منتهى الخطر

همس «تختخ»: اختفيا أنتما وسأُحاول أنا الحديث إليه واستمالته. اختبأ «محب» و«عاطف» تحت أغصان الشجر المتشابِكة، وتقدم «تختخ» من الولد الصغير في بساطة. لكن الولد فوجئ به، فتوقَّف عن العزف … لم يتردَّد «تختخ» وقال: صباح الخير … هل أنت «الروبي»؟

دهش الفلاح الصغير عندما سمع اسمه، وقال مسرعًا: صباح النور … نعم أنا «الروبي» هل هناك خدمة أؤدِّيها لك؟

تختخ: إنني صديق «مجدي» … لقد أرسلني لك!

الروبي: «مجدي»! … هل تعرفه؟

تختخ: إنه صديق ويَسكن قريبًا مني … وقد أعطاني أمارة لك!

الروبي: ما هي الأمارة؟

تختخ: هذه الآلة التي تعزف عليها … «الهارمونيكا»! أمسك «الروبي» بالهارمونيكا في إعزاز وقال: لقد كانت أجمل هدية … تلقيتُها في حياتي … وأنا الآن أعزف عليها بعض الألحان والأغاني.

تختخ: عظيم!

الروبي: وهل هناك خدمة يَطلبها «مجدي»؟

تختخ: إنه يطلب منك أن تُساعدني!

الروبي: أساعدك بعيوني … ما دمت صديق «مجدي» فأنت صديقي … لكن ما هي الخدمة المطلوبة؟

تختخ: سأسألُك بضعة أسئلة فقط؟

الروبي: بخصوص ماذا؟

تختخ: بخصوص «عصام».

احمرَّ وجه «الروبي» وتلفَّت حوله في خوف وقال: وهل تعرف «عصام» أيضًا؟

تختخ: لا، ولكنه يَسكن المنطقة التي أسكن بها أنا و«مجدي»، ويُهمُّنا جدًّا أن نطمئن عليه!

الروبي: تستطيع أن تطمئن … لكن!

تختخ: لكن ماذا؟

الروبي: لا شيء!

تختخ: أرجو أن تُخبرني؛ فالمسألة في غاية الأهمية!

الروبي: لا أستطيع أرجوك … إنني ولدٌ يتيم ولا أهل لي … وهؤلاء الناس الذين أعمل معهم يُطعمونني!

تختخ: ولكنهم يعملون ضد القانون، وسوف يقعون في يد رجال الشرطة الآن، أو في المستقبل … وإذا قبض عليك فسوف تُعاقب!

أشار «الروبي» بيده في يأس قائلًا: أرجوك. لا أستطيع!

تختخ: لا تخفِ شيئًا … إنني أضمن لك الحماية … أكثر من هذا سوف آخذك معي إلى القاهرة لتعيش مع «مجدي»، وسوف يعلمك الموسيقى أكثر، وتُصبِح موسيقيًّا كبيرًا؛ فقد قال لي إنك موهوب.

صمت «الروبي» لحظات، فلم يتركْه «تختخ» يُفكِّر بل قال: إنها فرصتك لتتخلص من هؤلاء الأشرار وتعيش شريفًا … وعندما يعلم رجال الشرطة أنك ساعدتَنا يعطونك مكافأة!

الروبي: ومن أنتم؟

تختخ: إننا مجموعة من الأولاد في مثل سنِّك نساعد الشرطة!

الروبي: ولكن …!

تختخ: لا تخشَ شيئًا … لقد وعدتك!

الروبي: وماذا تُريدني أن أفعل؟

تختخ: قل لي أولًا … كيف حال «عصام»؟

الروبي: إنه على ما يرام … ولكنَّهم أعادوا ربطه بالحبال اليوم!

تختخ: لماذا؟

الروبي: لأنهم يَنوُون نقله من هنا … فقد عرف الرجال أن والد عصام قد أبلغ الشرطة، وهم يخافون أن تتبعهم الشرطة إلى هنا!

تختخ: وإلى أين ينقلونه؟ ومتى؟

الروبي: في الليل … عند منتصف الليل، وأظن أنهم سينقلونه عبر البحيرة إلى مكان مجهول في الصحراء لا أعرفه.

تختخ: وكم عدد الحراس هنا؟

الروبي: واحد فقط اسمه «فهيم»، ولكن معه بندقية. وهو يجيد التصويب!

تختخ: وهل يظل «فهيم» في الحراسة حتى الليل؟

الروبي: نعم … فقد ذهب بقية الرجال في عملية أخرى في بني سويف ولن يعودوا منها إلا ليلًا!

تختخ: إنها فرصتنا!

الروبي: وماذا تريدني أن أفعل؟

أخرج «تختخ» من جيبه مطواته اللامعة، ثم مدَّ يده بها إلى «الروبي» قائلًا: خذ هذه المطواة، وانتهز فرصة لا يراك فيها «فهيم»، ثم اقطع الحبال التي تربط «عصام»!

الروبي: ولكن قد يدخل «فهيم» المنزل ليرى «عصام»!

تختخ: لا تفعل هذا إلا بعد غروب الشمس … ثم أبلغ «عصام» أن يكون مستعدًّا للهرب.

الروبي: وكيف يهرب؟

تختخ: عندما يهبط المساء … وتُظلم الدنيا، عليك بقطع الحبال، ثم اعزف لنا أغنية «يا حبيبتي يا مصر» هل تعرفها؟

الروبي: نعم …

تختخ: وسأذهب أنا وأصدقائي إلى مكان قريب ونَختبئ … فإذا سمعنا الأغنية، فسنشعل النار في بعض الأعشاب، وعليك أن تَلفِت نظر «فهيم» إليها … وعندما يذهب للاستطلاع اجريا أنت و«عصام» إلى هنا وسنكون في انتظاركما!

الروبي: أخشى …!

تختخ: لا تخشَ شيئًا سيمر كل شيء على ما يرام … وسنأخذك معنا إلى القاهرة كما وعدتك، وستعيش هناك معي أو مع «مجدي» … إنني على استعداد لاستضافتك عندنا.

الروبي: اتفقنا!

ومد الفلاح الصغير يده، فشدَّ عليها «تختخ»، وأحس أنه يصافح رجلًا. سار «الروبي» مبتعدًا في اتجاه المنزل الريفي، في حين عاد «تختخ» إلى «محب» و«عاطف» اللذَين كانا ينتظران على أحر من الجمر … فروى لهما «تختخ» ما جرى بينه وبين «الروبي» من حديث.

قال محب: ولكن كيف ننتظر حتى الليل؟

تختخ: ليس أمامنا حل آخر … وقد تعبنا جميعًا من ركوب الدراجات والمشي، وفي إمكاننا أن نُغمض أعيننا قليلًا!

عاطف: ننام!

تختخ: نعم، ستَنام أنت و«محب» أولًا وسأتولى أنا الحراسة، ثم نتبادل الحراسة … هيا!

وتمدد «محب» و«عاطف» تحت ظلال الأشجار، في حين جلس «تختخ»، وقد ركز بصره على المنزل الريفي … وأخذ خياله يسرح فيما يحدث فيه الآن بعد أن دخله «الروبي». وهو يستعجل غروب الشمس … ويفكر فيما يحدث بعد أن يتمكن «عصام» و«الروبي» من الهرب من المنزل! نسي «تختخ» كل ما حوله … ولم يَلتفِت إلى الخطر الذي كان يتهددهم في هذه اللحظات … فمن بين جذور الأشجار الضخمة أطلَّ ثعبان كبير، وأبرز لسانه المتشعب إلى الأمام، ثم انساب ببطء خارجًا من جحره … أخذ الثعبان يتلوى متقدمًا من الأصدقاء … كان «محب» قد استغرق في سبات عميق … وكان «عاطف» بين اليقظة والمنام، أما «تختخ» فقد ركَّز انتباهه كله على المنزل، وكان يرقب «فهيم» الذي جلس أمام المنزل لا يَشتبه في شيء … وقد أخذ يُنظِّف بندقيتَه … ويَملؤها بالرصاص متمهلًا … ثم يُصوِّب إلى شيء مجهول وكأنه يتمرن على إصابة الأهداف … الثعبان يمضي بين الأعشاب متقدمًا في الظل بدون أن يدري الأصدقاء الثلاثة أنه متجه إليهم رأسًا … وكانت صفارة المطحن تأتي من بعيد ولا أصوات أخرى … فقد سكنَت الريح تمامًا … كأنما استسلمت هي أيضًا لغفوة الظهيرة.

فجأةً أحسَّ «تختخ» بشيء ما يتحرَّك … صوت ضعيف خافت على بُعد أمتار قليلة منه … ظنه فأرًا من فئران الغيط فلم يَلتفِت … ولكن الصوت استمرَّ يتقدَّم … أدار «تختخ» رأسه ونظر … لم يصدق عينَيه أولًا … أغمضهما ثم فتحهما … وتأكَّد تمامًا أن ثعبانًا ضخمًا … شرسًا يتقدم من «محب» و«عاطف»، وأحسَّ أن تيارًا كهربائيًّا قد مسه. فهو عاجز عن الحركة! … وتذكر ما يقال من أن الثعابين تستطيع أن تنوِّم فريستها بالنظر … فهل هذا صحيح؟ إنه لا يستطيع الحركة فعلًا … ولكن ما هذه الأوهام؟ … إنَّ عليه أن يتصرف بسرعة … لكن ماذا يفعل؟!

التفت حوله، ولحسنِ الحظِّ وجد قريبًا من يده عصًا من جريد النخل قد ملأتها الأشواك … لكنه لم يهتمَّ … أمسك بها … كان يُريد ألا يحدث حركة حتى لا يَسمعه أحد … وكان يريد ألا يوقظ «محب» و«عاطف» فجأة، فقد يَنزعجان ويتحرَّكان حركة خاطئة تضعهما بين أنياب الثعبان … وهكذا استدار ببطء … وكان الثعبان قد دار حول جذع كبير، وأصبح في مواجَهة «تختخ» تقريبًا … فرفع هذا عصا الجريد فوق رأس الثعبان، ثم أهوى بها بضربة واحدة على رأس الثعبان … وأحسَّ بألم رهيب يَسري في كفه، فقد انغرست الأشواك فيها، ولكنه تمالك نفسه فلم يتأوَّه … وأصابت الضربة الثعبان إصابة مباشرة … فاستلقى يتلوَّى على الأرض … وقبل أن يتحرَّك حركة أخرى أهوى عليه بضربة ثانية أسكتَت حركته.

لم يستيقظ «محب» ولا «عاطف» برغم الضربتَين … وكان ما يهم «تختخ» أولًا هو ألا يكون «فهيم» قد سمع صوت الضربتَين، فالتفت إلى حيث يجلس، فوجده ما زال مُنهمكًا في تحريك بندقيته وتصويبها.

قذف بالعصا من يدِه، وأحسَّ بآلام فظيعة من أثر الأشواك، ولكنه أحس بالرضا لأنه تصرف بشجاعة وحكمة … وأخرج منديله وربط يده، ثم استلقى في مكانه، وقد أحس بالتعب العنيف … وقبل أن يستسلم لغفوة قصيرة نظر إلى ساعته، وكانت قد أشرفت على الثانية بعد الظهر … وما زال أمامهم وقت طويل … فعسى ألا يمرَّ أحدٌ بهذا المكان … ولكن من المؤكد أن أحدًا لن يمر … ولا بد أن العصابة تُدرك هذه الحقيقة، لتختار هذا المكان مخبأً لها … بالإضافة إلى أنهم مختفون تقريبًا تحت أغصان الشجر المتدلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤