المفتش في أزمة

قال المفتش «سامي» وهو يمدُّ ساقَيه على العشب الأخضر في حديقة «عاطف»:

أعترف لكم بأنني في أزمة حقيقية … فهذه أول مرة أفقد فيها أعصابي … برغم أن عملي كضابط شرطة يحتِّم عليَّ أن أحتفظ بأعصاب هادئة … ولكن موقف هؤلاء الناس أثارني جدًّا!

سألت نوسة: تقصد «مجدي» وأسرته؟

المفتش: نعم … إنهم لا يريدون التعاون معنا … وبغيرهم لا يمكن أن نجد أثرًا لهذه العصابة الجريئة.

محب: ولكن ألا تُقدِّر موقفهم يا حضرة المفتش … لقد خطفت العصابة ابنهم «مجدي» في الشهر الماضي … وهو وحيد والديه … وقد هددتهم العصابة بخطف «مجدي» مرة أخرى لو تكلم أو أدلى بأي معلومات قد ترشد رجال الشرطة عنهم …

المفتش: ولكنني وعدتُ بحمايتهم.

عاطف: إنَّنا جميعًا في حماية الشرطة … ولكن هذا لا يَمنع اللصوص والمجرمين من ارتكاب الجرائم … إن الشرطة لا تستطيع أن تراقب كل بيت وكل فرد … وإلا احتجْنا إلى شرطي لكل إنسان … وثلاثة لكلِّ بيت، أي أن يصبح رجال الشرطة أضعاف عدد سكان مصر!

مدَّ «تختخ» يده بكوب الليمون البارد إلى المفتش قائلًا: لعل أعصابك تهدأ بعد أن تشرب كوب الليمون هذا!

ابتسم المفتش قائلًا: ولا حتى برميل من «الليمونادة» يُمكن أن يُهدِّئ أعصابي … فهناك طفل آخر مخطوف … والوزارة مقلوبة من أجله … فهذا ثاني حادث اختطاف في شهرَين … ومن الواضح أنها العصابة نفسها … لقد استطاعت أن تَخطف «مجدي» في الشهر الماضي … وتأخذ الفدية الضخمة بدون أن نعلم … وها هي ذي تُكرِّر العملية بالنجاح نفسه … بدون أن تترك أثرًا واحدًا يدل عليها.

في هذه اللحظة وصلت «لوزة» فأسرعت تُحيِّي المفتِّش الذي استقبلها في حب ظاهر قائلًا: هذه هي المغامرة الصغيرة التي ستحل اللغز!

صفَّقت «لوزة» بيديها قائلة: أهناك حقًّا لغز؟ وأنا التي أحله … الحقوني بهذا اللغز … سأُجنُّ من الكسل والفراغ!

وضع «عاطف» يده في جيبه ثم أخرجها، ومدها إلى «لوزة»، خذي اللغز … وهيا حلِّيه.

لم تَبتسِم «لوزة» بل قالت في سخرية: ضع لغزك في جيبك … وحاول أن تحلَّه بأصابعك، ثم التفتت إلى المفتش قائلة: ما هو اللغز يا حضرة المفتش؟

قال المفتش: لقد رويت القصة كلها للأصدقاء … وعليهم أن يحكوها لك … أما أنا فسوف أنصرف الآن …

ثم نظر إلى ساعته وهبَّ واقفًا قائلًا: لقد تأخَّرت؛ فعندي اجتماع في مديرية الأمن … ولا بد أن أنصرف فورًا!

ودَّع الأصدقاء المفتِّش حتى سيارته، ثم عادوا إلى الحديقة. وكانت «لوزة» مشتاقة إلى سماع حكاية اللغز من الأصدقاء، فسألت «تختخ» أن يرويها لها، فقال سأترك «نوسة» تروي لك ما سمعناه … فهذا الحَر اللعين يجعلني عاجزًا عن التفكير أو الكلام.

قالت «نوسة»: لقد … حكى لنا المفتش قصة خطف عجيبة تمت في الشهر الماضي … ثم تكرَّرت منذ أسبوع … بدون أن يتمكن رجال الشرطة في المرتين من القبض على العصابة … بل لم يتمكنوا من العثور على أثر واحد يهدي إليها.

لوزة: مُدهِش جدًّا … وكيف تمَّت عملية الخطف الأولى؟

نوسة: ببساطة جدًّا … هناك ولد يُدعى «مجدي» يحب الموسيقى حبًّا جمًّا … وذات يوم خرج من المدرسة في طريقه إلى بيته، فوجد رجلًا معه «هارمونيكا» أثارت إعجابه ولاحظ الرجل ذلك الإعجاب فعرض عليه أن يشتريها! ولم يتردَّد «مجدي»، وقال إنه على استعداد لشرائها، فطلب منه الرجل أن يذهب معه إلى صاحبها الذي يريد بيعها، ليشتريها منه، ولما قال له «مجدي» إنه لا يحمل ما يكفي من النقود، أفهمه الرجل أن صاحبها لن يطلب كثيرًا.

وسكتت «نوسة» لحظات، ثم قالت: وذهب «مجدي» مع الرجل … وبعدها اختفى تمامًا … واتصلت العصابة التي اختطفته بأسرته، وطلبت مبلغ خمسة آلاف جنيه فديةً له حتى تطلق سراحه، على شرط ألا تبلغ الشرطة، وإلا فإن «مجدي» لن يعود حيًّا إلى أسرته …

ووافقت الأسرة ولم تبلغ الشرطة، ودفعت خمسة آلاف جنيه، كما طلبت العصابة، وعاد «مجدي» … وبدأ يروي لبعض أصدقائه ما حدث له …

ووصلت هذه المعلومات إلى الشرطة، فذهب أحد الضباط إلى أسرة «مجدي» ليعرف مزيدًا من التفاصيل التي قد تؤدي إلى القبض على العصابة … ولكن العصابة كانت قد سبقته، وحذرت أسرته من الحديث إلى رجال الشرطة … وإلا خطف «مجدي» مرة أخرى.

محب: لا تنسَي أن تقولي إنه في هذه الفترة لم يكن يسكن في المعادي … بل كان يسكن في حي الدقي!

لوزة: وهل يسكن في المعادي الآن؟

محب: نعم … وهذا سبب وجود المفتش «سامي» في المعادي!

لوزة: ثم ماذا؟

نوسة: ولم يستطع رجال الشرطة الحصول على المعلومات من «مجدي» وبخاصة أن العصابة بعد أن اختطفته عصبت عينَيه، فلم يرَ شيئًا مطلقًا طول المدة التي بقي فيها مع العصابة، حتى أعادته إلى أسرته.

ومضتْ «نوسة» تقول: وفي الأسبوع الماضي قامت العصابة بخَطفِ طفلٍ آخر بالطريقة نفسِها … ولكنَّ الطفل في هذه المرة، واسمه «عصام»، لم يكن مثل «مجدي» يُحبُّ «الهارمونيكا»، بل كان يحبُّ الكلاب … وقد استطاع أحد أفراد العصابة أن يُغريَه هو الآخر بالذهاب معه ليشتري كلبًا جميلًا صغيرًا من مكان قريب … وبعدها اختفى «عصام»، ولم يظهر حتى الآن … وأسرعت أسرته بالاتصال بالشرطة … ولكن رجال الشرطة لم يستطيعوا حتى الآن أن يحصلوا على معلومات إلا من أحد أصدقاء «عصام» الذي شاهد رجل العصابة وهو يُغري «عصام» بالذهاب معه لشراء الكلب … ولما كانت طريقة العصابة واحدة في إغراء الأولاد، فقد أدرك المفتش «سامي» أن العصابة التي خطفت «عصام» هي العصابة نفسها التي خطفت «مجدي» … وجاء للحصول على معلومات عن العصابة، ولكن أسرة «مجدي» رفضت الكلام، وقال «مجدي» إنه لم يرَ شيئًا، لأن العصابة عصبت عينيه … ولم يفتحهما إلا عندما عاد إلى أسرته.

لوزة: وهل يُقيم «عصام» في المعادي؟

نوسة: نعم … كما يُقيم فيها «مجدي» حاليًّا!

لوزة: وهل حصلتم على عنوان «عصام»؟

نوسة: نعم، وعنوان «مجدي» أيضًا؛ فقد أعطانا إياهما المفتِّش «سامي».

لوزة: المهمَّة سهلة إذن … ما علينا إلا الاتصال «بمجدي» والحصول منه على المعلومات اللازمة عن العصابة … ثم ندخل المغامرة.

عاطف: هكذا ببساطة؟! يبدو أنك تتصوَّرين الألغاز نوعًا من الشيكولاتة تُشترى من أقرب محل … ألم تسمعي أن المفتش «سامي» نفسه لم يتمكن من الحصول على أية معلومات؟

محب: وهناك ما هو أهم من هذا … أن «مجدي» كان مُعصَّب العينين فلم يرَ شيئًا مطلقًا!

تختخ: لا تنسَ أنه يحب الموسيقى، ويعزف على الهارمونيكا، وهواة الموسيقى عادة تكون آذانهم مرهَفة!

عاطف: أفهم ما تعني … هل تقصد أنه كان يرى بأذنيه؟

تختخ: إنك بالطبع تسخر، ولكن إذا استخدم الإنسان أذنيه جيدًا، فإنه يستطيع أن يعوض كثيرًا من عدم الرؤية عن طريق أذنيه المرهفتَين، والدليل على ذلك أن الأعمى يستطيع معرفة أشياء كثيرة بواسطة أذنيه قد لا يدركها المبصر.

عاطف: وماذا نستطيع أن نعلمه عن طريق أذنَي «مجدي» هذا؟

تختخ: أشياء كثيرة لا تتصوَّرها … ولكن المُهم كيف نقنعه بالكلام، وأسرته تمنعه من محادثة أي إنسان خوفًا من العصابة وانتقامها!

نوسة: ما هو عمر «مجدي» هذا؟

تختخ: في التاسعة على ما أظن!

نوسة: أي إنه في عمر «لوزة» تقريبًا.

تختخ: تقريبًا.

نوسة: إنني أقترح أن تحاول «لوزة» مصاحبته، فإذا اطمأنَّ إليها أمكن أن يتحدث معها عما جرى له.

تختخ: هذا كلام معقول جدًّا. وأقترح على «لوزة» أن تبدأ فورًا في التدريب على عزف «الهارمونيكا»، فهي وسيلة مُمتازة للتعرف على «مجدي»؛ لأنه من هواتها!

محب: عندي واحدة! … كان عمي قد أهداها إليَّ، ولم أستعملها مطلقًا.

تختخ: عظيم، عليك بإحضارها الآن فورًا!

وأسرع «محب» يقفز إلى دراجته، وانطلق إلى منزله، وبعد دقائق قليلة عاد ومعه صندوق صغير من الورق مستطيل الشكل، ففتحه ثم أخرج منه «هارمونيكا» جميلة، جديدة مدَّ يده بها إلى «لوزة» قائلًا:

هذه هي، حاولي أن تحلي اللغز بها.

وأمسكت «لوزة» «بالهارمونيكا» ثم وضعتها على فمها وبدأت تصدر أصواتًا جعلت «عاطف» يصرخ وهو يضع يديه على أذنيه: أرجوك … لا تُعذِّبيني! ولكن «لوزة» لم تهتمَّ به واستمرت تحاول … في حين انهمك بقية الأصدقاء في الحديث، فقال «تختخ»: إن علينا أن نضع خطة محكمة حتى تتمكن بها «لوزة» من مقابلة «مجدي» والحديث معه … فما هي أفكاركم؟

سكت الأصدقاء يفكرون، ثم قالت «نوسة» بعد فترة: أقترح أن نذهب أولًا لنرى المنزل الذي يسكن فيه «مجدي» ونسأل كيف يعيش؟ وكيف يلعب؟ حتى نتمكن من توفير المعلومات اللازمة لوضع خطة مناسبة.

تختخ: هذا كلام معقول جدًّا، ولكن مَن الذي يذهب؟ إنني مشغول في المنزل مع بعض الضيوف على الغداء.

محب: أذهب أنا و«عاطف» … ونلتقي مساءً.

تختخ: اتفقنا!

وبعد لحظات كان «محب» و«عاطف» كلٌّ على دراجته ينطلقان إلى منزل «مجدي» بعد أن حفظا عنوانه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤