بطاقة بريدية

بعد ظهر البارحة، بالأمس، كنت في طريقي إلى مكتب البريد، أفكر كم سقمت من الجليد، ومن التهابات الحلق، ومن التثاقل الذي يجرجر به الشتاء أذياله، وتمنيت لو كنت أستطيع أن أشد الرحال إلى فلوريدا، مثل كلير. كان ذلك بعد ظهر يوم الأربعاء، اليوم الذي أعمل فيه لمنتصف النهار فقط. أنا أعمل في متجر كينج الشامل، الذي — بالرغم من اسمه — لا يزيد على كونه متجرًا للأقمشة والملبوسات الجاهزة. من قبل، كانوا يبيعون مواد البقالة، لكنني بالكاد أتذكر ذلك. كانت ماما تأخذني إلى هناك وتجلسني على الكرسي المرتفع، وكان السيد كينج العجوز يعطيني حفنة من الزبيب ويقول لي: «أنا لا أعطيها إلا للبنات الجميلات.» وحينما مات السيد كينج العجوز أزالوا قسم البقالة، بل إن المتجر لم يعد متجر كينج، وإنما صار ملكًا لشخص يُدعَى كروبرج. لكن آل كروبرج أنفسهم لا يقربون المتجر أبدًا، فقد اكتفوا بإرسال السيد هوز مديرًا له. أنا مسئولة عن الدور العلوي، قسم ملابس الأطفال، وعن نصب «أرض الألعاب» وقت عيد الميلاد. طوال أربعة عشر عامًا وأنا في ذلك المكان، وهوز لا يضايقني، لعلمه أنني ما كنت لأتقبل ذلك.

ولما كان اليوم هو الأربعاء، كانت نوافذ مكتب البريد مغلقة، لكن كان معي مفتاحي. فتحت قفل صندوقنا وأخرجت صحيفة جوبيلي، المرسلة باسم ماما، وفاتورة الهاتف وبطاقة بريدية كدت لا أراها. نظرت إلى الصورة التي عليها أولًا، فرأيت نخيلًا وسماء زرقاء وشمسًا دافئة، وواجهة فندق صغير عليها لافتة على شكل امرأة ضخمة شقراء، أظن أنها تضاء بأنوار النيون في الليل. كانت اللافتة تقول «اقضِ ليلتك عندي.» كان هذا مكتوب على بالون حوار يخرج من فم المرأة. قلبت البطاقة وقرأت ما هو مكتوب: «مع ذلك لم أقضِ الليلة عندها، فقد كان الفندق غاليًا جدًّا. الطقس هنا غاية في الروعة. درجة الحرارة تتراوح حول منتصف السبعينيات بمقياس فهرنهايت. ترى ما حال الشتاء معك في جوبيلي؟ أرجو ألَّا يكون سيئًا. كوني فتاةً عاقلة. كلير» كان تاريخ البطاقة يعود لعشرة أيامٍ مضت. حسنًا، أحيانًا تتأخر البطاقات البريدية في الوصول، لكنني أراهن أن ما حدث هو أنه ظل يحملها في جيبه لبضعة أيام قبل أن يتذكر إرسالها بالبريد. كانت هذه البطاقة الوحيدة التي أتسلمها منذ رحيله إلى فلوريدا منذ ثلاثة أسابيع، بينما كنت أنا هنا أتوقع عودته شخصيًّا يوم الجمعة أو السبت. كان يذهب في هذه الرحلة كل شتاء مع أخته بوركي وزوجها هارولد، اللذين يعيشان في مدينة ويندسور. كان لدي شعور بأني لا أعجبهما، لكن كلير قال إنني أتصور ذلك فحسب. كنت كلما جمعني حديث ببوركي ارتكبت خطأً ما، كأن أقول مثلًا إن «كذا لا علاقة بي له» بالرغم من علمي أن العبارة الصحيحة هي «كذا لا علاقة له بي»، فلا تدع ذلك يمر قط دون أن تثرثر بشأنه، لكنني كنت أظل أفكر في ذلك فيما بعد وأتميز غيظًا. مع أنني أعرف أن في صالحي أن أحاول التحدث بالطريقة التي لا يمكن أن أتحدث بها عادةً في جوبيلي، وأن أحاول نيل إعجابها لأنها من آل ماكواري، بالرغم من كل المحاضرات التي ألقيها على مسامع أمي لأُفهِمها أننا لا نقلُّ عنهم وجاهةً ونُبلًا.

كنت أقول لكلير: اكتب لي رسالة حينما تكون مسافرًا. فكان يقول: «ماذا تريدينني أن أكتب لك؟» فطلبت أن يصف المناظر التي يراها والأشخاص الذين يقابلهم، أي شيء يمكن أن يكون مسليًا بالنسبة لي أن أعرفه، بما أنني لم يسبق لي قط أن أخرج لأبعد من بافالو للمتعة (لن أضع في حسباني رحلة القطار التي اصطحبت فيها ماما إلى وينيبج لزيارة بعض الأقارب). لكن كلير قال: «أستطيع أن أخبرك بكل ما تريدين معرفته حين أعود.» لكنه لم يكن يفعل ذلك قط. كنت حينما أراه ثانيةً أقول: «حسنًا، احكِ لي كل شيء عن رحلتك»، فكان يقول: «ماذا تريدينني أن أحكي؟» كان هذا يغيظني جدًّا؛ إذ كيف لي «أنا» أن أدري؟

رأيت ماما في انتظاري، تراقبني عبر النافذة الصغيرة في الباب الأمامي. فتحت الباب حينما أصبحت في الممشى وصاحت: «احترسي لنفسك، الأرض زلقة. لقد كاد بائع الحليب يسقط على رأسه هذا الصباح.»

قلت: «ثمة أيام أظن أنني لا أبالي فيها أن تنكسر لي رجل.» فقالت: «لا تتفوهي بأشياء كتلك، كأنك تستنزلين لنفسك العقاب.»

قلت: «كلير أرسل لك بطاقة بريدية.»

«أوه، لا يمكن!» قلبت البطاقة على وجهها الآخر وقالت: «إنها موجهة إليكِ، كما توقعت تمامًا.» لكنها تجاوزت ذلك بابتسامة. «أنا لا آبه للصورة التي اختارها، لكن ربما لا يتسنى للمرء مجال واسع للاختيار هناك.»

على الأرجح كان كلير محل إعجاب السيدات المتقدمات في السن منذ أن استطاع المشي. كان في نظرهم ما يزال ولدًا سمينًا ظريفًا، دمث الخلق، ولا يبدي أي غرور مع أنه من آل ماكواري، وله طريقة في الممازحة ترفع معنوياتهن وتحمرُّ لها وجناتُهن خجلًا. كان لماما وكلير طرق كثيرة للمزاح لم أستطع أبدًا أن أجاريها. منها أنه كان يأتي فيطرق الباب ويقول شيئًا مثل: «عمتِ مساءً سيدتي، كنت أتساءل فقط إن كان يمكنني أن أقنعك بدورة لتحسين لياقة الجسم أُسوِّق لها كي يتسنى لي دفع مصاريف الكلية.» فتتظاهر أمي بكظم غيظها وتعبس في وجهه وتقول: «اسمع أيها الشاب، هل أبدو بحاجة إلى دورة لتحسين لياقتي البدنية؟» أو يمكن أن يبدو محزونًا ويقول: «سيدتي، أنا هنا لأنني قلق على روحك.» فكانت أمي تنفجر ضاحكةً وتقول: «يجدر أن تقلق على روحك أنت.» ثم تطعمه كفتة الدجاج وفطيرة مارينج الليمون، وهما من أكلاته المفضلة. كان يقول لها على المائدة نكتًا لم أكن أتصور أن تستمع لها؛ مثل «هل سمعتِ عن ذلك الرجل المحترم المسن الذي تزوج من زوجة شابة ثم ذهب إلى الطبيب؟ دكتور أواجه بعض المتاعب …» فتقول أمي «لا تكمل.» لكنها كانت تنتظر إلى أن يتم النكتة، وتقول: «أنت تحرج هيلين لويز.» كنت قد تخلصت من اسم لويز الذي يلتصق باسمي في كل مكان ما عدا في المنزل. علم به كلير من ماما، أخبرته أنني لا أحب هذا الاسم لكنه ظل يناديني به. أحيانًا كنت أشعر بأنني صغيرتهما، حينما كنت أجلس بينه وبين ماما بينما يمزحان ويستمتعان بطعامهما ويخبرانني بأنني أسرف في التدخين وأنني إذا لم أستقم في جلستي فسيتحدب كتفاي للأبد. كان كلير — ولا يزال — يكبرني باثني عشر عامًا، ولا أذكره أبدًا إلا في صورة رجل كبير.

•••

كنت أراه في الشارع وكان يبدو كبيرًا بالنسبة لي حينئذ، على الأقل كما كان كل الكبار يبدون بالنسبة لي. إنه من أولئك الذين يبدون أكبر سنًّا وهم صغار ويبدون أصغر سنًّا وهم كبار. كان دائمًا يُوجد في فندق كوينز. فلأنه من آل ماكواري لم يكن مضطرًا لأن يعمل بجد. وكان له مكتب صغير ويعمل أحيانًا كموثق عقود، أو يؤدي بعض مهام التأمين أو العقارات. وهو ما يزال يملك هذا المكان، الذي دائمًا ما تُرى نافذته الأمامية غائمة ومتربة، ويوجد نور متقد في خلفيته، صيفًا وشتاءً، حيث تجلس سيدة في الثمانين من عمرها تقريبًا، تدعى الآنسة ميتلاند، تقوم بما يأمرها به من الطباعة على الآلة الكاتبة أو غيرها من المهام التي يكلفها بها. وحينما لا يكون في فندق كوينز، يكون برفقة صديق أو اثنين من أصدقائه يجلسون حول المدفأة الكهربائية ويلعبون بأوراق اللعب، بينما يحتسون الشراب في هدوء، وغالبًا يتحدثون فحسب. ثمة نوع من الرجال في جوبيلي، وفي كل بلدة صغيرة على ما أظن، يمكنك أن تصفه بأنه مشهور. لا أعني بذلك «شخصيات» بارزة عامة، ذات شأن يؤهلها للترشح لانتخابات البرلمان أو حتى لمنصب العمدة (مع أن كلير يستطيع ذلك إن أراد أن يأخذ الأمر على محمل الجد)، وإنما أعني رجالًا موجودين دائمًا في الشارع الرئيسي ولهم وجوه معروفة. إن كلير وأصدقاءه من هذا النوع.

قالت ماما: «أهو هناك برفقة أخته؟» وكأنني لم أخبرها بذلك من قبل. إن كثيرًا من حديثي مع ماما يكون معادًا. سألتْ: «ما ذلك الاسم الذي ينادونها به؟»

أجبت: «بوركي.»

«نعم، أذكر أنني ظننت أن هذا اسم امرأة كبيرة. وأذكر أن اسمها عند التعميد كان إيزابيل. كان هذا قبل أن أتزوج بوقت طويل، كنت لا أزال أنشد في جوقة الكنيسة. حينئذ ألبسوها أحد أثواب التعميد المستحدثة «المجرجرة»، تعرفينها؟» كانت أمي مغرمة بكلير لكن ليس بآل ماكواري. كانت تعتقد أنهم يتكبرون حتى في التقاط أنفاسهم. أتذكر منذ سنة أو سنتين أننا كنا مارَّتَين بجانب مسكنهم، فقالت شيئًا ما عن الحرص على ألَّا أطأ بقدمي فوق نجيل «القصر»، فقلت لها: «ماما، في غضون بضع سنوات سأكون مقيمة هنا، سيكون هذا «منزلي أنا»؛ لذا من الأفضل أن تكُفِّي عن وصفه بالقصر بنبرة الصوت هذه.» نظرنا معًا إلى أعلى المنزل بكل مظلاته ذات اللون الأخضر الغامق والمزينة بحرفي Ms بخط أبيض كبير، وكل شرفاته الواسعة ونوافذه ذات الزجاج المعشق المثبتة في الجدار الجانبي، كأنه كنيسة. ما من علامة تدل على وجود حياة، لكن في الأعلى كانت السيدة ماكواري راقدة، وما تزال، مشلولة شللًا نصفيًّا جانبيًّا ولا تستطيع التكلم، تعتني بها ويلا مونتجومري نهارًا ويعتني بها كلير ليلًا. تزعجها أصوات الغرباء في المنزل، وكل مرة يأخذني فيها كلير إلى هناك لا يسعني إلا الهمس كي لا تسمع صوتي وتدخل في نوبة من نوبات الشلل. قالت أمي بعد أن نظرت طويلًا: «هذا مضحك، لكنني لا أتصور أن تحملي اسم ماكواري.»

«اعتقدت أنك مولعة بكلير.»

«حسنًا، أنا كذلك، لكنني لا أستطيع أن أتصوره إلا آتيًا لاصطحابك للخروج ليلة السبت، أو لتناول عشاء يوم الأحد، ولا أتصوركما زوجين.»

«انتظري لتري ما سيحدث حينما تموت السيدة العجوز.»

«أذلك ما قاله لك؟»

«هذا مفهوم.»

قالت ماما: «حسنًا، قد تكونين محقة!»

«إنك لست مضطرة لأن تتصرفي وكأنه يقدم لنا معروفًا، لأنني أستطيع أن أخبرك أن كثيرًا من الناس يمكن أن يروا الأمر على نحو معاكس.»

قالت أمي بصوت لطيف: «ألا أستطيع أن أفتح فمي من دون أن تشعري بالإهانة؟»

كنت أنا وكلير ندلف من الباب الجانبي في ليالي السبت ونصنع قهوة وشيئًا نأكله في المطبخ عتيق الطراز ذي الجدران العالية، متسلِّلَين في منتهى الهدوء والسرية كأننا ولد وبنت يلتقيان بعد المدرسة، ثم نخطو على أطراف أصابعنا صاعدين السلم الخلفي إلى غرفة كلير فنفتح التلفاز بحيث تظن السيدة العجوز أنه وحده يشاهده. كنتُ إذا نادته استلقيتُ وحدي في الفراش الواسع أشاهد البرامج أو أنظر إلى الصور القديمة المعلقة على الجدار، صوره في فريق هوكي المدرسة الثانوية يلعب حارس مرمى، وصورة بوركي في لباس التخرج، وصورته مع بوركي في إحدى العطلات مع بعض أصدقاء لا أعرفهم. وكنت إذا استبقته عندها طويلًا أشعر بالملل فأهبط إلى الدور السفلي مستترة بصوت التلفاز وأتناول المزيد من القهوة. (لم أشرب قط أي مشروب مُسْكِر، كنت أترك هذا لكلير.) في النور الوحيد المضاء، نور المطبخ، كان يتسنى لي أن أدخل حجرة الطعام وأفتح الأدراج وأنظر إلى مفارشها، وأفتح خزانة الأواني الخزفية وصندوق أدوات المائدة الفضية، فأشعر كأنني لصة. لكنني كنت أفكر، لمَ لا أستمتع بهذا وباسم ماكواري طالما أنني أفعل هذا بالفعل على أية حال؟ قال لي كلير: «تزوجيني» بعد وقت قصير من بداية خروجنا معًا، فقلت له: «لا تزعجني، لا أود أن أفكر بشأن الزواج» فكَفَّ عن الحديث في هذا الموضوع. وحينما أثرت أنا هذا الموضوع مجددًا، بعد سنوات، بدا مسرورًا. قال «حسنًا، لا أعتقد أن ثمة كثيرًا من الذكور العجائز أمثالي يسمعون فتاةً جميلة مثلك تقول إنها ترغب في الزواج منهم.» فكرت في نفسي، انتظروا إلى أن أتزوج وأذهب إلى متجر كينج وأجعل هوز يهرع في كل الأرجاء ملبيًا طلباتي، ذلك العجوز السخيف. كم أود أن أذله وأضايقه، لكنني سأتمالك نفسي، من باب التأدب.

•••

قلت لماما: «سآخذ تلك البطاقة البريدية الآن وأضعها في صندوقي، ولا يسعني أن أفكر في طريقة أفضل نقضي بها عصر اليوم من أن نحظى بقيلولة.» صعدتُ إلى الدور العلوي وارتديت الروب (صيني مطرز، كان هدية من كلير). وضعت شيئًا من الكريم على وجهي ثم أخرجت الصندوق الذي أحفظ فيه البطاقات البريدية والخطابات وغيرها من التذكارات، ووضعتها مع البطاقة البريدية التي كانت قد وصلت من فلوريدا منذ سنوات، وبعض البطاقات من متنزهات بانف وجاسبر وجراند كانيون ويلوستون. ثم لتضييع الوقت شرعت في مشاهدة صوري أيام المدرسة وشهادات درجاتي وصور برنامج «إتش إم إس بينافور»، الذي عرضته المدرسة الثانوية وكنت أنا بطلته — ماذا كان اسمها؟ — ابنة القبطان. أتذكر كلير حينما التقى بي في الشارع وهنأني على غنائي وروعة جمالي، وأذكر كيف كنت أتغنَّج عليه بعض الشيء لا لشيء إلا لأنه كان يبدو كبيرًا جدًّا ولا خطر منه، كنت أتغنج دون أن ألقي بالًا، كنت مزهوة بنفسي. ألم أكن لأفاجأ لو كنت علمت ما سيحدث؟ لم أكن حتى قد التقيت بتيد فورجي بعد.

ميزت رسالته بمجرد أن رأيتها من الخارج، ولم أقرأها قط، لكن بدافع الفضول فتحتها وبدأت القراءة: «عادةً أكره أن أكتب رسالة بالآلة الكاتبة لأن الرسالة تفتقر بذلك اللمسة الشخصية، لكنني في غاية الإنهاك الليلة إلى جانب كل الضغوط الطارئة هنا؛ لذا آمل أن تعذريني.» كان مجرد النظر إلى الرسالة، مكتوبة بالآلة الكاتبة أو غير ذلك، يمنحني شعورًا بالحب، إن كان لكم أن تسموه حبًّا، قويًّا إلى حد أنه يكاد يعتصر قلبي ويطرحني أرضًا. تيد فورجي كان مذيعًا في محطة إذاعة جوبيلي لمدة ستة أشهر في الوقت الذي كنت فيه على وشك أن أنهي دراستي الثانوية. كانت ماما تقول إنه كبير السن للغاية بالنسبة لي — لم تقل ذلك قط عن كلير — لكنه لم يكن إلا في الرابعة والعشرين من عمره. كان قد قضى سنتين في إحدى المصحات مصابًا بمرض السل، وهذا جعله يبدو أكبر من عمره الحقيقي بسنوات. كنا نصعد معًا إلى تل سوليفان فيحكي كيف كان يعيش والموت يحدق في وجهه، وكيف أدرك قيمة أن يكون قريبًا من إنسان واحد، لكنه لم يجد إلا الوحدة. كان يقول إنه يرغب في أن يدس رأسه في حضني ويبكي، لكن طوال الوقت كان ما «يفعله» أمرًا آخر. وحينما رحل صرت كمن يسير وهو نائم. لم أكن أستيقظ إلا بعد الظهر حين أذهب إلى مكتب البريد وأفتح الصندوق بينما ركبتاي لا تكادان تحملانني، كي أرى إن كنت قد تلقيت رسالة. ولم يحدث قط أن تلقيت منه رسالة بعد تلك. صارت أماكن تصيبني بالضيق؛ تل سوليفان ومحطة الإذاعة ومقهى فندق كوينز. لا أدري كم ساعةً قضيتها في ذلك المقهى، أسترجع في عقلي كل حديث دار بيننا وأتصور كل نظرة علت وجهه، غير مدركة بعدُ أن التمني لم يكن ليجره عبر ذلك الباب ثانيةً. صارت علاقتي ودية بكلير هناك. كان يقول إنني أبدو كأنني بحاجة إلى من يبهجني، وراح يحكي لي بعضًا من قصصه. لم أصارحه قط بمشكلتي، لكن حينما بدأنا نخرج معًا وضحت له أن الصداقة هي كل ما يمكن أن أقدمه له. قال إنه يقدِّر ذلك وإنه سينتظر الوقت المناسب. وقد فعل.

قرأتُ الرسالة حتى آخرها وفكرت، ليس للمرة الأولى، أن أي أبله سيقرأ هذه الرسالة سيستطيع أن يدرك أنها الأخيرة. «أريدك أن تعلمي كم أنا ممتن لكل لطفك وتفهُّمك.» كانت كلمة «لطف» هي الوحيدة التي التصقت بذهني حينئذ، كي تمنحني الأمل. فكرت أنني سأتخلص من رسالته حين أتزوج أنا وكلير. إذن، لمَ لا أفعلها من الآن؟ مزقتها إلى نصفين ثم مزقت النصفين إلى نصفين وبدا الأمر سهلًا كتمزيق الكراسات بعد انتهاء أيام الدراسة. ولما لم أكن أريد أن تعلق ماما على ما في سلة مهملاتي دسست الرسالة الممزقة في حقيبة يدي. وبعد أن انتهيت استلقيت على فراشي وفكرت في عدة أمور. مثلًا، لو لم أكن في سكرة بسبب رحيل تيد فورجي، فهل كانت نظرتي لكلير ستتغير؟ هذا احتمال ضعيف. فلولا تلك السكرة ما كنت لأحفل بكلير على الإطلاق، كنت سأنطلق وأفعل شيئًا مختلفًا، لكن لا جدوى من التفكير في ذلك الآن. الجلبة التي أثارها كلير جعلتني آسف له في أول الأمر. كنت أزدري رأسه المستدير الأصلع، وأسمع تأوهه وهياجه وأفكر، ماذا يسعني الآن إلا أن أكون مهذبة؟ لم ينتظر مني أكثر من ذلك، لم ينتظر قط ما هو أكثر، فقط أن أستلقي وأتركه يفعل ما يشاء، وقد اعتدت على ذلك. تذكرت ذلك وتساءلت عما إذا كنت عديمة الشعور، فقط لأنني استلقيت هناك وتركته يجذبني ويجامعني ويتأوه حول عنقي ويقول ما قال، دون أن أنطق في المقابل بكلمة حب واحدة له؟ لم أرد قط أن أكون امرأة بلا قلب ولم أكن خسيسة مع كلير، وتركته يفعل ما يشاء، ألم أفعل ذلك، في أغلب الأحيان؟

•••

سمعت ماما تنهض من قيلولتها وتذهب لتشغيل غلاية الماء كي تعد لنفسها فنجانًا من الشاي وتقرأ الصحيفة. بعد وقت قصير أطلقَتْ صرخة، ظننت أن أحدًا مات فقفزت من فراشي وركضت إلى الردهة، لكنها كانت هناك في الأسفل تقول: «عودي إلى قيلولتك، أعتذر لأنني أخفتك. لقد أخطأتُ.» عدت بالفعل ثم سمعتها تجري مكالمة تليفونية، على الأرجح تتصل بإحدى صديقاتها القديمات لتخبرها بشأن خبر ما في الصحيفة، بعد ذلك أظن أنني غلبني النعاس.

استيقظت على صوت توقف سيارة، وترجل شخص ما منها واتجه نحو الممشى الأمامي. تساءلت، أيكون هذا كلير قد عاد باكرًا؟ وعندئذ، بينما أنا مشوشة ونصف نائمة، فكرت أنني قد مزقت الرسالة بالفعل، هذا جيد. لكن لم يكن ذلك وقع خطواته. فتحت ماما الباب دون أن تمنحه فرصة لقرع الجرس، وسمعت صوت آلما ستونهاوس، التي تدرس في مدرسة جوبيلي الحكومية وهي أقرب صديقاتي. خرجتُ إلى الردهة وانحنيت للأمام وصحت: «مرحبًا آلما، هل ستأكلين هنا ثانيةً؟» كانت تتناول طعامها في مطعم بيلي حيث يكون الطعام جيدًا في بعض الأحيان ورديئًا في أحيان أخرى، لكن كانت حينما تشم رائحة «فطيرة الراعي» التي يُعدُّونها هناك، كانت تتجه رأسًا إلى منزلنا دون دعوة.

صعدت آلما مباشرة إلى الدور العلوي دون أن تخلع معطفها، ووجهها الأسمر النحيل يتوهج إثارةً، فأدركت أن شيئًا ما وقع. ظننت أنه لا بد يتعلق بزوجها، فهما منفصلان وهو يكتب لها رسائل فظيعة. قالت لي: «هيلين، أهلًا، كيف حالك؟ هل استيقظت للتو؟»

قلت: «سمعت صوت سيارتك، ظننت لوهلة أنه صوت سيارة كلير لكنني لا أتوقع عودته قبل عدة أيام أخرى.»

«هيلين، هلا جلستِ؟ تعالي ندخل حجرتك حيث يمكنك الجلوس. هل أنت مهيأة لصدمة؟ كم كنت أتمنى ألَّا أكون من يخبرك بهذا. تمالكي نفسك.»

رأيت ماما تقف خلفها مباشرةً، فقلت: «ماما، أهذه مزحة؟»

قالت آلما: «كلير ماكواري تزوج.»

قلت: «إلامَ ترميان أنتما الاثنتان؟ إن كلير ماكواري في فلوريدا وقد وصلتني منه اليوم فقط بطاقة بريدية كما تعلم ماما جيدًا.»

«لقد تزوج في فلوريدا. اهدئي يا هيلين.»

«كيف يمكن أن يتزوج في فلوريدا؟ إنه يقضي إجازته هناك؟»

«إنهما في طريق عودتهما إلى جوبيلي الآن وسيعيشان هنا.»

«آلما، أينما سمعت بهذا فإنه محض هراء. لقد لقيت منه اليوم فقط بطاقة بريدية. ماما …»

حينئذ رأيت ماما تنظر إليَّ كأنني في الثامنة من عمري وأُصبتُ بالحصبة وكانت درجة حرارتي تتجاوز المائة والخمس فهرنهايت. كانت ممسكة بصحيفتها فمدتها إليَّ كي أقرأ. قالت: «الخبر هنا.» وهي غير مدركة على الأرجح أنها تهمس. «الخبر مكتوب هنا في صحيفة باجل هيرالد.»

قلت: «لا أصدق ذلك البتة.» وبدأت أقرأ وأقرأ الخبر كله وكأن الأسماء المكتوبة لأشخاص لم أسمع بهم قط من قبل. بعضهم كان كذلك فعلًا. في احتفال بسيط في كورال جيبلز بفلوريدا، تزوج كلير ألكسندر ماكواري، من مدينة جوبيلي، ابن السيدة جيمس ماكواري من نفس المدينة، والراحل السيد جيمس ماكواري، وهو رجل أعمال محلي مرموق وعضو البرلمان لفترة طويلة، من السيدة مارجريت ثورا ليسون، ابنة الراحلين السيد والسيدة كلايف تيبوت من لينكن بولاية نبراسكا. لم يضم الحفل سوى السيدة هارولد جونسون شقيقة العريس وزوجها. ارتدت العروس بدلة أنيقة باللون الأخضر الزيتوني مزينة بإكسسوارات ذات لون بني قاتم وسوارًا من زهور الأوركيد البرونزية. وارتدت السيدة جونسون بدلة باللون البيج مزينة بإكسسوارات سوداء اللون وسوارًا من زهور الأوركيد الخضراء. العروسان في طريقهما الآن بالسيارة إلى منزل المستقبل في جوبيلي.

قالت آلما في حدة: «ألا تزالين تعتقدين أن هذا هراء؟»

قلت إنني لا أدري.

«هل أنتِ بخير؟»

«بخير.»

قالت ماما إننا سنشعر جميعًا بتحسن إذا نزلنا إلى الدور السفلي وتناولنا فنجانًا من الشاي وبعض الطعام، بدلًا من حبس أنفسنا في حجرة النوم الضيقة هذه. كان الوقت يقترب من موعد العشاء على أية حال. فنزل ثلاثتنا، وكنت لا أزال مرتدية الروب، وراحت ماما وآلما تعدان وجبة من تلك النوعية التي يمكن أن تأكلها كي تقيم أودك عندما يدخل مرض ما المنزل ولا يسعك أن تتذمر كثيرًا بشأن الطعام؛ شطائر اللحم البارد مع أطباق صغيرة من مختلف أنواع المخلل وشرائح من الجبن وفطائر مربعة محشوة بالبلح. قالت لي ماما: «دخني سيجارة إن شئتِ.» هذه أول مرة تقول لي ذلك في حياتها. ففعلت، وكذلك فعلت آلما. قالت آلما: «جلبت بعض المهدئات معي في حقيبة يدي، إنها ليست من النوع القوي المفعول ويمكنك أن تتناولي حبة أو اثنتين.» قلت: لا، شكرًا، ليس الآن على أية حال. قلت إنه يبدو أنني لست بحاجة بعدُ لتناولها.

«هو يذهب إلى فلوريدا كل سنة، صحيح؟»

قلت: «نعم.»

«حسنًا، أظن أن ما حدث هو أنه التقى هذه المرأة من قبل — قد تكون أرملة أو مطلقة أو أيًّا ما كانت — وأنهما كانا يتراسلان ويخططان لهذا طوال الوقت.»

قالت ماما إن من الصعب أن نظن هذا بكلير.

«أنا فقط أقول لكما كيف يبدو الأمر لي. وأراهن أنها صديقة لشقيقته. أخته دبرت كل شيء. كانا حاضرين في الحفل، الشقيقة وزوجها. لم تكن على وفاق معكِ قط يا هيلين، أذكر أنك قلتِ لي ذلك.»

«كنت بالكاد أعرفها.»

قالت ماما: «هيلين لويس، قلتِ لي إنكما تنتظران فقط موت السيدة العجوز، ألم يكن هذا ما قاله لك؟ كلير؟»

قالت آلما بانفعال: «يستخدم السيدة العجوز كعذر له.»

قالت ماما: «أوه، لا أظنه يفعل. من الصعب استيعاب ذلك … كلير!»

قالت آلما: «الرجال دومًا لا يتوانون عن نيل ما يمكنهم نيله.» مرت برهة من الصمت، نظرت فيها الاثنتان إليَّ. لم أستطع أن أخبرهما أي شيء. لم أستطع أن أخبرهما بما كنت أفكر فيه، بشأن ما دار في آخر ليلة سبت قضيناها في الدور العلوي بمنزله، قبل أن يسافر، كان عاريًا كما ولدته أمه، راح يجذب شعري ويمرره فوق وجهه وخلال أسنانه ويتظاهر بأنه سيمزقه. لم أكن أستحسن لعاب أي شخص على شعري لكنني تركته يفعل ما يفعل، لكن حذرته من أن يمزقه وإلا فسيدفع لي ثمن ذهابي إلى مصفف الشعر لتسويته. في تلك الليلة لم يتصرف كشخص ينوي أن ينهي العلاقة ويتزوج.

مضت ماما وآلما تتحدثان وتخمنان بينما بدأ النعاس يتملك مني أكثر فأكثر. سمعت آلما تقول: «كان من الممكن أن يحدث ما هو أسوأ. لقد عشت جحيمًا لأربع سنوات.» فقالت ماما: «لطالما كان طيب الروح وكان مولعًا بتلك الفتاة.» تعجبتُ كيف لي أن أكون نعسانة إلى هذا الحد، في هذا الوقت المبكر من المساء وبعد ما نلته من قيلولة بعد الظهر. قالت آلما: «جيد جدًّا أنك نعسانة، إنه أسلوب الطبيعة. أسلوب الطبيعة مثل المخدر تمامًا.» تعاونتا على إيصالي إلى فراشي في الدور العلوي ولم أسمعهما تنزلان إلى الدور السفلي.

•••

لم أستيقظ مبكرًا أيضًا. استيقظت في الموعد الذي أستيقظ فيه عادةً، وتناولت إفطاري. استطعت أن أسمع الجلبة الصادرة عن نشاط ماما في المنزل لكنني صحت عاليًا، كما أفعل كل صباح، طالبةً منها أن تتوقف. ردَّت عليَّ: «أمتأكدة من أنك ترغبين في الذهاب إلى العمل؟ يمكنني أن أتصل بالسيد هوز وأخبره أنك مريضة مرضًا شديدًا.» قلت: «ولماذا ينبغي لي أن أمنح أيًّا منهم هذا الشعور بالرضى؟» وضعت زينتي أمام مرآة الردهة في غياب الإضاءة، وخرجت ومشيت حتى وصلت إلى متجر كينج على بعد نحو ثلاثة مربعات سكنية، دون أن ألحظ طقس ذلك الصباح، لا سيما أن الطقس لم يكن قد تحول إلى ربيع بين عشية وضحاها. داخل المتجر كانوا في انتظاري، أوه، يا للطف! صباح الخير يا هيلين، صباح الخير يا هيلين. أصواتهم حنونة مفعمة بالأمل في انتظار أن يروا ما إذا كنت سأهوي أرضًا وأبدأ في الدخول إلى نوبة هستيرية. السيدة ماكول، بيريل آلن وخاتم خطوبتها، والسيدة كريس التي هجرت حبيبها منذ خمس وعشرين سنة ثم ارتبطت بشخص آخر غيره — السيد كريس — ثم اختفى هذا الشخص. ما الذي يجعلها تنظر إليَّ؟ هوز العجوز الذي يعض على لسانه بأسنانه حينما يبتسم. قلت صباح الخير بمنتهى الابتهاج وصعدت إلى الدور العلوي شاكرةً الرب على أن لي مرحاضي الخاص، قلت في نفسي: أراهن أن هذا اليوم سيشهد مبيعات هائلة في قسم ملابس الأطفال. وقد كان. لم أشهد صباحًا قط فيه كل هذا العدد من الأمهات اللائي أتين لشراء شريط للشعر أو زوج من الجوارب الصغيرة، وهن على استعداد لصعود تلك السلالم من أجل ذلك فحسب.

اتصلت بماما لأخبرها بأنني لن أكون في المنزل وقت الظهيرة. فكرت أنني سأمر فقط على فندق كوينز وأتناول الهامبرجر، مع كل فريق العاملين بمحطة الإذاعة الذين لا أكاد أعرفهم. لكن في الثانية عشرة إلا الربع جاءت آلما. «لم أكن لأدعك تأكلين وحدك في هذا اليوم!» لذا اضطررنا للذهاب إلى فندق كوينز معًا. كانت تنوي أن تجعلني أتناول شطيرة بيض، لا هامبرجر، وكوبًا من اللبن لا المياه الغازية، لأنها قالت إن معدتي على الأرجح لن تكون بحالة مستقرة، لكنني اعترضت على ذلك. انتظرت إلى أن حصلنا على طعامنا وجلسنا لنتناول الطعام قبل أن تقول: «حسنًا، لقد عادا.»

استغرقت برهة قبل أن أعلم من الذي عاد. ثم قلت: «متى؟»

أجابت: «الليلة الماضية في ميعاد العشاء تقريبًا. حينما كنت آتية بسيارتي إلى منزلك كي أنقل إليك الخبر. كان من الممكن أن ألتقيهما في طريقي.»

«من أخبرك؟»

«حسنًا، إن آل بيتشر يسكنون بالقرب من آل ماكواري، أليس كذلك؟» كانت السيدة بيتشر تدرِّس للصف الرابع، وآلما تدرِّس للصف الثالث. «جريس رأتهما. كانت قد قرأت الصحيفة قبل ذلك فعرفتها.»

سألت رغمًا عني: «كيف تبدو؟»

«قالت جريس إنها ليست شابة. في مثل سنه على أية حال. ألم أقل لك إنها صديقة لشقيقته؟ ولن تحظى بأي ترتيب في مسابقة الجمال. يمكنك أن تقولي إنها لا بأس بها.»

لم أستطع أن أكبح نفسي الآن: «هل هي ضخمة أم صغيرة الحجم؟ سمراء أم شقراء؟»

«كانت معتمرة قبعة فلم تتمكن جريس من رؤية لون شعرها لكنها حسبته غامقًا. إنها امرأة ضخمة الجسم. قالت جريس إن لها مؤخرة بحجم بيانو ضخم. ربما هي غنية.»

«هل قالت جريس ذلك أيضًا؟»

«لا لم تَقُلْ، أنا أخمِّن فقط.»

«كلير ليس بحاجة للزواج من أي امرأة ذات مال؛ فهو يملك المال.»

«هذا وفقًا لمعاييرنا نحن، لكن ربما الأمر ليس كذلك بالنسبة له.»

•••

ظللت أفكر طوال فترة ما بعد الظهر في أن كلير قد يأتي، أو على الأقل يتصل بي. حينئذ يمكنني أن أسأله عما فعله. صوَّر لي عقلي بعض التبريرات الجنونية التي قد يقدمها لي، كأن يقول إن هذه المرأة المسكينة مصابة بالسرطان ولم يتبق لها على قيد الحياة سوى ستة أشهر، وإنها عاشت حياتها في فقر مدقع (ربما عاملة نظافة في الفندق الذي يرتاده) فأراد أن يمنحها أيامًا من يسر العيش، أو إنها كانت تبتز زوج شقيقته بسبب ارتباط غير شريف فتزوجها كي يسكتها. لكن لم يتسنَّ لي الوقت لتصور عدد كبير من القصص بسبب تيار الزبائن الذي لم ينقطع. كانت السيدات المسنات يصعدن السلالم لاهثات بحجة رغبتهن في شراء هدايا عيد ميلاد للأحفاد. لا بد أن يكون لكل حفيد في جوبيلي عيد ميلاد في شهر مارس. فكرت أن عليهن أن يشعرن بالامتنان لي، ألم أُضف إلى يومهن شيئًا من الإثارة؟ حتى آلما، كانت تبدو أفضل حالًا من حالتها طوال الشتاء. أنا لا ألومها، لكن هذه هي الحقيقة. ومن يدري، قد أكون أفضل حالًا أنا أيضًا إذا ظهر دون ستونهاوس كما يهدد واغتصبها وترك على جسدها مجموعة من الكدمات البنفسجية — هذه كلماته لا كلماتي أنا — من رأسها حتى أخمص قدميها. سأشعر بمنتهى الأسف، وأفعل أي شيء لمساعدتها، لا شك في ذلك، لكنني قد أفكر حسنًا، أن حدثًا كهذا — بالرغم من فظاعته — هو على الأقل حدث وقع في هذا الشتاء الطويل الممل.

لم يكن هناك داعٍ للتفكير في عدم العودة للمنزل بحلول ميعاد العشاء، أمر كهذا كان سيقضي على ماما. كانت في انتظاري وقد أعدت رغيف السالمون وسلطة الملفوف والجزر ووضعت فيها الزبيب، الذي أحبه، وحلوى براون بيتي. لكن وسط هذا كله بدأت دموعها تنساب فوق أحمر شفاهها. قلت: «أظن أنه إذا كان لأحد أن يبكي، فهو بالتأكيد أنا. ما الخطب الجلل الذي حلَّ بكِ؟»

قالت: «حسنًا، كنت أحبه جدًّا، كنت أحبه إلى هذا الحد. ففي مثل سني هذه لا تتطلعين لزيارة الكثيرين طوال الأسبوع.»

قلت: «حسنًا، أنا آسفة.»

«لكن بمجرد أن يفقد الرجل احترامه لفتاة، فمن المتوقع أن يسأم منها.»

«ماذا تعنين بقولك هذا يا ماما؟»

«إذا كنتِ لا تعرفين، فهل يفترض بي أن أخبرك؟»

قلت وقد بدأت أجهش بالبكاء أيضًا: «ينبغي أن تشعري بالخجل، لأنك تتحدثين هكذا إلى ابنتك.» هأنذا! وكنت أظن طوال الوقت أنها لا تدري. بالطبع لن تلوم كلير أبدًا، ستلقي كل اللوم عليَّ.

استأنفت حديثها وهي تنتحب: «لا، لست أنا من ينبغي أن تشعر بالخجل. أنا امرأة مسنة لكنني أعرف. إذا فقد رجل احترامه لفتاة فإنه لا يتزوجها.»

«لو كان هذا صحيحًا لما تمَّت زيجة واحدة في هذه البلدة.»

«أنت من ضيعتِ فرصك.»

قلت: «لم تقولي أي كلمة من حديثك هذا طالما كان يأتي إلى هنا، ولست على استعداد لأن اسمع هذا الآن.» ثم صعدت للأعلى. لم تأتِ ورائي. جلست أدخن، ساعة بعد أخرى. ظللت بثيابي ولم أخلعها. سمعتها تصعد للأعلى وتأوي إلى الفراش. بعد ذلك نزلت للأسفل وشاهدت التلفاز لفترة، أخبار عن حوادث سيارات. ثم ارتديت معطفي وخرجت.

•••

أملك سيارة صغيرة أهداها لي كلير العام الماضي في عيد الميلاد؛ سيارة «موريس» صغيرة. لا أستخدمها في الذهاب إلى العمل لأنه على بعد حوالي ثلاثة مربعات سكنية فحسب، وتبدو القيادة هذه المسافة القصيرة أمرًا سخيفًا، وكأنني أتباهى، وإن كنت أعرف أشخاصًا يفعلون ذلك. ذهبت إلى المرأب وأخرجت السيارة. كانت هذه أول مرة أقودها منذ يوم الأحد الذي أخذت فيه ماما إلى تابرتاون لتزور العمة كاي في دار المسنين. أستخدمها أكثر في فصل الصيف.

نظرت إلى ساعتي واندهشت من الوقت؛ الثانية عشرة وعشرون دقيقة. شعرت برعشة ووهن بسبب الجلوس لفترة طويلة. تمنيت لو كان معي أحد تلك الأقراص التي جلبتها آلما. لقد طرأت لي فكرة الخروج، والانطلاق بالسيارة، لكنني لم أدرِ إلى أين أذهب. قُدت في أنحاء شوارع جوبيلي ولم أرَ سيارةً أخرى إلا سيارتي. كل المنازل تبدو مظلمة، والشوارع سوداء، والأفنية تبدو شاحبة بسبب ما تبقى فوقها من الثلج. بدا لي أن داخل كل منزل من هذه المنازل يعيش أشخاص يعلمون أمرًا لا أعلمه. فهموا ما جرى، وربما كانوا يعلمون أنه سيجري، وكنت أنا الوحيدة التي لم تدر عن ذلك شيئًا.

مضيت أقود إلى شارع جروف ثم إلى شارع ميني ورأيت منزله من الخلف. لا أنوار مضاءة بالداخل أيضًا. درت حول المنزل كي أراه من واجهته. تساءلت، هل يضطران للتسلل إلى الدور العلوي وتشغيل التلفاز؟ لا امرأة لها مؤخرة بضخامة البيانو ستحتمل ذلك. أراهن أنه صعد بها مباشرةً إلى حجرة السيدة المُسنَّة وقال لها: «هذه السيدة ماكواري الجديدة.» وهذا ما كان وقُضي الأمر.

ركنت السيارة وأنزلت زجاج النافذة. ودون أن أفكر فيما سأفعل اتكأت على بوق السيارة وأطلقته بأشد وأطول ما يمكنني أن أحتمل.

منحني الصوت حرية أن أصيح. ففعلت: «هاي، كلير ماكواري، أود أن أتحدث إليك!»

ما من إجابة. «كلير ماكواري!» صرخت في مواجهة هذا المنزل المظلم. «كلير اخرج إليَّ!» وأطلقت البوق، مرة ثانيةً وثالثةً، لا أدري كم مرة. كنت أنادي صارخة أثناء ذلك. شعرت كأنني أراقب نفسي، هنا في الأسفل، تافهة للغاية، أدق بقبضتي وأصرخ وأضغط على البوق. مصابة بهياج، أفعل كل ما يخطر بذهني. كان هذا ممتعًا، على نحو ما. كدت أنسى سبب فعلي ذلك وبدأت أضغط على البوق بوقع منتظم وأصيح في الوقت نفسه. «كلير، ألن تخرج أبدًا؟» ورحت أنشد باسمه بصوت عالٍ وأطلب منه الخروج. كنت أبكي وأنا أصيح، علنًا في الشارع، ولم يزعجني ذلك على الإطلاق.

قال بادي شيلدز وهو يدخل رأسه من نافذة السيارة المفتوحة: «هيلين، هل تريدين إيقاظ كل من في البلدة؟» بادي شرطي وردية الليل، وكنت أدرِّس له في صفوف أيام الآحاد.

قلت: «كنت فقط أنشد أنشودة للعروسين، ماذا في ذلك؟»

«أنا مضطر لأن أطلب منك أن تكفي عن إحداث تلك الضوضاء.»

«لا أشعر أني راغبة في ذلك.»

«أوه، هيلين، بل ترغبين، أنتِ فقط منزعجة قليلًا.»

قلت: «لقد ناديته وناديته ولم يخرج، كل ما أريده هو أن يخرج إليَّ.»

«حسنًا، ينبغي أن تكوني فتاةً عاقلة وتكفِّي عن إطلاق ذلك البوق.»

«أريده أن يخرج.»

«توقفي. لا تطلقي ذلك البوق ثانيةً.»

«هل ستجعله يخرج إليَّ؟»

«هيلين، أنا لا أستطيع أن أجعل رجلًا يخرج من منزله إذا لم يكن راغبًا في ذلك.»

«ظننت أنك تمثل السلطة، يا بادي شيلدز.»

«أنا كذلك، لكن هناك حدود لما يمكن أن تفعله السلطة. إذا كنت تريدين رؤيته فلماذا لا تعودين في النهار وتطرقين بابه بلطف، كما يمكن أن تفعل أي آنسة مهذبة؟»

«لقد تزوج. ألا تعرف ذلك؟»

«حسنًا هيلين، إنه متزوج بالليل وبالنهار أيضًا.»

«أيفترض أن يكون هذا مضحكًا؟»

«لا، يفترض أن يكون صحيحًا. والآن لمَ لا تفسحين وتدعينني أقود لأُقِلَّك إلى منزلك؟ ها أنت ترين الأنوار التي أُضيئت في المنازل على امتداد الشارع. وها هي جريس بيتشر تراقبنا، وبوسعي أن أرى آل هولمز يفتحون نوافذهم. لا أظنك تريدين منحهم المزيد ليثرثروا بشأنه، أليس كذلك؟»

«هؤلاء لا عمل لهم إلا الثرثرة على أية حال، لا يهمني أن يثرثروا بشأني.»

ثم انتصب بادي في وقفته وابتعد قليلًا عن نافذة السيارة، فلمحت شخصًا في الظلام بملابس قاتمة آتيًا من حديقة منزل ماكواري، كان ذلك كلير. لم يكن مرتديًا الروب أو أي شيء من هذا القبيل، كان بكامل هيئته، مرتديًا قميصًا وسترة وبنطالًا. اتجه صوب السيارة مباشرةً بينما أنا جالسة في انتظار ما يمكن أن أقوله له. كان على حاله؛ رجلًا بدينًا ناعس الوجه مرتاح البال. لكن نظرته فقط، نظرته المعتادة الهادئة، أزالت رغبتي في البكاء. كان من الممكن أن أصرخ وأبكي حتى يحتقن وجهي، ولم يكن ذلك ليغير تلك النظرة أو يجعله يقوم من فراشه ويمشي عبر حديقته بأسرع مما فعل بثانية واحدة.

قال: «هيلين، عودي إلى المنزل.» وكأننا كنا نشاهد التلفاز طوال المساء معًا ثم حان موعد العودة إلى المنزل والذهاب إلى فراشي كما ينبغي. وأضاف: «بلِّغي حبي لأمك، هيا امضي إلى المنزل.»

كان هذا كل ما أراد قوله. نظر إلى بادي وسأله: «هل ستقود سيارتها وتقلها إلى المنزل؟» ردَّ بادي بالإيجاب. كنت أنظر إلى كلير ماكواري وأفكر، هذا رجل يفعل ما يحلو له. لم يكن يعنيه كثيرًا ما كنت أشعر به حينما كان يفعل ما يفعل وهو يعتليني، ولم يكن يعنيه كثيرًا أي نوع من الصخب أحدثت في الشارع حينما تزوج. كان رجلًا لا يقدم تبريرات، ربما لأنه لا يملك أيًّا منها. وإذا كان ثمة شيء لا يستطيع تفسيره، حسنًا، ينسى أمره وحسب. ها هم كل جيرانه يراقبوننا، لكن في الغد، إذا قابلهم في الشارع، فقد يخبرهم قصة مضحكة. وماذا عني؟ ربما إذا قابلني في الشارع في يوم ما، فقد يقول «كيف حالك يا هيلين؟» ويقول لي نكتة. آهٍ لو كنت فكرت حقًّا في حقيقة كلير ماكواري، لو كنت أعرت ذلك اهتمامًا، لكنت بدأت معه بداية مختلفة كل الاختلاف أيضًا، ولربما كنت سأشعر بمشاعر مختلفة أيضًا، ولكن الرب وحده يعلم ما إذا كان ذلك سيحدث أي فرق في نهاية المطاف.

قال بادي: «الآن، ألست نادمة على إحداثك كل هذه الجلبة؟» انزلقت إلى المقعد ورحت أراقب كلير وهو عائد إلى منزله، أقول في نفسي: نعم، هذا ما كان ينبغي لي أن أفعله، أن أعير اهتمامًا. قال بادي: «لن تعودي لمضايقته هو وزوجته ثانية يا هيلين، أليس كذلك؟»

قلت: «ماذا؟»

«لن تعودي لمضايقة كلير وزوجته بعد الآن، أليس كذلك؟ إنه رجل متزوج الآن، انقضى الأمر. غدًا صباحًا ستشعرين بضيق بالغ حيال ما فعلته الليلة، لن تعرفي كيف ستواجهين الناس. لكن دعيني أقُل لك إن مثل هذه الأمور يحدث طوال الوقت، والأمر الوحيد الذي ينبغي للمرء أن يفعله هو أن يواصل حياته، تذكري أنك لست الوحيدة التي تتعرض لذلك.» لم يبدُ عليه أنه فكر أن من المضحك أنه يوجه الوعظ لي، ذلك الذي كنت أسمعه يتلو آيات الكتاب المقدس وأمسكت به يقرأ «سفر اللاويين» خلسة.

قال: «دعيني أحكِ لك ما حدث الأسبوع الماضي.» بينما كان يبطئ السير عبر شارع جروف، غير متعجل وصولي إلى المنزل قبل أن ينهي محاضرته، «الأسبوع الماضي تلقينا مكالمة واضطررنا للذهاب إلى مستنقع دانوك حيث كانت هناك سيارة عالقة. كان ذلك المزارع العجوز يلوح ببندقية محشوة، ويتحدث عن إطلاق النار على هذين الاثنين بتهمة التعدي على أرضه إذا لم يخرجا من أرضه حالًا. كانا قد اتخذا أحد طرق الشاحنات بعد حلول الظلام، حيث يمكن لأي أبله أن يدرك أن السيارة سوف تعلق في هذا الوقت من العام. إذا قلت لك اسميهما فستعرفينهما وستعرفين أنه ما من شأن يمكن أن يجمع بينهما في تلك السيارة معًا. أحدهما امرأة متزوجة. والأسوأ أنه بحلول ذلك الوقت كان زوجها يتساءل عما منعها من العودة من تدريب جوقة الكنيسة — كلاهما يغني في الجوقة، لن أخبرك من هما — وبلَّغ عن غيابها. اضطررنا لأن نأتي بجرار كي نسحب السيارة، وتركناه «هو» يتصبب عرقًا ويهدئ غضب ذلك المزارع العجوز، ثم أخذناها إلى المنزل في وضح النهار، وهي تبكي طوال الطريق. هذا ما أعنيه بأن ثمة أشياء كهذه تحدث. رأيت ذلك الرجل وزوجته في الشارع يشتريان بقالتهما بالأمس، لم يبدوا سعيدين لكنهما ماضيان في حياتهما. لذا، كوني فتاةً عاقلة هيلين وواصلي حياتك كبقيتنا جميعًا، وفي القريب العاجل سنشهد الربيع.»

•••

أوه، يا بادي شيلدز، يمكنك أن تواصل الكلام، وكلير يلقي نكات، وماما تبكي إلى أن تتجاوز الأمر، لكن ما لن أفهمه هو لماذا، الآن تحديدًا، حينما رأيت كلير ماكواري، رجلًا لا يقدم تبريرات، شعرت لأول مرة أنني أرغب في أن أمد يديَّ وألمسه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤