القسم الثالث

«عزيزتي، صغيرتي الجميلة، ماذا تكتبين؟ تبتسِم وأجبت: نانا أنا أكتب ما تقولين. تضحك وتقبلني. أحبُّ حينما تُقبلني، ثم تُضيف هي، إنها السنة التي اختفى فيها كل شيء، وفقدتُ ما كنت أعيش من أجله، إن كان أحد يقرأ ما تكتبين فأتمنى ألا يعيش ما عشته، ما زلتِ تكتبين؟ أجبتُ بنعم، أضافت، إذن أخبريه أنني أُحبه، أنني أحبُّ كل من سيقرأ كتاباتك، مهما كان، سأُحبه كزوجٍ أو كابنٍ أو كأخ أو كوالد. نانا أنا أكتب لنفسي. تضحك وتضيف: إذن أنا أحبك.»

إحدى الأيام المنسية سنة ١٨٩٩م

إنها السنة التي اختفى فيها كل شيء، يومها كنتُ صاحبة الثامنة عشرة، حينما ساءت حياتي، وفتاة بالثامنة عشرة في قريتنا كان يجب أن يرى لها الناس زوجًا يكبرها بعشر سنوات وطفلَين على الأقل، كدليلٍ على أن الزوج يتحمَّلها، ويتحمَّل العيش إلى جانبها، ومنزلًا طوبيًّا لا يتداعى في الشتاء لتُديره الفتاة، لكنني كنتُ الاستثناء الوحيد في قريتنا، فقد وُلدتُ بمنزل شيخ القرية، وكان بمنزلنا إضافة إلى الشيخ ووالدتي ذات القلب المُتحجر، أخ يكبُرنا نحن الفتيات، أخ يستعد لخلافة الوالد، وخمس فتيات يتقاتلن على احتماليةٍ ما للظفر بمودة والدتنا ربة المنزل، والدتنا التي لم تُحبني قط، بل كانت تدفعني فقط إلى خدمتها، ولم أكن سوى دابة أُخرى تستعملها لربح بعض الوقت والجهد، حتى إنني مُنعت من الدراسة، على خلاف باقي أخواتي، فقد تحجَّجتْ والدتي بحاجتها إليَّ لمجالسة الأخت الصغيرة. أعتقد أنها وعدتْ والدنا بأيامٍ وردية، إن هو منعني من دخول المدرسة الفرنسية، بينما تمكن الجميع من مزاولة الدراسة، بأمرٍ من والدتي، فقد سمعتها تقول: المرأة الجاهلة دابَّة فوق الأرض.

وهو ما دفعني إلى التوجُّه إلى المدرسة خفية، لألحق الفتيات، وأدخل القاعة المدرسية مع صديقاتي، وأنانية صديقاتي أشبه بأنانية والدتي، فبمجرد دخولنا القاعة، يبتعِدْنَ عنِّي في صمتٍ رهيب. كنتُ قبل ذلك وفي الصباح الباكر أستيقظ باكرًا وأُصفِّف شعري بنفس الطريقة التي يفعلن، حتى إنني كنتُ أجلس مثلهن في القاعة، تمامًا مثلما يفعلن، وقد كان لي مقعد في آخر الصف أجلس إليه كل صباح كي لا تكتشف المُعلمة الفرنسية وجودي، وقد كانت تنادي بأسماء الفتيات، وكنتُ أتمنَّى أن تذكُر اسمي ولو عن طريق الخطأ، بل تمنَّيت أن يكون لي اسم يمكنها ذِكره، حتى إنني تمنَّيتُ أن أشارك إحدى الفتيات اسمها فتتمكن كلتانا من حضور المدرسة، لكن لا شيء مما ذُكر قد حصل، وكانت المعلمة تكتشف وجودي، فتدفعني إلى الخارج، كانت تبكي في غالب الأحيان وهي تفعل ذلك، وكانت تقول لي: أنت جميلة، تُعجبني تسريحة شعرك، ربما يومًا ما، ستتمكنين من مشاركتنا الدروس (تبتسِم بصعوبة).

بالطبع لم أتمكن من فهمها، أو فهم لُغتها الفرنسية، لكنني تخيَّلتُ قولها ذلك، كما تخيلتُ كثيرًا من الأشياء، كنت دومًا أتخيلها تقول هذه الكلمات، وكثيرًا ما تمسكت بيدِها، لم أكن أبكي قط وهي تدفعني إلى الخارج، كنتُ فقط أراقب عينيها، أصرخ من خلالهما حتى وهي تطردني بتلك اللباقة، اعتقدتُ أن المُعلمة ستحبُّ أن تدرس فتاة لا تبكي، وأن إخراجي من القاعة ليس سوى اختبارٍ لي، وأنه يجب أن أجتازه لأدرس، إن جميع صديقاتي مررنَ بهذه التجربة، لكنني اكتشفتُ بعد زمن، بعد وفاة تلك المعلمة بسنوات، وبعد أن ماتت كل صديقاتي في هذه الحياة، أن المشكلة لم تكن يومًا في البكاء، فقد توجَّب على والدي أن يُسجلني مثلما فعل مع كل إخوتي، ولم أطلُب من والدي أن يُسجلني يومًا، كنتُ أخشى أن يضربني إن أنا طلبت منه ذلك، وقد كنتُ أكتفي بالبكاء عند حائط المدرسة، أجلس وحيدةً أنظر إلى السماء، وأتساءل، إن كان هناك إله، فهل هو يُحبني حقًّا، إن كان يفعل ذلك حقًّا فلِمَ يتسبَّب في بكائي؟ كنتُ أتمسَّك بردائي، أمسح دموعي إن مرَّ أحدهم وأنشغل باللعب بالحجارة مُدعيةً اللعب لكيلا يعتقد أنني أبكي، ما كنتُ أودُّ أن أشارك أحدًا أحزاني، وكنتُ أعود للبكاء بمجرد رؤيتي لظهره، ثم أستمرُّ في العودة يوميًّا إلى تلك المعلمة، أبكي في كل مرة تطردني فيها، كانت الفتيات يكبرن في تلك المدرسة على آداب الحياة وعلى أُسس العلم، وكان الفرنسيون يجعلون من الفتاة العربية امرأةً غربية باسم الحضارة، بينما كنتُ أكبر عند حائط المدرسة على البكاء، أكبر على رؤية السماء التي لم تُحرك ساكنًا، أنظر إلى الله، أنتظر منه شيئًا ما، أن يمطر لي مدرستي، وكنتُ أدعوه أن يجعل مِني فرنسية، كنت أقول:

«إلهي، اجعلني فرنسيةً في الصباح، واجعلني عربيةً ما تبقَّى من الوقت، إلهي فقط لأخدعهم وألِج المدرسة صباحًا، وأعدك أنني سأكثر من الصلوات، سأتوقف عن اللعب وسأُصلي لك.»

لكن الله لم يكن يُحب الخداع، فأبقى على صفتي العربية، في الصباح وفيما تبقَّى من الوقت، وكنتُ أعود إلى المنزل، أحمل أختي الصغيرة وأنتظر خروج الفتيات لألعب معهن، كنَّ يسألنني عن عدم دخولي للمدرسة، كنتُ أتجرَّأ وأخبرهن أنه على الفتاة أن تكبُر لتصبح امرأة، أن تُسيِّر العائلة، أن تخدُم زوجها، لا أن تتعلَّم، كنتُ أكذب عليهن، أكذب على نفسي، وكنَّ يضحكن عليَّ لقولي هذا ثم يسخرن منِّي بقولهن: «إذن لِمَ تستمرِّين في القدوم يوميًّا إلى المدرسة لتُطردي مُجددًا؟ على المرأة أن تمكث بالمنزل، وأن تحمل شقيقتها.»

ويضحكن بعد قولهن، فأتراجع بمجرد سماعي لتلك الكلمات، تمتلئ عيناي حزنًا، أنظر إلى السماء أُشهدها على ما حدث، ثم أنظر إلى وجوههن الضاحكة، أحفظ كل جزءٍ منها، أنظر إلى عيونهن الغريبة، ثم أخفض رأسي إلى شقيقتي الصغرى، هي تُشبههن، سأحملها حتى تكبُر، ستدرُس بنفس المدرسة، وستبتسِم مثلهن، أرتعش رعشةً غريبة، أحمل أختي، وأبتعِد، كنتُ أركض باكيةً إلى مدخل المنزل، أركض وأنا أحمل أختي الصغيرة، أجلس هناك وحيدة بعينين مُنتفختين، ثم أُنكر كل شيءٍ عند مدخل المنزل، أُنكر وجودي، أُنكر السماء، أنكر الحياة، ثم أكفر بكل شيء، أتمرَّد على الوجود، وأُصدق المدرسة، أومن بالمُعلمة، فأراها المُخلِّص الوحيد، وكان ذلك ما يدفعني إلى العودة في الصباح، وعلى خلاف جميع البشر، آمنتُ فقط بالمُعلمة، فكنتُ أحج إليها كل صباح لترفضني مرةً أخرى، وكنتُ أجلس عند مدخل المنزل وأنا أحمل شقيقتي حتى ألمح أخي على بُعدٍ ما يتجه نحوي، وأحبُّ أمرٍ إلى قلبي هو عودة أخي محمد، أخي الكبير، كنتُ أبلغ يومها الحادية عشرة، وكان محمد يكبُرني بسنتَين، كان يجلس إليَّ، يأخُذ مني الفتاة ويحملها عني، يمسح دموعي، ويُعلمني الحساب، ويُذكرني أن الإنسان لا يكبُر أبدًا عن التعلُّم، أخبرني أيضًا أن المدرسة الفرنسية تافهة وأنه سيقدمها لي بوجهٍ عربي، كان يُشبِّه العمليات بالدجاج وعدد البيض، وإن استعصى عليَّ الفهم، كان يتجه لإحضار ما تقدَّر من الأشياء ويُمثل لي الحساب في صورةٍ حقيقية، كان المُعلمةَ التي لم أحظَ بها، ولا يقطع فرحتي تلك، سوى صرخة والدي على بُعد ما في حانوته الخاص، فأرمي كلَّ شيء، أُقبِّل أخي على جبينه الأبيض، آخُذ منه الفتاة وأتجه صوبَ والدي، أركض بسرعةٍ مُنهكةً جسدي، وكأنَّ الله ينادي عليَّ، وليس والدي، كنتُ أخشاه كخشيته للموت، كان له موت يخشاه وكان هو موتي الوحيد. ولمَّا كنتُ أبلغ دكانه الواسع، كان يُشير إليَّ عند الباب فأنتظر ما طلب منِّي أن أنتظره من الزمن، كان رفاقه من الشيوخ يجلسون إليه في حلقةٍ من الشاي يتسامرون حول أمور الحياة، حياة تجاوزتهم قبل زمن، ثم كان يقِف في شموخ، يبتسِم لأصدقائه، فيغادرون الدكان في عجل، وكان البعض منهم يُهنئني، يُهنئني كوني فتاة سيد الشيوخ، يمدح جمالي الخلَّاب، والبعض الآخر يمدح والدي كون الرب مَنَّ عليه بابنة جميلة، يبتسِم لهم يخبرهم أنه لا يعرف كيف يشكر الله على ما أنعم عليه سوى بالتضرُّع له ليلًا. كان والدي يُنهي لقاءه بهم بدعاء المباركة لهم، ثم يطلُب مِنِّي أن أتقدَّم، كان ينزع حزامَه الجلديَّ يطويه لجعله أقصر إلى النصف، ويُشير إليَّ فأتقدَّم، كان جزءٌ منِّي يموت في حضرة تلك العيون الرمادية التي تُراقبني وأنا أتقدَّم، وكثيرًا ما اعتقدتُ أنه سيكون هناك يوم أموت فيه بين يديه، لم أتصوَّر أبدًا أن الموت لا يُشبه والدي، وتخيَّلتُ في كوابيس مُتفرقة راودتني طوال حياتي، أنَّ سيد الموت يأخُذ بيدي، يحملني إلى السماء، وكان أشبَهَ بوالدي في كل تلك الكوابيس، كنتُ أشبَهَ بسجينٍ ينتظر ساعة إعدامه، كانت كلُّ صرخةٍ ينادي فيها عليَّ، أشبه بموتةٍ أُخرى أموتها، كانت لي أرواح كثيرة، وكان في كل نداءٍ يقتل واحدةً من تلك الأرواح، لم يعبأ إن كنتُ مجرد فتاة صغيرة، بل كل ما كان يُجيده والدي هو جعلي عبدةً لديه. اقتربتُ منه فصرخ وهو يقول: شريفة، ضعي أختك جانبًا (جمع حاجبَيه وجعل كل جزءٍ من جسده يتصلَّب).

كان حمل تلك الفتاة، هو المانع الوحيد في وجه والدي، كانت الدرع التي أحملها والتي تمنعه من ضربي، سابقًا قبل أن يُنادي عليَّ كنتُ أكره حملَها، كنتُ أجعلها تبكي انتقامًا على حملِها، فأحرمها من اللعب، أقرصها في غالب الأحيان وكنتُ بفعلتي تلك أحاول ردَّ اعتبارٍ لي، اعتبار أُخِذ منِّي غصبًا، لكن لحظة حمله لحزامه كنتُ أتمنى ألا تكبُر تلك الفتاة، وأن أخلد ما تبقى من حياتي وأنا أحملها فقط لكيلا يضربني، كنتُ أتمسَّك بها بشدَّة وأبكي، وكانت تبكي بدورها، كانت تشعُر أن حاملتها في خطر، كانت تخاف مثلي، وكأنها تشاركني شيئًا من الخوف والألَم، أو أنها كوَّنت رباطًا روحيًّا بي بعد طول حملي لها، فلا تشعُر سوى بما أشعر وكنتُ أتمنَّى أن يتثاقل الزمن وأنا أضعها أرضًا، وببلوغها الأرض وقبل أن يشرع والدي في توجيه حزامه إلى وجهي الفتيِّ، كنتُ أقفز وأرتمي إلى رجليه أقبلهما بشدة، أبكي وتبكي الفتاة على الأرض، مناجيةً إياه.

– أنت سيدي، يا والدي الحبيب (أبكي بشدة)، أنا أرجوك، يا سيدي، يا سيدي (أتمسَّك برجليه).

ما كان يعبأ بكلامي، بل كان يركلني على وجهي، يدفعني عنه بعيدًا حتى يُتيح لنفسه مُتسعًا يمكنه من توجيه ضرباتٍ إليَّ، يفعل ذلك وهو يقول: يا لقيطة، تتأخَّرين (يُوجِّه حزامه إليَّ بقوة)، تتأخَّرين وأنا أنادي عليك.

ثم يضربني مرارًا بحزامه وهو يصرخ: يا لقيطة، متى ستتعلَّمين الإصغاء؟ (يضرب مرارًا دون توقف.)

وكنتُ أتحرك هربًا في كل مكان على تلك الأرضية، وأنا أصرخ مُطالبة منه أن يرأف بي، أن يرحمني من طغيانه، أن يُسامحني على خطأ لم أرتكبه، أن يُسامحني لأنني ولدتُ ببيته، أن يُسامحني لأنه يشعُر أنني ثقل على كاهله، أن يُسامحني لأنني لم أكبُر بسرعة لأتزوَّج، أو لأنني لم أكبُر بسرعة خارقة للعادة كي أموت، والأهم أن يُسامحني لأنني لم أُولد صبيًّا كمحمد، بيد أنني لم أتأخَّر يومًا على ندائه، ولكنه كان يفعل ذلك فقط ليُظهر لي مدى جبروته، مدى قوته، وفي غالب الأحيان كنتُ أعتقد أنه يُعذبني تعبيرًا منه عن حُبه لوالدتي التي تكرهني، فيذكُر حُبَّه لها بضربي كل يوم، كان والدي رومانسيًّا وكان ضربي هو الرومانسية الوحيدة التي يعرفها، كان يضربني وأنا على الأرض أراقب والدتي تقِف عند الباب تُشجعه على ذلك، كانت تزداد حبًّا له عندما يفعل ذلك، ترى في ضرباته الرجولة التي لم يريها لها في أي مناسبةٍ أخرى، وكنتُ أبكي، ليس لأنني أُضرَب، بل لأنَّ والديَّ يتشاركان الحُبَّ عبر ضربي، وكأن ضربي هو الجنس الخاص بهما، كنتُ أبكي فرحًا، وقد كانت تلك اللحظات الوحيدة التي أشعُر فيها أنه لدي والدان يُحبَّان بعضهما، على خلاف ما تبقَّى من الأوقات، وتذكَّرت أثناء تلقِّي تلك الضربات ما أخبرتني به والدتي، أخبرتني يومًا أن محمدًا كان نتاج حُبٍّ تشاركته مع والدي، وأن بقية إخوتي كانوا نتاج شهوة رجلٍ متزوج بها، ولمَّا كنت أسألها عنِّي، كانت تُجيب وهي تدير رأسها إلى أختي الصغيرة تمشط شعرها: أنت … أنت نتاج كُرهٍ جمعَنا، ولا تسأليني مرة أخرى (تُمشط شعر أختي)، تحرَّكي إلى جدتك أخبريها أنني قادمة (من دون أن تلتفِتَ إليَّ)، وكنت أصرخ بينما هو يضربني: يا سيدي، يا سيدي (أُقبل رجليه)، المغفرة، المغفرة يا سيدي، حتى إنني ولشدة الألم الناتج عن تلك الضربات المُتتالية على ظهري كنتُ أُظهر له المودةَ والحب وأنا أقول: يا والدي، يا سيدي أنا أُحبك (يضرب بكل قوة)، يا سيدي الرأفة، بابا أنا أُحبك، اغفر لي بابا.

(أصرخ): بابا.

وكان ينتهي من ضربي ليتَّجه فيجلس إلى ركنٍ ما، كان يُنهكه ضربي، وهو يقول: أُطعمك وألبسك، حقيرة أنت، أتفعلين بي هذا، تفعلين بي ما لا يفعله الحيوان، يا لقيطة أتعتقدين أن أحدًا سيُطعمك غيري، أو يهتم بك (يتنفس بصعوبةٍ جرَّاء التعَب)، أو … ابنة الزانية، ما كنتُ أُجيبه بل كنتُ أجلس عند رجليه أُقبلهما، وأنا أطلب منه الغفران، أتضرَّع إليه، أملًا في أن يُسامحني على خطئي، الخطأ الوحيد الذي ارتكبته، وهو أنني وُلِدتُ بهذه الحياة، أنني وُلدتُ كابنةٍ له، وكنتُ أنظر إليه في خوف ورهبة، وأنا مُتمسكة بعباءته البيضاء، كان ينظر إلي بعينٍ حاقدة، كانت تلتهِب عيناه غيظًا وكان يُطفئ نار ذلك الغيظ ببعض الاستغفار، ثم يقول لي وهو يرجع حزامه حول جسمه: توقَّفي عن تقبيل قدَمي (يشير إلى مكان الكنس)، واكنسي الدكان فقد ملأه الغبار.

لم يكن يسمح لي حتى بنسيان تلك الضربات، وكنتُ أخشى تحسُّس موضعها، فيُعيد ضربي، أو رؤية إن كانت تلك الأماكن من جسدي تنزف، وليس لأنني أهتمُّ بنزيف جسدي بل كنتُ أخشى أن يُلطخ الدم لباسي فأعود إلى المنزل فتُمسكني والدتي بحزامٍ آخر، تُخرج غضب السنوات التي جمعتها بوالدي على جسمي الهزيل المليء بالكدمات.

– أفسدتِ ثوبك (تصرخ وهي تجهز الحزام).

– والدي هو من فعل ذلك (أنكمش في إحدى زوايا المنزل وأرفع يدي لأحمي رأسي)، أرجوك لا تضربيني.

– يا حقيرة ما دمتُ أنا من ينظف ثوبك فلا يجدُر بك أن تنزفي (تصرخ)، تعالَي هنا يا حقيرة.

وكنتُ أسارع إلى كنس الدكان بأكمله، أرتِّب لوالدي كلَّ شيء، بينما كان هو يكتفي باللعب مع شقيقتي الصغيرة، ربما كان ذلك هو الوقت الوحيد الذي كنتُ أكتشف فيه أن والدي شخص حنون، كنتُ أحبُّ أن أراقبه وهو يُلاعب أختي، أبتسِم، أكنس الدكان بمزيدٍ من الحب، وكنتُ عبر أختي أشعُر بحبِّ والدي وهو يُقبلها، أشعُر أنه يُقبلني أنا، وكانت تلك لحظتي، كنتُ أشاركها الحب، مثلما كانت تشاركني حياتي وأنا أحملها، كانت حُجتي الوحيدة أنَّ والدي كان يُحبني، على الأقل لمَّا كنتُ بعمرها، أحببتُ والدي كثيرًا لدرجة أنني بكيتُ لأسبوعٍ يوم وفاته، بعد سنواتٍ عديدة من آخِر ضربة أخذتها، أحببتُ والدي، حتى أنني بقيتُ بالقُرب من قبره أقصُّ عليه ما يحدُث معي، بينما سارع إخوتي ووالدتهم إلى تقاسُم كل ما ترَكَه. أذكر أنني طلبتُ منهم أن يمنحوني عباءته البيضاء التي كنتُ أتمسَّك بها في صغري حينما كان يضربني، وأذكر أنني تمسكتُ بذراعه وهو على فراش الموت لمَّا كنتُ في الأربعين، كنت بابنةٍ وحيدة أجهل مكانها في هذا العالم، ابنة حرَمَني منها هذا الوالد الذي يتوجَّه إلى مكانٍ آخر، مكان ليتعلم الحب فيه، كان قد طلب من الجميع المُغادرة في آخِر ليلةٍ له، أخبرهم أنه يودُّ أن يموت بن يديَّ، أن نبقى وحدنا في آخر لحظاته، لم يتأسَّف على ما فعل بي حينما باشر الكلام، كان قد نسي ذلك، لم ينبس ببنت شفة، وكنتُ أخبره أنني كنتُ أُحبه مهما فعل، أنني أحببتُ طبيعته، كان يُخرج الكلمات بصعوبة، صعوبة تحملي لتلك الضربات، وأخبرني أنه رضي عنِّي طوال حياته، وأنني كنتُ فتاته المُفضلة دومًا، أخبرني أيضًا أنني سأعيش سعيدة، وأكثر من قوله: اغفري لي، يابْنتي، شريفة.

كان يبكي، إلا أنَّ الموت لم يسمح له بإظهار ذلك، حتى إنه كان يقتل فيه كل شيء، لم ينسَ الموت سوى دموعٍ فرَّت منه، ووالدي يقول وتتباطأ كلماته:

«اغفري ابنتي … اﻏﻔ… (يفتح عينيه وكأنَّ الكلمات تحاول اختراقهما) اغفري، شريفة، شرﻳ… (يُصدر صوت اختناق يليه سكون رهيب وتوقف عن الكلام بمجرد مُلامسة الدموع ليدي التي كانت تسند وجهه.)»

لم ألُمْ والدي يومًا على شيء، حتى والدتي التي كانت تمقتني بقدْر الكره الذي يُكنه والدي للفرنسيين، حتى هي تُوفيت بمنزلي وحيدة، كان قد تخلَّى عنها بقية إخوتي، إخوتي الذين حرصت هي بشدة على أن يدرسوا، فقد اعتقدت أنهم سيردُّون إحسانها بإحسانٍ مُضاعف، لكن المدرسة الفرنسية علَّمتهم كل شيء، إلا حُب والدتي، ولم يكن العِلم سوى حجة أخرى لينفروا منها، وتُوفيت بين يديَّ وهي تُخبرني كم كرهَتْ والدي وأنها ما كانت تُحب أن يضربني، لقد ماتت وهي تكره والدي، ماتت ميتة غريبة، ماتت وهي تغتاب والدي عند ابنته المُفضلة. ما عشتُ بسلامٍ في ذلك المنزل أين كبُرنا جميعًا، ولم أكتشف يومًا معنى المحبة إلا بعد بلوغي السابعة عشرة، حينما أحبَّني صبي يكبُرني بسنتين، وأحببته فقط لأنه كان يُذكرني بأخي محمد، أخي الذي فقدناه في حصص التعذيب، بعدما أمسكه الفرنسيُّون بمكانٍ ما ينقل رسائل الثوار، كان يحنُّ إليَّ مثله، وقد قيل لي يومًا إن الفتاة تحبُّ شخصًا يُشبه والدها، لكنني لم أفعل، فقد أحببتُ صبيًّا يُشبه أخي، وقد أحبَّني هو بدوره لشيءٍ ما، لا زلتُ أجهله ليومنا هذا.

وقد كُلِّل حبُّنا هذا بزواجٍ غريب، لم أكن أطمع يومًا في ذلك، لم أعتقد ولو للحظة أن هذا الحُب الذي جمعني بزوجي سيقضي على تلك المحاقد، وفجأةً تحوَّل والدي إلى مُحب، واهتمت والدتي بشئوني، كنتُ أول ابنةٍ لها تتزوَّج، ولأول مرة منذ سبع عشرة سنة مضت، اهتمَّ الجميع بي، كانت تزورني مرةً في أسبوع، تحمل إليَّ ما تنوَّع من الطيبات، وكان والدي يحن على زوجي فيجلسه بقُربه، ويُحدثه في أمور القرية، لم يكن زَوجي حبيبي من عائلة ثرية وما كان نَسَبه ليطغى على نسبي، لقد كان مجرد عامل، وقد أحبَّه والدي لذلك، كان يقفز هنا وهناك ليحمِل لي سعادة يصنعها بيديه، كان يُضحكني على الدوام، حتى حينما أراه في أحلامي، وكنتُ أسأله دومًا لِمَ تُحبني، كان يخجل من سؤالي، يخفض رأسه، ويقول لي بأنه لا يعرف الإجابة عن السؤال، كان يكذب، وكنتُ أعلم أنه كان يخشى أن تكون إجابته غير مُقنعة أو أن تكون حجَّتُه ضعيفة، أن يُخبرني بأنه يُحب عيوني البنية، فأرفض حُبه، أو أن يُخبرني أنه يُحب لون شعري الأسود، فأُنكر مودته تلك، كان يخشى أن يكون ما يقوله غير كافٍ لي، لكنه كان يجهل أنني كنتُ سأكتفي لو هو قال أنه يُحبني فقط، وقد أمضيتُ إلى جانبه أجمل أيام حياتي، ولأول مرةٍ بدا أن الأمور ستسري على ما يُرام، كان الجنة التي أُخرِج منها آدم، جنتي الخاصة، جنة لا تُبالي بأحدٍ سواي، وكان لمَّا يعود إلى بيتنا المتواضع يحكي لي عن أصدقائه من اختاروا حياة السلاح، كنتُ أُخبره أنني سأنتظره إن هو ذهب يومًا واختار تلك الحياة، وأنني لن أكون عائقًا إن هو أراد المجد في يومٍ من الأيام، أنه سيكون بطلي مهما حدث. كنتُ أعلم كيفية تفكير الرجال، ورجال العرَب يتمسَّكون بشهامتهم دومًا، ومهما عاشوا، فإنهم لا يرضون سوى بالمجد، كان أهم ما يُهمُّ رجال قريتنا، كباقي القرى العربية، هو تشريف أسماء العائلات التي ينحدرون منها، لكنَّ زوجي الحبيب كان يرفض ذلك، كان يرفض كلَّ شيء، كان يقترِب منِّي، يتنفَّس في وجهي بحُب، وكنتُ استنشق زفيرَه في حُب، يضع يدَه على بطني المُنتفخ ويقول لي في هدوء: هم يحاربون من أجل وطنهم، ولن أحارب أحدًا ما دام لم يسلُبكِ مِني، أنت الوطن الوحيد الذي أهتمُّ له.

وما كان بمقدوري أن أُساير كلماته، كنتُ فقط أعانقه وأنا أقول باكية: أخشى أن تتركني في يومٍ من الأيام.

كان بدوره يُشاركني ببعضٍ من الدموع، ينخفض ليُقبل بطني، الحاجز الوحيد بيني وبين طفلته، وهو يقول: لن أتركك حتى في أحلامي.

وفي إحدى الأيام وبينما أنا جالسة قُرب موقد النار الطيني، أتحدَّث في هدوءٍ إلى الطفلة بأحشائي وأنا أُمشِّط شعري، دخل زوجي الحبيب، اقتربَ منِّي، جلس وتحسَّس وجهي وكأنه سيفعل ذلك للمرة الأخيرة، قبَّلني بشدَّة وكأنه لم يُقبلني قطُّ، تحدَّث إلى بطني كالعادة، كان سعيدًا بطريقة مُخيفة، أخرج كيسًا من النقود وقدَّمه لي، وهو يُمسك بيدي بشدة وقال: حياتي، لقد وجدتُ عملًا، إنه عرض جيد لي، سيكفيك هذا كل الشتاء، وحينما أعود سنُغادر هذه القرية إلى الأبد، سأعمل بالمدينة لقد وعدوني بمالٍ كثير، سأفتح دُكاني الخاص هناك، وسننسى هذه القرية المشئومة، وإلى الأبد.

تملَّكتني لحظتها رهبةٌ قوية، حتى إن طفلتي حركت قدمها بأحشائي لسماعنا كلمات والدها وقلت: لا تذهب، أرجوك، لا تتركني، لا أعرف ما سيحلُّ بي هنا، سيأكلونني حية، ماذا عن ابنتك؟

لكنه كان مُقنعًا جدًّا، أقنعني بأهدافه، أخبرني أنه على ابنتنا أن تتعلَّم، وأن العمل الذي سيقوم به سيتكفَّل بضمان مستقبل الصغيرة، ثم وعدَني بأنه سيعود. تقدَّم مرة أخرى وقبَّلني بشدة، تمنَّيت لو أنه لا يترك شفتي، التصقتُ به، ضحك وقال: سأعود، أنا أعدك حياتي. سأعود، أُحبُّك.

– لا تذهب (أمسكته مرةً أخرى إليَّ).

– أُحبك (قبَّلني قبلته الأخيرة)، سأعود.

واشتقتُ إليه قبل أن يُغادر حتى، أحسستُ بوجعٍ يُمزقني، ترك شفتي وغادر المنزل، أخبرَني حدْسي أن مغادرته للمنزل لعنة عليَّ وعلى ابنتي، لعنة ستُرافقني مدى الحياة، أنه ما كان يجب أن أسمح له أن يُغادر، أنه ما كان يجب أن أثق، أو أن أنتظر عودته، لأنه فقط زوجي الحبيب، هو لم يكن القدَر، كان مجرد عامل يجوب الأرض بحثًا عن وردةٍ يُقدمها لي ليلًا، كان حدْسي في محله، مرَّ الشتاء ووُلدَت ابنتي الحبيبة، لم يعُد والدُها قط. اختفى من الوجود، حتى إن رائحة ثيابه اختفت، لطول ما أبقيتُها إلى جانبي، أحضنها كل ليلة، أشتمُّ ما تبقى فيها من الذكريات، وساءت أموري مُجددًا بعد تلك الأيام، فقد تقدَّم والدي بخطبتي إلى أحد الشبان من القرية، وقد اشترط الشابُّ وكان ابن شيخ من شيوخ القرية، اشترط ألا تعيش ابنتي معي، ووالدي ما كان ليهتمَّ بشيءٍ من ذلك، لم تهمُّه حفيدته، فقد كان يذكرني مرارًا بقوله: تلك ليست بابنتك، تلك ابنة الشيطان، ولا يجوز لك الاحتفاظ بها، الشيطان الذي ذهب وتركك.

ثم أخذَها مِني، لم يحتفظ بها بل أخفاها في مكانٍ ما في هذا العالم وهكذا، كان القدَر قد سلبني حتى بصمة زوجي عليَّ، لم يترك لي شيئًا سوى الزمن لأنساه، وما نسيتُه، نسيت كلَّ شيء، نسيتُ الليالي التي كان يُلامِسني فيها زوجي الثاني دون أن أتفاعل معه، كنتُ أُقدِّم له جسدي وأطير بروحي بعيدًا بحثًا عن حبيبي، نسيتُ أنه تُوفي في إحدى المعارك، ونسيتُ أن والدي زوَّجني مرةً أخرى بشيخ يكبُرني بأربعين سنة، وقد نسيتُ وفاة ذلك الشيخ بسكتةٍ قلبية وهو يُجامعني في فراش بيته الغريب، نسيتُ أنني تزوَّجتُ للمرة الرابعة من رجلٍ آخر أحبَّني بشدة، زوج ذكَّرني بعد سنوات بزَوجي الأول، ومع مرور الوقت أحببتُه ونسيتُ كيف أُحبه حتى، لكنني أحببته، بلون آخر من الحب، ربما أشفقتُ عليه، كانت حياتي مجرد نحس، تابعتني تلك اللعنة ما تبقَّى من حياتي، ولم يبقَ إلى جانبي رجل قط، تزوَّجتُ أربع مرات وأتممتُ حياتي وحيدة، حتى ذلك الزوج الرابع الذي أحبَّني كان قدرُه الذهاب، فيوم ضربني فيه، أقسم والدي ألا يبقى هذا الزوج إلى جانبي، التفَّ حوله رجال القرية وأخبروه أنه لا يجِب أن يُطلِّقنا، فقط لأن زوجي ضربني، حتى إن بعضهم انخفض ليُقبل قدَميه فقط ليتراجع عن قراره، أخبروه أنه من العادي أن يضرب الرجل زوجته، حتى إنَّ أحد الشبان قال: يا شيخنا ألم تضرب امرأتك قط؟ (استهجن الشيوخ تدخُّل الشاب) كان والدي قد أسقط أسنان ذلك الشاب، وأقسم قسمًا جعل كل الرجال يتراجعون عن المُطالبة بإيقاف قراره وقال: إن لم يُطلقها، فإنني سأسجد لله غربًا (وأشار بعصاه إلى الغرب). وتنازل الرجال والشيوخ عن المطالبة، وأخبروه أنهم لن يسمحوا بشيءٍ يجعل شيخ القرية يكفُر وقالوا: الفتاة ستكبُر وستتزوَّج مُجددًا (تعالت الأصوات موافقة على القول)، وابننا سيتعلم كيف يعامل النساء وسيتزوَّج أو يتَّجِه إلى الجبال لحمل السلاح، لكن الأجدر أن يحافظ شيخ القرية على إسلامه.

كانت تلك لعنة زوجي الأول، لعنة حبيبي، وقد رأى والدي أنني بلغتُ سنًّا لم يعُد فيها تزويجي من رجلٍ آخر يُهم، وقد سمعتُ والدتي تُخبره: لا تزوِّجها، تلك الفتاة لعنة، وكلما اقتربَ منها رجل يختفي أو يموت، ولا أرى رجلًا يودُّ مشاركتها شيئًا، إنها لعنة، دعها تساعدك في أمور الدكان، دعْها تخدُمك، أنت قد كبُرتَ على هذه الأمور، ومحمد أخذته شهامتك وعزتك فمات بعيدًا عنك، لقد كان ذلك قدرها من البداية. وأمضيتُ ما تبقَّى من الأيام أبكي وحيدةً في بيتي البسيط، أبكي زوجي الحبيب، كان قد مضى على زواجي الأول خمس عشرة سنة، تمكَّنتُ فيها من قتل تلك الفتاة، تمكنت من قتل تلك الأنثى بداخلي ونسيت … نسيت الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤