الموسيقار الصغير

استطاع «محب» و«عاطف» أن يحصلا على كل المعلومات المطلوبة عن «مجدي»، بعد أن سألا الجيران والمكوجي وغيرهم. وقد عرفا أن «مجدي» وحيد والدَيه. ووالده تاجر غني، يملك فيلا كبيرة تتوسط حديقة واسعة. وينزل «مجدي» عادة إلى الحديقة في التاسعة صباحًا، قبل أن ترتفع الشمس، حيث يتمشى ويلعب، ويعزف «الهارمونيكا» ومعه حارس يمشي قريبًا منه خوفًا من تكرار اختطافه. ثم يصعد بعد ذلك للغداء، وفي المساء يتلقى دروسًا في عزف البيانو.

وكانت خطة الأصدقاء التي وضعوها لتنفذها «لوزة» بسيطة جدًّا … تذهب «لوزة» ومعها آلة «الهارمونيكا». وتدور حول السور، وهي تعزف في محاولة للفتِ نظر «مجدي» فإذا التفت إليها تحدثت معه، وإذا أخفقَت هذه الخطة ولم تَلفِت نظر «مجدي»، فعليها أن تستمع إليه وهو يعزف، ثم تُحاول الحديث معه عن الموسيقى.

حملت «لوزة» آلة «الهارمونيكا» الصغيرة، وانطلقت في الصباح الباكر، وهي تحلم بالمغامرة المقبلة … ماذا يحدث؟ هل يتحدث معها «مجدي» أو يرفض الحديث؟ هل يتعرض لها الحارس أو يتركها تدخل الحديقة؟!

وبعد حوالي ربع ساعة وصلت إلى العنوان، ورأت الحديقة الواسعة والفيلا الكبيرة … وكان البستاني يروي الورد والأزهار قبل أن ترتفع الشمس … ولم يكن في الحديقة معه إلا ثلاثة كلاب ضخمة كانت تلهو معًا … ودارت «لوزة» حول سور الحديقة تبحث عن مكان قريب تستطيع منه مشاهدة «مجدي» عندما ينزل … ووجدت مكانًا مكشوفًا في السور لا تخفيه الأشجار الضخمة … وهو قريب في الوقت نفسه من باب الفيلا، ووقفت بجواره ترقب الفيلا، ورأسها يموج بالأفكار.

وبعد فترة سمعت «لوزة» موسيقى جميلة تنبعث من الفيلا … ثم رأت ولدًا صغيرًا ضئيل الحجم يمشي في هدوء نازلًا السلم وفي يده آلة «هارمونيكا» قد وضعها على فمه وأخذ يعزف … كان عزفًا رائعًا، وموسيقى رقيقة مرحة خُيِّل إلى «لوزة» أنها لم تسمع مثلها في حياتها.

وخلف الولد الذي لا شك أنه «مجدي» — كما فكرت «لوزة» — ظهر حارس ضخم، يُمسك بيده عصًا قصيرة … وكان يتبع «مجدي» كظله … ولم تكد الكلاب ترى الولد الصغير حتى تركت لعبها، وجرت ناحيته وهي تنبح في سعادة … وسارت خلفه وكأنها مستسلمة لسماع موسيقاه الجميلة.

ظلت «لوزة» تتأمَّل الولد … وقد أحسَّت بنوع من الإعجاب القوي به … فقد كان جميلًا ورقيقًا … له جبهة عالية، وقد تهدَّل عليها شعره الأسود الفاحم … وكان يتنقَّل بين أحواض الزهر والورد وكأنه طيف … وظل يعزف موسيقاه، وبدا «للوزة» كأن كل ما في الحديقة يرقص على الموسيقى.

وأفاقت «لوزة» من أثر السحر الذي سيطر عليها، وتذكَّرت أنها جاءت لمهمة محددة … هي أن تحصل من هذا الولد على المعلومات التي تؤدِّي إلى حلِّ لغز عصابة اختطاف الأطفال … فانتظرت حتى جلس الولد قريبًا منها، وانقطع عن العزف، وأخذ يَمسح «الهارمونيكا» بمنديل أبيض … وكانت هذه فرصة «لوزة»، فوضعت آلتها على فمها وبدأت تعزف.

كان عزفًا رديئًا لا يزيد على مجموعة من الأصوات المتنافرة وبخاصة بعد الموسيقى السماوية الرقيقة التي كان يعزفها «مجدي» الذي استدار عندما سمع صوت العزف، وأخذ يبحث بعينَيه عن مصدر الموسيقى … وسرعان ما رأى «لوزة» وهي تقف بجوار السور مُتظاهِرة بأنها تسير ولا تراه …

ظلَّت «لوزة» تعزف … وركزت انتباهها في العزف … فلم ترَ الحارس الضخم وهو يفتح الباب ثم ينطلق إليها كالصقر … وفجأةً أحسَّت بيدٍ تُوضَع على كتفها في قسوة، وعندما التفتت إليه فوجئت بمظهره الشرس، فانزعجت … ولكنها تمالكت أعصابها وقالت له في ضيق: لماذا تُمسك بي، ارفع يدك عني!

قال الرجل في صوت خشن: ماذا تفعلين هنا؟ ومَن الذي أرسلك؟

ردت «لوزة»: ومن أنت حتى تسألني؟ أأنت صاحب الشارع؟ ومن هؤلاء الذين تسأل عنهم؟ … إنني هنا لأنني أحب أن أكون هنا، فلم يرسلني أحد.

الرجل: إنك تكذبين!

لوزة: أكذب! لماذا أكذب؟ وهل وجودي هنا يستدعي أن أكذب … ارفع يدك وإلا! …

ولم تكمل جملتها … فقد ظهر «مجدي» في هذه اللحظة، وأسرع نحوهما متسائلًا: ماذا حدث يا «مهران»؟

رد الرجل في احترام: هذه الفتاة!

مجدي: ما لها؟

مهران: إنها … إنها تسير بجوار الحديقة، وتعزف على «الهارمونيكا»!

مجدي: وماذا في ذلك؟! أليس من حقها أن تسير حيث تشاء، وتعزف الموسيقى كما تحب؟

مهران: ولكن يا أستاذ «مجدي» … أنت تعرف أن …

وقبل أن يتم جملته قال «مجدي»: لا داعي لهذه الشكوك في فتاة رقيقة تعزف الموسيقى، وإن كنت أعترض على شيء واحد … وسكت وهو يبتسم ثم قال: إنها للأسف تعزف بطريقة رديئة!

قالت «لوزة»: آسفة … لقد استمعت إليك، وكان يجب ألا أعزف بعدك.

مجدي: لا، أبدًا … إنني عندما بدأت العزف كنت مثلك … ولكن كل شيء يأتي بالمران … ما دمت تهوين الموسيقى وتحبينها.

تدخَّل «مهران» في الحديث قائلًا: هيا ندخل يا أستاذ «مجدي»، فتعليمات والدك ألا تخرج من سور الحديقة.

رد «مجدي» في ضيق: إنني ضقت بهذا السجن … لا أخرج منه ولا أقابل أحدًا … ولا أتحدث إلى مخلوق … هذا غير معقول!

مهران: ولكن هذه تعليمات والدك!

سكت «مجدي» ثم قال: سندخل، ولكن على أن تدخل معنا هذه الفتاة … إنني أحب أن أتحدث معها قليلًا عن الموسيقى!

مهران: ولكن!

مجدي: سأقول لوالدي إنني الذي دعوتها، فلا تخشَ شيئًا.

ودخل الثلاثة الحديقة، فجلست «لوزة» و«مجدي» على أحد المقاعد، وسرعان ما اتجهت الكلاب إليهما مزمجرة، ولكن كلمات قليلة من «مجدي» هدَّأت ثائرتها، في حين جلس «مهران» بعيدًا يرقبهما بعين لا تطرف.

قال «مجدي»: هل تعزفين «الهارمونيكا» منذ وقت طويل؟

لوزة: أبدًا … لقد بدأتُ أمس فقط!

ابتسم «مجدي» وهو يقول: هذا هو السبب … إنك مُحتاجة إلى فترة طويلة حتى تجيدي العزف!

لوزة: إنني محتاجة إلى مَن يعلمني!

مجدي: وأنا على استعداد لتعليمك … وإن كنتُ لستُ أستاذًا ولكني سأعلمك ما أعرفه … المهم أن تتمرني كثيرًا … وقبل كل شيء لا بد أن تتعلَّمي السلم الموسيقي!

لوزة: السلم الموسيقي! … ما هو هذا السلم؟

ابتسم «مجدي» ثم قال: من الصعب أن أشرحه لكِ الآن … المهم أن أتعرَّف عليك.

لوزة: اسمي «لوزة» … والدي يعمل مهندسًا … ولي شقيق يُدعى «عاطف» … ونحن معًا ومعنا ثلاثة أصدقاء آخرون نُسمِّي أنفسنا «المغامرين الخمسة»، لأننا نحب المغامرات، وقد اشتركنا في عدد كبير منها.

لمعت عينا «مجدي» ثم قال: ومَن هم الثلاثة الباقون؟

لوزة: «تختخ» وهو رئيس المجموعة، و«محب» وأخته «نوسة».

مجدي: إن هذا شيء مُثير جدًّا … وهل جئت هنا بالمصادفة أم بسبب آخر؟!

لوزة: أعترف لك أنني جئت لأتعرَّف بك، فإننا نريد أن نتحدث معك!

مجدي: عن أي شيء؟

لوزة: ألا تعرف؟

مجدي: أعرف طبعًا … وما دمت تُعرفين حكايتي، فلا بد أنك تعرفين أن أبي منعني من التحدث مع أي غريب، وبخاصة عن هذه الحكاية.

لوزة: ولكنَّ هناك شيئًا مهمًّا … إنَّ هناك طفلًا مخطوفًا يُدعى «عصام»، ولا أحد يعرف له طريقًا، وقد تؤدي المعلومات التي نحصل عليها منك أن نعيد «عصام» إلى أسرته سالمًا!

فكر «مجدي» فترة ثم قال: إنني لا أستطيع مخالفة تعليمات أبي، ولكني سأستأذن منه أن تحضري لزيارتي لنعزف الموسيقى معًا … ولأعلمك كيفية استخدام «الهارمونيكا»، وفي هذه اللقاءات قد نستطيع أن نتحدث عن الحكاية التي جئت من أجلها. برغم تعليمات والدي الذي يخاف عليَّ من العصابة، ولكني أرى أنه من واجبي الآن أن أتكلم لأن مصير ولد آخر معلق!

لوزة: اتفقنا … ومتى أعود لك مرة أخرى؟

مجدي: غدًا في الموعد نفسه … ومعك «الهارمونيكا»، وعندما تعزفين بجوار السور سوف أعرف أنك حضرت وأخرج لك.

قالت «لوزة» وقلبها يرقص طربًا لتوفيقها في المهمة: إنني أرجو قبل أن أنصرف أن تعزف لي قطعة من الموسيقى بطريقتك البارعة، إنها تؤثر فيَّ جدًّا.

لم يتردد «مجدي» فقد وضع «الهارمونيكا» على فمه … ثم فكر قليلًا، وكأنه يختار لحنًا معينًا، ثم بدأ يعزف … كانت قطعة الموسيقى التي يعزفها لحنًا راقصًا سمعته «لوزة» من قبل من الراديو … ولكنه مع العازف الماهر الصغير بدا لها أشد روعة … وأكثر جمالًا مما سمعته.

كان يعزف بمهارة، ووجهه يحمرُّ من أثر المجهود، وأحست «لوزة» أنها لم تكن سعيدة في أي وقت أكثر من هذه اللحظة … وأدركت أنها تحب الموسيقى فعلًا … ويجب أن تتعلم العزف.

أسرع اللحن … ووضح أن «مجدي» سوف يختم عزفه، وفعلًا بعد ثوان قليلة انتهى العزف … ونظر إليها «مجدي» وكأنه يسألها رأيها، فأحنت «لوزة» رأسها بإعجاب … ثم سلمت عليه بحرارة وانطلقت عائدة إلى المنزل دون أن تنطق بكلمة واحدة.

كان الأصدقاء جميعًا في انتظارها … فأسرعت إليهم وهي تُردِّد اللحن بصوتها … وأخذوا جميعًا ينظرون إليها في دهشة … ولكنها استمرت تُردِّد اللحن حتى جلست، فقال «عاطف»: إنها بلعت محطة موسيقى!

لم تلتفت «لوزة» إلى سخريته، بل استمرت تكمل اللحن حتى انتهت منه.

فسألها «عاطف»: هل هذه هي المعلومات التي حصلتِ عليها؟

لوزة: بالضبط!

محب: ألم تَعرفي شيئًا آخر؟

لوزة: مطلقًا!

نوسة: هل أفهم أنكِ ذهبت من أجل هذا اللحن فقط؟

لوزة: وهل هناك أهمُّ من الموسيقى؟

تختخ: الموسيقى هامة فعلًا … ولكن الأهم الآن هو اللغز … هل روى لكِ «مجدي» ما حدث؟

لوزة: لم يقل لي كلمة واحدة عن اختطافه … بل إنه لم يُشِر إلى هذه الحادثة مطلقًا … ولكنه غدًا سوف يتحدث. لقد اتفقنا.

واستمع الأصدقاء إلى تقرير «لوزة» عن مهمتها … واتفقوا على أن يلتقوا مرة أخرى في اليوم التالي ليستمعوا إلى ما ستحصل عليه من معلومات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤