مصدر الصوت

في الصباح الباكر حملت سيارة الأتوبيس الأصدقاء الثلاثة ودراجاتهم إلى الفيوم …

قال «محب»: لقد قُمنا بهذه الرحلة قبلًا … ولكن في الشتاء!

عاطف: نعم … كان ذلك عندما ذهبنا وراء المهرب الدولي … الذي نسيت اسمه … وإن كان اسمه كاسم نوع مشهور من السجائر.

تختخ: كان اسمه «جون كنت» … ونحن لم نذهب خلفه، لقد أوقعتْه المصادفة في أيدينا!

عاطف: لقد نسينا أن نأتيَ بالمصادفة معنا … حتى تقع العصابة في أيدينا هذه المرة أيضًا.

ابتسم «تختخ» وقال: يجب ألا نَعتمِد على المصادفة … إن العمل الشاق وحده هو الذي يَخلق الحظ الحسن!

عاطف: هل تتفلسَف على الريق؟

تختخ: لا مانع من الفلسفة بين وقت وآخر!

ومضى الأتوبيس يشق طريقه مسرعًا حتى وصل إلى شارع الهرم، ثم تجاوزه إلى طريق الفيوم الصحراوي، حيث وقف في بداية الطريق، وقال «محب» هامسًا: هذه هي نقطة التفتيش التي وقف عندها «مجدي»، وهو مُلقًى في السيارة … وهذا يؤكِّد أن استنتاجه صحيح …

تختخ: إنه ولدٌ شديد الذكاء … ولو تركته أسرته يدلي بالمعلومات إلى الشرطة لاستطاع رجال الشرطة الوصول إلى العصابة.

عاطف: ولخسرنا نحن اللغز!

تختخ: إننا لا نبحث عن الألغاز لننافس رجال الشرطة … فهدفنا واضح هو مساعدة العدالة فقط … إننا أصدقاء رجال الشرطة، وهناك عدد كبير من الأولاد والبنات يعملون في مساعدة الشرطة.

مضت ساعة والأتوبيس يمضي مسرعًا، وارتفعت الشمس، وارتفعت معها درجة الحرارة، ثم انتهى الطريق الصحراوي، وأخذ الأتوبيس يشق طريقه بين المزارع، وبعد دقائق وصل إلى الطريق الموازي للبحيرة فهمس «عاطف» علينا الآن أن نكون يقظين … فقد نقع في المطب الذي نبحث عنه.

ابتسم «محب» و«تختخ» للنكتة؛ لأن «عاطف» لم ينسَ خفَّة دمه وهم في قلب المغامرة. وتذكر «محب» أنهم لم يتَّفقوا على مكان للمبيت فيه، ولما قال ذلك ﻟ «تختخ» قال «تختخ»: نسيت صديقنا «عواد» الذي استضافنا في أثناء مغامرة المهرب الدولي؟! نستطيع أن نذهب إليه … وعلى كل حال أرجو ألا تَطُول المغامرة كثيرًا.

ومضت فترة أخرى … ثم هدأت سيارة الأتوبيس من سرعتها، ثم اهتزت بشدة عند ثلاثة مطبات متتالية، فهبَّ «تختخ» واقفًا، وذهب إلى السائق الذي كان يستعدُّ للإسراع بالسيارة مرةً أخرى، وقال له: أرجو أن تسمح لنا بالنزول هنا!

السائق: لكن ليس هنا محطة … ولا قرى قريبة!

تختخ: إن معنا دراجات سنركبها إلى المكان الذي نقصده. كان السائق كريمًا، فأوقف السيارة، وبسرعة أنزل الأصدقاء دراجاتهم إلى الأرض … وبعد لحظات كانت السيارة تبتعد والأصدقاء الثلاثة يقفون في الخلاء وحدهم. وقال «محب»: أعتقد أننا تسرَّعنا بالنزول … فقد لا تكون هذه المطبات دليلًا أكيدًا على أننا قريبون من المكان … ولعلَّ هناك مطبات أخرى …!

ضحك «عاطف» قائلًا على كل حال نرجو أن تكون هذه هي المطبات المطلوبة!

تختخ: نحن في مُنتصَف المسافة تقريبًا بين بداية طريق البحيرة ونهايته … فنحن في أحسن موقع يُمكن أن نبدأ منه بحثنا.

محب: ومن أين نبدأ؟

تختخ: كما نذكر … إذا كنا في المكان الصحيح. فهنا طريق قريب تسير فيه الدواب!

محب: ولكن الدواب تسير في أي طريق!

تختخ: فعلًا، أقصد أن يكون طريقًا لا تَسير فيه السيارة، ولكن تسير فيه الدواب … فلا بد أن تكون هناك مسالك واضحة تسلكها الدواب!

عاطف: دعكما من هذه المناقشة واستمعا معي!

ووقف الثلاثة يستمعون في الصمت المخيم على الريف الجميل … لم يكن هناك سوى صوت البحيرة … لكن من بعيد … كان هناك صوت صفارة مُتقطِّع يدوي في الفضاء … إنه صوت مكنة الطحين!

قال محب: مكنة الطحين؟!

عاطف: مكنة الطحين … أهم علامة تُرشدنا إلى المكان!

تختخ: لنحاول تحديد الاتجاه … ركزوا انتباهكم جيدًا! ووقف الثلاثة ينصتون في استغراق عميق، ثم رفع «محب» يده في صمت، وأشار إلى اتجاه الشرق … وهزَّ «تختخ» و«عاطف» رأسَيهما موافقين، ثم انطلق الثلاثة بدراجاتهم.

كان ثمَّة طريق غير ممهَّد يمتد داخل الأرض المزروعة … فسارُوا فيه بدون أن يتمكَّنوا من زيادة سرعتهم … ولم تكن الشمس قد اشتدَّت حرارتها بعد … ورائحة الأزهار والمزروعات تملأ الجو … ونسي الأصدقاء الثلاثة أنهم في مغامرة … وأخذوا يتنفسون عميقًا، وهم يقودون دراجاتهم في اتجاه الصوت. وكانوا بين فترة وأخرى يقفون ليتأكَّدوا أنهم في الاتجاه الصحيح …

وعلى امتداد البصر … امتدت المزروعات، والفلاحون يعملون في نشاط … والأبقار تخور بين لحظة وأخرى … والعصافير تنطلق من شجرة إلى شجرة … تزقزق في ابتهاج.

وفجأة برزت في طريقهم فتاة صغيرة تقود حمارًا … كانت تجتاز الطريق بين حقل وآخر، وكانت فرصة للأصدقاء ليتحدثوا إليها، فأسرعوا … وعلى صوت أجراس الدراجات التفتَت الفتاة لتراهم، فأشار لها «محب»، فتوقفت، وعندما وصلوا إليها قال لها «محب»: إننا من القاهرة ونبحث عن مكان هنا!

قالت الفتاة: ما هذا المكان؟

أحسَّ «محب» أنه أخطأ، فهم لا يَعرفون أين هم ذاهبون، فأسرع «عاطف» ينقذه بخفة دمه قائلًا: وهل هنا أكثر من مكان؟

أبدت الفلاحة الصغيرة دهشتها وقالت: هنا مركز «طامية»، ولكنكم بعيدون عن المركز كثيرًا!

عاطف: شكرًا … ما هذا الذي تحملين؟

قالت الفتاة بخجل وهي تمد يدها: إنها جوافة … تفضلوا! وهي مغسولة أيضًا!

ورفضت أن تَتقاضى منهم أيَّ ثمن، ثم ابتعدت وهي تبتسم، في حين انهمك الثلاثة في أكل الجوافة الطازجة الشهية، وهم يُعاودون الانطلاق بدراجاتهم إلى مصدر الصوت.

كان الصوت يزداد وضوحًا كلما أوغلوا في سيرهم … حتى إذا أصبحوا قريبًا جدًّا منه أحسوا بالتعب، وقال «تختخ»: تعالوا لنرتاح قليلًا في ظل هذه الشجرة، ونتَّفق على ما نفعله الآن!

وجلسوا تحت شجرة كبيرة يرتاحون، وأشار «محب» إلى مجموعة من الأشجار تقف بعيدة عنهم وكأنها سور كبير، ثم قال: هل تُلاحظان هذه المجموعة من الأشجار … إنها تكون سورًا طبيعيًّا … ولو شئت أن أخفي إنسانًا أو شيئًا لأخفيته خلف هذه الأشجار.

قال «تختخ» فجأة: الأشجار العالية … الغربان … هل تذكُران أن «مجدي» تحدث عن غربان تنعق في المكان الذي كان به.

عاطف: فعلًا … إننا قريبون جدًّا من المكان … فما هي الخطوة التالية؟ هل نعود لنخطر رجال الشرطة؟

لم يُجب أحد. واستغرق الثلاثة في التفكير … ومضت لحظات والطبيعة حولهم هادئة إلا من صوت مكنة المطحن … ثم قال «تختخ»: ما زال علينا أن نتأكد، فنحن لم نرَ شيئًا رأي العين … وينقص من الأدلة حتى الآن … الساقية … فنحن لا نسمع صوتها … والهيكل العظمي للحمار …

عاطف: سنجد الساقية … ولكن الحمار … لعلَّهم ألقوه بعيدًا!

تختخ: هذا ممكن على كل حال … إنني أفكر ألا نتقدم بالدراجات أكثر من هذا، حتى لا نلفت إلينا أنظار رجال العصابة، فلا بد أن لهم مُراقبين يراقبون الغرباء أمثالنا.

ثم أشار بيده إلى أكوام من القش كانت قريبة منهم، وقال: سنخفي الدراجات تحت هذه الأكوام، ثم نسير على الأقدام بين المزروعات حتى لا يرانا أحد، ونقترب من سور الأشجار ونراقب.

وقاموا مسرعين، فأخفوا الدراجات الثلاثة تحت أكوام القش الكثير، ثم خرجوا من الطريق العادي، ونزلوا بين الزراعات يسيرون … وأخذوا يقتربون شيئًا فشيئًا من صف الأشجار … وارتفعت أصوات الغربان فوق رءوسهم، وأحسوا أنهم قريبون جدًّا من مقر العصابة حيث اختفى «مجدي» من قبل، ويختفي «عصام» الآن.

وعندما زاد اقترابهم من الأشجار أشار لهم «تختخ» أن يخفضوا رءوسهم أكثر … وبعد لحظات كانوا قد وصلوا إلى صف الأشجار الكبيرة، فاختفوا خلف واحدة منها، وأطلقوا أبصارهم … وعلى بُعد نحو مائة متر … كان ثمَّة منزل ريفي من الطين يقف وحيدًا في الخلاء، تحت شجرة توت معمرة، قد تدلَّت أغصانها عليه كأنها تَحتضنه، وفي الظل أمام الباب كان يجلس فلاح طويل القامة، قد علَّق في كتفه بندقية، وأمامه نار مشتعلة، عليها إبريق الشاي التقليدي الأزرق … وعلى بعد ١٠٠ متر أخرى كانت الساقية التي يبحثون عنها … واقفة لا تدور … وعلى مسافة أخرى كان يبدو ما يشبه الهيكل العظمي للحمار!

نظر الأصدقاء الثلاثة أحدهم إلى الآخر … وقد ارتسمت على وجوههم علامات الجد والخطورة … لقد عثروا على مخبأ العصابة بمجهودهم الشخصي، وبواسطة أذن الموسيقار الصغير «مجدي»! وكانت تدور بأذهانهم فكرة واحدة: ما هي الخطوة التالية؟ أشار «تختخ» فاقتربت رءوسهم حتى يمكنهم الحديث همسًا وقال: ما رأيكما؟

رد «محب»: إنَّ معه بندقية!

وقال «عاطف»: وقد يكون معه أشخاص آخرون!

وتوقفوا عن الكلام، وعادوا ينظرون مرة أخرى ناحية المنزل الصغير، ثم قال «تختخ»: الحل الوحيد أن ننتظر حتى يهبط الظلام!

عاطف: هل تقصد أنك ستُحاول إنقاذ «عصام»؟

تختخ: وهل يمكن أن تكون أمامنا مغامرة مثل هذه ونتراجع؟ إن أقرب مركز لنا كما قالت الفتاة الريفية على مسافة بعيدة، ثم إننا لا نَضمن أن يصدقونا … وإذا عدنا إلى القاهرة وأبلغنا مكتب المفتش «سامي» فقد يكون الوقت قد فات لإنقاذ «عصام»!

عاطف: وهل نظلُّ في أماكننا حتى يهبط الظلام؟

نظر «تختخ» إلى ساعته ثم قال: لقد كاد النهار أن ينتصف، وأنا جائع، فتعالوا نتناول بعض الساندوتشات التي معنا، ونفكر في نفس الوقت فيما نفعل.

وقبل أن يتركوا أماكنهم سمعوا صوت «الهارمونيكا» يَرتفع في الفضاء … فمن هو العازف؟ هل هي «لوزة»؟ لماذا حضرت؟ … وكيف؟ هل هو «مجدي»؟! ولكن هذا غير معقول!

لم يكن العازف «لوزة»، أو «مجدي»، وإنما كان «الروبي» الصبي الريفي الصغير الذي علَّمه «مجدي» العزف، وأهداه آلة «الهارمونيكا»! وكان الصبي الصغير يسير مسرعًا بين الحشائش متجهًا إلى المنزل الريفي على مبعدة عشرة أمتار منهم فقط … أفيُمكنهم الحديث إليه؟ أم أنه قد ينقل خبر وجودهم إلى العصابة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤