هذا الأخير، لكن ها هو المُشرَّد يجلس هناك، وبعدما تسبَّب في كل ذلك ها هو لا يدري أنه وعن غير قصد، ومن دون وعيٍ قد يكون أفسد يومي. على كلٍّ تقدَّمتُ نحوه ووضعت الحقيبة جانبًا، كان قد تفاجأ لفعلي هذا، وصرختُ عليه قائلًا: لقد جعلتَني أتأخَّر عن مُهمتي. (صرختُ حتى إنني جعلتُ الجميع يسمع ذلك) كيف لك أن تجلس هنا غير مُبالٍ؟ اللعنة!

(أخذتُ نفسًا ونظرتُ من حولي، ثم وبصوتٍ هادئ يُخفي الانفجار بداخلي): لِمَ أنت؟ لمَ أُحدِّثك الآن وكأنني أعرفك؟ أنا لا أعرفك! ما تكون أنت؟

(وضعتُ يدي على الطاولة أَسندُ جسمي المُنحني باتجاهه.)

اللعنة! (ولكمتُ الطاولة.)

واكتشفتُ أنه لن يُجيبني، لم يفهم شيئًا ممَّا أقول، كان خائفًا من المحاولة حتى، فقد التصقَ بالكرسي الذي كان يستنِد إليه، وشعرتُ بيدَيه ترتجفان ولم يُحاول قول كلمة، بل ثبَّتَ نظره نحوي، التصقتْ عيناه السوداوَين بي واتَّسعَتا، وكأنه ينتظر موتًا مُحتمًا، أو يحاول توقُّع ضربةٍ أوجِّهها إليه — تخيلتُ للحظة أنني لكمتُه بيدي اليُمنى، سيتراجع جرَّاء القوة التي أثرَتْ على ثقله، يرتفع رأسُه إلى الخلف في بادئ الأمر ويتَّجِه إلى الخلف، ثم يستمر ما تبقَّى من جسده في أخذ نفْس الحركة، وينتهي به الأمر على الأرض. لحُسن الحظ كانت فكرة فقط — كنتُ قد هدأتُ والتفتُّ إلى الطاولة التي كنتُ أجلس إليها سابقًا، لمحتُ فنجان القهوة، جلبتُه ثم جلستُ بالقُرب من المُشرد، وأنا أضع رأسي بين يديَّ أفكر في طريقةٍ ما للتوجُّه إلى العجوز.

ومن دون وعيٍ رفعت يدي وأنزلتُها بسرعةٍ أضرب الطاولة.

اللعنة!

ثم رأيتُ يدًا تتمدَّد نحوي وهي تحمِل مائة فرنك، رفعتُ رأسي ورأيتُ العربيَّ وهو يُقدِّم لي المال محاولًا شراء هدوئي، لم ينبس ببنتِ شفةٍ ولكنه قال الكثير بعينَيه.

أذكُر أنني ابتسمتُ ساخرًا وقلتُ له مع أنه لم يفهم ما قلت: أتعتقد حقًّا أن مائة فرنك ستشتري زمنًا لي، أو أنها ستوقف أفعال القدَر؟

قبل أشهُرٍ من الآن، من جلوسي قُرب المُشرد.

تقدَّمَت زوجتي إلى طائرتها؛ طائرة بمحرك واحد، كانت قد رسمَتْ على بدنها صورةَ ابنتنا وأسمَتِ الطائرة باسْمِها.

«صوفيا».

كانت ترتدي زوجتي معطفها الجلدي البُني، معطفًا جلديًّا بجيبَين، على أحدهما شعار صقر الكندور — النسر الأمريكي — كانت تُمسك بخوذتها، وهي تحمل حقيبتها الجلدية تجرُّها إلى الطائرة، ركضَتِ ابنتي نحوَها.

– ماما، لا تُغادري (تركض).

كنتُ أقف بعيدًا عن الطائرة أُراقب ابنتي تركض إلى والدتها، تقدَّمَتْ صوفي إليها وهي تصرخ: ماما، ماما خُذيني معك (لم تلتفِت، واصلت الركض نحوَ والدتها).

– عزيزتي، أُحبك، ربما حينما أعود (قالت ذلك بينما عانقت صوفي التي تمسَّكت بها، تنغمِس في حُضنها).

– أرجوكِ ماما، لا تُغادري (دفعت برأسها إلى أعلى صدْر والدتها تتمسَّك بشدَّة).

– عصفورتي، الطائرة لا تتَّسِع لنا جميعًا (تنظر إليَّ محاولة أن تطلُب منِّي مساعدتها في إقناع صوفي)، والدُك يُحبك (خفضتْ رأسها إلى صوفي)، سيرعاك ريثما أعود، الرحلة ستكون شاقة، وحينما تجهزين سنذهب في واحدة.

– خُذيني معك (رفعت رأسها)، سأركب رفقة أنطونيو.

وناديتُها: صوفي (استدارت في عجلٍ إليَّ)، أنت تُعطلين والدتك (نظرتُ أنا بعدَها إلى أنطونيو الذي كان يبتسِم لي، رفعتُ يدي أُشير إليه).

التفتت إليَّ ولم تُعِرْني انتباهها ثم سرعان ما التفتَتْ إلى كلمات والدتها: عزيزتي، أنطونيو ميكانيكي، وله عدة يحملها معه. عصفورتي، أتعلَمين أن أهمَّ ما في الطيران هو تدوين المعلومات؟ خُذي مُدوَّنتي هذه واكتُبي بها، حينما أعود ستملئينها بشيءٍ جيد (التفتت مُجددًا صوفي نحوي) سنقرؤه في رحلتنا إلى مراكش، سآخُذك معي، ومن هناك سنرى العالَم بأسرِه، لديَّ صديق هناك ووعدَني بطائرةٍ أكبر.

– ماما، هل هذا وعد؟ (أمسكت بالمذكرة تنظُر إليها.)

– أجل صوفي، أنا أعِدك (تُقبِّلها على جبينها).

– انتظري أنت لم تعقدي أصابعك.

– حسنًا حياتي (تعقد سبابتَها بالوُسطى)، هي بهذا الشكل صحيح؟

– أجل.

– أعِدك عصفورتي، جهِّزي نفسك لمراكش، أراك بعد ثمانية عشر شهرًا.

واستدارت طفلتي تعود إليَّ وهي تُعانق مُدوَّنتها الزرقاء.

– أنطونيو أدِر المحرك، دعْنا نُغادر.

وأشارت لي زوجتي بيدِها، أذكُر أنني لوَّحتُ لها أيضًا، أرسلَتْ لي قبلة، ولبستْ خوذتها، أثناء ذلك اقتربتْ منِّي ابنتي، عانقتْني وهي تبكي، ما كان لي كلمات من أجلها، سوى أنني قلتُ لها: ستعود، هي دائما تعود، ثِقي بي (حككتُ شعرَها أُدلِّلها وأنا أنظُر إلى الطائرة).

قبل لحظاتٍ من جلوسي قُرب المُشرد

«بأحد المنازل الفرنسية بالجزائر»

أنا أشعُر بالغضب، والدتي تُخبئ عنِّي شيئًا ما، لا يجب على الوالدة أن تُخفي عن ابنتها أي شيء، بل يجب أن تكون أعزَّ صديقةٍ لها، أن تكون مجرة أسرارها، لكنها تُخفي شيئًا، شيئًا بعظمة وحجم المجرَّة التي توجَّب أن تَكونَها، وقد سمعتُ أخبارًا من ابنتَي عمي، تُخبراني بشيءٍ تُخفيه عني والدتي، ما حاولتُ استفسار الأمر فقط، أنا حملتُ حقيبتي فقد كان يجب أن أخرُج الآن لأتَّجِه إلى الصالون، سأتَّجِه إليه فأنا لا أشعُر أنني بخير، ثم إنه الوقت الذي يجب فيه أن أُغادر المنزل، وانخفضتُ وبلغت الباب الخارجي، كانت والدتي رفقة والدي، تقِف عند الباب، توقفتُ وسط السلالم، نظرتُ إلى كليهما، كان والدي يبتسِم لي، ابتسامةً مصطنعة تُخفي توترًا أظهرته وقفتُه الغريبة، بينما والدتي تنظُر إليَّ وعيناها تظهران حزنًا عميقًا، ثم وخَزَ والدي والدتي يدفعها إلى الكلام، قالت والدتي بكلماتٍ متقطعة: سيلين، عزيزتي، يجب أن نتحدَّث (متوترة بشكلٍ واضح).

– ماما، أنا مُتأخرة (انخفضت عبر السُّلَّم)، يجب أن أتَّجِه إلى الصالون الآن، نتحدَّث فيما بعد.

قال والدي: عزيزتي (بجدية مُخيفة)، أنصتي لوالدتك، الأمر مُهم.

– لكن أبي … (حركتُ يدي بحثًا عن منفذٍ لتفادي الحديث) ألا يُمكن تأجيلُ الأمر؟

– سيلين، والدتك ليست بخير (وقف خلفها يُمسك بكتفيها)، يجب أن تتحادثا، الآن عزيزتي.

واتَّجهنا جميعًا إلى المطبخ، جلست كلتانا على الطاولة، بينما وقف والدي عند باب المطبخ يحمِل فنجان القهوة، كان ينظُر إليَّ بحزن، كنتُ أعرف نظرات والدي، ما كان يجب أن يتحدَّث أبدًا لطالما طلبتُ أن ينظُر إلى عينيَّ لأعرف ما يشعر به، وبعد صمتٍ طويل قالت لي والدتي: عزيزتي، ماذا سمعتِ من ابنة عمك؟ (عينان حمراوان) ماذا كتبَتْ لك في الرسالة؟

– ماما، أهوَ أمر يجب أن نتحدَّث عنه؟ (أنظر في تناوبٍ سريعٍ إلى كليهما) لا شيء يُهم، كانت تستفزُّني.

ثم قال والدي: عزيزتي، أخبري والدتك (نبرة حزينة).

– هو لا شيء يُهم (خفضتُ رأسي أنظر إلى خاتم الخطوبة الذي أُحركه بإصبعي).

وأردف يقول: عزيزتي (الكثير من الحزن والجدية).

(تملَّكَني أثناء ذلك غضب شديد وبكيتُ لشدَّة الغضب ثم صرختُ أضرب الطاولة): أخبرتني أنكما لستُما والديَّ.

(استمررتُ في ضرب الطاولة بقبضتَي يدي.)

– هذا صحيح؟! ماما هل هذا صحيح؟

(وبسرعةٍ نظرتُ إليهما في تناوب.)

– استفزتْني، حتى إنها قالت إنها تملك أدلةً على ذلك، وأنني لستُ بفرنسية؛ أنني ابنةُ همجيةٍ من إحدى القرى العربية. هل ما ذكَرَتْهُ صحيح؟ أجيبا.

حتى إن والدتي شاركتْني البكاء، كانت قد أخفت وجهَها بيدَيها، لا تفعل شيئًا سوى أنها شرعت تبكي في صمت، لم تقُل شيئًا. اقترب والدي بشدةٍ وأنا أستمرُّ بالبكاء، أصرخ عليهما: ماذا أكون؟ هل هذا … بابا، قُل شيئًا، هل أنا ابنتكما؟

قال والدي: سيلين، تعلمين أنَّنا نُحبك، أنت ابنتنا لا تنسي ذلك، حتى وإن …

نظرتُ إلى والدتي موجهةً إليها الكلام: حتى ماذا؟ ماما، تكلَّمي (بكت من دون أن يبتعِد نظرُها عني).

– عزيزتي، والدتك تشعُر بالاستياء، لكنها تُحبك، أنا أقسم أنها لن تعيش من دونك.

ثم وخزَها قائلًا: عزيزتي أخبريها.

– تُخبرني ماذا؟

رفعَتْ والدتي رأسها ببطء، أمسكت بكلتا يديَّ وقالت: ما أخبرتْكِ به ابنة عمك ساذَج ومن دون معنى (توقَّفتْ ثم أضافت)، أنت ابنتي ولن يأخذنك مِنِّي بشَر.

– ماما (صرخت).

– الأمر … (وبتردُّد نتج عنه كلمات متقطعة) الأمر صحيح.

أذكُر أنني لم أنبس ببنتِ شفة، ركضتُ إلى غرفتي، كنتُ أبكي بشدة، كان الأمر صحيحًا، لستُ سوى فتاةٍ مُتبنَّاة، ثم تذكرتُ كل تلك السنوات، لستُ سوى عربيةٍ بحياة فرنسية، تذكرتُ جلول الشاب العربي الذي هزأْنا منه أنا وصديقاتي حينما كنَّا نرفع تنانيرنا له، وحينما يخفض عينيه نشتُمه ونحتقِر بدائيته وهمجيَّتَه، تذكَّرت حينما نظر إليَّ بوقاحة، بِكُرهٍ وبغضب، تذكرتُ فرحتي لمَّا كنتُ أسمع اعتقال رجلٍ عربي، أو لمَّا ينكلون بعائلةٍ عربية، وأنا أُشجِّعهم من الشرفة، تذكرتُ كلَّ شيء، تذكرتُ كل شيءٍ إلا انتمائي الوحيد، وها أنا أبلغ أشُدِّي ولا أعرف من أنا أو لِمن أنتمي، حملتُ قُبعتي وخرجتُ راكضةً من المنزل، لحِقَني والدي وهو يصرخ: سيلين، سيلين، توقَّفي لحظة، سيلين.

لمَّا ابتعدتُ التفتُّ للمرة الأخيرة، رأيته يجلس على رُكبتيه يبكي أشبَهَ بصبيٍّ صغير، ما كان يجب أن أُغادر المنزل، كنتُ أُحبهما، كانا والديَّ، وركضتُ أبكي متجهةً إلى الصالون، وأخفيتُ ملامحي بقُبعتي، أركض في سرعة، وبعد مدةٍ بلغتُ شارعًا، قطعتُه بسرعة، لكنها كانت أبطأ في لحظةٍ واحدة، سمعتُ صراخ البشَر من حولي، أصواتًا كثيرة لم أفهم منها سوى …

احذري.

ورافق الصراخ، أبواق السيارات، رفعت قُبعتي بسرعةٍ والتفتُّ إلى جانبي، كانت الحافلة أقربَ بكثير، وخلف الزجاج، يفعل السائق كلَّ ما في مقدوره ليوقفها، وبتباطؤ الزمن، فكرتُ في كل شيء، ما كان يجِب أن أُغادر المنزل وتمنيتُ لحظتها أن أعود إلى ماما، أن أخبرها أنني أُحبُّها، أن أعود إلى والدي، أن أساعده في الوقوف، أن أمسح دموعه وأُعانقه، لكن فجأةً تسارَع الزمن.

قبل ٤٢ سنة من جلوسي قرب المُشرد،

أراضي «فارم دو شيلون»

اقترب العربي من القرية بعد مسيرة أيامٍ رفقة ابنه محمد، كانوا قد قطعوا أميالًا قبل أن يبلغوا الحدود الشمالية لتلك الهضاب الخضراء، صنعت زراعة الكروم معظم تلك الخضرة. أراضٍ شاسعة يملكها الفرنسيون، ويُقيمها العرب ويحفظون استمرارها، وقد انتقل العربي وابنه لسببٍ وجيه، سبب اكتشفه ابنه بعد سنوات، فلن يتنقَّلا للنزهة في أرضٍ كهذه تتسع لتبلغ كل الأماكن، فتختلف الحرارة في كل مكان، وباختلاف الحرارة، يختلف تساقُط الأمطار، ونسبة المطر والحرارة، تخلُقان نوعًا من الانتقاء الطبيعي، فتتقسَّم الطبيعة نفسها إلى أنواع عديدة، فتتغيَّر الموجودات والكائنات وحتى البشر، وبتغيُّر البشر تتغيَّر الطباع والعادات والمفاهيم. هذا العربي قدم من الجنوب، والشمال يُخالف الجنوب في كل شيء، إلا أن سببًا وجيهًا دفعه ليسير كل هذا المسير؛ معرفته أن من طلبَه سيتجه جنوبًا مُجددًا، جنوبًا إلى مدًى بعيد، مدًى ربما لم يبلغه قط العربي وابنه، وقد كان ذلك أشبه بتحدٍ له؛ ماذا يُوجَد إن تعمق أكثر جنوبًا؟ ماذا يُوجَد خلف هذا الجنوب؟ كان السيد الفرنسي يجلس عند مدخل بيته الشاسع، المُشيَّد على الطريقة الإسبانية، كان قد شُيِّد قبل مائة سنة، مائة سنةٍ من مولد السيد الفرنسي. اقترب العربي ودنا من السيد الفرنسي الذي أحاط به بعض العرب يتقدَّمُهم مُترجم، وكلبة تجلس في هدوء. جلس الجميع عند المدخل، وكان أشبَهَ بحديقةٍ صغيرة. رفض العربي أن يأكل شيئًا ممَّا عرضه السيد الفرنسي، كان يتعجَّل إنهاء الأمر، وقد سأل عن إمكانية التعجيل في الذهاب جنوبًا، كان الفرنسي رجلًا لبقًا، وقد اشترط أن يجلس الجميع معًا لوجبة العشاء قبل التحدُّث، ثم إنه من الجيد التحدُّث والبطون مُمتلئة. فكَّر العربي بذلك، كان على ابنه أن يأكل شيئًا، وقد وافق على ذلك من أجله فقط، لم يكن مُعتادًا على البقاء بالبيوت لوجبة العشاء وللسَّمر، فمكانه في الخارج وسط الصحراء، إلا أن الضرورة هذه المرة ستدفعه إلى التريُّث قليلًا. ليس سيئًا أن يجلس الجميع لتناوُل الطعام والتحدُّث، ربما سيتعلم ابنه كيف يكون الحديث وسط الكبار ووسط النبلاء، ربما سيتعلَّم كيف يُعامل الفرنسيين، بعد الأكل. تكلَّم الرجل الفرنسي، كان قد أخبرهم أنه يجب التوجُّه إلى الجنوب الغربي، ستُحمَّل القافلة بكل اللوازم، سيتسلَّح الرجال، ربما البعض فقط، فلا حاجة لهم لكل ذلك الحذَر. وتساءل العربي عن سبب التوجُّه إلى الجنوب الغربي، لا شيء هناك سوى الصحراء التي تنتهي إلى البحر الكبير (المُحيط الهادئ) كان قد ذهب عدة مرات إلى هناك ولا شيء هناك سوى بعض البدو والكثير من الحديد، وكان السيد الفرنسي يودُّ اكتشاف مكانٍ ما بالجنوب به قبيلة محلية عرف عنها قُدرة استرجاع الموتى، أسطورة أخبرَه بها أحد البرتغاليين الذين ينقلون الماس من الجنوب، حتى إنه أقسم أنه رأى صديقه يعود إلى الحياة، وقد فكر الفرنسي أنَّ الجنوب الغربي هو الوجهة، أن تلك القبيلة بمكانٍ هناك، ربما ستُتيح له فرصة استرجاع زوجته المُنتحرة. اعتبر العربي أن ذلك مضيعة للوقت، ونصح بالتوجُّه إلى الجنوب دون التفاتٍ أو ما شابه ذلك، التوغُّل إلى قلب القارة هو أفضل وجهة، لأنه حينما تتَّسِع اليابسة وتبتعِد عن البحر ستجد كل شيء، أخبره أنَّ المعجزات لا تقبل الضيق ولا ترضى بالبحار، الأساطير تُولَد بقلب اليابسة، بأعمق نقطةٍ فيها، كما وُلِد الإسلام بقلب الصحراء، تعالت أصوات العرب تلك الليلة، مجَّدوا الربَّ لكنهم اعتبروا ذلك خطيرًا، الجنوب يحوي باب الجحيم (وهي أسطورة العرب عن كون الجنوب بابًا للجحيم) وأنه لا يمكن لأحدٍ أن ينجو هناك، وحتى قبل أن يقترب من باب الجحيم، فإن قُطَّاع الطرق يستقرُّون هناك هربًا من الحكومة الفرنسية ومن المقاومة. كانت تلك رحلةً انتحارية فكر بها العربي، لكن السيد الفرنسي أعجبه ما سمع منه؛ سيسيرون إلى الجنوب، سيتوغَّلون إلى قلب القارة، سيبلغون باب الجحيم، وسيتجاوزونه إلى ما خلف ذلك. وكان للعربي فكرة غريبة تُخالف ما عرفه باقي العرب، فكرة أن ما خلف الجنوب يُوجَد الشمال، وقد اتجهت القافلة إلى وجهتها، لم تبتعِد كثيرًا؛ حوالي ٣٤٠ ميلًا جنوبًا عن القرية، قبل أن تدفعهما المقاومة إلى العودة، تُوفِّي العربي في تلك الرحلة وعاد الفرنسي بابنه (ابن العربي وكان اسمه محمد) إلى القرية، مرَّت سنوات وجلس الرجل الفرنسي قبالة باب بيته الإسباني مرةً أخرى، جلس قُرب كلبةٍ أخرى، فقد تُوفِّيت تلك الكلبة التي توجَّهت معه جنوبًا. كان أعجزَ من أن يقوم بمُغامرة أخرى وحدَه، حتى إنه قام بنشر تلك الأسطورة وسط كل الأثرياء الفرنسيين، ما يُوجَد بجنوب الصحراء أغلى من كل الأراضي، أغلى من الذهب والألماس، واجتمع العديد من الرجال ببيتِه في عدة مناسبات للتحدُّث عما يُوجَد بالجنوب. كبُر الصبي (ابن العربي) في العمل هناك رفقة السيد الفرنسي، ورافقه في كل ما قام به من الأعمال، واستمروا على تلك الحال إلى أن اقترب رجل مرةً أخرى من باب الفرنسي، اقترب رجل جريء، ومثلما كنتُ أسرد، كان السيد الفرنسي يجلس بمدخل منزله، تجلس إلى جانبه كلبةٌ أخرى. دنا السيد منه، وقام أحد الخدم بتقديمه.

قال السيد الفرنسي: أرجو ألا أكون قد أطلتُ عليك، ميسيو جاك (وجلس إليه لشُرب الشاي).

قال صاحب البيت: لا، لا، ميسيو جوناثان (أشار له باحترام)، إنه يُسعدني أنك بلغتنا سالمًا، هل سنتحدَّث بخصوص الرحلة؟

أجاب السيد في سرعة: أجل، أكيد، لا أودُّ أن نُضيع مزيدًا من الوقت. إذن هل تمَّ الأمر؟

– آسف، أعتقد أنَّ هناك مشكلة.

– أي نوع من المشاكل؟ (بجدية.)

– أقصد أنَّ فتانا تزوَّج.

– وسيمنعه ذلك من مُرافقتنا؟

– ربما.

(فكَّر وهو يضع يدَه على فمه.)

– إذن (تساءل صاحب البيت وهو يرتشف مزيدًا من الشاي).

– حسنًا دع الأمر لي، سيكون من الجيد لو أَلتقيه شخصيًّا. ماذا لو استضفته هنا؟

– سأعمل على ذلك (فكَّر قليلًا)، وهل ستُخبره بهدف الرحلة؟

– أعتقد أنه يجب أن نُبقي ذلك لأنفسنا، لتفادي الأقاويل، أنت تعرف العرَب وباب الجحيم الخاص بهم.

– هناك شيء إضافي.

– أجل، تفضل رجاءً، كُلي أذان صاغية ميسيو جاك.

– سأرافقكم.

(لم ينبس السيد ببنت شفة.)

– حسنًا لن أتوجَّه أكثر من نصف الطريق.

– آه، وما الهدف؟ (في تعجُّبٍ واضح.)

– لنقُل إنني سأستقرُّ بمكانٍ هناك، في انتظار عودتكم، يجب أن أكون أول من يرى ما جلبتموه.

– جيد، ربما (فكر قليلًا)، حسنًا سيكون لك ذلك.

قبل ٧٠ سنة من جلوسي قُرب المشرد

مكانٌ ما بالحدود الفرنسية الإسبانية

وفي ليلةٍ مظلمة، لم يظهر شيء من كل تلك الأشياء المُحيطة، ولم يسمع شيئًا سوى صوت أرجلٍ وهي تضغط على العُشب جرَّاء الركض، لم يرَ شيئًا ولم يسمع شيئًا حتى اقتربتْ تلك الفتاة العشرينية في صعوبةٍ إلى باب الدير، وقبل أن تبلُغه سقطت أرضًا. ليس من السهل أن تسير لأميالٍ بعد أن تفقد حصانك الذي أنهكَهُ السفر، تمسَّكت بمسكة الباب الدائرية، كانت تتألَّم، ومن دون قدرةٍ صرخت صرخةً مدوية، كانت تلك الصرخة كفيلةً بإيقاظ كل قاطني الدير، التفتَتْ خلفها في ألَم، تُمسِك بطنها المُنتفخ، وبيدِها الأخرى تتمسَّك بالمسكة الحديدية تمسُّكًا. نظرت إلى الخلف، لا شيء هناك سوى الظلام، لكنه يمكن أن يحوي كل أشكال الخوف والألَم بسواده ذلك، نفس أشكال الخوف التي واجهتها خلال رحلتها، وكالعادة لا يمكن أن تثِق في ذلك السواد. تنقَّلت لثمانية أشهر تبحث عن هذا الدير، لقد فقدت كل شيء، وليس لها مَلجأ سوى رجلٍ يقطن بهذا الدير، رجل تلا العهود ليلة زفافها، وهو دليلها الوحيد على أنها زوجة اللورد، لن يُصدقها أحد — خاصة وإن كانت تظهر أشبه بعاهرةٍ ببطن مُنتفخ تسبَّب فيه أحد الجنود — ليس وهي على هذا الشكل، يجب أن تستعيد كل شيء، وهذا الرجل خلف سور الدير هو مُنقذها، إنه الشخص الوحيد الذي تذكرته، والسعادة تجعلك تتذكَّر كل شيء، هي تذكُر أنها وقفت أمامه في سعادةٍ يتلو عليها العهود، تذكُر كلماته المقدسة: اشبكا أيديكما معًا، وانظرا إلى قلبيكما، فبعد الآن لن يؤذيكما المطر، أنتما مأوى هذا الحب، بعد الآن لن تشعُرا بالبرد فكلاكما لباس دافئ للآخر، بعد الآن لن تشعُرا بالوحدة، فسيكون كل واحدٍ منكما رفيقًا للآخر، أنتما الآن جسدان، لكن بروح واحدة، وستجمعكما حياة واحدة، ولتكن حياتكما طويلة، أيامكما مديدة، وليبسط عليكما الربُّ بركته الأبدية.

أيها اللورد قبِّل زوجتك، أيتها السيدة قبِّلي زوجك.

علمت الفتاة أنَّ الأب هو أصدق رجلٍ قد رأته على الإطلاق، على الأقل هو الوحيد الذي آمن بحُبها للورد، وأنَّ ما جمعهما كان من أقدس قدسيات الحياة، كان يجب ألا تموت هذه الليلة، ليس بعد، ليس قبل أن تُنجب هذه الفتاة بداخلها. ارتفعت في صعوبة تامة، تألَّمت بفعلها لذلك، ليس هناك فرصة أخرى، صرخت جرَّاء الألم، نظرت إلى الأسفل، يُخفي بطنُها مُستقبلًا رائعًا، ثم وبعد ألمٍ شديد أمسكت قبضة الباب الدائرية بكِلتا يديها، وبقوةٍ قامت بدقِّ الباب في سرعة، لم تود أن تتوقف فقد خافت فكرةَ أن تتوقف فتعجز عن دقِّ الباب مرة أخرى، كان يجب ألا تتوقَّف عن دقِّ الباب حتى يستيقظ الجميع، ودقَّت الباب عدة مرات، صرخت بكل ما أوتيت من قوة: آآآآآآآه (تألَّمت)، رجاء …

التفتت وهي تقِف في انحناءٍ تستند على الباب مُتمسكة بتلك الحلقة الحديدية.

– رجاءً (بصوت يكاد يُسمع)، أوف … أوف … أوف (أخرجت الكلمات بسرعة تنفُّسها الذي ساير الكلمات)، آآآآآآآه (صوت يكاد يسمع). نظرتْ مجددًا إلى النوافذ، لا نور هناك، كانت قد فشلت في إيقاظ الجميع، وكان ألمُها يمنعها من فعل أي شيء، تشجَّعت، وفكرت أنه يجب أن تُنقذ الفتاة في بطنها، ثم بقوةٍ دقت الباب مراتٍ عديدة، وسقطت أرضًا بعد ذلك، كانت تنظُر إلى السماء، وقد رأت النجوم هناك، تخيَّلت وجه زوجها، ثم أغمضت عينيها جزئيًّا. أنار ضوءٌ ما المكان عند وجهها، يُخفي خلفه وجهَ رجلٍ طاعن في السن، ولما أزاح الرجل مصباحه الزيتي، علِمت الفتاة أنها أنقذت ابنتها. لم تُخبره بشيءٍ، لم تشرح له ماهيتها، لم تعُد مهمة، لم يعد شيءٌ مُهمًّا غير ابنتها، وقال الرجل في ذهول: ﺟ… (قاطعته الفتاة تضع يدَها على شفتيه تُمسك كلامه.)

وقالت وهي تتنفَّس بسرعة: صوفي، سيكون اسمُها صوفي (بصوتٍ مُتقطع).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤