الأذن الحساسة

عندما وصلت «لوزة» في اليوم التالي إلى فيلا «مجدي»، كان الموسيقار الصغير في انتظارها، وقد أعدَّ في الحديقة مائدة صغيرة عليها عصير الليمون المثلج وكمية من الشيكولاتة والحلويات.

كان «مجدي» مَرِحًا في ذلك اليوم، وقد استقبل «لوزة» بترحاب كبير، ثم قال: هل تُصدِّقين أنك أول إنسان من غير أفراد أسرتي أكلمه منذ أكثر من شهر؟! لقد حرَّم عليَّ والدي أن أتحدث إلى أحد … وهذا الحارس يسير معي كظلي منذ ذلك الحادث.

لوزة: حادث الاختطاف؟

مجدي: نعم … حادث الاختطاف. ولكني سأتكلم الآن لأنقذ الولد المخطوف!

لوزة: إنني وأصدقائي مُهتمُّون جدًّا بالحصول على معلومات منك … فقد أخفقت جهود رجال الشرطة في الوصول إلى مكانه … ونحن نعتقد أنك إذا قلت لنا معلوماتك عن حادث اختطافك فقد يمكننا إنقاذ «عصام».

ابتسم «مجدي» وقال: وهل تظنون أنكم أبرع من رجال الشرطة؟

لوزة: إننا لا نزعم ذلك … لكننا نحب هذا العمل، ونساعد رجال الشرطة بقدر ما تسمح به مجهوداتنا!

مجدي: صدقي أن كل المعلومات التي سأرويها لك لم أرها بعيني … فقد كنت كما تعلمين معصب العينين، فقد وضع رجال العصابة رباطًا على عيني طوال فترة وجودي معهم.

لوزة: أرجو أن تقول لي كل شيء من البداية … إن أصدقائي الأربعة في انتظار هذه المعلومات … ونحن نهتم بكل صغيرة وكبيرة … وما يبدو لك تافهًا قد يكون هو الطريق إلى حل لغز هذه العصابة والوصول إليها.

مجدي: تفضلي بأكل بعض الحلوى واشربي الليمون، وسوف أركز تفكيري لأتذكر ما حدث … وما سمعت.

ومكث «مجدي» لحظات، وأغمض عينيه، كأنه يُحاول استرجاع كل ما حدث في ذهنه قبل أن يتحدث … في حين بدأت «لوزة» تلتهم قطعة حلوى مع رشفة من كوب الليمون ثم بدأ «مجدي» روايته قائلًا:

أعتقد أن العصابة كانت قد جمعت معلومات كثيرة عنِّي … فقد عرفوا مثلًا أنني أهوى الموسيقى، وأحب العزف على «الهارمونيكا»، وعرفوا أن والدي غني … وأنه سيدفع الفدية ولا يخبر رجال الشرطة … فأنا ولده الوحيد … ولا شك أنه كان على استعداد لدفع أيِّ مبلغ من أجل إنقاذي.

وسكت «مجدي» لحظات، ثم مضى يقول: إنَّ العصابة نجحت في كل شيء عدا شيء واحد!

لوزة: وما هو؟

مجدي: لقد نسُوا أنني موسيقي … وأن الموسيقي يستطيع أن يسمع بأذنيه أكثر من أي إنسان آخر … إنني أستطيع أن أقول إنني أرى بأذني.

لوزة: مدهش جدًّا!

مجدي: وهكذا تمكنت من معرفة أصوات رجال العصابة … وأستطيع أن أميزها من بين عشرات الأصوات …

لوزة: هل نقلوك إلى خارج القاهرة؟

مجدي: نعم … ولكي تستمعي إلى القصة من بدايتها سأقول لكِ ما حدث منذ خرجت من المدرسة، حتى عودتي إلى البيت!

واستعدَّت «لوزة» للإنصات بكل اهتمام، وبدأ «مجدي» يروي حكايته: في ذلك اليوم ذهبت إلى المدرسة كالمعتاد، ومعي «الهارمونيكا» … فإنني لا أستطيع مفارقتها … وعندما خرجت من المدرسة سمعت شخصًا يعزف «الهارمونيكا» فلفت انتباهي فورًا … ووجدت نفسي أتجه إليه … كان رجلًا نحيفًا طويلًا يلبس نظارة سوداء، ووقفت قريبًا منه أستمع إلى عزفه … ولاحظ هو اهتمامي فعرض عليَّ أن أشتريها … وفي الحقيقة كانت من نوع ممتاز … وعندما وافقت على شرائها، وقال لي إنها ليست ملكه … ولكن صاحبها يريد بيعها … وطلب مني أن أذهب معه إليه.

وقاطعته «لوزة» قائلة: ألم تشتبه في هذه العرض؟! وهل من المعقول أن تذهب معه بدون أن تعرفه؟

مجدي: كان خطأً منِّي ولا شك … لكن إعجابي «بالهارمونيكا» أنساني واجب الحذر … فسرت معه … وكنا أيامها نسكن في الدقي … ومشينا حتى وصلنا إلى بولاق الدكرور … ولاحظ هو أنني بدأت أقلق، فقال لي إنَّ المكان قريب … وفعلًا بعد بضع دقائق من السير في الحواري المُزدحِمة دخلنا منزلًا صغيرًا مُظلمًا. وطرق باب غرفة فيه، فانفتح … ودخل … وترددت، ولكن الوقت كان قد فات، ووقعت في أيديهم، فقد خرج رجل ضخم من الغرفة ووضع يده على فمي، ثم حملني إلى داخل الغرفة، وأغلق الباب.

قالت «لوزة» معلِّقة: إنها لحظة رهيبة!

ورد «مجدي» في حزن: فعلًا … ثم أحضرا شريطًا لاصقًا وضعاه على فمي حتى لا أتمكن من الصياح، وربَطني الرجل الضخم في كرسي في الغرفة … وقال أحدهما للآخر إن عليهما الانتظار حتى يأتي الليل، لنَقلي إلى المكان المعد لإخفائي … وأخذت أفكر ساعتها فيما ينبغي عمله … وحاولت بقدر الإمكان أن أرسم صورة للرجلَين في ذهني حتى أتعرف عليهما فيما بعد …

ومدَّ «مجدي» يده فتناول كوبًا من عصير الليمون، ورشف منه رشفة، ثم عاد إلى الحديث: كان هناك راديو «ترانزستور» مع الرجل النحيف، ففتحه … وبدأت أستمع وأحاول معرفة الساعة، فقد جرداني من ساعتي … وجاءت نشرة الأخبار، وعرفت أن الساعة الثانية والنصف … وأن أسرتي لا بد قد بدأت تسأل عن سبب غيابي … ومضَت الساعات ثقيلة، وأحسست بالجوع … ولكن الرجلين استسلما للنوم، وتركاني مستيقظًا أفكر، بعد أن أغلقا الراديو … ومضت الساعات، واستيقظ الرجل النحيف، وخرج وعاد بعد قليل، ومعه بعض الطعام جلسا يتناولانه معًا، ثم سمعت الرجل النحيف يقول للآخر: ألا نعطيه رغيفًا وقطعة جبن، فهو لا شك جائع.

رد الآخر الضخم: إذا رفعنا الكمامة عن فمه فقد يصرخ، ونروح جميعًا في داهية … دعه فإنه لن يموت جوعًا.

لاحظت «لوزة» أن الحارس يَقترب منهما، فلفتَت نظر «مجدي» إليه، فكف عن الكلام. واقترب الحارس قائلًا: يا أستاذ «مجدي» ألا تعود إلى المنزل؟

مجدي: سأبقى مع «لوزة»، وتستطيع أنتَ أن تدخل.

الحارس: لا أستطيع … وسأبقى معكما!

مجدي: أرجو أن تقف بعيدًا عنا قليلًا إذا سمحت! وتراجع الحارس وهو متضايق، ثم جلس على كرسي بعيد في الحديقة، بدون أن يَغيب «مجدي» عن عينيه.

عاد «مجدي» إلى الحديث قائلًا: وهبط الظلام … وفتح الرجل الراديو «الترانزستور» وعدت أسمع من جديد … وسمعت نشرة أخبار الثامنة والنصف … وهنا دق الباب، فقام الرجل الضخم واقفًا وأخذ ينصت لحظات … وعاد الدق من جديد، وكان واضحًا أنه دق منتظم متفق عليه … فأسرع بوضع الرباط على عيني، وهكذا أصبحت لا أرى … وظللت هكذا حتى عدت إلى بيتي …

لوزة: وهل عدتَ في الليلة نفسها؟

هز «مجدي» رأسه قائلًا: لا، طبعًا … إن ما حدث في هذه اللحظة لم يكن إلا البداية … فقد سمعت صوت الباب يفتح … ثم دخل إنسان وأغلقه من جديد.

وقال: لقد قُمتما بعملكما خير قيام!

رد الرجل الضخم، وكنت قد اعتدت صوته، قائلًا: لقد انتهت مهمتنا، ونريد حقنا حتى ننصرف!

رد الرجل الثالث: هذا هو اتِّفاقنا … وهذا هو المبلغ!

قال الرجل الضخم: ليس هذا هو المبلغ الذي اتفقنا عليه … إنه نصفه فقط!

قال الرجل الثالث: لن أدفع النصف الباقي حتى أقبض الفدية!

الرجل الضخم: لكن … هذا إخلال باتفاقنا.

قال الرجل الثالث في صوت قاسٍ: لا مناقشة معي … وإلا …

وسكت الرجل الضخم … وأدركت أن الرجل الثالث هو زعيم العصابة، فقد كان واضحًا أن الآخرَين يَخافان منه.

وسمعت خطوات في الغرفة، ثم فتح الباب، وسمعتُ صوت أقدامٍ تخرج، ثم أغلق الباب مرة أخرى، وساد الصمت … وكان واضحًا أنَّ الرجلَين اللذَين اشتركا في اختطافي قد انتهت مُهمَّتهما وانصرَفا … وبقيت وحدي في الغرفة أستمع إلى تنفس الرجل الثالث وصوت خطواته، وهو يتجول في الغرفة … ومضى وقت طويل دون أن يتحدث، ثم سمعت صوت سيارة تقف أمام الباب … وصوت خطوات تدخل المنزل، ودق الباب مرة أخرى، ودخل رجل فقال الزعيم: هل العربة جاهِزة؟

رد الرجل الآخر: نعم … وقد شحَّمتُها وملأتُها بالجاز!

قال زعيم العصابة: عليك بلفِّ هذا الولد في بطانية وحمله … سأُراقب أنا الشارع، فإذا سمعت صفارتي فاخرج بسرعة، وسوف أفتح شنطة السيارة لتضعه فيها.

فك الرجل الحبل … ولم أستطع مقاومته فقد كنت متعبًا وجائعًا، فعاود شد وثاقي … ثم حملني … وبعد لحظات سمعت صوت الصفارة المتفق عليه، فخرج الرجل بي مسرعًا … وأحسست به ينحني ثم يلقي بي في شنطة السيارة ويغلق عليَّ بالمفتاح … وبعد لحظات دارت السيارة وانطلقت … كنتُ أشعر بتعبٍ فظيع … وجسدي كله يُؤلِمُني وأنا نائم على صاج الشنطة، مكوَّرًا مربوطًا، ولكنني حاولت ألا أستسلم لليأس … وأن تكون أعصابي هادئة حتى أعرف كل ما يدور حولي …

وسكت «مجدي» ثواني قليلة … وكانت «لوزة» ترجو ألا يتوقف أبدًا، فقد كانت قصته مثيرة. وهي تحاول حفظها كاملة حتى ترويها للأصدقاء … فقالت تستحثه: وماذا حدث بعد ذلك؟

مجدي: سارت السيارة في شوارع القاهرة … وكنتُ أسمع حركة المرور النشيطة حولي، ومضت عشر دقائق تقريبًا، وسمعت بوضوح دقات ساعة الجامعة، فأخذت أعدُّها، بعد أن توقفَت السيارة عند إشارة مرور … كانت عشر دقات … وهذا يَعني أنها كانت الساعة العاشرة وأنَّنا نمرُّ بالقرب من جامعة القاهرة، وأنا أُركِّز انتباهي في الاستماع إلى ما حولي من أصوات … وبدأت السيارة تميل إلى الأمام ثم عادَت تَميل إلى الخلف وتصعد من جديد … وأدركت أننا نمرُّ من نفق شارع الهرم …

ومضَت السيارة تجري … كانت تسير بسرعة مُخيفة … ربما كانت نحو ١٠٠ كيلومتر في الساعة … ولكنها كانت تُبطئ طبعًا في الأماكن المزدحمة أو عند إشارات المرور … وبعد فترة توقَّفَت السيارة … هل انتهَت الرحلة؟ هكذا سألت نفسي، ولكن الرحلة لم تكن قد انتهت بعد … لقد كانت نقطة تفتيش … وأدركت أننا في أول الطريق الصحراوي، ومضَت السيارة … وكنت قد حاولت أن أضرب جوانب الشنطة بقدمي، فقد يَسمعُني شرطي المرور … ولكن الضربات كانت ضعيفة، لأن البطانية كانت تعوق حركتي … ومضت السيارة تطوي الطريق مسرعة … وبلغ بي التعب والإعياء حدًّا جعلني أنام … واستيقظت على ثلاثة مطبات شديدة متوالية اهتزت لها السيارة بعنف، وتوقفت بعد ذلك بأمتار، وسمعت باب الشنطة يفتح … وامتدَّت يدان حملتاني إلى الخارج … وأحسست بهواء الليل البارد برغم أننا في فصل الصيف … وكانت الريح تهبُّ بشدة إلى حدٍّ ما، واستطعت أن أشم رائحة البحر … فهل أنا في الإسكندرية … أو عند بحيرة قارون؟

وقالت «لوزة»: وماذا تبينت … الإسكندرية أم الفيوم؟ رد «مجدي»: سيكون هذا حديثنا غدًا … فإنني مُضطرٌّ الآن أن أدخل المنزل؛ فموعد عودة والدي قد حان.

قالت «لوزة»: إلى اللقاء غدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤