شيء من الفلسفة

عندما التقى المغامرون في المساء لم تكن هناك معلومة واحدة قد أضيفت إلى ما يعرفون، كل ما حصلوا عليه هو معلومات بسيطة عن الرجل الذي يتبعه «عاطف»، وعرف أنه سمسار شقق مفروشة يعمل في أحد مكاتب السمسرة …

كان كلٌّ منهم مستغرقًا في خواطره عندما دقَّ جرس التليفون، وكان المتحدِّث هو المفتش «سامي»، وتحدث إلى «تختخ» … وأخذ «تختخ» يستمع وهو يهزُّ رأسه، ثم قال للمفتش: هل أستطيع الحصول على مجموعة من الصور لأصدقاء الشيخ «المختار» الذين تعشَّوْا معه أمس في نادي الصيد؟ وبعض المعلومات عنهم؟

واستمع «تختخ» لحظات ثم مضى يقول: أعرف أنهم جميعًا بعيدون عن الشبهات، ولكن عندي فكرة …

وعاد «تختخ» يستمع ثم قال: لم نحصل على معلومات حتى الآن، ولكن بعد مناقشة طويلة أعتقد أننا وضعنا يدنا على بعض مفاتيح اللغز …

وبعد أن استمع مرَّةً أخرى … وضع السماعة، ثم التفت إلى الأصدقاء وقال: اتضح أنَّ مجموعةَ المفاتيح الثانية مع أسرة الشيخ «المختار» في السعودية … وهكذا ازداد اللغز غموضًا …

محب: ولماذا طلبت من المفتش صورًا ومعلوماتٍ عن أصدقاء الشيخ «المختار»؟

تختخ: إنها كما اتفقنا إحدى الدوائر الثلاث التي سنتمكن عن طريقها من الوصول إلى حل اللغز … إذا استطعنا …

نوسة: وهل وعدك المفتش بالحصول على ما طلبت؟

تختخ: نعم … وإن كان يعتقد أنه مجهود ضائع …

كانت «لوزة» صامتة تمامًا، فالتفت إليها «تختخ» قائلًا: ماذا حدث يا «لوزة»؟ يبدو عليك الضيق …

لوزة: إنني أفكر في هذا اللغز فلا أكاد أجد له حلًّا … وفي نفس الوقت أشعر أنه لا دَوْر لي في هذا الموضوع …

تختخ: سيأتي دورك في الوقت المناسب … فلم تمضِ سوى ٢٤ ساعة على الحادث، وهي مدة قصيرة بالنسبة لهذا اللغز … حتى رجال المباحث لم يهتدوا إلى شيءٍ حتى الآن … فهم يعملون على طريقتهم في البحث عن المشبوهين من اللصوص الذين تخصَّصوا في سرقة المجوهرات، وكما قال لي المفتش «سامي» الآن إنهم لم يصلوا إلى شيء …

لوزة: وما هي خطوتنا التالية؟

تختخ: لا شيء حتى نحصل على الصور والمعلومات التي طلبتها …

لوزة: ألن نقابل «محسنة» ونتحدث معها؟

عاطف: سوف يعود صدیقي «حسن» ابن الشيخ «المختار» غدًا من السعودية، وعن طريقه يمكن الحديث إلى «محسنة» …

تختخ: إذن … فلنترك كلَّ شيء حتى الغد …

وتفرَّق الجميع عائدين إلى مساكنهم … وأخذ «تختخ» يسير ببطء وقد استغرقته الخواطر حول هذه السرقة … ودار في ذهنه خاطر سريع … لماذا لا تكون «محسنة» الشغالة هي بطلة هذا كله؟ … إنها داخل البيت تعرف كلَّ شيء فيه … وهي ليست في حاجة إلى اقتحام البيت من الخارج … ولعلَّ هذا يُفسِّر أن الأبواب والأقفال كانت سليمة … ثم إنها هي الوحيدة التي شاهدت اللص … وربما ليس هناك لصٌّ على الإطلاق … إنما هو شخصية من اختراعها حتى تُبعد عنها الشبهات … خاصةً ادعاءها أنَّ نظرها ضعيف، وأنَّ الضوء كان خافتًا لتُعطيَ أوصافًا ليست محدَّدةً للرجل … إن ملايين الرجال ينطبق عليهم وصف متوسط القامة … أشيب الشعر، يلبس نظَّارة …

وفكَّر «تختخ» وهو يجتاز باب حديقة الفيلَّا … ألم يَطُفْ هذا الخاطر برأس المفتش «سامي»؟ ربما كان السبب الإصابة التي في رأس «محسنة»، وهذه يمكن تبريرها، ففي إمكانها أن تُحدِثَ الإصابةَ بنفسها … وفي سبيل ثروة من المجوهرات النادرة، يمكن أن تُحدِثَ في نفسها أيةَ إصابة … ويمكن تبريرُها بأنَّ لها شريكًا … هو الذي أحدث الإصابة بها … وربما ضربها بشدة أكثر من اللازم … وربما ضربها بشدة وهو يقصد قتلها حتى لا تشيَ به … ويفوز بكنز المجوهرات وحده …

كان تفسير السرقة بهذا الأسلوب معقولًا جدًّا … بل إنه أقربُ تفسيرٍ إلى العقل والمنطق … خاصةً إذا كان البوَّاب هو الشريك … فالتبرير الذي قدَّمه عن غيابه تبرير ضعيف …

وجلس «تختخ» على كرسيٍّ في الحديقة، ومضى يقلِّب الأمر على مختلف وجوهه … وفي كل مرَّةٍ كان يزداد اقتناعًا بأنَّ «محسنة» هي أقرب الناس إلى ارتكاب هذه الجريمة … وتمنَّى أن يراها سريعًا … وأن يتعرَّف عليها، ويكوِّن رأيًا عن شخصيتها … وأن يُلقيَ عليها بعض الأسئلة فقد تتناقض في إجاباتها مع الإجابات التي قالتها لرجال الشرطة …

وفكَّر أن يتصلَ بالمفتش «سامي» ويخبره بما فكر فيه … ويطلب منه أن يُعيد استجواب «محسنة» بحضوره … وبعد أن تردَّد بضع دقائق، قام ودخل إلى الفيلَّا، ولكنه وجد والدته تتحدث في التليفون، فصعد إلى غرفته حيث استبدل ثيابه، ثم نزل وأعدَّ لنفسه كوبًا من الشاي، ثم جلس في غرفته يكتب مذكراتِه عن الحادث ويُمعن التفكيرَ فيه … وبعد أن ناقش نفسه طويلًا نزل إلى الصالة وأمسك التليفون واتصل بالمفتش في مكتبه فلم يجده … ثم اتصل به في منزله، وردَّت زوجته قائلةً إنه لم يَعُدْ بعد … فترك اسمه … ورجاها أن يتصل به المفتش عندما يعود … وجلس «تختخ» أمام جهاز التليفزيون يتفرَّج على برامج التليفزيون مع والده ووالدته، ولكن ذهنه كان مشغولًا تمامًا … لقد أصبح مقتنعًا أن «محسنة» هي الفاعلة، فكل التفاصيل خاصةً الأبواب المفتوحة دون عنف كانت تؤيِّد نظريته …

وهكذا … عندما دقَّ جرس التليفون قفز إليه، ورفع السماعة … ولم يكد يسمع صوت المفتش «سامي» حتى قال له: لقد وجدت الفاعل …

المفتش: الفاعل … تقصد لصَّ المجوهرات؟

تختخ: نعم … إنني أشك في «محسنة» الشغالة … إن اللص الذي تحدثت عنه شخصية وهمية … فليس هناك دليل على أنه شخص حقيقي …

وقبل أن يسترسل في حديثه قال المفتش: أُهنِّئك على هذا الاستنتاج البارع.

ابتسم «تختخ» زهوًا، وقال: إن القضية هكذا قد تكون قد حُلَّت ببساطة …

المفتش: أعتقد أنها لم تحلَّ بعد … فقد فكرت نفس الفكرة منذ اللحظة الأولى، ولكن عندي إحساس يا «توفيق» أن هذه السيدة العجوز بريئة …

قال «تختخ» متفلسفًا: ولكن كثيرًا ما يخدعنا الإحساس عن الحقيقة … إننا نتعامل فقط مع الحقائق البارزة … ومع الأدلة … وكل الحقائق والأدلة تشير إليها بأصابع الاتهام …

سكت المفتش قليلًا، ثم قال: لقد أصبحت فيلسوفًا أيضًا يا «تختخ» … ولكن لعل مئات الحوادث التي اشتركت فيها منذ كنت ضابطًا صغيرًا وحتى الآن جعلت إحساسي شيئًا لا يخيب … بل كثيرًا ما كان الإحساس أقربَ إلى الصدق من الحقائق الظاهرة …

أحسَّ «تختخ» ببعض الحرج ثم قال: على كلِّ حال لقد رأيت أن أقول لك رأيي …

المفتش: طبعًا … إنني سعيد جدًّا بما سمعت منك … إنه دليل على قدرتك الفائقة على الاستنتاج وترتيب الأحداث … ولكن لك عندي مفاجأة …

تسارعت دقات قلب «تختخ» وقال: عن هذه العملية؟

المفتش: بالطبع … إن الأوصاف التي أدلت بها «محسنة» عن شخصية اللص تنطبق على أحد الرجال الستة الذين كانوا يعرفون بأمر المجوهرات …

تختخ: الستة الذين تعشَّوْا مع الشيخ «المختار» في نادي الصيد؟

المفتش: نعم … واحد منهم يُدعى «كمال رياض»، ويشتغل في الاستيراد والتصدير … وله مكتب في شارع «قصر النيل» …

تختخ: وأين يسكن؟

المفتش: المفاجأة الثانية أنه يسكن في المعادي قريبًا من فيلَّا الشيخ «المختار» …

تختخ: وهو متوسط القامة … أسود الشعر … يلبس نظارة طبِّية؟

المفتش: بالضبط …

تختخ: شيء مدهش للغاية … يُقرِّبنا من الحقيقة، ويُبعدها عنا في نفس الوقت، ففي الوقت الذي تمت فيه الجريمة كان هذا الشخص يتناول العشاء مع الشيخ «المختار»، وعلى حسب معلوماتنا أنه لم يغادر مكانه مطلقًا من التاسعة حتى الواحدة صباحًا …

المفتش: هذه هي المشكلة … كيف يمكن أن يوجد شخص واحد في مكانَين مختلفَين في نفس الوقت؟ …

تختخ: مشكلة حقًّا غير قابلة للحل …

المفتش: وهذا ما أريد أن تستخدم عقلك في حله …

تختخ: أظن لا أحد يستطيع حلَّ مثل هذه المشكلة مهما فكَّر …

المفتش: إذن أتركك لتنام … ولعل الأيام القادمة تحمل مفاجآتٍ أخرى …

وتبادلا تحيةَ المساء … ووضع «تختخ» السماعة وغرِقَ في تفكيرٍ عميق … وكلَّما قلب الأمر على وجوهه المختلفة … وصل إلى نفس النتيجة … إن «محسنة» هي أقرب شخصيات الحادث كله إلى الاتهام … ولعلها بالأوصاف التي روتها للشرطة تريد أن تلصق التهمة ﺑ «كمال رياض» باعتباره أحد أصدقاء «المختار» ومن الذين يعرفون بوجود المجوهرات بالمنزل …

كان كل ما يحتاج إليه «تختخ» أن يرى «محسنة» عن قرب وأن يتحدَّث إليها، إنه يريد أن يجرِّب إحساسَه هو الآخر ناحيتها … لعله يتفق مع المفتش «سامي» في نفس الإحساس، ولعله يختلف معه … وهكذا ظلَّ يفكر، ووصل إلى نتيجة واحدة … أنَّ عليه أن يرتاح من كلِّ تفكير حتى الصباح … ثم ينتظر وصول «حسن» ابن الشيخ «المختار» من السعودية، ويطلب منه بواسطة «عاطف» أن يُهيِّئَ له فرصة لقاء «محسنة» ومناقشتها دون أن تشعر بأنها متهمة … ثم مراقبتها بعد ذلك … فمن المتوقع بعد أن حصلت على الثروة إما أن تترك العمل عند الشيخ «المختار» بأية حُجَّة … أو تختفي عن الأنظار دون سابق إنذار … إذا أحسَّت أن دائرةَ الاتهام تضيق حولها …

وعندما وصل إلى هذا الحد من التفكير … استلقى على فراشه واستسلم للنوم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤