هروب في الظلام

عندما استيقظ «تختخ» كانت الشمس تَميل للغروب … وكان «محب» و«عاطف» قد استيقظا منذ فترة … وتركاه نائمًا وقد أدهشهما أن رأيا يدَه مربوطة بالمنديل … فلما استيقظ سألاه عنها فقال: لو نظرتما حولكما لعرفتما السبب. وتلفت الصديقان إلى حيث أشار «تختخ»، شاهدا جثة الثعبان الهامدة … وروى لهما «تختخ» بسرعة ما جرى فنظر كلٌّ منهما إلى الآخر وكأنه لا يصدق أنه نجا.

نظر «تختخ» إلى حيث يجلس «فهيم» فلم يجده، وقال «محب»: لقد قام منذ قليل وسار مبتعدًا.

تختخ: إنها فرصة «الروبي» في أن يقطع قيود «عصام» … لعله ينتهزها.

عاطف: ربما كان «فهيم» لم يذهب بعيدًا!

وفعلًا عاد «فهيم» بعد قليل، وهو يحمل بيده بعض عناقيد العنب التي اقتطفها من غيط قريب، وتذكر الأصدقاء أنهم لم يتغدَّوا بعد، فقام «عاطف» وسار محاذرًا إلى حيث تقف صفوف من تكعيبات العنب الذي اشتُهرت الفيوم بزراعته، ومد يده في هدوء، وأخذ يقطف بعض العناقيد … وعندما عاد اشترك الثلاثة في التهام العنب الطازج الحلو وأحسوا بالشبع.

غربت الشمس تمامًا وبدأ الظلام يغلف المكان … وشاهد الأصدقاء نارًا تشتعل أمام المنزل الريفي، وعلى ضوء لهيبها المتراقِص كان في إمكانهم مشاهدة شبح «فهيم»، وهو يعد الشاي لنفسه، ثم خرج «الروبي» من المنزل وسمعوه يَعزف … وأرهفوا الآذان … كانت أنشودة «يا حبيبتي يا مصر».

قال «تختخ»: لقد قطع «الروبي» قيود «عصام»، وعلينا أن نتحرَّك فورًا!

محب: الخطوة القادمة أن نُشعل النار في بعض الأعشاب.

تختخ: تمامًا!

وأسرع الثلاثة إلى مكان تكاثفَت فيه الأعشاب، ثم أخرج «تختخ» علبة ثقاب وأشعل عودًا … وثانيًا … وثالثًا … حتى بدأت النار تَسري في الأعشاب الجافة … وبدأ لهيب النار يرتفع.

وأسرع الأصدقاء يَقتربون من المنزل الريفي، وسمعوا «الروبي» و«فهيم» يتبادلان الحديث، ثم وقف «فهيم» وسحب بندقيته وأسرع إلى مكان النار.

همس «تختخ»: هيا بسرعة إلى المنزل!

وأسرع الثلاثة جريًا إلى المنزل … كان «الروبي» يقف أمام الباب ويبدو في أشد حالات الحيرة والاضطراب فقال «تختخ»: أين «عصام»؟

هز «الروبي» رأسه في يأس قائلًا: إنه في الداخل!

تختخ: ولماذا لم يخرج؟

الروبي: إنه مُتعَب جدًّا من أثر القيود، ولا يستطيع حتى أن يقف، إنه في غاية الضعف والهزال!

أحس «تختخ» كأنه وقع في بئر عميقة … فهذا الموقف لم يكن في حسبانه … والدقائق تمضي سريعة، وسوف يعود «فهيم» بعد لحظات، وفي إمكانه بالبندقية أن يسيطر على الموقف.

لم يتردد «تختخ» سوى لحظات، ثم قال للروبي: تعال معي … تعال ندخل … ثم التفت إلى «محب» و«عاطف» وقال: راقبا عودة «فهيم»!

أسرع الاثنان إلى الداخل … كان المنزل الريفي مظلمًا لا تضيئُه سوى لمبة بالفتيل «ساروخ» مما يستخدمه الفلاحون. وعلى ضوئها شاهد «تختخ» «عصام» وهو مُلقًى على الأرض لا يستطيع حراكًا … فصاح فيه: قُم بسرعة … إنها الفرصة الوحيدة لإنقاذك!

قال «عصام»: إنني مريض … ومتعب ولا أستطيع الوقوف!

تقدم «تختخ» منه، ثم انحنى وحمله بين ذراعيه، ووضعه على كتفه، وأسرع خارجًا و«الروبي» خلفه، وكان «محب» و«عاطف» يقفان بعيدًا عن النار حتى لا يراهما «فهيم» إذا عاد. فقال «تختخ»: هيا بنا!

محب: إلى أين؟ إنك لن تستطيع الجري به!

تختخ: هيا وبعدها نفكر فيما نفعل!

أسرع الأربعة يسيرون في الظلام مُبتعِدين عن المنزل. ولم يكادوا يبتعدون سوى أمتار قليلة حتى سمعوا «فهيم» وهو يَصيح: «روبي» أين أنت؟ … ثم سمعوا صوت أقدامه وهو يدخل المنزل ثم يخرج … وسمعوه يجري في اتجاههم وهو يُضيء بطارية كهربائية في يده.

تأكد «تختخ» أنه سيعثر عليهم سريعًا … فأسرع إلى أقرب غيط للعنب … حيث كانت الأشجار تلتف بكثافة … ثم أنزل حملَه، ووقفوا جميعًا في صمت … وكان ضوء البطارية يبدد الظلام في خطوط رفيعة قاطعة … وأدرك «تختخ» أنهم سيقعون بين لحظة وأخرى … وهكذا قرَّر أن يُهاجم …

همس في أذن الأصدقاء: سنقوم بالهجوم … سيأتي معي «محب» وسنَصعَد فوق تكعيبة عنب … وعليكم بالانتظار وسوف نقفز عليه، فإذا وجدتُم المعركة ستَنقلِب في غير صالحنا فتدخلوا!

انتهى «تختخ» من جملته ثم أسرع كالفهد هو و«محب» وقفزا فوق تكعيبة عنب … وربضا في انتظار «فهيم» الذي كان يدور حولهم ومصباحه في يده وهو يردد بين لحظة وأخرى: «روبي … روبي» … أين أنت؟

أخذ «فهيم» يقترب حتى أصبح تحت «تختخ» و«محب» تمامًا … وفجأةً صاح «تختخ» صيحة مرعبة وألقى بنفسه على «فهيم» وتبعه «محب» … كانت مفاجأة كاملة ﻟ «فهيم» الذي سقط على الأرض وفوقه «تختخ»، وأسرع «محب» يَجذِب البندقية … وأخذ «تختخ» و«فهيم» يتأرجحان على الأرض، وكلٌّ منهما يريد أن يتمكَّن من صاحبه … واقترب «عاطف» … و«الروبي» و«عصام»، واستطاع «عاطف» أن يعثر على البطارية ويضيئها … وألقى بضوئها على المتصارعين … ولم يتردَّد «محب» فقد اقترب منهما، وانتهز فرصة ظهور رأس «فهيم» ناحيته وأهوى عليها بضربة قوية من البندقية … وتخاذلت يدا «فهيم» ثم سقط على الأرض!

قال «تختخ»: ضربة موفَّقة … سيظل نائمًا بضع ساعات قبل أن يستيقظ … هيا بنا سريعًا، فنحن لا نعلم متى تعود العصابة!

ومدَّ «تختخ» يديه ليحمل «عصام» ولكن «عصام» قال: أحاول المشي، فأنا الآن أحسن حالًا!

وبدأ الخمسة يمشون … كان الظلام شاملًا، فلم يكن هناك قمر على الإطلاق، وكانت وجهتهم إلى حيث أخفوا الدراجات … وبعد فترة وصلوا إلى مكانها … وأسرع الأصدقاء الثلاثة يخرجون الدراجات … وأعدَّ كلٌّ منهم «الدينمو» لإضاءة الكشافات … ثم أركب «تختخ» «عصام» أمامه … وأركب «محب» «الروبي» أمامه، ثم انطلقوا بأقصى سرعة … كان الضوء كافيًا لإنارة الطريق أمامهم … وكانت إشارات «الروبي» لها أعظم الفائدة في تجنُّب المزالق والمطبات … وسرعان ما وصلوا إلى الشارع الرئيسي المرصوف حيث كانت المطبات الثلاثة.

وقفوا يَرتاحون قليلًا، وقال «محب»: ما هي الخطوة التالية يا «تختخ»؟

قال «تختخ»: سنحاول الوصول سريعًا إلى بداية الطريق الصحراوي … ثم نستوقف عربة ونرجو من فيها أخذنا معهم إلى القاهرة … إنَّ سيارات الفاكهة لا تتوقَّف عن السير في موسم العنب.

سار الأصدقاء فترة وقد أحسُّوا بالتعب … وبالانتعاش أيضًا؛ لأن مغامرتهم قد انتهت بهذا النجاح غير المتوقَّع … كانوا يسيرون بجوار كورنيش البحيرة بسرعة معتدلة … وفجأة وقع ما لم يكن في الحسبان … فقد ظهر ضوء سيارة قادمة مسرعة، وسقط الضوء عليهم فأغشى أبصارهم … وقبل أن يتبينوا حقيقة ما يحدث … اتجهت السيارة إليهم بسرعة خارقة … وبدا واضحًا أنها تريد أن تصدمهم جميعًا … تذكر «تختخ» رئيس العصابة … وأنه سوف يأتي الليلة لنقل «عصام»، فأدرك الحقيقة في لمح البصر، وصاح بالأصدقاء: ألقوا بأنفسكم في البحيرة!

وبسرعة هائلة … وفي الوقت المناسب قفز الأصدقاء جميعًا من الدراجات إلى سور الكورنيش، ثم ألقوا بأنفسهم في المياه … وسمعوا صوت السيارة وهي تصطدم بالدراجات الملقاة على الأرض، ثم تدور حول نفسها لفرط السرعة … وتصدم بالرصيف، وتقف ومكنتها تدور … وأضواؤها الكشافة تنير المنطقة … ونفيرها المُرتفِع يمزق هدوء الليل.

صاح «تختخ» بالأصدقاء: ابقوا في المياه … واتجهوا بسرعة إلى ناحية الأوبرج.

لفَتَ صوت الصدمة … ونفير السيارة المرتفع انتباه سكان المنطقة فخرجوا، وبدءوا يتجمعون حول السيارة … ولكن الأصدقاء لم يهتموا بما حدث … كل ما كان يهمهم أن يتجهوا بسرعة ناحية الأوبرج.

استطاع زعيم العصابة ومساعدُه الخروج من السيارة قبل أن يتجمع الفلاحون … وأسرع الزعيم ومساعده يقفزان السور الفاصل بين البحيرة والطريق … وأخذا يحدقان في الظلام، ويرسلان ضوء بطارية يدوية على سطح المياه … ولكن الأصدقاء كانوا يَغطسُون كلما اتجهت إليهم أنوار البطارية ثم يصعدون إلى السطح ويُواصِلُون السباحة ناحية الأوبرج.

كان ما يشغل «تختخ» هو حالة «عصام» فكان بجواره يساعده، ولكن «عصام» قال: لقد أنعشتني المياه تمامًا … وأستطيع الآن أن أعتمد على نفسي.

ظل الأصدقاء يعومون فترة حتى اقتربوا من هدفهم …

وقال «تختخ»: انتظروا في الماء ولا تخرجوا حتى أستطلع ما يحدث.

صعد «تختخ» إلى الكورنيش ونظر حوله … كان كل شيئًا هادئًا … ولا شيء هناك سوى ضوء السيارات المسافرة إلى القاهرة … فعاد إلى الأصدقاء مسرعًا وطلب منهم الصعود جميعًا

وبرغم أنهم ابتلوا من المياه فلم يشعروا بأي برد … فقد كانت ليلة حارة … وساروا والمياه تتساقط منهم حتى وصلوا إلى بداية الطريق الصحراوي، وقد بلغ منهم الإعياء مداه … وسرعان ما استطاعوا إقناع سائق سيارة نقل بأخذهم فوق أقفاص العنب … وانطلقت السيارة بهم في الليل تشقُّ طريقها إلى القاهرة.

•••

شهد صباح اليوم التالي أشياء كثيرة.

فعندما عاد «تختخ» إلى منزله ومعه «الروبي» اتَّصل بالمفتش «سامي» تليفونيًّا، وأخطره بكل ما حدث … واتصل المفتِّش بشرطة الفيوم فألقت القبض على أفراد العصابة وهم يستعدون للهرب إلى بني سويف … ثم حضر المفتش «سامي» إلى منزل «تختخ» في الصباح ليسمع كل شيء … وتجمع بقية الأصدقاء وحضر «عصام» ووالده … وعندما علم والد «مجدي» بما حدث حضر هو و«مجدي» أيضًا … وقد سعد «مجدي» كثيرًا بلقاء «الروبي»، وجلس الجميع يستمعُون بكل اهتمام وشوق إلى قصة الساعات الرهيبة التي مرت بالأصدقاء في الفيوم.

وقال والد «مجدي»: إنني فخور بكم جميعًا … وأعلن أسفي؛ لأنني لم أتعاون مع رجال الشرطة منذ البداية … واسمحوا لي أن ألفت نظركم إلى شيء.

والتفت إليه الجميع فقال: أولًا أعلن أنني سأربِّي الفلاح الصغير الشجاع «الروبي» وكأنه شقيق ﻟ «مجدي» … وثانيًا … لقد فقد المغامرون الثلاثة دراجاتهم … وسأهديهم بدلها ثلاث دراجات جديدة.

وفي وسط هذا الجو السعيد … انطلق صوت «هارمونيكا» كانت تعزفها «لوزة»، فصاح الجميع … نُريد «مجدي» … نُريد «مجدي» …!

وأمسك «مجدي» ﺑ «الهارمونيكا» … وعزف عليها لحنًا راقصًا جميلًا … وكان يحسُّ بالسعادة، فعزف عزفًا ساحرًا لم يعزفه من قبل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤