الفصل الخامس والستون

الجلسة

ولبثتْ لمياء جالسة وهي تنظر من أحد الثقوب؛ لتتعرف الداخلين وما لبثتْ أن سمعت وقع الأقدام وقلقلة السيوف وإذا بثلاثة عليهم الألبسة الفاخرة والعمائم الصغيرة والدراعات المزركشة مما يلبسه كبار القواد. وقد تقلد كُلٌّ منهم سيفًا يجر إلى جانبه وحالما دخلوا ألقَوُا التحية فأمرتهم بنت الإخشيد بالجلوس وهمست للمياء: «هؤلاء ثلاثةٌ مِنْ قُوَّادِ جُنْدِنا المخلصين، ويعرفون بالإخشيدية نسبةً إلى والدي الإخشيد — رحمه الله.»

فأظهرتْ لمياء الإعجاب، فقالت بنت الإخشيد بصوت عالٍ: «مرحبًا بقوادنا الأجلاء، عسى أن يكون مجيئكم لخير.»

فأبطئوا في الجواب هنيهة لحظت لمياء في خلالها أن كلًّا منهم يدعو الآخر للكلام. ثم تصدى أكبرهم سنًّا وقال: «إننا جئنا لخير — إن شاء الله — ونأسف أننا أزعجنا مولاتنا بمجيئنا، ولكننا لم نَرَ بُدًّا من ذلك والعدو على الأبواب وهؤلاء الكافورية لا يزالون ينازعوننا على هذه الدولة. وكُنَّا نحسب مبايعةَ مولانا الأمير أحمد تُوقفُهُم عند حدهم فيكفون عن تعدياتهم فإذا هم على ما كانوا عليه يفسدون الجُند علينا ويُوغِرُون القلوب على مناوأتنا والوزير جعفرٌ لم يَزْدَدْ إلا استبدادًا في الدولة وقد قبض على الأموال فلم يترك بيضاء ولا صفراء. وقد بَلَغَنا أنه كَاتَبَ العدوَّ بالتسليم فهل ترضى مولاتنا بهذا العمل، أم هو استخف بأميرنا؛ لأنه صغير السن؟»

فقالت بنت الإخشيد: «أنا لا أرضى بذلك … هذا لا يكون أبدًا … نسلم البلد إلى العدو وعندنا الجند والقواد؟ كيف يفعل الوزير ذلك. لا بد من عزله.»

فأجاب أحد القواد: «إنما فعل ذلك بإيعاز الكافورية؛ لأنهم على رأيه وقد ساءهم كما ساءه أن يعود الأمر إلى نصابه ويتولى الملك أهله وأصحابه وقد خرج من أيديهم فأرادوا أن يخرج من يد أميرنا ولو صار إلى عدونا …» قال ذلك والحنق بادٍ في كلامه.

ولم تكد بنت الإخشيد تتدبر كلامه حتى سمعتْ ضوضاءَ ببابِ القاعة، ثم دخل بضعةُ رجال عرفتْ أنهم مِن قواد الكافورية، وكأنهم كانوا بالباب وقد سمعوا الطعن بهم وأرادوا الدخول فمنعهم الحجابُ، فدخلوا قهرًا وتصدى واحدٌ منهم للكلام ووجهه إلى الطاعن وقال: «تقولون إنا أفسدنا الدولة وإنها لكم وقد اختلسناها مدة. إننا لم نختلسها ولولا أميرنا كافور — رحمه الله — لصارتْ هذه الدولة في خبر كان. فهو الذي حفظها ونظمها وثَبَّتَ دعائمها مِن أول أمرها منذ تولاها مولانا الإخشيد — رحمه الله — فقد كان له خير نصيح ومشير ولو ظل كافور حيًّا إلى الآن لم يجسر العدو على حربنا. وها أنتم ولاة الأمر الآن، فأخرجوا العدو من الدار.»

فأجابه الإخشيدي: «نعم إننا نخرجهم إذا تركتمونا ولم تمالئوهم وتطلبوا صلحهم … دعونا إننا نعيدهم على أعقابهم …»

فصاح فيه قائد آخر: «ويحك تقول ذلك بجسارة بين يدي مولاتنا. تقول إننا نمالئ الأعداء؟»

فأجاب: «نعم إنكم تمالئونهم ألم يكن الوزير جعفر سيدكم ونصير أميركم وهو الآن يخابر الأعداء في طلب التسليم …»

فضحك ضحكة اغتصابية وقال: «إنه يفعل ذلك برأينا … ومع ذلك فقد أحسن صنعًا … إن دولتكم قد شاخت وإذا أنكرتم ذلك هلم إلى العدو وحارِبوه وأخرجوه.»

فحمي غضب الإخشيدية وصاحُوا بصوت واحد: «إننا لا نقبل هذه الإهانة وخصوصًا بين يدَي مولاتنا ومولاتكم.» وتقدم أحدُهُم ويدُهُ على قبضة حسامه وقال: «والله لولا حرمة هذا المكان لضربْت أعناقكم بهذا الحسام وألحقتكم بأميركم العبد الأسود الذي تفاخروننا به … صدق فيه المتنبي (إشارة إلى هجوه إياه).»

فتصدى رجل من الكافورية واستل حسامه وقال: «ويحك تطعن في الأموات … إنها وقاحةٌ لم يكن لمولاتنا بنت الإخشيد أن تسكت عنها.»

وعلت الضوضاء فصفقت بنت الإخشيد وصاحت: «ويحكم ما هذا؟ تتشاتمون في حضرتي! وأغرب من ذلك أن نسمع الطعن في أسلافنا بأذننا هذا أمرٌ لا نرضاه وليس هذا وقتَ الخصام والعدو بالباب … وأنتم يا أصحاب كافور إن كافورًا كان خادمًا أمينًا — رحمه الله — فما بالكم تفاخروننا به أما إمارته فقد كانت فلتة انتحلها لنفسه أو انتحلها له بعضُ أصحاب الأغراض، وزعم أن الخلعة أتتْه من بغداد … ما لنا ولهذا الآن إنه خصام في غير أوانه …»

فوقف الكافورية جميعًا، وقال كبيرُهُم: «أما وقد سمعنا هذه الإهانة مِن فم مولاتنا فلم يَبْقَ لنا إلا أن نخرج ونترك الأمر لأصحابه وولاة أمره.»

قالوا ذلك وانسحبوا بعجلة والغضب بادٍ في كل حركة من حركاتهم.

وكانت لمياء في أثناء ذلك لا تزداد إلا وثوقا بنجاح جُند المعز. فقد رأتْ بعينها وسمعتْ بأذنَيها اختلال أُمُور الدولة وانقسام قُوَّادها وتباغضهم مما لا سبيل إلى إصلاحه.

فلما خرج الكافورية التفتتْ بنت الإخشيد إلى لمياء كأنها تستشهدها على هذه الوقاحة، وقالت: «أرأيت أجهل من هؤلاء … ويلاه كيف نحارب الأعداء … إننا لا نقوى على حربهم …»

فاستبشرت لمياء بالفوز وقالت: «يسوئني يا سيدتي أن تكوني قد نطقت بالصواب وعسى أن تكوني مخطئة.»

وكأن بنت الإخشيد ندمت على ما فرط منها فاستأنفت الكلام قائلة: «بل أنا مخطئة لا … لا أُريد أن أتصور ذلك ولو بالحلم. يدخل البلاد عدوٌّ غريبٌ يحكم في رقابنا؟» ورأت أنها كان ينبغي لها أن تستعطف الكافورية باللين وأنها أخطأتْ بما قالتْه فأرادتْ أن تلقي التبعة على سواها شأن ضعيف الرأي في مثل هذه الحال. فالتفتتْ إلى الإخشيدية وكانوا لا يزالون واقفين يتحدثون بما أتاه الكافورية، وقالت: «لم يكن ينبغي لكم أن تُجافُوهم بمثل هذا الكلام وهم إخوانُكُم وعليهم المعول في الحرب فأغضبتموهم.»

فأجابها أحدُهُم: «وأنت يا مولاتنا تلقين هذه التبعة علينا؟ وقد سمعت الإهانة التي لحقتْ بنا وبك وبسائر آل الإخشيد. فليكن ما تشائين … أو لعلنا أخطأنا بمبايعة الأمير أحمد مع صِغَرِ سنه، لكننا لم نفعل ذلك إلا اعتمادًا على نصرتك، فإذا كنت ترين أننا غير كفء لشيء فلنذهب.» قال ذلك وتحول وتبعه رفاقُهُ.

فأحستْ بنتُ الإخشيد عند ذلك بضعف العزيمة، وأنها أصبحتْ منفردة لا نصير لها إلا إذا تذللت واستعطفت فانقبضتْ نفسُها وبان الانقباضُ في وجهها وسكتت هنيهةً ولمياء تراقب حركاتها وتقرأ ما يجول في خاطرها.

فلما رأتْها في تلك الحال قالت: «ما بال سيدتي كئيبة … أمن أجل كلمة تنقبض نفسك؟»

فتنهدت وقالت: «آه يا سلامة ليس من أجل كلمة ولكن هؤلاء لا يقدرون العواقب وقد خرجوا من هذه الجلسة أخصامًا يتوعد بعضهم بعضًا وهم يدُنا وساعدُنا وجندُنا، فبمن نحارب عدونا؟ لا نصالح ولا نقدر أن نحارب. ويلاه ما العمل!» ودمعت عيناها. فأكبت لمياء عليها وضمتها وقبلتها وقد أشفقت عليها وقالت: «لا بأس عليك يا سيدتي لا تخافي.»

فاستأنست بذلك الحنو وقالت: «كيف لا أخاف؟ وإذا كان العدو كبيرًا كما يظنون وقدر له الغلب ماذا يصيبني؟»

قالت: «لا يصيبك شيء يا مولاتي.»

قالت: «لا تلطفي الأمر علي …»

قالت: «إني لا ألطفه ولا يجب مع ذلك أن تيأسي من النصر، ولكن هبي — لا سمح الله — أن العدو اغتنم هذا الضعف وتغلب فأنت في أمان؛ لأن هؤلاء المغاربة مع كونهم أعدائكم أقربُ إلى الضن بكم من هؤلاء الأجناد المتمردين.»

فرأتْ في لهجتها شدةً وعزيمةً فقالت: «وكيف عرفت ذلك؟»

قالت: «أعرفُهُ بالاختبار؛ لأني من بلاد المغرب — كما تعلمين — وكان سيدي الأول له علاقةٌ كبيرةٌ بأهل القيروان وتعرَّف إلى المعز وقائده، وكثيرًا ما سمعتُهُم يتحدثون وعرفتُ طباعَهم، إنهم أقرب إلى الخير من هؤلاء الأجناد و…»

فقطعت كلامها قائلة: «هل تعرفين المعز وقائده؟»

قالت: «نعم يا سيدتي أعرفهما معرفة جيدة وهما يعرفانني أيضًا.»

فضحكت من السرور بهذه البشارة وأحست بنفوذ تلك الفتاة وأحبت أن تقول شيئًا فمنعها الحياء وحالت دونه الأنفة فأدركت لمياء غرضها فبادرتها قائلة: «انظري يا مولاتي … إن ما لقيته من لطفك ومحبتك يوجب علي أن أغار على مصلحتك، فإذا أذنت لي أقول كلمة.»

قالت: «قولي.»

قالت: «إنكم الآن في حرب مع المغاربة وسمعت الآن أن ابن الفُرات ساعٍ في الصلح فإذا وفق إليه كُوني على ثقة أنك تكونين معززة مكرمة، فإني أعرفُ أُم الأمراء زوج المعز، وهي مِنْ أَلْطَفِ خلق الله وتُحبني حبًّا جمًّا. فأنا ضامنةٌ كرامتك. وإذا لم يُفلح ابنُ الفُرات بالصلح وجرتْ حربٌ فإذا فاز المصريون فأنتِ صاحبةُ السيادة طبعًا. وإذا غلبوا على أمرهم فأنا أفديك بروحي وأكون وسيلة لحفظ كرامتك وأموالك، كوني براحة.»

ففرحت بنت الإخشيد بهذا الوعد، ولكنها أحست بصغر النفس وندمت على تصريحها بما قالتْه وخافت أن تستضعفها لمياء أو تحتقرها فقالت: «ولكن الفوز مع ذلك راجح لنا بإذن الله.»

فقالت لمياء: «إن النصر مِن عند الله يؤتيه من يشاء … لكني قلت لك ما أستطيع أن أخدمك به والأمر لله.»

فضمتها بنت الإخشيد إلى صدرها وقالت: «إني أشكرك يا عزيزتي في كل حال …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤