الفصل الرابع

المشهد الأول

المنظر: حجرة الآنسة
(الآنسة ترتدي ملابسَ فاخرة كاملة حسنة الذوق – فرنتسيسكا، تنهضان من المائدة وخادمٌ يرفع ما عليها)
فرنتسيسكا : لا يمكن أن تكوني قد شبعتِ يا آنستي الكريمة.
الآنسة : تظُنين ذلك يا فرنتسيسكا؟ ربما؛ لأني لم أكن جائعةً عندما جلستُ إلى المائدة.
فرنتسيسكا : كان الاتفاقُ بيننا ألا نذكُره أثناء الطعام بكلمة، وكان الأصح أن ننويَ ألا نتمثَّله في بالنا.
الآنسة : لم أفكِّر إلا فيه.
فرنتسيسكا : وهذا ما لاحظتُه، بدأتُ مائةَ مرة أحدِّثُك عن أشياء وكنتِ في كل مرة تُجيبينَني بما لا يتفق مع السؤال (خادمٌ آخر يحضر قهوة) ها هو المشروب الذي يحرِّك به الإنسان أشجانَه، القهوة الحزينة الحبيبة.
الآنسة : أشجان؟ ليس لديَّ أشجان. إنما أفكِّر في الدرس الذي أريد أن أُلقِّنه إياه. أتفهمينني، يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا : آه، طبعًا. ويا ليتَه وفَّر علينا هذا.
الآنسة : ستَرينَ أنني أعرفُه خير المعرفة. هذا الرجل الذي يرفضني الآن بكل ما لديَّ من أموالٍ سيُصارِع الدنيا كلَّها من أجلي عندما يعرف أنني تعيسةٌ مهجورة.
فرنتسيسكا (جادة) : وهذا من شأنه أن يهزَّ إلى أقصى حدٍّ أرقَّ كرامة.
الآنسة : أيتها القاضية الأخلاقية! هيا انظري! لقد فاجأتِني من قبلُ في أمر الغرور، وها هو الأمر يتحوَّل الآن من الغرور إلى الكرامة. والآن دعيني، يا فرنتسيسكا، وافعلي مع صاحبك الرقيب ما تشائين.
فرنتسيسكا : صاحبي الرقيب؟
الآنسة : نعم، وإذا كنتِ تكذبين، فهذا دلالة على صحة حكمي. أنا لم أرَه بعدُ، ولكن كل كلمةٍ قلتِها لي عنه تمكِّنُني من التنبُّؤ بأنه الرجل الذي يُناسبُك.

المشهد الثاني

(ريكو دي لا مارلينيير١ – الآنسة – فرنتسيسكا)
ريكو (وما زال بالمشهد) : أتسمَحُ يا حضرة الرائد؟
فرنتسيسكا : ما هذا؟ أيريد مقابلتنا؟ (تذهب إلى الباب).
ريكو : يا ساتر. لقد أخطَأْت. لكن، لا. لم أخطئ. هذه حُجرتُه.
فرنتسيسكا : ليس هناك أدنى شك، يا آنستي الكريمة، في أن هذا الرجل يعتقد أن الرائد فون تلهايم ما زال يسكُن هنا.
ريكو : هو ذاك. الرائد فون تلهايم، بالضبط يا بُنيَّتي الجميلة. أبحث عنه. أين هو؟
فرنتسيسكا : لم يعُد يسكُن هنا.
ريكو : كيف هذا؟ كان هنا منذ أربعة وعشرين ساعة، والآن ليس هنا؟ فأين مسكنه إذن؟
الآنسة (تُقبِل ناحيتَه) : سيدي …
ريكو : آه، مدام. مدموازيل. يا صاحبة العصمة، عفوًا.
الآنسة : سيدي خطؤك مرفوع ودهشتُك طبيعية جدًّا. لقد تكرَّم السيد الرائد فترك لي حُجرتَه نظرًا لأني غريبةٌ عن هذا المكان ولا أجد حُجرةً أبيتُ فيها.
ريكو : آه، هذا شيء من أدبه. الرائد رجلٌ ظريف مهذَّب.
الآنسة : أما إلى أين ذهب في هذه الأثناء، فهذا ما لا أعرفه، وذلك مما يُخجِلني حقًّا.
ريكو : صاحبة العصمة لا تعرف عنوانه؟ خسارة. إن هذا ليَسوءُني.
الآنسة : كان ينبغي عليَّ أن أسأل عن عنوانه؛ لأنه من الطبيعي أن يأتي أصدقاؤه إليه هنا.
ريكو : أنا من أعز أصدقائه يا صاحبة العصمة.
الآنسة : ألا تعرفين عنوانه يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا : لا، يا آنستي الكريمة.
ريكو : أردتُ أن أُكلِّمه في أمرٍ هام. ومعي له خبرٌ سيفرحُ له جدًّا.
الآنسة : هذا مما يزيد أسفي، ولكني أتوقَّع أن أقابله، ربما قريبًا، فإذا كان يستوي عندك أن يسمع الخبر بغَض النظر عن اللسان الذي يُبلغُه إياه، فأرجو يا سيدي …
ريكو : فهمت. هل تتكلَّمين الفرنسية يا مدموازيل؟ طبعًا؛ بلا شك؛ هذا واضح. لم يكن سؤالي عن ذلك من الأدب. عفوًا، يا مدموازيل.
الآنسة : سيدي …
ريكو : لا؟ لا تتكلمين الفرنسية، يا صاحب العصمة؟
الآنسة : سيدي، لو كنتُ في فرنسا لحاولتُ أن أتكلَّم الفرنسية، ولكن لماذا أتكلَّم الفرنسية هنا؟ وقد تبيَّنتُ أنك تفهمُني، يا سيدي. وأنا أيضًا أفهمُك بلا شك، فتكلَّم اللغة التي تحلو لك.
ريكو : حسنًا، حسنًا. يمكنني أن أعبِّر عما أريد بالألمانية. اعلمي إذن يا مدموازيل؛ أقصد، اعلمي يا صاحبة العصمة أنني قادم من مائدة الوزير … وزير اﻟ … وزير اﻟ … ما اسم هذا الوزير هناك؟ في الشارع الطويل؟ بالميدان العريض؟
الآنسة : أنا لستُ من هنا، ولا أعرفُ الأماكن هنا مطلقًا.
ريكو : تذكَّرت، وزير الحربية. تناولتُ الغذاء — وأنا أتناول غذائي عادةً على مائدته — وجاءت سيرة الرائد تلهايم، فقال لي الوزير بيني وبينه؛ لأن سيادته من أصدقائي ولا يُخفي عليَّ شيئًا؛ أقصد أن صاحب السعادة أبلغَني أن قضية الرائد تُوشِك على الانتهاء وعلى الانتهاء إلى نهايةٍ طيبة. وقال لي إنه رفع تقريرًا إلى الملك فقرَّر الملِكُ بناءً على ذلك شيئًا في صالح الرائد؛ قال بالحرف الواحد: «إنك تعرفُ يا مسيو دي مارلينيير أن الأمر كله يتوقَّف على طريقة عرض الموضوع على الملك، وأنتَ خير من يعرفني. إن السيد تلهايم شابٌّ ظريف ويكفي أنني أعرفُ أنك تُحبه؛ فإن أصدقاء أصدقائي هم كذلك أصدقائي، حقيقةً إن تسوية قضية تلهايم ستُكلِّف الملك الكثير ولكن هل يخدم الإنسانُ الملِكَ مجانًا؟ إن أمر الدنيا قائم على أساس ساعِدني أُساعِدك، فإذا كانت هناك خسائرُ فالأفضلُ أن يتحمَّلَها الملِك، لا أن يتحمَّلَها رجلٌ منا؛ هذا هو المبدأ الذي لا أَحيدُ عنه أبدًا.» ماذا ترى صاحبة العصمة في هذا؟ ألستُ رجلًا شجاعًا؟ وصاحب السعادة الوزير ذو قلبٍ واعٍ. هذا وقد أكَّد لي أيضًا أن السيد الرائد إما أن يكون قد تلقَّى خطابًا بخط الملك فعلًا، أو أنه سيتلقَّاه حتمًا اليوم.
الآنسة : لا شك، يا سيدي، أن هذا الخبر سيُثلِج صدر الرائد إلى أقصى حد. وأرجو وأنا أُبلغُه الخبر أن أذكُر له أيضًا اسم الصديق الذي أسهَم في حظِّه على هذا النحو العظيم.
ريكو : تريدين اسمي يا صاحبة العصمة؟ من تَرينَه أمامكِ هو الفارس ريكو دي مارلينيير، سينيور دي بريتوفول، دي لا برانش دي برنسدور. تُدهشين يا صاحبة العصمة لأني أنحدر من عائلةٍ عظيمة، عظيمةٍ هكذا، سليلة الدم الملكي بحق. والحق ينبغي أن يُقال: أنا بلا شك أكثرُ أبناء العائلة ارتماءً في طريق المقامَرة والمخاطَرة. لقد احتَرفتُ الجندية منذ كنتُ في الحادية عشرة من عمري، واضطُرِرتُ إلى الهرب لأمرٍ حسمَتْه المبارزة، فدخلتُ في خدمة قداسة البابا ثم جمهورية سان مارينو ثم التاج البولوني ثم الأراضي الواطئة، ثم نزحتُ في آخر المطاف إلى هنا. آه يا مدموازيل، يا ليتني لم أرَ الأراضي الواطئة. لو كانوا تركوني في الخدمة العسكرية هناك لأصبحتُ الآن على الأقل برتبة عقيد. أما هنا فأنا لا أزيد ولا أنقُص، دائمًا أبدًا في رتبة نقيب، بل رقيب مُحال إلى الاستيداع حاليًّا.
الآنسة : هذا سوءُ حظٍّ كبير.
ريكو : نعم، يا مدموازيل، مُحالٌ إلى الاستيداع؛ يعني مُلقًى على الرصيف.
الآنسة : كَم أَرثي لك.
ريكو : إنكِ طيبة حقًّا، يا مدموازيل. لا يُقدِّر الناس هنا ذوي القيمة؛ يُلقُون برجلٍ مثلي إلى الاستيداع؛ رجلٍ مثلي ضيَّع نفسه في هذه الخدمة. كان عندي آنئذٍ عشرون ألف جنيه، فماذا أملِك الآن؟ لنستعمل العبارة الصحيحة: لا أملِكُ شَروَى نقير، وها أنا ذا اليومَ خاوي الوِفاض.
الآنسة : هذا يؤلِمُني أشد الألم.
ريكو : إنك طيبةٌ حقًّا، يا مدموازيل، ولكن المثل يقول: المصائب لا تأتي فُرادى. كل مصيبةٍ تأتي بأختها معها؛ هذا هو حالي تمامًا. ما حيلة إنسانٍ شريف في مثل حسبي ونسبي إلى المال إلا القمار؟ كنتُ أيامَ السعد أكسبُ دائمًا ولم يكن بي إلى الكسب حاجة. والآن وقد استبدَّت بي الحاجة، يا مدموازيل، يُلازِمني في اللعب نحسٌ يفوق الوصف خمسة عشر يومًا؛ نحسٌ يُلاحِقني ويحطِّمني كلما لَعِبْت؛ حطَّمَني بالأمس فقط ثلاث مرات. وأنا أعرف طبعًا أن هناك عواملَ أخرى غير اللعب في حد ذاته؛ فقد كان بين من أُلاعِبهم سيداتٌ من نوعٍ خاص. لن أزيد على ذلك شيئًا؛ فما ينبغي إلا أن يكون الإنسان مهذَّبًا مع السيدات. وهن دعَونَني اليوم لآخذ بثأري في اللَّعِب، ولكن — أنتِ تعلَمين، يا مدموازيل — لا بد أن يكون لدى المرء أولًا ما يعيش منه، قبل أن يكون لديه ما يلعب به.
الآنسة : لا أريد توقُّعًا، يا سيدي.
ريكو : إنك طيبةٌ حقًّا، يا مدموازيل.
الآنسة (تنتحي بفرنتسيسكا جانبًا) : فرنتسيسكا، إن الرجل ليُحزِنني حالُه حقًّا، أيسوءُه أن أقدِّم إليه شيئًا؟
فرنتسيسكا : سحنتُه في نظري لا تنمُّ عن ذلك.
الآنسة : طيب. سيدي، سمعتُ أنك تلعب، وأنك تعمل بنكًا،٢ ولا شك أنك لا تعمل هذا إلا حيث يكون الكسب مؤكَّدًا. وأنا أعترفُ لك بأنني — أيضًا — أُحب اللعب حُبًّا جمًّا.
ريكو : عظيم، يا مدموازيل، عظيم. أهل الفكر جميعًا يُحبُّون اللعب كل الحب.
الآنسة : وبأنني أُحب الكسب، وبأنني أُحب أن أُجازِف بمالي مع رجلٍ يتقن اللعب. هل تُحب أن تشترك معي؟ وأن تجعل لي في بنككَ نصيبًا؟
ريكو : كيف ذلك؟ تُريدين أن تشتركي معي مناصفةً يا مدموازيل؟ أَقبَل من كل قلبي.
الآنسة : في الأول بمبلغٍ بسيط (تذهب وتُحضِر مالًا من الصندوق).
ريكو : آه، يا مدموازيل، كَم أنتِ ساحرة.
الآنسة : هذا مبلغٌ كسبتُه منذ زمنٍ طويل، عشرة بستولات فقط. أنا خجلةٌ لأنه بسيط جدًّا.
ريكو : هاتي، يا مدموازيل، لا يهم، هاتي (يتناول المبلغ).
الآنسة : لا شك أن بنكك، يا سيدي؛ موثوق به.
ريكو : نعم، موثوق به غاية الثقة، عشرة بستولات؟ ستَربحين، يا صاحبة العصمة، من بنكي ثُلثَ ما تدفعين. الحقيقة أن الثلث كثير، ولكن لا يصحُّ أن يدقِّق الإنسانُ الحسابَ مع سيدةٍ جميلة. أنا أهنِّئ نفسي؛ لأنني سأكونُ هكذا على صلةٍ بكِ يا صاحبة العصمة، وستكونُ هذه اللحظةُ فاتحة تفاؤلٍ لحظِّي.
الآنسة : ولكنني لن أستطيعَ أن أكون حاضرةً عندما تلعب، يا سيدي.
ريكو : وما الداعي لحضورك؟ نحن معشر اللاعبين أولو شرفٍ فيما بيننا.
الآنسة : إذا ربحنا، فلا شك يا سيدي أنك ستحضر إليَّ نصيبي، فإذا خسرنا …
ريكو : أتيتُ أطلُب المدَد. أليس كذلك، يا صاحبة العصمة؟
الآنسة : إذا طال المدى عز المدَد، فادفع عن مالنا ما استطعتَ إلى ذلك سبيلًا، يا سيدي.
ريكو : فما تُشكِّك صاحبة العصمة فيَّ؟ أتعتقدين أنني غشيم؟ أنني غبي؟
الآنسة : عفوًا.
ريكو : أنا، يا مدموازيل، من أمهَر المهرة. أتعرفين ما أعني؟ أعني أنني مُحنَّك.
الآنسة : طبعًا، لا شك في هذا يا سيدي.
ريكو : أعرِف كيف أُحكِم المقلَب.
الآنسة (مندهشة) : وما لزومُ ذلك؟
ريكو : وأغشُّ في الورق بمهارة.
الآنسة : أبدًا.
ريكو : وأفنِّط الورق بخفَّة يد.
الآنسة : لا أودُّ أن تكون كذلك يا سيدي؟
ريكو : لا أكون ماذا؟ يا صاحبة العصمة، لا أكون ماذا؟ أعطني فريسةً سائغة و…
الآنسة : تُزوِّر في اللعب؟ تغُش؟
ريكو : كيف هذا يا مدموازيل؟ تُسمِّين هذا غشًّا؟ إصلاح ما أفسده الحظ، السيطرة على الحظ، التأكُّد من اللعبة، هذا يُسمِّيه الألمان غشًّا؟ غش؟ آه، يا لفقر اللغة الألمانية! ويا لسذاجتها!
الآنسة : لا يا سيدي، إذا كان هذا تفكيرك …
ريكو : دعيني أتصرَّف، يا مدموازيل، واستريحي بالًا. ما شأنُكِ في طريقة لعبي؟ كفى، إما أن تَرَيني غدًا وقد أحضرتُ مائة بستولة وإما ألا تريني أبدًا. تأذنين لخادمك الوضيع بالانصراف، يا مدموازيل؟ (يخرج على عجل).
الآنسة (تُلاحِقه بنظرة فيها الدهشة والغضَب) : أرجو أن تكونَ هذه المقابلة الأخيرة، يا سيدي، الأخيرة.

المشهد الثالث

(الآنسة – فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا (في مرارة) : أأستطيع الكلام؟ شيءٌ جميل، جميل جدًّا!
الآنسة : تهكَّمي؛ فأنا أستحق تهكُّمك (بعد تفكيرٍ قصير، وقد زادت مرحًا) لا، يا فرنتسيسكا، لا تتهكَّمي؛ فأنا لا أستحقُّ تهكُّمك.
فرنتسيسكا : عظيم. لقد قدَّمتِ صنيعًا فريدًا إذ عاونتِ نصَّابًا على النصب.
الآنسة : قدَّمتُه لمن فكَّرتُ أنه تعيس.
فرنتسيسكا : وأعظَمُ ما في الأمر أن الصعلوك يعتبركِ من أمثاله. أوه، لا بُد أن ألحقَ به وأستردَّ منه المبلغ (تهمُّ بالخروج).
الآنسة : فرنتسيسكا، لا تدَعي القهوة حتى تبرُد، صُبي.
فرنتسيسكا : لا بُد أن يردَّه إليك. سأقول له إنكِ غيَّرتِ فكرك ولا تريدين مشاركتَه. عشر بستولات. لقد سمِعتُ، يا آنسة، أنه كان مُتسوِّلًا (الآنسة تصُب بنفسها القهوة). من ذا الذي يعطي متسولًا مثل هذا المبلغ؟ ومن ذا الذي يجشِّم نفسه مشقة التحايُل حتى لا يُحسَّ الرجل بمذلَّة السؤال؟ ولسوف يعودُ المتسوِّل إلى إنكار صاحب النعمة الذي تدفعه نفسُه العالية إلى إنكار حال المتسول. وربما تستردِّين مالَكِ يا آنسة، إذا كان يعتبر الحسنة التي قدَّمتِها إليه، لا أعرف كيف (الآنسة تقدِّم إلى فرنتسيسكا قدحًا من القهوة). تُريدين بهذه القهوة أن تُثيري دمي، لا أُحب شُربها (الآنسة تُبعِد القهوة جانبًا). «وا حسرتي، يا صاحبة العصمة، أولو القيمة هنا لا يفهمُهم أحد» (تقول العبارة السابقة مقلِّدةً طريقةَ الفرنسي). طبعًا لا، لا يفهَمُهم أحد، بدليل أن النصَّابين تُركوا هكذا يعيثون في الأرض فسادًا.
الآنسة (ساكنة، تفكِّر وهي تشرب) : أنتِ تُحسنين فهم الأخيار من الناس فمتى تتعلَّمين تحمُّل الأرذال؟ فهم أيضًا بشر. وليسوا، في أغلب الأحوال، أرذالًا عُتاةً على نحو ما يبدون. وعلى الإنسان أن يبحث عن الناحية الطيبة فيهم. وأغلب ظني أن هذا الفرنسي لا يزيد عن أن يكون مغرورًا. والغرور وحده هو الذي يدفعه إلى أن يكون لاعبًا غشَّاشًا، ثم هو لا يريد أن يظهر حيالي بمظهر الممتَن حتى يوفِّر على نفسه مؤنة الشكر. ربما ذهب الآن ليُسدِّد ديونه البسيطة ويعيش مما يتبقَّى، إن كفَى، هادئًا مقتصدًا ولا يفكِّر في القمار قَط، فإن صح هذا يا عزيزتي فدعيه يطلُب المدَد، إن شاء (تقدِّم إليها قدَح القهوة). ضعيه هناك، ولكن، قولي، أليس المفروض أن يكون تلهايم قد أتى للقاء؟
فرنتسيسكا : لا، يا آنستي الكريمة، لا يمكنُني أن أبحث عن الناحية الطيبة في إنسانٍ شرير، ولا أن أبحث عن الناحية الشريرة في إنسانٍ طيب.
الآنسة : سيأتي حتمًا؟
فرنتسيسكا : بل عليه أن يبتعد عنا. وأنت لا تجدين فيه، فيه، في الرجل العظيم سوى قليلٍ من الكبرياء؛ لذلك رأيت أن تُداعبيه هذه المُداعَبة الفظيعة.
الآنسة : أتعودين إلى هذا؟ اسكتي، أريد أن أقضيَ هذا الأمر على هذا النحو. والآن وقد أفسَدتِ عليَّ متعتي، وامتنعتِ عن القول والفعل حسب الخطَّة التي اتفقنا عليها، سأتركُكِ الآن معه، ثم لا بد أنه ذلك القادم.

المشهد الرابع

(باول فرنر يدخل في خطوة عسكرية كما لو كان في الطابور – الآنسة – فرنتسيسكا)
فرنتسيسكا : لا، بل هو رقيبه الحبيب.
الآنسة : رقيبه الحبيب؟ بمن تعنين بالحبيب؟
فرنتسيسكا : يا آنستي الكريمة، لا تربكي لي الرجل. خادمتك، يا حضرة الرقيب، بم أتيتَنا؟
فرنر (يتجه إلى الآنسة دون أن يلتفت إلى فرنتسيسكا) : السيد الرائد فون تلهايم يُبلغ الآنسة الكريمة فون بارنهلم على لساني، أنا الرقيب فرنر، أسمَى احترامه، ويقول إنه سيكون هنا بعد قليل.
الآنسة : وأين هو؟
فرنر : يا صاحبة العصمة. لقد خرجنا من الدار قبل أن تدُق الساعة الثالثة، وبينما نحن في الطريق التقينا بصرَّاف الحربية الذي شَرعَ يتحدَّث إليه. ولمَّا كان الحديثُ مع أمثال هذا السيد لا ينتهي أبدًا إلى نهاية، فقد أشار إليَّ أن أذهبَ إلى الآنسة الكريمة وأُبلغَها الأمر.
الآنسة : طيب، يا حضرة الرقيب. كل ما أرجوه أن يُبلغ صرَّاف الحربية الرائد بما يسُرُّه.
فرنر : يندُر أن يُبلغَ هؤلاء الرجال الضباط ما يسُرُّهم. أتأمرين بشيء يا صاحبة العصمة؟ (يتأهب للانصراف).
فرنتسيسكا : إلى أين بهذه السرعة يا حضرة الرقيب؟ ألا تُحِب أن نتحادث معًا هُنيهة؟
فرنر (إلى فرنتسيسكا في حذَرٍ وجِد) : ليس هنا، يا بُنيَّة. مثل هذا يتنافى مع الأدب ومع وضعنا كخدم. صاحبة العصمة.
الآنسة : شكرًا على خدمتك، يا حضرة الرقيب. لقد سرَّني أن تعرفتُ عليك، وقد حكت لي فرنتسيسكا عنك خيرًا كثيرًا (ينحني فرنر انحناءةً عسكرية ثم ينصرف).

المشهد الخامس

(الآنسة – فرنتسيسكا)
الآنسة : هذا هو صاحبك الرقيب، يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا : ليس لديَّ الوقتُ الآن لأستنكر كلمة «صاحبك»، واللهجة التهكُّمية. نعم، يا آنستي الكريمة، هذا هو صاحبي الرقيب، لا شك أنكِ تجدينه جامدًا متصلبًا، بعضَ الشيء. والحق أنه بدا لي الآن كذلك، أو أوشَك، ولكني أعتقد أنه ظن أن عليه أن يتصرَّف أمامكِ كما لو كان يقوم باستعراض. وطبعًا عندما يستعرض الجنود يبدون أقرب إلى هيئة الدُّمى منهم إلى البشر. لكن انظُري إليه واسمَعيه عندما يكون على سجيَّته.
الآنسة : هذا ما ينبغي أن أفعلَه حقًّا.
فرنتسيسكا : لا بُد أنه الآن في القاعة. أتسمحين لي أن أذهب وأتحدَّث معه هُنيهة؟
الآنسة : يُحزِنني أن أحرمك من هذه المتعة؛ فعليك أن تَبقي هنا، يا فرنتسيسكا. لا بُد أن تكوني حاضرةً حديثنا. خطر ببالي شيء (تخلع خاتمها من إصبعها). خُذي خاتمي هذا وضعيه في مكانٍ أمين وأعطيني خاتمَ الرائدِ بدلَه.
فرنتسيسكا : ولِمَ هذا؟
الآنسة (وفرنتسيسكا تُحضِر لها الخاتم الآخر) : لا أعرف أنا نفسي على وجه التحديد، ولكن يلُوح لي أنني أتوقَّع شيئًا أستخدمه له. هناك من يقرع الباب. هاتي بسرعة، (تتختَّمه). إنه هو.

المشهد السادس

(فون تلهايم، في الحُلَّة نفسها وقد أعدَّ مظهره، كما طلَبَت فرنتسيسكا – الآنسة – فرنتسيسكا)
فون تلهايم : آنستي الكريمة، لا تؤاخذيني على تأخري.
الآنسة : أوه، يا حضرة الرائد، لا نريد أن نُعالِج ما بيننا من أمور بهذه الروح العسكرية. المهم أنك الآنَ هنا. وما انتظار المتعة، إلا متعة. والآن (تنظُر إلى وجهِه مبتسمة) يا تلهايم الحبيب، ألم نكن منذ قليلٍ أطفالًا؟
فون تلهايم : نعم كنا أطفالًا، يا آنستي الكريمة، أطفالًا يحبسون أنفسهم، حيث ينبغي عليهم أن ينطلقوا على سجيَّتهم.
الآنسة : نريد أن نخرج أيها الرائد الحبيب لنشاهد المدينة، وبعد ذلك نذهب للقاء خالي.
فون تلهايم : كيف هذا؟
الآنسة : أترى؟ لم أتمكن من إبلاغك أهم شيء. نعم سيصل اليوم؛ فقد كانت المصادفةُ وحدها هي التي شاءت أن نصل قبله بيوم.
فون تلهايم : الجراف فون بروخزل؟ هل عاد؟
الآنسة : لقد ألقت به اضرابات الحرب إلى إيطاليا، فلما عاد السلام أعاده معه. لا تشغل بالَك يا تلهايم؛ فقد ذلَّلْنا أشدَّ عقبةٍ قامت في سبيل علاقتنا من جهته.
فون تلهايم : علاقتنا؟
الآنسة : فهو صديقك. وقد سمع من الكثيرين خيرًا كثيرًا عنك، حتى لم يكن هناك بُدٌّ من أن يُصبِح صديقًا لك. وإنه ليتحرَّق شوقًا لرؤية وجه الرجل الذي اختارَتْه وريثتُه الوحيدة شريكًا لحياتها. إنه يأتي بصفته خالي ووليَّ أمري وأبي ليعهد بي إليك.
فون تلهايم : آه، يا آنسة، لماذا لم تقرئي خطابي؟ لِمَ رفضتِ قراءته؟
الآنسة : خطابك؟ نعم، أتذكَّر أنكَ أرسلتَ لي خطابًا. ماذا فعلنا بالخطاب يا فرنتسيسكا؟ هل قرأناه أم لم نقرأه؟ ماذا كتبتَ لي فيه، يا حبيبي؟
فون تلهايم : لا شيءَ أكثر مما يُمليه عليَّ الشرف.
الآنسة : وهو ألا تتخلَّى عن بنتٍ شريفة تُحبك. طبعًا هذا هو ما يُمليه الشرف. لا شك أنه كان ينبغي عليَّ أن أقرأ الخطاب، ولكني الآن أسمع منكَ ما كنتُ سأقرؤه.
فون تلهايم : نعم، عليكِ أن تسمعي.
الآنسة : لا، بل أنا لستُ بحاجة إلى سماعه؛ فهو شيءٌ بديهي. لا يمكن أن تكون لك القدرة على خسَّة كهذه؛ أعني على رفضي الآن. أتعلم أنني، إن تخلَّيتَ عني، سأكون طَوالَ حياتي سخرية؟ ستُشير إليَّ بناتُ المنطقة بأصابعهن، وسيقلن: «هذه هي، الآنسة فون بارنهلم، التي ظنَّت أنها تستطيع أن تحصُل بمالها وثَرائها على تلهايم الشهم الشجاع، كما لو كان الرجال الشجعان يُشتَرونَ بالمال.» وسيقُلن هذا لأنهن يحسُدْنني جميعًا. أمَّا أني غنية، فهذا أمرٌ لا يُنكِرنه، وأمَّا أني بنتٌ طيبة جديرة برجلها فهذا ما لا يُرِدن معرفتَه. أليس كذلك، يا تلهايم؟
فون تلهايم : بلى، بلى، هو ذاك يا آنستي الكريمة. هذا ما أعرفه من بنات منطقتك. سيحسُدنَكِ على الحصول على ضابطٍ مُحالٍ إلى الاستيداع، على ضابطٍ أُصيب في كرامته، على مُشوَّه، على مُتسوِّل.
الآنسة : أنتَ كلُّ هذا؟ سمعتُ هذا الكلام، إن لم أُخطئ، صباح اليوم. وهو مزيج من الشر والخير، فلنَستَجلِ هذه الأمور على حدة. أنت مُحالٌ إلى الاستيداع؟ هذا ما سمعتُه. وأنا أعتقد أن كتيبتكَ قد اختلط أمرها بكتائبَ أخرى من باب الخطأ، وإلا، فكيف يمكن ألا يستبقيَ الجيش رجلًا في مثل كفاءتك؟
فون تلهايم : لقد أمكن ذلك فعلًا، حدث ما كان لا بُد أن يحدُث. لقد اقتنع الكبار بأن الجندي لا يفعل بدافع الميل إليهم إلا قليلًا، وأنه لا يفعل بدافع الواجب إلا قليلًا أيضًا، أو ما يزيدُ عنه زيادةً طفيفة، وأن الجندي إنما يفعل كل شيءٍ من أجل الشرف وحده، فماذا يظُنون أنهم يَدينون به إليهم؟ لقد حوَّل السلام في نظرهم الكثيرين من أمثالي إلى رجالٍ يمكن التخلي عنهم، والحقيقة أنه ليس هناك إنسانٌ يصحُّ التخلي عنه.
الآنسة : أنت تتكلم كلام رجلٍ يرى أن الكُبراء بالقياس إليه أناسٌ يمكن صرف النظر عنهم، وهم لم يُجسِّموا وقتًا من الأوقات أوضحَ من الآن رأيَك فيهم. كم أنا شاكرةٌ لهؤلاء الكُبراء صنيعَهم إذا تخلَّوا عن رجلٍ لم أكن لأتقاسمَه معهم إلا كارهة. أنا الآن رئيستك يا تلهايم، ولا حاجة بك من الآن إلى رئيسٍ آخر. وها قد وجدَك مُحالًا إلى الاستيداع، وتلك سعادةٌ لم أكن أتصورها ولا في الأحلام، ولكنك لستَ محالًا إلى الاستيداع فحسب .. أنت أكثر من هذا، فماذا تكونُ أكثر من هذا؟ مُشوَّهًا؛ أنت قلتَ هذا؟ ولكن (وهي تتفحَّصه من فوق إلى تحت) المشوَّه قائمٌ سليم معافًى، ويلُوح للناظرين جيد الصحة قوي الجسم. عزيزي تلهايم، إن كان فقدُكَ بعضَ أطرافِكَ القوية يدفعُكَ إلى التفكير في طَرْق الأبواب للتسوُّل، فإنني أتنبَّأ لك بأنكَ لن تنال شيئًا إلا من أقلِّها، لن تستجيب لك إلا أبوابُ البناتِ الطيباتِ القلب مثيلاتي.
فون تلهايم : لا أسمع الآنَ إلا البنتَ الهازلة، يا مينَّا الحبيبة.
الآنسة : وأنا لا أسمع في عبارتك المبكِّتة إلا مينَّا الحبيبة. لا أريد أن أُتابِع الهزْل؛ فقد اهتديتُ الآن إلى فكرة، أنت في الحقيقة لا تزيد عن أن تكون مُشوَّهًا صغيرًا، أصابت رصاصة ذراعك اليمنى فشلَّتها شللًا خفيفًا، وأنا إذا فكرت في الأمر من نواحيه لم أجده سيئًا على نحوِ ما يبدو، بل إن هذا الشلَل سيجعلني في مأمنٍ من لكَماتك.
فون تلهايم : يا آنسة!
الآنسة : تريد أن تقول: إن هذا الشلل سيجعلك أكثر تعرضًا للكَماتي. على أي حال، على أي حال، أرجو يا عزيزي تلهايم ألا تدَع الأمور تصل بنا إلى هذا الحد.
فون تلهايم : أنت تريدين أن تضحكي! وأنا أشكو من أني لا أستطيع الضحك معك.
الآنسة : ولِمَ لا؟ ما اعتراضُك على الضحك؟ ألا يستطيع الإنسان أن يكون جادًّا جدًّا وهو يضحك؟ يا عزيزي الرائد، إن الضحك يُبقي علينا عقلَنا أكثر مما يفعل العُبوس؟ والدليل ماثلٌ بين أيدينا. صاحبتك الضاحكة تقدِّر الظروف خيرًا منكَ أنت. أنتَ تسمِّي نفسَك مُصابًا في شرفك لأنك أُحلت إلى الاستيداع، وتسمِّي نفسك مشوَّهًا لأنك تلقَّيتَ رصاصةً في ذراعك، هل هذا صحيح؟ أليست هذه مبالغة؟ وما ذنبي أنا إن كانت المبالَغات تدفع إلى الضحك؟ فإذا تناولتُ الآن وصفكَ لنفسك بالمتسوِّل وناقشته لظهر أيضًا أنه لا يستند على أساس. ربما تكونُ قد فقدتَ عربتك مرة أو مرتَين أو ثلاث مرات، ربما تكونُ قد فقدتَ عند هذا أو ذاك المصرفي مالًا، ربما تكونُ قد فقدتَ الأمل في استعادة سلفةٍ قدَّمتَها من مالك إلى الدولة أثناء الحرب. لكن هذا كله لا يعني أنك تحوَّلتَ إلى متسول، فإذا لم يكن قد بقي لديك من مال إلا ما سيأتيك به خالي …
فون تلهايم : خالك، يا آنستي الكريمة، لن يأتيني بشيء.
الآنسة : أكثر من ألفَي بستولة، كنتَ قد قدَّمتَها بكرمك سُلفةً إلى أولي الأمر في منطقتنا.
فون تلهايم : لو كنتِ قرأتِ خطابي، يا آنستي الكريمة.
الآنسة : بل قرأتُه، وما قرأتُه خاصًّا بهذا الموضوع لغزٌ لا طاقة لي على فهمه. مُحالٌ أن يُبدِل الناسُ لك عملكَ الكريم بجريمة. اشرح لي هذا، يا عزيزي.
فون تلهايم : تذكرين يا آنستي الكريمة أنني تلقَّيتُ أمرًا عندما كنتُ مرابطًا في منطقتكم بأن ألجأ إلى أشد وسائل الصرامة للحصول على الضريبة العسكرية المفروضة، ولكني آثرتُ التخلِّي عن الصرامة وقدَّمتُ المبلغ الناقص من مالي كسُلفة.
الآنسة : نعم، أذكُر هذا، وقد هِمْتُ بك من أجل هذا الصنيع، ولم أكن قد رأيتُك بعدُ.
فون تلهايم : وقد أعطاني أولو الأمر في المنطقة صكًّا، قرَّرتُ أن أصرفَه عندما يعود السلام ضمن الديون المستحقَّة على الدولة. وقد اعترفَت السلطاتُ بالصك ولكنها أقامت إشكالًا حول ملكيتي للصك، ولوت أشداقَها ساخرةً عندما أكَّدتُ لها أنني دفعتُ المبلغ من مالي الخاص، وأعلنَت أن الصك لا يزيدُ عن أن يكون رشوةً من أولي الأمر في المنطقة لأني اتفقتُ معهم على الحصول منهم على أقل مبلغٍ في حالة الضرورة القصوى. وهكذا راح الصك من يدي، ولو حدث وسدَّدَت الدولة قيمتَه فلن تسددها إليَّ. وهذا هو السببُ الذي من أجله أعتبر نفسي مصابًا في شرفي، وليس السبب هو الإحالة إلى الاستيداع التي كنتُ سأطلُبها بنفسي إن لم أكُن قد حصلتُ عليها. لقد عبستِ يا آنستي؟ لم لا تضحكين؟ ها، ها، ها، سأضحك أنا.
الآنسة : اكتُم هذه الضحكة، يا تلهايم. أرجوك. إنها ضحكةٌ فظيعة قوامها كُره البشر. لا، لستَ بالرجل الذي يندم على فعلٍ طيب لأن نتائج سيئةً قد تبعَتْه. لا، مُحالٌ أن تندم لهذه النتائج السيئة. شهادة خالي، شهادة أولي الأمر جميعًا عندنا.
فون تلهايم : خالك، أولو الأمر عندك. ها، ها، ها.
الآنسة : ضحكك يقتلني، يا تلهايم. إذا كنتَ تؤمن بالفضيلة والعناية الإلهية يا تلهايم فكُف عن الضحك؛ فإني لم أسمع من قبلُ سبًّا ولعنًا أفظع من ضحكك. دعنا نفترض أسوأ الظروف. إذا كان الناس هنا سيُنكِرونكَ جميعًا فلا يُمكِن أن نُنكركَ نحن يا تلهايم. وإذا كان لأولي الأمر عندنا أقلُّ قدْرٍ من الإحساس بالشرف فأنا أعرف ما سيتعيَّن عليهم فعلُه، ولكن هذه ليست مهارةً مني. ما حاجتُنا إلى هذا؟ قدِّر يا تلهايم أنكَ خسرتَ مَبلَغ الألفَي بستولة في ليلةٍ من الليالي الصاخبة. قدِّر أن ورقة «الولد» كانت بالنسبة لك ورقةً خاسرة، وأن ورقة «البنت» (تشير إلى نفسها) كانت لذلك رابحة، زاد ما أتت به من سعدٍ على ما أضاعته الورقة الخاسرة. إن العناية الإلهية، إذا صدقتني، تحفظ الرجل الشريف من السوء، وكثيرًا ما تُدبِّر ذلك من قبلُ؛ فالعمل الذي خسرتَ به ألفَي بستولة هو الذي جعلكَ تحصل عليَّ؛ لأنك إن لم تكن قد عملتَه لما اشتقتُ لرؤياك والتعرُّف عليك. وأنت تعلم أنني أتيتُ بغير دعوة إلى أول حفلةٍ اعتقدتُ أنك ستكون موجودًا فيها، أتيتُ من أجلك، من أجلك أنت فقط. أتيتُ وقد عقدتُ النية على أن أُحبك، بل كنتُ أُحبك فعلًا. أتيتُ وقد عقدتُ النية على أن تكون لي، حتى لو وجدتُك أسودَ البشرة قبيحَ المنظر كعطيل. وأنت لست أسودَ البشرة ولستَ قبيحَ المنظر ولا يحتمل أن تكون غيورًا مثله. آه، ولكنك يا تلهايم تُشبهُه في كثير. أوه، يا لهؤلاء الرجال الأفظاظ الصارمين الذين يُحدِّقون بعينٍ جامدة في شيءٍ واحد هو شبح الشرف، وتقسو قلوبهم في كل ما عدا ذلك من المشاعر. هاتِ عينَكَ هنا، انظر إليَّ، يا تلهايم (ينظر في هذه الأثناء في عمقٍ وجمود بعينٍ ثابتة إلى نقطةٍ واحدة لا يتحوَّل عنها). فيمَ تفكيرُك؟ ألا تسمعُني؟
فون تلهايم (شاردًا) : بل أسمعُك. لكن قولي لي يا آنستي: كيف دخل عطيل في خدمة البندقية؟ ألم يكُن لعطيل وطن؟ لماذا أجَّر ذراعه ودمه لبلدٍ أجنبي؟
الآنسة (فزعة) : أين أنت يا تلهايم؟ هذا وقتٌ ينبغي أن نقطع فيه حديثَنا. تعال (تمسكه من يده) فرنتسيسكا، دعي العربة تتقدَّم.
فون تلهايم (يتخلَّص من الآنسة ويتبع فرنتسيسكا) : لا، يا فرنتسيسكا، لا يمكنُني أن أتشرَّف بمرافقة الآنسة. لا تُفقِديني اليوم صوابي يا آنستي، واسمحي لي بالانصراف. إنكِ تسلُكين أقصَر الطرق إلى إضاعة صوابي، وسأُقاوِم ما استطعت. وما دمتُ في صوابي لم أزَل، فاسمعي يا آنستي، قراري النهائي الذي لا يُزحزِحُني عنه شيءٌ في الدنيا. إذا لم تأتِ رميةُ سعدٍ لي في اللعب وإذا لم تتغيَّر الورقة من الضد إلى الضد، وإذا …
الآنسة : لا بد أن أقطع عليك الكلام، يا حضرة الرائد. كان ينبغي أن نُبلغه الخبر من بادئ الأمر، يا فرنتسيسكا. أنت لا تفكِّرينني بشيء. لو كنتُ قد بدأتُ بالخبر السعيد، لتغيَّر مجرى حديثنا يا تلهايم؛ أعني الخبر السعيد الذي أتاك به منذ هُنيهة الفارس دي لا مارلينيير.
فون تلهايم : الفارس دي لا مارلينيير؟ من هذا؟
فرنتسيسكا : لعله رجلٌ طيب، يا سيادة الرائد، إذا استثنينا …
الآنسة : اسكتي، يا فرنتسيسكا. هو أيضًا ضابطٌ مُحالٌ إلى الاستيداع، كان يخدم في القوات الهولندية.
فون تلهايم : ها، الملازم ريكو.
الآنسة : أكَّد أنه صديقُك.
فون تلهايم : وأنا أؤكِّد أنني لستُ صديقه.
الآنسة : وأن وزيرًا، لا أذكُر أي وزير، قد أطلَعه على أن قضيتَك تقترب من أسعد نهاية، وأن كتابًا بخَطِّ الملك في الطريق إليك.
فون تلهايم : ومن يجمع ريكو والوزير معًا؟ لا بد فعلًا أن شيئًا حدث في قضيتي؛ فقد حدَّثَني صرَّافُ الحربية الساعةَ بأن الملِك ألغى كل ما كان قد اتخذَ ضدِّي، وأنني أستطيع أن أسحب كلمة الشرف التي قدَّمتُها تحريريًّا، وضمَّنتُها أنني لن أبرح حتى تُبرئ السلطات ذمتي تمامًا. ويبدو أن الأمر سيكون كذلك، وأنهم يريدون أن أبرح، ولكني لن أبرحَ قَط. وأُفضِّل أن يفترسَني أشدُّ البؤس أمام أعيُن المفتَرين عليَّ قبل ذلك.
الآنسة : أيها الرجل العنيد.
فون تلهايم : لا حاجة بي إلى عفو، أريد العدل. وشرفي …
الآنسة : شرف رجلٍ مثلك …
فون تلهايم (ثائرًا) : لا، يا آنستي، يمكنُكِ أن تُحسني الحكم على كل شيءٍ إلا على هذا. الشرف شيءٌ آخر غير صوت ضميرنا، شيءٌ آخر غير ما يَشهَد به القليل من الأخيار.
الآنسة : لا، لا، أعرف ذلك. الشرف هو … هو الشرف.
فون تلهايم : باختصار يا آنستي، أنت لم تدَعيني أُكمِل كلامي. أردتُ أن أقول: إذا كانوا يمنعون عني مالي على هذا النحو المخزي، وإذا لم يكونوا سيردُّون إليَّ شرفي على أكمل وجه، فلن يمكنَني أن أكونَ لك يا آنستي، الدنيا كلها لا تعتبرني جديرًا بك. من حق الآنسة فون بارنهلم أن تنال رجلًا لا غبار عليه. إن الحب الذي لا يخشى أن يتعرَّض موضوعه للازدراء، حُب دنيء. وإن الرجل رجلٌ دنيء ذلك الذي لا يخجل من بناء سعادته كلها على بنتٍ تدفعُها عاطفتُها العمياء.
الآنسة : تقول هذا جادًّا، يا حضرة الرائد؟ (وهي تُدير إليه ظَهرَها فجأة) فرنتسيسكا.
فون تلهايم : لا تثوري يا آنستي.
الآنسة (إلى فرنتسيسكا، جانبًا) : حان الوقت، بم تنصحينَني، يا فرنتسيسكا؟
فرنتسيسكا : لا أنصحُكِ بشيء، ولكنه فعلًا يثقلُ عليكِ بعض الإثقال.
فون تلهايم (يأتي إليها مقاطعًا) : أنت ثائرة، يا آنستي.
الآنسة (متهكِّمة) : أنا؟ مطلقًا.
فون تلهايم : لو كان حُبي لك قد قلَّ، يا آنستي …
الآنسة (بالأسلوب نفسه) : أوه، مؤكَّد، لكان ذلك من حُسن حظي. وأنا كذلك، يا حضرة الرائد، لا أريد سوء الحظ لك. لا بُد أن يكون الإنسان في الحب بعيدًا عن الأنانية. كذلك كان من الخير أنني لم أكن معك أكثَر صراحة مما كُنت، فربما منحَتْني رحمتُكَ ما منعه عني حُبك (وهي تخلع الخاتم من إصبعها ببطء).
فون تلهايم : ماذا تعنين بذلك يا آنسة؟
الآنسة : لا يجوز للمرء أن يجعل غيره أكثر تعاسة، ولا أن يجعله أكثر سعادة. هذا ما يتطلَّبه الحق، وأنا أصدِّقك في هذا، يا حضرة الرائد، وأعرف أن لديك من الشرف قدْرًا كبيرًا يمنعك من إنكار الحب.
فون تلهايم : تتهكَّمين، يا آنستي؟
الآنسة : إليكَ هذا الخاتم الذي أكَّدتَ لي به إخلاصَك، أردُّه إليك (تقدِّم إليه الخاتم) انتهَينا، ليتَنا لم نعرف أحدُنا الآخر.
فون تلهايم : ماذا أسمع؟
الآنسة : هل هذا يُدهِشك؟ خذه يا سيدي.
لعل ذلك لم يكُن منكِ مجرد عبث؟
فون تلهايم (يتناول الخاتم من يدها) : رباه، أيمكنُ أن تتكلَّم مينَّا هكذا؟
الآنسة : أنت لا تستطيع أن تكون لي في حالةٍ واحدة، أمَّا أنا فلا يمكن أن أكون لك في أية حالة. سوء حظك أمرٌ مُحتمَل أمَّا سوء حظي فأمرٌ مؤكد. وداعًا (تهمُّ بالانصراف).
فون تلهايم : إلى أين يا حبيبتي مينَّا؟
الآنسة : سيدي، ها أنت ذا تسبُّني الآن فتُناديني بهذا النداء الحبيب الحميم.
فون تلهايم : ماذا بكِ يا آنستي؟ إلى أين؟
الآنسة : دعني. أُخفي دموعي عنك، يا خائن.

(تخرج.)

المشهد السابع

(فون تلهايم – فرنتسيسكا)
فون تلهايم : دموعك؟ أنا أدَعُك؟ (يريد اللحاق بها).
فرنتسيسكا (تردُّه) : لا، يا سيادة الرائد. لا شك أنكَ لا تريد أن تتبعَها إلى حجرة النوم؟
فون تلهايم : سوء حظها؟ ألم تتكلَّم عن سوء الحظ؟
فرنتسيسكا : بل تكلَّمَت بلا شك. وكانت تعني سوء حظها إذ تفقدك بعد أن …
فون تلهايم : بعد أن؟ بعد أن ماذا؟ وراء هذه الكلمة يكمُن الكثير، ما هذا، يا فرنتسيسكا؟ تكلَّمي، قولي.
فرنتسيسكا : بعد أن، يعني بعد أن ضحَّت بالكثير من أجلِك.
فون تلهايم : ضحَّت من أجلي؟
فرنتسيسكا : سأحكي لك في إيجاز. لقد كان تخلُّصُك منها على هذا النحو يا سيادة الرائد، في صالحك. ولِمَ لا أقولُ لك ما في الأمر؟ فإنه لا يمكن أن يبقى سرًّا. لقد هربنا. الجراف فون بروخزل حرم الآنسة من الميراث؛ لأنها لا تُريد أن تقبل من اختاره هو لها زوجًا. تركَت كل شيء، واحتقرَت كل شيءٍ من أجل هذا، ثم ماذا كان علينا أن نفعل؟ قرَّرنا أن نلجأ إلى ذلك الذي …
فون تلهايم : كفاني هذا. تعالَي، لا بُد أن أرتميَ إلى قدمَيها.
فرنتسيسكا : أي تفكيرٍ هذا الذي فكَّرت؟ بل عليكَ أن تنصرفَ وتشكُر المصادفات السعيدة.
فون تلهايم : يا بائسة، ما ظنُّك بي؟ لا، يا فرنتسيسكا العزيزة، لم تصدُر هذه النصيحةُ عن قلبك. سامحي تهوُّري.
فرنتسيسكا : لا تُطِل تعطيلي. أريد أن أرى ما تفعل؛ فما أسهل أن يصيبها مكروه! اذهب. والأفضل أن تأتي مرةً أخرى إن شئتَ أن تأتي مرةً أخرى (تذهب في أعقاب الآنسة).

المشهد الثامن

(فون تلهايم)
فون تلهايم : ولكن يا فرنتسيسكا. أوه، سأنتظركما هنا. لا، بل الأمر أكثر إلحاحًا. وهي إذا كانت جادة، فلن يُخطِئنا عفوها. الآن أحتاج إليك يا فرنر المخلص. لا، يا مينَّا، لستُ خائنًا (يخرج مسرعًا).
١  ريكو يتكلَّم خليطًا من الفرنسية والألمانية المكسَّرة. وقد آثرتُ عرض الحديث كله بالعربية ولم أُبقِ من الفرنسية إلا على كلمة «مدموازيل» (المترجم).
٢  من ألعاب القمار (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤