أذن الموسيقار

في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي تجمَّع «محب» و«لوزة» و«نوسة» و«عاطف» معًا، وجلسُوا في حديقة «عاطف» يَتحدَّثون. كانوا جميعًا يَشعُرون بتوتُّر شديد … وإثارة بالغة … فبعد ساعة تقريبًا سيَظهر «تختخ» في ثياب «البوسطجي» في طريقِه إلى فيلا «مجدي» فهل يحصل على الرد؟! هل يتمكَّن «مجدي» من كتابة الرسالة المطلوبة؟! إنَّ المغامَرة كلها متوقِّفة على هذا الرد.

وجلس الأصدقاء يتحدَّثون … ولكن آذانهم كلها كانت في انتظار جرس دراجة «تختخ» … ومرت الدقائق بطيئة كأنَّها ساعات … وأخيرًا سمعُوا الجرس المعتاد … وشاهَدوا ساعي البريد الذي أشار لهم بيده مُحيِّيًا، ثم انطلق في طريقه إلى فيلا «مجدي»، وشيَّعه الأصدقاء بنظراتهم حتى اختفى. انطلق «تختخ» مُسرعًا؛ فلم يبقَ سوى دقائق قليلة ويحصل على المعلومات المطلوبة … وسرعان ما اقترب من الفيلا ونظر إلى الحديقة … ولكن أحدًا لم يكن هناك سوى البستاني، ونظر «تختخ» في ساعته، كانت الساعة التاسِعة تمامًا … لماذا لم يظهر «مجدي»؟

قرَّر «تختخ» أن يَنتظِر بعض الوقت … وفضَّل أن يدور حول الفيلا بالدراجة بدلًا من أن يقف فيلفت الأنظار إليه … وبدأ يدور، وعندما وصَل إلى مُنتصَف الحديقة تقريبًا، سمع صوت «الهارمونيكا» يَرتفِع بنغمة جميلة، ثم اختفى الصوت! … إنَّ «مجدي» موجود فعلًا … ولكن أين هو؟ ولماذا لا يخرج إلى الحديقة ويُسلمه الرد؟! … دار «تختخ» حول الفيلا وتوقف … ومضت لحظات … وقرَّر أن يدور حول الحديقة مرةً ثانية … وعندما وصَل إلى مُنتصَف الدائرة تقريبًا سمع صوت «الهارمونيكا» مرة أخرى … النغمة نفسها … في المكان نفسه … لا بدَّ أن «مجدي» يقصد أن يُبلغه رسالة ما … لكن ما هي هذه الرسالة؟! وقرَّر أن يلفَّ مرة ثالثة حول الحديقة … وفعلًا مضى يدور حولها … وعندما وصل إلى المكان نفسه الذي سمع عنده الصوت مرتَين من قبل، ارتفع الصوت مرة ثالثة … وتوقف «تختخ» … لا بد أن «مجدي» يطلب منه التوقف في هذا المكان … وتوقف ونظر حوله … وصح ما توقعه … لقد كانت هناك لفافة بيضاء على السور … فالتقطها «تختخ» مُسرعًا، ومضى …

كان الأصدقاء الأربعة قد فقدوا الأمل في عودة «تختخ» بالرسالة … فقد تأخر كثيرًا، وتوقَّعوا أن يكون الحارس قد أمسكه، وكشف الحقيقة … فقرَّروا أن يركبوا دراجاتهم ويلحقوا به، ولكنهم قبل أن يخرجوا من الحديقة سمعوا صوت الجرس يأتي من بعيد، فتوقفوا بقلوب خافقة … وظهر «تختخ» وأشار لهم أن يتبعوه إلى منزله فأدركوا أن أخبارًا هامة في الطريق إليهم.

سبقهم «تختخ» إلى منزله، فأزال تنكُّره، وبعد دقائق نزل إلى الحديقة، فقالت «لوزة»: سبع أو ضبع؟

رد «تختخ» باسمًا: سبع طبعًا!

والتفوا حوله وهو يفضُّ الرسالة، وأخذ يقرؤها عليهم بصوت مرتفع، ويحاول أن يصحح ما بها من أخطاء في أثناء القراءة.

من «مجدي» إلى المغامرين الخمسة …

إنني معجب بكم جدًّا، وأريد مساعدتكم … وقد غيرت خطة تسليم الرد لكم، فقد خشيت أن يراكم الحارس وأنا أسلمها لكم، أو أقذفها من سور الحديقة بحسب اتفاقنا، فقرَّرت أن أنزل ليلًا لأضعها على السور المقابل لغرفة نومي ثم أختبر ذكاءكم في كشف مكانها … فإذا اكتشفتم المكان كنتم أذكياء حقًّا …

وتوقف «تختخ» عن القراءة قائلًا: إنه ولد في غاية الذكاء.

لوزة: ولكن كيف اكتشفتها أنت؟

تختخ: عندما ذهبت ولم أجده قررت أن أدور حول الحديقة … وعند مكان مُعيَّن منها سمعت صوت «الهارمونيكا». وعندما درت مرة ثانية سمعت الصوت عند المكان نفسه … فأدركت أن هناك رسالة لي … ودرت مرة ثالثة وعندما سمعت الصوت توقفت، ونظرت إلى السور فوجدت الرسالة!

نوسة: إنه ولد في غاية الذكاء فعلًا!

لوزة: المهم أن «تختخ» عرف مكان الرسالة … إنه في مُنتهى الذكاء أيضًا … ومضى «تختخ» يقرأ:

في آخر حديثي مع «لوزة» قلتُ لها إني شممتُ رائحة البحر … وتساءلت أفي الإسكندرية أنا أم عند بحيرة قارون في محافظة الفيوم؟ وكانت السيارة قد توقفت بعد أن مرت بثلاث مطبات متتالية. لم أكن أستطيع أن أعرف لولا أنني سمعت راديو رئيس العصابة بجواري، وسمعت المذيع يقول انتهت نشرة الساعة الحادية عشر، وإليكم مُلخَّصًا لأهم ما جاء بها … معنى هذا أن الوقت قد كان بين الحادية عشرة والربع والحادية عشرة والنصف تقريبًا … أي إن السيارة قطعت المسافة بين الجامعة في الجيزة عندما دقت الساعة العاشرة إلى المكان الذي توقفت فيه في ساعة وربع ساعة تقريبًا … فهل كان من الممكن أن تصل السيارة إلى الإسكندرية في مثل هذه المدة؟ غير مُمكن طبعًا؛ لأنها حتى لو سارت بسرعة ١٠٠ كيلو متر بدون توقف لقطعت المسافة في أكثر من ساعتين … معنى هذا أنني في ذلك الوقت كنت عند بحيرة قارون، لأن المسافة بين الجيزة وبحيرة قارون حوالي ١٣٠ كيلو متر … أليس ذلك صحيحًا.

توقف «تختخ» عن القراءة مرةً أخرى، وهز رأسه، وقال: إنه ولد عبقري … إنه يستحق أن نضمَّه إلى «المغامرين الخمسة» … لقد استطاع عن طريق أذنَيه فقط أن يعرف أين هو … أليس هذا عجيبًا؟!

رد «محب»: عجيب فعلًا! … ولكن لا تنسَ أنه موسيقار، والموسيقار يعتمد على أذنيه أكثر ممَّا يعتمد على أيِّ شيء آخر …

نوسة: لكن ليس كل موسيقار يَستطيع أن يستنتج هذا كله!

عاطف: فعلًا … لقد استعمل أذنيه وعقله ببراعة شديدة!

لوزة: أكمل قراءة الرسالة يا «تختخ» فإنني متشوِّقة لمعرفة ما حدث بعد ذلك!

ومضى «تختخ» يقرأ:

وقف الرجلان يتحدَّثان بجانب السيارة … وفهمت مما دار بينهما أنهما مُتضايقان، فقد كانا في انتظار رجال آخرين لم يَحضُروا … ويبدو أنهما وصلا قبل الموعد …

وبعد لحظات سمعتُ صوت أقدام حمير … توقفت عندنا، وسمعت مناقشة حادة بين زعيم العصابة وآخرين … كان غاضبًا لأنهم تأخَّروا … ثم حملني أحدهم وأركبني حمارًا، ومشينا … وسمعت صوت العربة وهي تستدير عائدة … وسارت الحمير … كانت ثلاثة، وكنت أركب واحدًا منها، بعد أن فكوا وثاقي … وسرنا مسافة طويلة … ثم توقفنا، وأنزلني رجل … وسمعت حوارًا سريعًا لم أسمع فيه صوت زعيم العصابة، فاستنتجتُ أنه عاد إلى القاهرة بالسيارة، وقادني الرجل إلى مكان شممت فيه رائحة دخان … فأدركت أنني في منزل ريفي، وأجلسوني على حصير على الأرض ثم سألني أحدهم، وهو يرفع الشريط اللاصق عن فمي: أجائع أنت؟ فقلت: نعم، فأحضروا لي خبزًا وجبنًا، وطماطم، فأكلت واستسلمتُ للنوم فورًا!

قال «محب»: العصابة جزءان إذن؟!

تختخ: ذلك واضح … فهناك مجموعة للاختِطاف ومجموعة للإخفاء!

عاطف: يا لها من عصابة!

لوزة: دعونا من المقاطعات الآن … نُريد أن نسمع!

ومضى «تختخ» يقرأ:

عندما استيقظت، وجلستُ في مكاني سمعتُ صوت ولد صغير يُحدِّثني ويقول لي إنه سيظلُّ معي طول الوقت، ومن الواضح أنَّ العصابة وضعتْه في خدمتي … وأحضر لي «الروبي» — وهذا هو اسمه كما عرفت فيما بعد — إفطاري … وجلسنا نتحدث … ولكن «الروبي» كان حذرًا … فلم يكن يتحدث كثيرًا … كان يستمع طوال الوقت … وأخذت أستمع إلى ما حولي من أصوات … كانت هناك أصوات غربان كثيرة قريبة … وفيما عدا ذلك لم تكن هناك أصوات قريبة … ولكن أبعد قليلًا كان هناك صوت ساقية تدور … وأبعد من هذا صوت صفارة مُتقطِّعة … أظن أنها صفارة ماكينة الطحين … هذه هي الأصوات التي ظللتُ أسمعها خلال الفترة التي قضيتها في المنزل الريفي، بالإضافة إلى رائحة قذرة جدًّا وكريهة شممتها فترة طويلة … كانت رائحة حمار ميت، كما عرفت من «الروبي». لم تكن هناك أصوات أخرى من الممكن أن أستمع إليها. ولم يبق من ملاحظاتي شيء يمكن أن تستفيدوا منه. فقد مرت الأيام متشابهة وثقيلة حتى عدتُ بالطريق نفسه. ركوب الحمير، ثم السيارة، ثم المطبات الثلاثة مرةً أخرى. ثم وصلت إلى القاهرة ليلًا حيث رفعت العصابة الرباط من على عيني، وعدت إلى المنزل وحدي.

بقيت كلمة أخيرة: لقد أصبح «الروبي» صديقي، وقضَينا الوقت وأنا أعلمه عزف «الهارمونيكا» التي ظلَّت معي طول الوقت.

والواقع أن هذا الولد الريفي كان شديد الذكاء والحساسية، فتعلَّم العزف في أيام قلائل … ربما كان أفضل من «لوزة» لو حاولت التعلُّم … وقد أهديته «الهارمونيكا» قبل أن أعود.

أرجو أن تكونوا حذرين … ولكم تحياتي.

انتهت الرسالة، وأخذ الأصدقاء يتبادلون النظرات، ثم قالت «نوسة»: إنها معلومات كثيرة حقًّا … ولكن من الصعب تحديد المكان، فأين وقفت السيارة؟ وأين هذا المنزل الريفي؟ وفي الريف عشرات السواقي وعشرات الطواحين الآلية …

قال «تختخ»: ألم تلاحظوا أن في الرسالة استنتاجات أخرى لم يعرفها الولد الذكي «مجدي»؟

رد «عاطف»: إن كل ما سمعَه بأذنَيه أو شمه بأنفه قد أسس عليه استنتاجًا قويًّا … وليس هناك شيء آخر.

تختخ: على العكس … هناك ثلاثة أشياء هامة في هذه الرسالة لم يلتفت إليها «مجدي»، ولكنها تهمنا جدًّا.

صاح الأصدقاء في نفس واحد: ما هي؟

تختخ: أولًا: المطبات … إن وجود هذه المطبات يُحدِّد لنا بالتقريب المكان الذي وقفت قربه السيارة … ثانيًا: الغربان … إنَّ الغربان لا تقف على الأرض كثيرًا … فهي عادة تقف على شجرة عالية … فهناك شجرة بجوار هذا المنزل … ثالثًا: … الحمار.

صاحت «لوزة»: أي حمار؟

تختخ: الحمار الميت … إن هذا الحمار قد تحول الآن — بعد مرور ثلاثة أسابيع — إلى هيكل عظمي بعد أن أكلت لحمه الطيور والكلاب الضالة … وهو دليل هام قرب المنزل الريفي.

محب: ما زال المغامرون الخمسة أكثر ذكاء.

نوسة: وماذا نفعل؟

تختخ: نبدأ غدًا رحلة إلى الفيوم للبحث عن المنزل الريفي!

عاطف: نحن جميعًا؟

تختخ: «محب» و«عاطف» وأنا فقط!

لوزة: إنني أحتج بشدة!

تختخ: سنحتاج إلى وجودك أنت و«نوسة» هنا … فسنذهب للاستكشاف فقط، وعندما نجد المنزل الريفي نتصل بكما لإبلاغ المفتش «سامي».

محب: وماذا نأخذ معنا؟

تختخ: سوف نشحن الدراجات حتى أقرب مكان من بحيرة قارون، ثم نركبها؛ لأننا سنتجوَّل كثيرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤