عملية نظيفة

كانت مفاجأةً كاملةً ﻟ «لوزة» أن ترى المفتش «سامي» في هذه الساعة المبكِّرة من النهار … يجتاز باب الحديقة بقوامه الفاره ونظَّارته السوداء … رأته من النافذة حيث كانت تقف … فأسرعت تنزل السلالم مسرعةً وهي تنادي شقيقها «عاطف» … ووصلت إلى الحديقة في نفس الوقت الذي كان المفتش فيه يختار كرسيًّا تحت شجرة الكافور العجوز، وهو مكانه المفضَّل بالقرب من الكشكِ الخشبيِّ في نهاية الحديقة …

صاحت «لوزة» وهي تجري: يا لها من مفاجأةٍ مُفرِحة يا سيادة المفتش! التفتَ المفتش إليها مُبتسمًا وقال: آسف لحضوري على غير موعد …

لوزة: إنه منزلك يا سيدي …

المفتش: شكرًا لكِ أيتها الصديقة العزيزة …

وتبادلا التحيات … وقبَّلها المفتش في وجنتَيها كما اعتاد، ثم جلست أمامه وقد لمعت عيناها، وعاد المفتش يبتسم … لقد أدرك ما تُفكِّر فيه … إنها بالطبع تتوقَّع أن تكون هناك مغامرةٌ أو لغز يشترك فيه المغامرون الخمسة …

وأحنَى المفتشُ رأسَه … كان ردًّا صامتًا على ما تفكِّر فيه، فقالت مبتهجةً: لغز!

المفتش: نعم، لغز …

لوزة: هذه أولُ مرَّةٍ تُجيب فيها عن السؤال دون أنْ أسأل …

المفتش: لقد عرَفتُ من نظراتك …

لوزة: أي نوع من الألغاز يا سيدي المفتش؟

المفتش: لغزٌ بسيطٌ في ظاهره … غامضٌ جدًّا في باطنه …

لوزة: هذا نوع الألغاز الذي أفضِّله …

المفتش: أين بقيةُ المغامرين؟

لوزة: سيحضرون حالًا …

ولم تكد تنتهي من جملتها حتى ظهر «عاطف» فصاحت به «لوزة»: لغز يا «عاطف» … لغز …

تقدَّم «عاطف» يُسلِّم على المفتش وعلى شفتيه ابتسامةٌ واسعةٌ، ثم قال: لقد جاء لكِ اللغز على طبقٍ من الذهب … جاء حتى باب منزلك …

المفتش: أكثر من هذا أنني في حاجة إلى مساعدة المغامرين الخمسة …

قالت «لوزة» مبتهجة: إننا أعوانُك المخلصون يا سيدي المفتش …

المفتش: شكرًا … أريد بقيةَ المغامرين حتى لا أكرِّر روايةَ اللغز مرتين …

عاطف: سأتَّصل بهم تليفونيًّا …

وكان جهاز التليفون في الكشك الخشبي، فدخل «عاطف» … وتحدَّث إلى «محب» و«نوسة» ثم إلى «تختخ» … ثم عاد يجلسُ مع المفتش و«لوزة» …

قال المفتش: لقد ظهرت نتائج الامتحانات … فما هي أخباركم؟

لوزة: كالمعتاد … نجحنا جميعًا بامتياز … لم يبقَ سوى «تختخ».

المفتش (منزعجًا): ماذا حدَثَ له؟

لوزة: لا شيء … إن نتيجته تتأخر بضعة أيام …

ثم قامت «لوزة» قائلة: قهوة يا سيادة المفتش؟

المفتش: إنني في أشدِّ الحاجة إليها … فقد أيقظوني من نومي في الثانيةِ صباحًا بعد الحادث الذي وقع … وما زلتُ بلا نومٍ حتى الآن …

أسرعت «لوزة» لإحضار القهوة … بينما أخرج المفتش من جيبه مجموعةً من الأوراق أخذ يفحصها … وجلس «عاطف» يراقبه صامتًا … وعادت «لوزة» بالقهوة بعد قليل، وجلست بجوار «عاطف» صامتةً ترقب المفتش، ومضت ربع ساعة … وسمع الثلاثةُ أجراسَ الدراجات … ثم ظهر «محب» و«نوسة»، وبعدهما بأمتار ظهر «تختخ» وخلفه «زنجر» …

طوى المفتش أوراقَه، واستقبلَ المغامرين الثلاثة بتَرْحاب … وبعد أن جلسوا جميعًا، قال المفتش: هناك لغز يحتاج إلى ذكاء المغامرين الخمسة …

ردَّ «تختخ»: المغامرون الخمسة تحت أمرك يا سيدي المفتش …

المفتش: شكرًا لكم … نحن جميعًا في خدمة العدالة …

وصمَتَ لحظات، ثم قال: هل تعرفون فيلَّا الشيخ «سعيد المختار» التي تقع في الشارع الموازي لهذا الشارع؟

ردَّ «عاطف» على الفور: أعرفها … فإن ابنه «حسن» من أصدقائي، وهو الآن في بلده السعودية …

المفتش: لقد وقعت سرقة أمس في هذه الفيلَّا …

بدا الاهتمام على وجوه الأصدقاء، وتبادلوا النظرات … ومضى المفتش يقول: في منتصف الليل تمامًا … دخل لصٌّ إلى الفيلَّا، وسرق مجموعةً من المجوهرات الأثرية النادرة، كان الشيخ «المختار» — وهو سعودي الجنسية كما قال «عاطف» — قد اشتراها من مزادٍ أُقيمَ في «باريس» منذ أيام، وأحضَرَها معه إلى القاهرة … كان في نيته أن يُودِعها في أحد البنوك هذا الصباح في موعد سفره إلى بلده … ولكنها سُرقت أمس …

عاطف: إن أسرة الشيخ «المختار» في السعودية … سافروا منذ أيام قلائل …

المفتش: نعم … كانت الفيلَّا خاليةً إلَّا من خادمٍ عجوز …

تختخ: وكيف تمَّت السرقة؟

اعتدل المفتش في جلسته وقال: هذا هو السؤال … لقد فُتِحَ البابُ بمفاتيحَ مقلَّدة، فلم نجدْ أيَّ أثرٍ لاقتحام الأبواب أو النوافذ … ولا حتى الدولاب الذي كانت به مجموعة المجوهرات النادرة …

نوسة: كم مجموعةً من المفاتيح للفيلَّا؟

المفتش: مجموعتان كما قال لي الشيخ «المختار»؛ إحداهما معه، والثانية مع أولاده في السعودية …

نوسة: هل هو متأكِّد أنَّ المجموعة الثانية أخذها الأولاد معهم إلى السعودية حقًّا؟

المفتش: هذا ما سنعرفه اليوم … فالشيخ «المختار» يطلب الآن السعودية … تليفونيًّا للتأكُّد من وجود مجموعة المفاتيح الثانية هناك …

محب: والمجموعة التي معه … هل كانت معه عندما كان خارج الفيلَّا أثناء العشاء؟

المفتش: نعم … فعندما عاد للفيلَّا فتح الباب بها … وعندما دخل وجد الخادمة العجوز مُلقاةً في الصالة، مصابةً بضربةٍ قويةٍ على رأسها … ومُغمًى عليها … وقد صعد على الفور إلى غرفة نومه، حيث كان قد أَوْدَع المجوهرات في أحد أدراج الدولاب، فوجد الدولاب مُغلقًا … وقد اطمأنَّ في البداية، ولكنه عندما فتح الدولاب فُوجئ باختفاء مجموعة المجوهرات …

محب: أي أنَّ اللصَّ أخذ المجوهرات ثمَّ أغلق الدولاب …

المفتش: نعم … من الواضح أنه كان يريد تأخير اكتشاف السرقة أطولَ فترةٍ ممكنة … فكلَّما تأخَّر اكتشافُ السرقة زادت صعوبةُ تتبُّعِ اللص …

تختخ: أفهم من إصابة الخادم العجوز أنَّ اللص هاجَمَها؟

المفتش: بالضبط … وسأرتِّبُ الحوادث على حسب استدعائي للبحث والتحرِّي … ففي الثانية صباحًا اتصل بي الشاويش «علي» وطلب مني الحضور لاكتشاف سرقة في حدود اختصاصه … فاتصلتُ برجالي … ولبست ملابسي، وجئت إلى المعادي، ووصلتُ في حوالي الساعة الثالثة صباحًا … واستدعَيْنا الإسعافَ حيث تم علاج الخادمة العجوز … وقد قالت إنَّ الشيخ «المختار» أخبرها أنه سيتعشَّى مع مجموعة من الأصدقاء في نادي الصيد بالدقي، وطلب منها أن تضع الأقفال في جميع أبواب الفيلَّا، عدا الباب الرئيسي؛ لأنه سيُغلقه بالمفتاح ليدخل منه بعد ذلك …

وصمت المفتش لحظات، ثم مضى يقول: وقالت الخادمة — وتُدعى «محسنة» — إنها بعد أن انتهت من أعمالها المنزلية، قامت بتنفيذ أوامر الشيخ ثم أوت إلى فراشها وهو يقع في غرفة صغيرة في الدَّوْر الأول بجوار المطبخ، وتحت غرفة نوم الشيخ في الدور الثاني …

عاطف: متى أوت إلى فراشها؟

المفتش: حوالي الساعة العاشرة والنصف … وقد تركت نورًا خفيفًا مُضاءً في صالة الفيلَّا الرئيسية كالعادة …

تختخ: ومتى غادر الشيخ الفيلَّا؟

المفتش: حوالي الساعة التاسعة مساءً …

وسكت المفتش لحظات ثم قال: وتقول «محسنة» إنها لم تستطع النوم … فقد كان هناك فرَحٌ خلف الفيلَّا، وكانت هناك ضجَّة كبيرة من الموسيقى والمطربين وطلقات الرَّصاص والمدعوِّين، فظلَّت مستيقظةً في فِراشها فترةً طويلة، وعندما بدأت تستسلم للنوم خُيِّل إليها أنها تسمع صوتَ حركةٍ في غرفةِ نوم الشيخ التي تقع كما قلتُ فوق غرفتها مباشرةً، وظنَّت أنه الشيخ، وإن كانت قد شكَّت في ذلك؛ لأنها لم تسمع صوت سيارته، وهو يُودِعُها في الجراج، كما لم تسمعه وهو يدخل الفيلَّا … وهكذا أسرعت تغادر فراشها وخرجت إلى صالة الفيلَّا … وفوجئت برجل ينزل على السلالم الداخلية للفيلَّا والتي تقع بجوار باب غرفتها مباشرة …

وبدا التحفُّز والتوقُّع على وجوه المغامرين الخمسة … حتى «زنجر» وقفَ واقتربَ أكثرَ من المفتش الذي مضى يقول: وقفت «محسنة» في مكانها وقد احتبس صوتها وأخذت تنظر إلى الرجل وهي ترتجف … وبسرعة قفز الرجل السلالم الباقية حتى أصبح أمامها، وكان يمسك بطارية ثقيلة هوَى بها على رأسها …

وساد الصمت لحظات، ثم قال «محب»: معنى هذا أن «محسنة» رأتْ وجهَ الرجل …

المفتش: نعم رأت وجهه … وقد قالت لي إنها رأت هذا الوجه من قبل …

لوزة: وأين اللغز إذن إذا كانت قد رأت الرجل؟ … إنَّ من السهل جدًّا القبضَ عليه … التفتَ إليها المفتش ونظر إليها بعتاب وقال: لو انتظرتِ قليلًا ربما غيرت رأيك يا «لوزة» … فالخادمة العجوز ضعيفةُ البصر أولًا … ثانيًا: كان الضَّوْءُ في الصالة ضعيفًا، فلم ترَ جيدًا … ثالثًا: قالت إنها متأكدة أنها رأته من قبل … ولكن لا تدري أين ولا متى …

قالت «لوزة» وقد احمرَّ وجهها: آسفة جدًّا … ولكنى خشِيتُ ألَّا يكون هناك لغز …

تختخ: أليست هناك بصمات؟

المفتش: لا … العملية نظيفة تمامًا …

محب: وما هو دور المغامرين الخمسة في العملية؟

المفتش: لقد وصفت «محسنة» الرجل وصفًا لا بأس به برغم كل شيء … وهي متأكِّدة أنها رأته في المعادي بالذات … والمطلوب من المغامرين الخمسة البحث عن رجل متوسط الطول، أسمر البشرة … أسود الشعر … يلبس نظارة طبِّية … وهي أوصاف ليست كافيةً طبعًا … ولكن هذا كل ما عندي من معلومات …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤