الفصل الثالث

المشهد الأول

المنظر: القاعة
يوست (يُمسِك في يده خطابًا) : هكذا أُضطَر إلى العودة إلى الدار اللعينة. خطابٌ صغير من سيدي إلى الآنسة الكريمة، التي تدَّعي أنها أخته. لا شك أن هناك أمرًا يدور في الخفاء؛ فإنَّ نقل الخطابات لا ينتهي إلى نهاية. كم وددتُ لو تخلَّصتُ من هذا الخطاب الصغير، لكني لا أُحب أن أدخُل الحجرة. إن تلك المخلوقة المُتعِبة تسأل كثيرًا وأنا أُجيب كارهًا كل الكُره. ها هو ذا الباب ينفتح، تمامًا كما تمنَّيت، وتخرج منه قُطَيطة الحجرة.

المشهد الثاني

(فرنتسيسكا – يوست)
فرنتسيسكا (تعودُ فتُطِل داخل الباب الذي خرجَت منه) : لا تهتَمِّي. سألتفتُ إلى ذلك. هه (ترى يوست) ها أنا ذي أصطدم بشيءٍ الآن. لكن لا فائدة مع هذا البهيم.
يوست : خدَّامُك.
فرنتسيسكا : لا أُحبُّ أن يكون لي مثل هذا الخادم.
يوست : هكذا، هكذا، إذن فسامحيني على كلمتي. معي خطابٌ صغير من سيدي إلى سيدتك الآنسة الكريمة، الأخت. ألم تكن كذلك؟ أخته.
فرنتسيسكا : هات (تنتزع الخطاب من يده).
يوست : عسى أن تتكرَّمي — وهذا رجاءٌ من سيدي — بتوصيله، ثم بعد ذلك، عسى أن تتكرَّمي، وهذا رجاءٌ من سيدي، وأُكرِّر حتى لا تظني أن الرجاء مني.
فرنتسيسكا : ماذا إذن؟
يوست : سيدي يفهم هذا الأمور المعقَّدة. إنه يعرف أن الطريق إلى الآنسات هو الخادمات؛ هذا ظني أنا. وعسى أن تتكرَّم البنت — وهذا أيضًا رجاءٌ من سيدي — فتُبلغَه إن كان من الممكن أن يحظى بمتعة التحدُّث إليها نحو ربع ساعة.
فرنتسيسكا : أنا؟
يوست : سامحيني على مناداتك بلقبٍ غير لائقٍ لك. نعم، أقصدك أنت. ربع ساعة فقط، ولكن على انفراد، سرًّا، وحدكما؛ فإن لديه شيئًا هامًّا يريد أن يُخبركِ به.
فرنتسيسكا : حسنًا. وأنا كذلك لديَّ الكثير أريد أن أُفضيَ به إليه. يمكنه أن يأتي وسأكون تحت أمره.
يوست : ولكن، متى يأتي؟ ما أنسبُ وقتٍ لديك؟ في ساعة الغروب؟
فرنتسيسكا : ماذا تقول؟ لسيدك أن يأتي متى شاء. هيا انصرف إذن.
يوست (يهمُّ بالانصراف) : بكل سرور.
فرنتسيسكا : لكن اسمع. كلمة واحدة. أين خدم الرائد الآخرون؟
يوست : الآخرون؟ هنا وهناك وفي كل مكان.
فرنتسيسكا : أين فيلهلم؟
يوست : الخادم الخاص؟ تركَه الرائد يرحَل.
فرنتسيسكا : هكذا؟ وفيليب، أين هو؟
يوست : الصيَّاد؟ استودَعه الرائد بعضَ معارفه.
فرنتسيسكا : لأنه لا يصطاد الآن، بلا شك. لكن مارتن؟
يوست : الحُوذِي؟ انصرف.
فرنتسيسكا : وفريتس؟
يوست : الساعي؟ ترقَّى.
فرنتسيسكا : وأين كنتَ أنتَ عندما كان الرائد عندنا في تورنجن في المقر الشتوي؟ أظنك لم تكن معه؟
يوست : كنت أعملُ لديه سايسًا، ولكني كنتُ في المستشفى.
فرنتسيسكا : سايس؟ وماذا أنت الآن؟
يوست : الكل في الكل، خادمٌ خاص وصياد وساعٍ وسايس.
فرنتسيسكا : لا بد أن أعترفَ لكَ بدهشتي. أيُبعِد الإنسان هؤلاء الرجال الطيبين المجدِّين ولا يستبقي إلا أردأهم؟ كم أريد أن أعرف ما يجدُه فيكَ سيدُك!
يوست : ربما يجد أنني رجلٌ مُخلِص.
فرنتسيسكا : آه، ليس هناك أقل من أن يكون الإنسان مخلصًا فقط. كان فيلهلم إنسانًا من نوعٍ آخر. سيدُك تركَه يرحل؟
يوست : نعم، تركه؛ إذ إنه لم يستطع أن يُعيدَه.
فرنتسيسكا : كيف؟
يوست : أوه، لا بد أن فيلهلم يظهر في رحلاته الآن بمظهر العظماء؛ فإن ملابس الرائد كلها معه.
فرنتسيسكا : ماذا؟ ألم يمُر بها؟
يوست : لا يمكن أن نقول إنه لم يمُر بها، ولكن عندما خرجنا من نورنبرج لم يلحق بنا.
فرنتسيسكا : أوه، اللص.
يوست : لقد كان إنسانًا كاملًا. كان يُحسِن تصفيف الشعر وحلاقة الذقن والحديث بالفرنسية، ومغازلة البنات. أليس كذلك؟
فرنتسيسكا : ثم إنني لو كنتُ مكان الرائد لما تركتُ الصياد ينصرف، فإن لم يكن يريد استخدامه صيادًا، فهو على أي حالٍ شابٌّ نشيط مجتهد. استودَعه من؟
يوست : قائد شبانداو.
فرنتسيسكا : القلعة؟ ولكن الصيد عند الأسوار هناك لا يمكن أن يكون عظيمًا.
يوست : أوه، فيليب لا يصطاد هناك.
فرنتسيسكا : فماذا يعمل إذن؟
يوست : ينقل حجرًا.
فرنتسيسكا : ينقل حجرًا؟
يوست : حُكِم عليه بنقل الحجر والأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنواتٍ فقط؛ لأنه كان يَحيك مؤامرةً بين صفوف قوات الرائد، وأراد أن ينفُذ بستة رجالٍ من خلال الصفوف الأمامية.
فرنتسيسكا : عجبًا، يا له من شرِّير!
يوست : أوه، الشابُّ النشيط المجتهد. صياد يعرف كل الدروب والمسالك في الغابات والأدغال في دائرة عرضها خمسون ميلًا. كما يجيد إطلاق النار.
فرنتسيسكا : حسنٌ أنه احتفظ على الأقل بالحُوذِيِّ الشجاع.
يوست : هل احتفظ به فعلًا؟
فرنتسيسكا : ظننتُ ذلك فقد قلتَ إنه انطلَق. ولا بد أنه عاد.
يوست : تعتقدين ذلك؟
فرنتسيسكا : إلى أين انطلق؟
يوست : مضى على ذلك الآن عشرة أسابيع. يومها ركب حصان الرائد، حصانه الوحيد والأخير، وانطلَق به إلى حيث تَستحِم الخيل.
فرنتسيسكا : ولم يعُد للآن؟ يا له من خبيث!
يوست : لا بد أن بركة الخيل أغرقَته إغراقًا وهو الحُوذِي الشجاع. لقد كان حُوذيًّا بارعًا، تعلَّم في فيِنَّا عشر سنوات ولن يحصل السيد الرائد على مثيله، كان عندما تعدو الخيول عَدوًا يقول لها: «برررر»، فتقف من فَورِها كأنها الأسوار، كذلك كان واسعَ العِلم في طِب الخيول.
فرنتسيسكا : بعد هذا كله أخشى أن أسأل عن ترقِّي الساعي.
يوست : لا، لا، ترقِّيه فيه جانبٌ من الصحة، لقد أصبح طبَّالًا في كتيبةٍ مرابطة.
فرنتسيسكا : توقَّعتُ هذا.
يوست : لقد تعلَّق فريتس بشخصٍ سيئ الأخلاق، فكان لا يعود إلى البيت بالليل، وكان يستدين أموالًا في كل مكان باسم السيد الرائد، ويرتكب آلاف الأفعال المخزية. باختصار، رأى السيد الرائد أنه يريد أن يعلُو بالقوة (يأتي بحركةٍ بانتوميمية تمثِّل المشنقة) فوجَّهه الوِجْهة المؤدية إلى غرضه.
فرنتسيسكا : أوه، يا له من وغد!
يوست : ولكنه كان ساعيًا ممتازًا، لا شك في هذا. كان السيد إذا كلَّفه بأن يسبقه قَدْر خمسين خطوة، لم يستطع أن يلحق به ولو ركب أسرعَ فرسٍ له، ولكني أُراهِن بحياتي على أن المشنقة لن تفلته حتى لو كان بينه وبينها ألف خطوة. هؤلاء أصدقاؤك الطيبون جميعًا؛ فيلهلم وفيليب ومارتن وفريتس. والآن، يستأذن يوست (يخرج).

المشهد الثالث

(فرنتسيسكا – ثم صاحب الفندق)
فرنتسيسكا (تنظر وراء يوست نظرةً جادة) : استحق هذه الوخزة. شكرًا لك يا يوست. لقد كنتُ أحُطُّ من قيمة الإخلاص، أما الآن فلن أنسى هذا الدرس. آه، الرجل التعِس (تلتفِت وتهمُّ بالاتجاه إلى حجرة الآنسة فيأتي صاحب الفندق في اللحظة نفسها).
صاحب الفندق : انتظري يا بُنيَّتي الجميلة.
فرنتسيسكا : لا وقت عندي الآن يا سيدي.
صاحب الفندق : لحظةً واحدة فقط. ألم تأتِ أخبارٌ جديدة من السيد الرائد؟ لا يمكن أن يكون ما حدَث هو الوداع.
فرنتسيسكا : ماذا؟
صاحب الفندق : ألم تقُصَّ عليكِ الآنسة الكريمة ما حدَث؟ عندما تركتُكِ في المطبخ يا بُنيَّتي أتيتُ بالمصادفة إلى هنا، إلى هذه القاعة.
فرنتسيسكا : بالمصادفة! بل كنتَ تنوي التنصُّت.
صاحب الفندق : آه بُنيَّتي، كيف تظُنين بي هذا الظن؟ لا يعيب صاحبَ الفندق عيبٌ أكثر من الفضول. لم يطُل وقوفي هنا حتى انشَقَّ باب الآنسة الكريمة واندفع الرائدُ خارجًا منه والآنسة وراءه. كانا الاثنان في ثورة ينظران نظراتٍ غريبة ويتصرَّفان تصرُّفاتٍ غريبة، على قَدْر ما أمكنني أن أرى، ثم أمسكَت به الآنسة، فتخلَّص منها، فعادت إلى الإمساك به، «تلهايم». «يا آنسة، دعيني». «إلى أين؟» وهكذا جرَّها إلى السُّلم جرًّا، حتى خشيتُ أن تهوي من الجر على السُّلم، وأخيرًا أفلَت منها. وبَقِيَت الآنسة واقفةً على الدرجة العليا تُتابعُه بنظرها وتُناديه وتعقدُ يديَها. وفجأةً التفَتَت وجرت إلى النافذة ثم عادت من النافذة إلى السلم ثم إلى القاعة، وظلَّت هكذا تروح وتجيء. كنتُ أقف هنا ومرَّت بي ثلاثَ مرات، دون أن تراني. وأخيرًا بدا عليها كما لو كانت لمحَتْني، لكن الله سَلَّم. أعتقد أنها ظنَّت أنني أنت، يا بُنيَّتي؛ لأنها صاحت في «فرنتسيسكا»، وثبَّتَت عينَيها عليَّ سائلة: «هل أنتِ سعيدة الآن؟» ثم نظَرَت إلى السقف جامدةً وعادت تسأل: «هل أنا سعيدة الآن؟» ثم مسحَت دموعها مما فيها وابتسمَت وعادت تسأل: «فرنتسيسكا، هل أنا سعيدة الآن؟» الحقيقة أنني لم أعرف في أي حالٍ كنت، ثم جرت إلى الباب وما لبثَت أن عادت ثانيةً إليَّ وقالت: «تعالَي يا فرنتسيسكا. مَن يُحزِنك هكذا الآن؟» ودخلت.
فرنتسيسكا : أوه، لقد حلُمتَ هذا كله.
صاحب الفندق : حلُمت؟ لا، يا بُنيَّتي الجميلة. لا يحلُم الإنسان أشياء معقدةً كهذه. هيه، إنني مستعدٌّ لدفع أي شيء، رغم أنني لست فضوليًّا، ولكني مستعدٌّ لدفع أي شيء، إذا أمكنَني الحصول على المفتاح.
فرنتسيسكا : المفتاح؟ مفتاح بابنا؟ إنه في الباب من الداخل؛ فقد أدخلناه بالليل لأننا نخاف.
صاحب الفندق : لا، ليس هذا المفتاح. أعني، يا بُنيَّتي الجميلة، المفتاح؛ أي تفسير ما حدَث؛ أي المعنى الحقيقي لما رأيت.
فرنتسيسكا : آه، هكذا. وداعًا يا سيدي. هل سنأكل بعد قليل؟
صاحب الفندق : كدتُ أنسى يا بُنيَّتي الجميلة ما أتيتُ من أجله.
فرنتسيسكا : قل. لكن أَوجِز.
صاحب الفندق : الآنسة الكريمة ما زالت تحتفظ بخاتمي، أقول خاتمي.
فرنتسيسكا : لن يضيعَ عليك.
صاحب الفندق : لم يساورني أيُّ شك في ذلك، ولكنَّني أردتُ أن أذكِّرها، بل أكثر من هذا أنا لا أريد أن أستعيده؛ فقد فهمتُ بمنتهى السهولة كيف تعرَّفَت عليه ولماذا يشابه خاتمها هذه المشابهة. وهو في يدها في الحفظ والصَّون، ولها أن تحتفظ به، وسوف أُضيف مبلغ المائة بستولة التي أعطيتُها برهَانِه، إلى حساب الآنسة الكريمة. تمام يا بُنيَّتي الجميلة؟

المشهد الرابع

(باول فرنر – صاحب الفندق – فرنتسيسكا)
فرنر : ها هو.
فرنتسيسكا : تقول مائة بستولة؟ أظن أن المبلغ كان ثمانينَ فقط.
صاحب الفندق : بالضبط، كان تسعين فقط، تسعين فقط. وهذا ما سأُضيفه يا بُنيَّتي الجميلة، هذا ما سأُضيفه.
فرنتسيسكا : كل هذا ممكن الوصول إليه.
فرنر (وكان يتقدَّم نحوهما من الخلف، ثم وضع يدَه فجأةً على كتف فرنتسيسكا) : يا بنت، يا بنت.
فرنتسيسكا (منزعجة) : هه.
فرنر : لا تنزعجي. رأيتُ أنك جميلة، ولا بد أنك غريبة تمامًا في هذا المكان. ولا بد من تحذير الجميلات الغريبات. يا بُنيَّتي، خذي حِذركِ من هذا الرجل (يشير إلى صاحب الفندق).
صاحب الفندق : هه، أصدقاء لم أتوقَّع حضورهم، يا سيد باول فرنر. ومرحبًا بك عندنا، مرحبًا بك. ما زال هو فرنر الظريف المُخلِص المليح النكتة. قلتَ إن عليها أن تأخذ حِذْرها مني، ها! ها!
فرنر : ابتعدي عن طريقه حيثما كان.
صاحب الفندق : طريقي، طريقي. هل أنا خطيرٌ إلى هذا الحد؟ ها، ها، ها. سمعتِ يا بُنيَّتي الجميلة، كيف تجدين هذه النكتة؟
فرنر : أمثالُك يُؤَوِّلون الكلام على أنه نكتة، إذا كان ما يقوله لهم الإنسان هو الحقيقة.
صاحب الفندق : الحقيقة، ها، ها، ها. أليس كذلك، يا بُنيَّتي الجميلة، هذه نكتةٌ أحسن. إن الرجل ليُجيد النكتة. أنا خطير؟ أنا؟ قبل عشرين عامًا كنتُ كما يقول. نعم، نعم، يا بُنيَّتي الجميلة، كنتُ خطيرًا، وكان يمكن الحديث عن خطورتي، أما الآن …
فرنر : فمجنونٌ عجوز.
صاحب الفندق : هنا مربط الفرس. عندما يُصبِح الواحد منا عجوزًا تنتهي خطورته. وليس ما أحدَث بك السن يا سيد فرنر خيرًا مما أحدَث بي.
فرنر : رجلٌ وقح لا حد لوقاحته. يا بنيتي، لا شَكَّ أنك تجدين فيَّ فهمًا جديرًا بثقتك يكفيني مؤنة الحديث عن ذلك الخطر. لقد انصرف عنه شيطانٌ واحد فتملَّكَه سبعة شياطين.
صاحب الفندق : أوه، أتسمعين، أتسمعين، كيف يعرف في تحوير الكلام وتدويره، ويلقي النكتة تلو النكتة، ويأتي كل مرة بجديد؟ آه، إنه رجلٌ ممتاز هذا السيد باول فرنر. (لفرنتسيسكا؛ كأنه يهمس في أذنها)، رجلٌ موسر، لم يتزوَّج بعدُ، وله على مسيرة ثلاثة أميالٍ من هنا عملُه الجميل في محكمة العمدية، واغتنم أثناء الحرب غنائمَ كثيرة. وكان قبل ذلك حارسًا لدى السيد الرائد. أوه، إنه صديق السيد الرائد، صديق، يدفع بنفسه من أجله إلى الموت.
فرنر : نعم، وهذا صديق سيدي الرائد، صديق. كان ينبغي على السيد الرائد أن يأمر به أن يُقتَل.
صاحب الفندق : كيف؟ ماذا؟ لا، يا سيد فرنر، ليست هذه بالنكت الجيِّدة. أنا لست صديقًا للرائد؟ لا، أنا لا أفهم هذه النكتة.
فرنر : لقد حكى لي يوست أشياءَ جميلة.
صاحب الفندق : يوست؟ لقد خطر ببالي أن يوست يتكلَّم من خلالك. يوست هذا رجلٌ شرير قبيح، ولكن هنا بنت جميلة، معنا، يمكنها أن تتكلَّم، يمكنها أن تقول هل أنا صديق للسيد الرائد أم لا. هل أدَّيتُ له خدماتٍ أم لم أفعل. ثم ما الذي يمنع من أكون صديقه؟ أليس هو رجلًا رفيع القيمة؟ صحيحٌ أنه لسوء الحظ أُحيل إلى الاستيداع، ولكن علامَ يدُل هذا؟ إن الملك لا يعرف جميع الرجال ذوي القيمة، وهو حتى لو عرفهم، لن يمكنه أن يَجزيَهم جميعًا.
فرنر : أجرى الله هذا الكلام على لسانك. لكن يوست … حقيقة أن يوست لا يتميز بميزاتٍ خاصة ولكنه ليس كذَّابًا، لو صح ما حكاه لي.
صاحب الفندق : لا أريد أن أسمع عن يوست شيئًا. قلتُ لتوي: البنت الجميلة هنا ويمكنُها أن تتكلم (يهمس في أذنها)، تعرفين يا بُنيَّتي، الخاتم، هه. قُصِّي ذلك على السيد فرنر، حتى يعرفني معرفةً أفضل. وحتى لا يبدو الأمر كما لو كنتِ تتكلَّمين مرضاةً لي، سأترك لكما المكان؛ لن أبقى معكما، سأذهب. وأنتَ يا سيد فرنر، عليك عندئذٍ أن تقول لي ما إذا كان يوست دسَّاسًا لئيمًا أم لا.

المشهد الخامس

(باول فرنر – فرنتسيسكا)
فرنر : أتعرفين سيدي الرائد، يا بُنيَّة؟
فرنتسيسكا : الرائد فون تلهايم؟ نعم أعرف الرجل الشَّهم.
فرنر : أليس رجلًا شهمًا؟ أتميلين له؟
فرنتسيسكا : من أعماق قلبي.
فرنر : حقًّا؟ أترينَ يا بُنيَّة، الآن تلوحين لي جميلة جمالًا مزدوجًا، ولكن ما هي هذه الخدمات التي يقول صاحب الفندق إنه أدَّاها للسيد الرائد؟
فرنتسيسكا : لا أعرف بالضبط. ربما أراد أن ينسب إلى نفسه الطيبة التي نشأَت وحدها لمصادفةٍ سعيدة من تصرُّفٍ خبيثٍ تَصرَّفه.
فرنر : على هذا يكون ما قاله لي يوست صحيحًا (ناظرًا ناحية الجهة التي خرج منها صاحب الفندق)، من حُسن حظك أنك انصرفت. هل أخرجَه فعلًا من حُجرته؟ يلعب مع مثل هذا الرجل لعبة كهذه؛ لأن مُخَّه، شبيه مخ الحمار، تَخيَّل أن الرجل لم يعُد يَحتكِم على مال. الرائد ليس عنده مال؟
فرنتسيسكا : هكذا؟ هل لدى الرائد مال؟
فرنر : مالٌ كثير. لا تعرفين ما عنده من مالٍ لكثرته. إنه هو نفسه لا يعرف المدينين له. أنا نفسي مدين له وأُحضِر له اليوم جزءًا من بقية دَيْن، أترين يا بُنيَّة؟ هنا في هذا الكيس (يُخرِج كيسًا من جيبه) مائة جنيه ذهبًا، وفي هذه الصرة (يخرج صرةً من جيبه الآخر) مائة دوكات. كل هذا المال ماله.
فرنتسيسكا : حقًّا؟ ولكن لماذا يرهن الرائد أشياءه؟ لقد رهن خاتمًا.
فرنر : لا تصدِّقي هذا الكلام، ربما أراد أن يتخلَّص من شيءٍ تافه.
فرنتسيسكا : ليس شيئًا تافهًا، بل هو خاتمٌ ثمين، وعلاوةً على ذلك كان قد تلقَّاه من يد حبيبة.
فرنر : يَصِح .. من يد حبيبة. نعم، نعم. مثل هذه الأشياء تذكِّر الإنسان بما لا يُحب أن يتذكَّر؛ لهذا يتخلَّص منها ويُبعِدها بعيدًا عن عينه.
فرنتسيسكا : كيف هذا؟
فرنر : إن ما يجري للضابط في أماكن المرابطة الشتوية عجبٌ حقًّا؛ فهو لا يعمل شيئًا وهو يعتني بمظهره وهيئته ثم يعقد الصلات بالآنسات، هربًا من الملل، ولا يقصد أن تدوم هذه الصلات أكثر من الشتاء، وإن كان قلب من تُعقَد معهن الصِّلات يريدها للعمر بطوله. وفي لمح البصر يكتشف أن خاتمًا قد ركِّب في إصبعه، دون أن يعلم هو نفسه من أين أتى ذلك الخاتم فاستقر في إصبعه. ولا يندُر أن يفضِّل الضابط أحيانًا أن يقطع إصبعه بالخاتم، إن كان ذلك القطع يخلِّصه منه.
فرنتسيسكا : آه! وهذا حدَث أيضًا للرائد؟
فرنر : بلا شك. خاصة في ساكسونيا. لو كان له في كل يدٍ عشرة أصابع لامتلأَت يداه بأصابعها العشرين خواتم.
فرنتسيسكا (جانبًا) : هذا كلامٌ فريد يستحق أن يُفحَص. وأنت تُحب أن تُنادَى بحضرة حَكَم العمدية أو بحضرة الرقيب؟
فرنر : يا بُنيَّة، إن لم يسُؤْكِ ذلك، فضَّلتُ أن أُنادَى بحضرة الرقيب.
فرنتسيسكا : إذن، يا حضرة الرقيب، هذا خطابٌ من السيد الرائد إلى سيدتي، سأحملُه إليها بسرعة وأعود إلى هنا توًّا، هلا تكرَّمتَ فانتظرتَ حتى أعود؟ فإنني أُحب أن أتكلَّم معك.
فرنر : تُحبين الكلام، يا بُنيَّة؟ لا مانع لدَيَّ. اذهبي. وأنا كذلك أُحب الكلام، سأنتظر.
فرنتسيسكا : انتظر، هه (تخرج).

المشهد السادس

(باول فرنر)
فرنر : هذه بنتٌ لا يصعُب الحصول عليها، ولكن ما كان ينبغي أن أعِدَها بالانتظار؛ فإنني أتيتُ لأمر أهم وهو البحث عن السيد الرائد. إنه لا يريد مالًا مني ويفضِّل رَهْن ما عنده؟ هذه صفة يُعرف بها. لقد خطر ببالي الآن خاطرٌ مفاجئ. عندما كنتُ في المدينة منذ أربعة عشر يومًا زرت زوجة نقيب الفرسان مارلوف، فوجدتُ السيدة المسكينة راقدةً في فراش المرض تبكي وتنوح لأن زوجها مات وعليه دَينٌ للسيد الرائد يبلغ أربعمائة تالر ولا تعرف سبيلًا لرده إليه. واليوم أردتُ أن أزورها، أردتُ أن أقول لها إنني سأُقرِضها خمسمائة تالر عندما أبيعُ مزرعتي الصغيرة وأتلقَّى ثمنها؛ لأنني لا بد أن أضع جزءًا من المبلغ في يدٍ أمينة عندما أرحل إلى بلاد فارس، فوجدتُها في أحسن حال. ولا شك أنها لم تتمكَّن من دفع شيءٍ إلى السيد الرائد. هذا ما أريد أن أفعلَه! وكلما عجَّلتُ كان أفضل، وعلى البُنيَّة ألا تغضب مني؛ فلا طاقة لي على الانتظار (يمشي غارقًا في أفكاره فيُوشِك أن يصطدم بالرائد الذي أقبل ناحيته).

المشهد السابع

(فون تلهايم – باول فرنر)
فون تلهايم : هكذا غارقٌ في الأفكار يا فرنر؟
فرنر : هذا أنت يا سيدي؟ كنتُ على وشك الانصراف لأذهبَ إليك وأزوركَ في مسكنك الجديد، يا سيدي الرائد.
فون تلهايم : لتملأ أذني سبًّا ولعنًا في صاحب الفندق القديم. لا تُذكِّرني به.
فرنر : كنتُ سأفعل ذلك أيضًا، ولكن الأمر الأساسي الذي أتيتُ له هو رغبتي في توجيه الشكر إليكَ على تكرُّمكَ بصيانة مبلغ المائة جنيه ذهبًا. وقد أعادها يوست إليَّ. وكم أحب لو تفضَّلتَ فصُنتَها لي مدةً أطول، ولكنكَ يا سيدي انتقلتَ إلى مسكنٍ جديد لا تعرفه أنت ولا أعرفه أنا ولا يعرف أمره على وجه اليقين أحد، فربما سُرقَت منك فاضطُررتَ إلى تعويضي بدلها، فلا تنفع في هذا شفاعة؛ لذلك لا يمكنني أن ألتمسَ منك أمرًا كهذا.
فون تلهايم (يبتسم) : منذ متى تتصرَّف بهذه الحَيْطة يا فرنر؟
فرنر : هذا شيء يتعلَّمه الإنسان يا سيدي. ولا يمكن لإنسان أن يحتاط بما فيه الكفاية في أمر أمواله، ثم هناك أمرٌ آخر كُلِّفتُ بتبليغه إليك من السيدة حرم نقيب الفرسان مارلوف، وقد أتيتُ لتوِّي من عندها، تعلَم أن زوجها تُوفِّي وعليه لك دَينٌ مقداره أربعمائة تالر، هذه مائة دوكات تُرسِلها إليك مبدئيًّا وسترسل إليكَ الباقي في الأسبوع القادم. وأنا السبب الذي من أجله استعصى عليها إرسالُ المبلغِ كله .. على ما فهمت. وقد كانت مدينةً لي أيضًا بتالر وثمانين جروشنًا، فلما ذهبتُ إليها ظنَّت أنني أتيتُ لأُذكِّرها بالدَّين — وكان ما ظنَّته صوابًا — فأعطَتني المبلغ، أعطَتني إياه من الصرة التي كانت قد أعدَّتها لك من قبلُ. ولا شك أنك تحتاجُ إلى مبلغ المائة تالر أكثر من احتياجي إلى جروشناتي القليلة. ها هي، خذ (يقدِّم إليه صرة الدوكات).
فون تلهايم : فرنر!
فرنر : نعم، لماذا تُحدِّق فيَّ هكذا؟ خذ هذه يا سيدي الرائد.
فون تلهايم : فرنر!
فرنر : ماذا بك؟ ماذا يغضبك؟
فون تلهايم (غاضبًا، يخبط جبهته ويضرب برجله الأرض) : لأن الأربعمائة تالر لم تصل كلُّها.
فرنر : سيدي الرائد، ألم تفهمني؟
فون تلهايم : كلَّا، الأمر كلُّه يرجع إلى أنني لم أفهمك. هكذا يعذِّبني اليوم خير الناس.
فرنر : ماذا تقول؟
فون تلهايم : لا يخصك هذا الكلام إلا نصفًا. اذهب يا فرنر، (يردُّ يد فرنر التي تقدِّم الدوكات).
فرنر : سأذهب عندما أخلصُ من هذه.
فون تلهايم : فرنر، وما تقول لو أخبرتُكَ أن أرملة مارلوف كانت هنا في الصباح الباكر؟
فرنر : هكذا؟
فون تلهايم : وأنها لم تعُد مدينةً لي بشيء؟
فرنر : حقًّا؟
فون تلهايم : وأنها ردَّت ما عليها فلم يَبقَ منه قليل أو كثير. ماذا تقول إذن؟
فرنر (يفكِّر لحظة) : أقول إنني كذبت، وإن الكذب شيءٌ أحمق لأن الإنسان يُكتشَف أمره وهو ينطق به.
فون تلهايم : فهل تخجل؟
فرنر : وما شأن من يضطَرني إلى الكذب؟ ألا يخجل هو الآخر؟ اسمع يا سيدي الرائد، لو لم أقل لك إن تصرُّفك يغيظني، لكان ذلك عودةً مني إلى الكذب، ولستُ أريد العودة إلى الكذب.
فون تلهايم : لا تغضب يا فرنر. أنا أعرف قلبك وحُبك لي، ولكني لا أحتاج إلى مالك.
فرنر : لا تحتاج إليه؟ وتفضِّل البيع وتفضِّل الرهن وتفضِّل أن تصير مضغةً في أفواه الناس؟
فون تلهايم : للناس أن يعرفوا أنني لم أعُد أملك شيئًا؛ فليس للإنسان أن يظهر أغنى مما هو.
فرنر : ولماذا يظهر أفقر؟ إننا نملكُ ما دام صديقُنا يملك.
فون تلهايم : لا يليق أن أكون مدينًا لك.
فرنر : لا يليق؟ ألم تأتِ مرة إليَّ قائلًا: «فرنر هل لديك شيءٌ أشربه؟» في ذلك اليوم الحارِّ الذي تعرفه، اليوم الحار الذي ألهبَتْه الشمس وألهبَه العدو، عندما تاه سايسك ومعه الطعام والشراب؟ ثم ألم أقدِّم إليك زمزميتي فأخذتَها وشربتَ منها؟ أكان هذا يليق؟ والله إن شربةً من الماء العطن في ذلك الوقت لتزيد قيمةً عن هذا المتاع التافه كلِّه (عندئذٍ يُخرِج كيس الجنيهات الذهبية أيضًا ويقدِّمه إليه مع الصرة). خذ هذه، يا سيدي الحبيب، تخيَّلها ماء؛ فقد خلق الله هذه أيضًا لكل الناس كالماء.
فون تلهايم : أنت تعذِّبني، لقد سمعتَ أنني لا أريد أن أكون مدينًا لك.
فرنر : لقد قلت أولًا إن هذا لا يليق، ثم ها أنت ذا الآن تقول إنك لا تريد؟ نعم هذا شيءٌ آخر (غاضبًا بعض الشيء)، لا تريد أن تكون مدينًا لي؟ هذا لو لم تكن قد أصبحتَ مدينًا لي من قبلُ، يا سيدي الرائد. أولستَ مدينًا بشيءٍ للرجل الذي صدَّ عنك مرةً ضربةَ سيف كادت تشُج رأسك، ومرةً قطع ذراعًا كانت تُوشِك الضغط على زناد بندقية فتنطلق منها رصاصة تستقر في صدرك؟ هل هناك دَينٌ أكبر من هذا يمكن أن تكون مدينًا به لهذا الرجل؟ أو هل رقبتي أقل قيمةً من مالي؟ إذا كنتَ تفكِّر هكذا بدافع الرفعة فإنني أُقسِم لك إن هذا التفكير لا طعم له البتَّة.
فون تلهايم : مَع من تتحدث هكذا يا فرنر؟ نحن هنا وحدَنا ويمكنني أن أتكلَّم كلامًا لو كان ثالثٌ معنا لاعتبره مبالغة ونفجًا. أنا يسُرني أن أعترف لك أني مدين لك مرتَين بحياتي، ولكن يا صديقي، هل كان لديَّ ما يمنع من أن أفعل من أجلك نفس الشيء الذي فعلتَه من أجلي؟ هه.
فرنر : لم تَعرِض فرصةٌ لذلك. ومن يشُك في استماتتك من أجل رجالكَ يا سيدي الرائد؟ ألم أَرَ مائةَ مرة كيف كنتَ تركبُ الصعب وتُعرِّض حياتَك للخطر من أجل أبسط الجنود؟
فون تلهايم : فيم حديثك إذن؟
فرنر : لكن …
فون تلهايم : لكن لماذا لا تفهمني كما ينبغي؟ أقول: لا يليق أن أكون مدينًا لك ولا أريد أن أكون مدينًا لك. وعلى وجه التحديد في الظروف التي أنا فيها الآن.
فرنر : هكذا! هكذا! تريد إذن أن تؤجل ذلك إلى أوقاتٍ أحسن. تريد أن تستدين مني مالًا عندما لا تكون بحاجة إلى مال، عندما يكون عندك مال وربما لا يكون عندي.
فون تلهايم : لا يصح أن يستدين الإنسان إذا لم يكن يعرف كيف يردُّ الدَّين.
فرنر : لا يمكن أن يظل رجلٌ مثلكَ إلى الأبد بغير مال.
فون تلهايم : أنت تعرف الدنيا. وآخر مَن يصح أن يستدين منه الإنسان رجلٌ يحتاج هو نفسه إلى ماله.
فرنر : أي نعم، أنا كذلك، فما حاجتي إلى المال؟ عندما يحتاج البعض إلى حارسٍ برتبة رقيب فإنه يعطيه راتبًا يعيش منه.
فون تلهايم : أنت بحاجة إلى أن تترقَّى ولا تبقى على الدوام رقيبًا، بحاجة إلى التقدُّم في طريقٍ يتأخر فيه ذو القيمة إذا افتقر إلى المال.
فرنر : أترقَّى فأزيد على رقيب؟ هذا ما لم يخطر لي على بال؛ فأنا رقيبٌ مُجِد ولا شك أنني إذا ترقَّيتُ أصبحتُ نقيبَ فرسانٍ رديئًا ولواءً أردأ، الخبرة تؤكِّد ذلك.
فون تلهايم : لا تفعل يا فرنر ما يضطَرني لأن أُنكِر تقديرك؛ فقد حكى لي يوست كلامًا سمعتُه كارهًا، قال إنك بعتَ مزرعتَك وتنوي أن تضربَ في الأرض وتهيمَ على وجهك مرةً ثانية. لا تجعلني أعتقد أنك تُحب هذه المهنة وتُحب معها طريقة الحياة الغاشمة الفظَّة التي ارتبطتَ لسوء الحظ بها. إنما ينبغي أن يكون الإنسان جنديًّا من أجل وطنه أو حبًّا في قضيةٍ يكافح الناس من أجلها، أمَّا أن يحارب الرجل هنا تارةً وهناك تارةً أخرى، فلا يزيد عندي على أن يعني أن الرجل تحوَّل إلى صبي جزَّارٍ متجوِّل.
فرنر : أصبتَ يا سيدي الرائد، سأتبع نصيحتك؛ فإنك تُحسِن معرفة ما يليق وما لا يليق. سأبقى معك، ولكن يا سيدي العزيز، تقبَّل هذا المال، وسوف يُحكم لصالحك في القضية وتنال مالًا كثيرًا، فتردُّ إليَّ مالي وعليه الفائدة؛ فأنا إنما أقدِّم لك المال الذي أقدِّم لأحصل على الفائدة.
فون تلهايم : لا تقُل هذا.
فرنر : أُقسِم لك أنني أفعل ذلك من أجل الفائدة. كنتُ أحيانًا أفكِّر في نفسي: ماذا ستفعل إذا تقدَّمَت بك السن؟ إذا لحقَت بك مصيبة؟ إذا افتقدتَ ما عندك فلم يَبقَ لديك شيء؟ إذا اضطُررتَ إلى مد اليد والتسوُّل؟ فلا ألبثُ أن أقول في نفسي: لا، لن تمد يدك فتتسوَّل، بل ستذهب إلى الرائد تلهايم، فسيَقتسِم وإياك مالَه إلى آخر فنك، وسيُطعِمك حتى يحين موتك، فتموت عنده رجلًا شريفًا كريمًا.
فون تلهايم (يمسك فرنر بذراعه) : ألم تعُد ترى هذا الرأي الآن، يا زميلي؟
فرنر : لا، لم أعد أرى هذا الرأي؛ فإن من يرفض الأخذ مني وهو يحتاج وأنا أملك لن يُعطيَني شيئًا عندما أحتاج وهو يملك. انتهينا (يهمُّ بالانصراف).
فون تلهايم : لا تُجنَّني يا رجل، إلى أين تذهب؟ (يوقفه). إذا أكَّدتُ لك بشرفي أنني ما زلتُ ذا مال، ووعدتُكَ بشرفي أن أخبركَ إذا راح ما عندي من مال، وأن تكون أوَّل من أقترض منه، والوحيد الذي أقترض منه، هل ترتاح؟
فرنر : هلا أرتاح؟ هات يدَك يا سيدي الرائد.
فون تلهايم : اتفقنا، يا باول. لكن دعنا من هذا الآن، فقد أتيتُ لأتكلَّم مع إحدى البنات.

المشهد الثامن

(فرنتسيسكا (تخرج من حجرة الآنسة) – فون تلهايم – باول فرنر)
فرنتسيسكا (وهي خارجة) : أما زلتَ هنا يا سيدي الرقيب؟ (تُبصِر تلهايم) وأنت كذلك هنا، يا سيدي الرائد؟ سأكون تحت تصرُّفكَ حالًا (تعود مسرعةً إلى الحجرة).

المشهد التاسع

(فون تلهايم – باول فرنر)
فون تلهايم : هذه هي. مما سمعتُ أفهم أنك تعرفُها يا فرنر؟
فرنر : نعم، أعرف البُنيَّة.
فون تلهايم : ولكنكَ على ما أذكُر لم تكُن عندي أيام كنتُ في المقر الشتوي؟
فرنر : كنُتُ وقتها في ليبتسج أسعى للحصول على صُورِ بعض المستندات.
فون تلهايم : فكيف تعرَّفتَ عليها إذن؟
فرنر : معرفتُنا بنتُ الساعة، بدأت اليوم، ولكن التعارف إذا كان حديث العهد كان حارًّا.
فون تلهايم : ولعلك رأيتَ سيدتَها الآنسة أيضًا؟
فرنر : هل سيدتُها آنسة؟ قالت لي، إنك تعرف سيدتها.
فون تلهايم : ألم تفهم؟ من أيام تورنجن.
فرنر : هل الآنسة شابة؟
فون تلهايم : نعم.
فرنر : جميلة؟
فون تلهايم : جميلةٌ جدًّا.
فرنر : غنية؟
فون تلهايم : غنيةٌ جدًّا.
فرنر : هل الآنسة تميل إليك كمَيل البنت؟ إذن فهذا أمرٌ عظيم.
فون تلهايم : ماذا تعني؟

المشهد العاشر

(فرنتسيسكا (تخرج من الحجرة ثانية ومعها خطاب) – فون تلهايم – باول فرنر)
فرنتسيسكا : سيدي الرائد.
فون تلهايم : فرنتسيسكا العزيزة، لم أتمكَّن من تحيتك حتى الآن.
فرنتسيسكا : لا شك أنك حيَّيتَني فعلًا في فكرك؛ فإنني أعرف أنك تميل إليَّ، وأنا أيضًا أميل إليك، وليس من الخير أن يُغضِب الإنسان من يميلون إليه.
فرنر (لنفسه) : ها، بدأتُ ألحظ، صحيح.
فون تلهايم : مصيري، يا فرنتسيسكا. هل أَوصلتِ الخطاب؟
فرنتسيسكا : نعم وها أنا أُسلِّمك (تسلمه خطابًا).
فون تلهايم : الرد؟
فرنتسيسكا : لا، خطابك نفسه، أردُّه إليك.
فون تلهايم : ماذا؟ ألم تشأ أن تقرأَه؟
فرنتسيسكا : ربما شاءت ولكن نحن لا نقوى على قراءة المكتوب.
فون تلهايم : يا ماكرة.
فرنتسيسكا : والرأي عندنا أن كتابة الخطابات لم تُبتدَع لأولئك الذين يستطيعون تبادُل الحديث متى شاءوا.
فون تلهايم : يا له من عذر! لا بد أن تقرأه. إنه يحتوي على تبرير تصرُّفي، على كل الأسباب والدوافع.
فرنتسيسكا : تُريد الآنسة أن تسمعَها منك نفسك، لا أن تقرأها.
فون تلهايم : مني أنا؟ حتى تُربكَني كل كلمةٍ من كلماتها، وكل لمحةٍ من لمحاتها، وحتى أُحِس في كل نظرة من نظراتها بعِظَم مصابي؟
فرنتسيسكا : وبلا رحمة. خذ (تعطيه الخطاب). الآنسة تنتظرك في الساعة الثالثة، تريد أن تخرج لتتفرَّج على المدينة، وأن تكون معها في العَربة.
فون تلهايم : معها في العربة؟
فرنتسيسكا : وماذا تُعطيني إذا تُركتما تسيران بالعربة وحدَكُما؟ سأبقى في البيت.
فون تلهايم : وحدنا؟
فرنتسيسكا : في عَربةٍ جميلةٍ مقفلة.
فون تلهايم : لا يمكن.
فرنتسيسكا : بلى. سيواجه السيد الرائد الهجوم في عربةٍ مقفلة، حتى لا يُفلِت منا. الخطة وُضعَت لهذا الغرض. باختصار، ستأتي يا سيدي الرائد، وفي تمام الساعة الثالثة. كنت تريد أن تكلِّمني على انفراد، فما خطبك؟ آه، لسنا على انفراد (تنظر إلى فرنر).
فون تلهايم : بلى، يا فرنتسيسكا، على انفراد، ولكن نظرًا لأن الآنسة لم تقرأ الخطاب فليس لديَّ ما أقولُه لك.
فرنتسيسكا : هكذا؟ على انفراد؟ ألا تُخفي أسرارك على السيد الرقيب؟
فون تلهايم : لا، مطلقًا.
فرنتسيسكا : بل يلوح لي، أنه ينبغي أن تحبس عنه بعض أسرارك.
فون تلهايم : كيف ذلك؟
فرنر : لماذا يا بُنيَّتي؟
فرنتسيسكا : خاصة أسرارًا من نوعٍ معيَّن. بأصابعه العشرين، يا سيادة الرقيب!

(وهي ترفع يدَيها إلى أعلى وقد انفرجَت أصابعها.)

فرنر : هست، هست، يا بُنيَّة، يا بُنيَّة.
فون تلهايم : ما معنى هذا؟
فرنتسيسكا : في لمح البصر يكتشف أن خاتمًا قد ركِّب في إصبعه، يا سيادة الرقيب.

(كأنما تلبس خاتمًا بسرعة.)

فون تلهايم : ماذا دهاكما؟
فرنر : يا بُنيَّة، يا بُنيَّة، لا شك أنك تفهمين المزاح؟
فون تلهايم : لعلك لم تنسَ ما قلتُه لك مرارًا من أن هناك نقطةً لا يصح أن تمزح فيها مع البنت؟
فرنر : أقسم، إنني لا بد قد نسيتُ ذلك. يا بُنيَّة، أرجوك.
فرنتسيسكا : لو كان مزاحًا، سامحتُكَ هذه المرة.
فون تلهايم : إذا كان لا بد من أن آتي، فافعلي ما في استطاعتكِ حتى تقرأ الآنسة الخطاب قبل مَقدَمي، حتى أوفِّر على نفسي عذاب التفكير في أشياءَ معيَّنة والتعبير عنها مرةً ثانية، وكم أودُّ أن أنساها نسيانًا، ها هو الخطاب سلميه إليها (يقلب الخطاب ويمدُّه إليها فيلحظ أن الخطاب قد فُض) أصحيحٌ ما أرى؟ الخطاب قد فُض، يا فرنتسيسكا.
فرنتسيسكا : ربما (تنظر إليه)، صحيح، لقد فضَّه أحد. يا تُرى من فضَّه؟ ولكننا لم نقرأه، فعلًا، يا سيدي الرائد، فعلًا. ولسنا نريد أيضًا أن نقرأه لأن كاتبه سيأتي بنفسه. أنت ستأتي، أليس كذلك؟ وهناك شيءٌ آخر يا سيدي الرائد، لا تأتِ هكذا بهيئَتك هذه، تلبس أحذيةً برقبة وشعرك لم يُصفَّف، عذركَ معكَ طبعًا لأنك لم تتوقَّع مقابلتنا. لكن تعالَ لابسًا حذاء مدنيًّا، مُصفِّفًا شعرك؛ فإنك كما أنت الآن، تبدو مُسرِف الشجاعة، مُفرِط الفروسية.
فون تلهايم : شكرًا لكِ على ذلك، يا فرنتسيسكا.
فرنتسيسكا : إنك تبدو كما لو كنتَ قد قضيتَ الليلة الماضية في المعسكر.
فون تلهايم : صدَقت.
فرنتسيسكا : ونحن نريد الآن أن نأخذ زينتنا ثم نأكل. ولكم وَددْنا أن نَستبقيكَ لتشاركنا المائدة، ولكن وجودك قد يعوقنا عن الطعام، وها أنت ذا ترى أننا لسنا غارقين في الغرام إلى الدرجة التي نجوعُ معها.
فون تلهايم : سأذهب، يا فرنتسيسكا. وأعدِّيها في هذه الأثناء بعض الشيء حتى لا ألُوح لها ولا ألُوح لنفسي مهينًا. تعالَ يا فرنر، ستأكل معي.
فرنر : على مائدة صاحب الفندق هنا؟ لن يكون للطعام إذن في فمي طعم.
فون تلهايم : عندي، في حجرتي.
فرنر : إذا كان الأمر كذلك فسأتبعُك بعد قليل، سأقول للبُنيَّة كلمةً واحدة ثم آتي.
فون تلهايم : هذا شيءٌ يسُرُّني (يخرج).

المشهد الحادي عشر

(باول فرنر – فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا : نعم، يا حضرة الرقيب؟
فرنر : يا بُنيَّتي، وأنا عندما أعود، هل لا بد أن أكون وسيمًا أنيقًا أيضًا؟
فرنتسيسكا : تعال كما تريد يا حضرة الرقيب؛ فلن تنكر عيناي من أمرك شيئًا، ولكن أذني ستُضاعِفان من انتباههما إليك. عشرون إصبعًا تملؤها الخواتم. آه، آه يا حضرة الرقيب!
فرنر : يا بُنيَّتي، هذا هو بالضبط ما كنتُ أريد أن أقوله لك. لقد جرى هذا الكلام على لساني شططًا، وليس فيه شيء من حقيقة؛ فإن خاتمًا واحدًا فيه كل الكفاية، وقد سمعتُ الرائد مئات المرات يقول يؤكِّد: «إن الجندي الذي يغرِّر بفتاة لا يزيد عن أن يكون شخصًا دنيئًا.» وهذا أيضًا ما أراه أنا، يا بُنيَّتي. ثقي بهذا كل الثقة. ولأمُدَّ الخطى الآن حتى ألحق به. كُلي، بالهناء والشفاء، يا بُنيَّتي (يخرج).
فرنتسيسكا : بالهناء والشفاء، يا حضرة الرقيب. أعتقد أن الرجل يُعجِبني (تتأهب للدخول فإذا الآنسة خارجة).

المشهد الثاني عشر

(الآنسة – فرنتسيسكا)
الآنسة : هل انصرف الرائد؟ فرنتسيسكا، أعتقد أنني الآن من هدوء النفس بحيث كان يمكنُني أن أستَبقيَه هنا.
فرنتسيسكا : وأنا أُريد أن أزيدكِ هدوءًا.
الآنسة : خيرًا، آه لخطابه! يا له من خطاب! كل سطر من سطوره يدُل على الرجل الشريف الكريم، كل تمنُّع منه عن امتلاكي يؤكِّد حُبه لي تأكيدًا. لا بد أنه لاحظ أننا قرأنا الخطاب. لا يهم أن يكون قد لاحظ ذلك، ما دام سيأتي. لا شك أنه سيأتي، ولكني أجد في تصرُّفه يا فرنتسيسكا شيئًا من الكبرياء المُفرِطة؛ لأن عدم الرغبة في الاعتراف للحبيبة بفضلها في سعادة الحبيب، كبرياء، كبرياءُ لا طاقة لإنسانٍ بالصفح عنها. وماذا يا فرنتسيسكا، لو أثقل عليَّ بهذه الكبرياء؟
فرنتسيسكا : أتريدين أن تتمنَّعي إذن؟
الآنسة : آي، يا هذه. ألا تتألَّمين له، كما كنتِ تتألَّمين له من قبلُ؟ لا، أيتها المجنونة الحبيبة، لا تتمنَّع الواحدة منا إذا أخطأ الرجل خطأً واحدًا فقط. لا، وقد خَطرَت لي خطَّة، لأعذِّبه من أجل كبريائه بكبرياء مثلها.
فرنتسيسكا : صحيح، لا بد أنكِ قد هدَأتِ بالًا فعلًا، إذا كان قد خطَر لك مثل هذا الخاطر.
الآنسة : نعم لقد هدأتُ حقًّا. تعالَي، ستلعبين في هذا الفصل دَورَك.

(تدخلان.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤