الفصل السادس والعشرون

المناجاة

ودَّعت لمياء أم الأمراء وذهبت إلى غرفتها وهي غارقةٌ في بحار هواجسها، ولم تكد تخلو بنفسها حتى طرق ذهنَها فكرٌ أحست بارتياحٍ إليه، وذلك أنها قابلت بين ما دار بينها وبين والدها أمس في فسطاطه بحضور أبي حامد وما ظهر منه بين يدي المعز في هذا المساء فوجدت فرقًا كبيرًا.

فتبادر إلى اعتقادها أن أبا حامد هو الذي حَرَّضَه على الفتك بالخليفة، وأنه لو ترك لنفسه لم يرض بذلك، وتذكرت ما تعرفه من ظواهر هذا الرجل في أثناء إقامته بسجلماسة وما كان يسر إليها سالم أحيانًا من الأغراض السياسية التي يرمي إليها فترجَّح لديها أن أبا حامد هو علة المفاسد وأنها لو انفردت بأبيها وباحثتْه في أمر المعز لأقنعتْه أن يرجع عن عزمه. فارتاحت لهذا الفكر، لكنها لم تكد تشعر بالراحة حتى تصورت أنها تصير عند ذلك زوجةً للحسين تقيم في المنصورية … وما تفعل بسالم؟ فوقف ذهنُها عند هذه النقطة فرأتْ عُدُول أبيها عن الفتك بالمعز يحرمها من سالم وهي تحبه ولا ترضى عنه بدلًا.

فأخذت تخاطب نفسها قائلةً: ما العمل إذن؟ أرضى بقتل المعز وهو سلالة فاطمة الزهراء وصاحب الفضل الأكبر علي وأسلم بقتل جوهر القائد العظيم؟ وهَبْ أني رضيت فهل تفلح هذه المكيدة؟ ألا يعقل أن تعود عاقبتها وبالًا علينا؟ بأي شيء نُحارب جُند الخليفة؟ كيف نُحارب الحسين ذلك الشهم صاحب المروءة ونقتله أيضًا؟ ما هو ذنبُه؟ بل ما هو ذنب الخليفة وقائده؟ إنها مكيدة ملؤها الخداع والغش.

كيف ترضين يا لمياء بهذه الرذيلة؟ يكفي ما أراه من كرم أخلاق هذه المرأة التي تحبني محبة الوالدة، أأرضى أن أكون وسيلةً لسقوطها؟ أنا أفعل ذلك؟ كلا … كلا … إني إذن قاتلةٌ خائنة. وأحرم من حبيبي … ماذا أفعل؟ أطلع أم الأمراء على سر الأمر ليتحذروا منه؟ عند ذلك أكون قد عرضت سالمًا للقتل وعرضت والدي أيضًا للموت … هل أسمح بقتل والدي وحبيبي؟ كلا … ويلاه ما هذه المشكلة التي لا حل لها؟»

وكانت جالسةً على الفراش تفكر في ذلك وعيناها شاخصتان إلى نور المصباح فلَمَّا وصلت إلى هذا الارتباك نهضتْ كالواثبة وقد هاجت أشجانُها وأخذ القلقُ منها. وجعلت تتمشى في الغرفة وتُعيد النظر في المسألة طردًا وعكسًا فلا تجد لها حلًّا إلا بارتكاب الخيانة أو القتل، فضلًا عن محاربة العواطف، وهي أشد وطأة مِن كليهما.

قضت في التفكير ساعةً أو ساعتين حتى ملت التردُّد، وأغلق عليها الأمر فوقفتْ تجاه المرآة فرأتْ ما أصاب سحنتها من التغيير لفرط التفكيرِ فقالت: «إني أرى لمياء في هذه المرآة غير لمياء في مرآةِ أبيها بسجلماسة. ويلاه ما كان أغناني عن هذه القلاقل بل ما أغنى أهل القيروان عن هذه السحنة العائدة عليهم بالشؤم والخراب … هل العيب في المرآة وهي التي غيرت لمياء؟ لا ذنب لها إنها تريني وجهي كما هو. وإنما العيب في … بل العيب في من شوَّش أفكاري وأدخل القلق على قلبي، كان الأولى بي أن أبقى على رفض هذا النصيب وليتسابق هؤلاء إلى القتل على غير يدي. هل أقدر على ذلك الآن؟ بأي لسان أقوله! وبأي وجه أقابل أم الأمراء؟ هل أبوح لها بسري وأستشيرها في أمري؟ لا أقدر … ويلاه يا ربي ماذا أفعل؟ وتحولت عن المرآة إلى السرير واستلقت عليه وقد أظلمت الدنيا في عينيها فلم تجد لها فرجًا بغير البكاء فأطلقت لنفسها العنان فيه وأغرقت في البكاء حتى كاد يغمى عليها وصارت تشهق وتندب نفسها.

ثم عادت إلى المناجاة فقالت: «إلهي قد لذَّ لي الموت خذني إليك … هل أقتل نفسي وأخلص من هذه الحياة؟ إن موتي أحسن حل لهذه المشكلة فينجو المحسنون إلي من القتل وأتخلص من التردُّد القبيح. ولكن هل أقتل نفسي بيدي! … لا … لا … بل الأفضل أن أفر من هذا المكان إلى حيث لا يراني أحد حتى تأتي ساعتي … لمياء! لمياء أنت راعية الحصان. تلاقين الأعداء في حومة الوغى وترزخين تحت هذه الأوهام؟ بل أعود فأرفض الحسين وأعتذر له أني لا أريد الزواج … كيف أفعل ذلك! مسكين الحسين إنه ذو فضل ويظهر أنه أحبني، آه يا سالم يا حبيبي كيف أموت أو أفر وأتركك! بارزت الفرسان واستقبلت النبال في ساحة القتال فلم أجدْ أصعب مراسًا من الحب إنه يملك ناصية القلب … ويلاه هل في الدنيا فتاة أشقى حالًا مني!»

ثم سكتت وكأن البكاء خفف مصابها وقشع السويداء عن عينيها وتذكرت أن لديها شهرًا كاملًا لإعمال الفكرة فقالت: «فلنصبر إن الله مع الصابرين.» وذهبت إلى فراشها وقد أخذ التعب منها مأخذًا عظيما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤