صَبْري جَاد

تعيَّن بإدارة السكرتارية في أواخر عام النكسة. كان في الثانية والعشرين من عمره، ومن حملة ليسانس الفلسفة، ومن أوَّل يوم جعلت أرمقه بحب استطلاع، وأنتظر على لهف اليوم الذي يُكاشفني فيه بطويَّته فيصلني بهذا العالم الجديد الغريب. وكان من أصل ريفيٍّ ولكنه نشأ وتربى وتعلم في القاهرة، في أسرة متوسطة، ابنًا وحيدًا بين ثلاث بنات توظفن وتزوجن. ويومًا سألني: حضرتك تعرف الأستاذ عبَّاس فوزي؟

فأجبته بترحيب: طبعًا، كان رئيسنا حتى أحيل إلى المعاش منذ أعوام.

– أين يُقيم الآن؟

– في عابدين، أتريد أن تقابله؟

– نعم، أريد منه حديثًا لمجلَّة العلم.

– أنت صحفيٌّ بها؟

– تحت التمرين.

– ما رأيك أن نزوره معًا؟ .. فإني لم أره من مُدَّة غير قصيرة.

وذهبنا معًا إلى فيلا عباس فوزي، وهي مُقامة فوق سطح عمارة يملكها في عابدين، ورحَّب بنا بلطفه المعهود، وأجرى صبري جاد معه حديثه الذي دار حول مؤلفاته عن التراث، ولما انتهى استأذن في الانصراف ولكنَّ الأستاذ عباس فوزي قال له: لن أسمح لك بالذهاب حتى تُجيب عن أسئلتي.

فتساءل الشاب عما يريد فقال: ثمة أسئلة تلحُّ عليَّ بخصوص جيلكم فهل أنت على استعداد للإجابة بصراحة!

فأجاب الشاب باسمًا: طبعًا.

– بصراحة من فضلك، نحن غير رسميين، ونحن في خلوة، فلا تضن عليَّ بالحقيقة.

– تحت أمرك.

وقلت أنا: الأستاذ يريد أن يعرف أشياء عن الجيل ككل لا عن شخصك.

فقال عبَّاس فوزي: هذا ما أقصده تمامًا.

فقال صبري جاد: تحت أمرك.

اعتدل الأستاذ عباس فوق الكنبة التركيَّة ثم سأله: ما موقفكم من الدين؟

فأجاب صبري جاد ببساطة: لا أحد يهتم به!

– لا أحد؟!

– الأغلبية لا تهتم به!

– لِمَ؟

– لم يكن موضع بحث، رُبَّما لأنه توجد به أشياء غير معقولة وتخالف ما ندرسه من العلم.

– ولكني أعلم أنَّ الدولة تهتم بتدريسه وتشترط النجاح فيه؟

– ونحن نحفظه وننجح فيه.

– أتعني أنَّ تعليمه غير مثمر من ناحية العقيدة؟

– أجل.

– والبيت؟ .. ألم تُلقَّنه في البيت؟ .. هل والداك مؤمنان؟

– نعم ولكنَّهما لا يُصلِّيان ولا يصومان ولا يتحدثان في الدين!

– ألا يوجد بين الطلبة إخوان مسلمون؟

– كلا .. أو عدد لا وزن له.

– ألا يوجد تلاميذ مؤمنون؟

– في رأيي أنهم قلة.

ثم مُستدركًا: بعد النَّكسة وجِد نوع من الميل للدين، البعض يقولون إنَّ هزيمتنا ترجع إلى إهمالنا لديننا.

– إذن يوجد ميل للإيمان؟

– نعم يوجد.

فقال الأستاذ عباس باسمًا: إنِّي أطمع في مزيد من الدقة.

– أجبتُ بما أعرف، مُستعيدًا ذكريات الثانوية والجامعة.

– دعني أساعدك، لعلك تقصد أن تقول إنَّ الإيمان بصفة عامة لا يلعب دورًا هامًّا بينكم، ولكن الوضع قد يتغير بعد النكسة؟

– نعم.

– ما مدى هذا التغير المحتمل في نظرك؟

– لا أدري.

وتفكَّر الأستاذ عباس مليًّا وأنا أتابعه — أتابعهما — بحواس مرهفة واهتمام لا مزيد عليه، وعاد الأستاذ يسأل: ما هي القِيَم التي تُقدِّسونها؟

فنظر إليه صبري جاد في حيرة وتمتم: القيم؟

وقلتُ من فوري مُخاطبًا الأستاذ: أرجو أن تتجنب التجريدات ما أمكن.

فعاد الأستاذ يسأل: لِمَ تتلقون العِلم في المدارس؟

– لعله خير من أن نتصعلك في الشوارع!

– فقط؟!

– ولكي نحصل على وظيفة توفر لنا الحياة السعيدة.

– وما الحياة السعيدة؟

– هي المسكن الصحي، والمأكل اللذيذ، والملبس الأنيق، وغير ذلك من مسرات الحياة.

فتدَخَّلتُ في الحديث بلا تدبير متسائلًا: ألا تحبُّون العلم؟ .. ألا تسعون للتفوق فيه؟

– كُلنا نطمح إلى دراسة العلم إلا من يقعده المجموع عن ذلك.

– لماذا؟

– الشهادات العلمية هي التي توفر الوظائف الممتازة.

– والتفوُّق في العلم والحُلْم بخَلْقِ إضافاتٍ فيه؟

فتردد قليلًا ثم قال: أعتقد أن المتفوقين يحلمون بذلك.

فسأله الأستاذ عباس: ألا تقرءون الكتب في أوقات الفراغ؟

– نُفضِّل السينما والإذاعة والتلفزيون وقليلون يقرءون.

– وهل يقرءون التراث؟

– لا أظن!

– ألم تقرأ التراث بصفتك طالب آداب؟

– لغته مُعَقَّدة ومحصوله ضحل، وهو مقطوع الصلة بزماننا!

فتسللت نبرة حادَّة بعض الشيء إلى صوت الأستاذ وهو يسأل: والوطن أما زلتم تحِبُّونه؟

– طبعًا.

– وإسرائيل هل توَدُّون مُحاربتها؟

– نحن الذين سنُحرر الوطن بدمائنا، الوطن الذي تسببتم في هزيمته.

– نحن؟

– نعم.

– ليس جيلنا الذي يحكم.

وأشرت إلى الأستاذ عباس إشارة خفية ليتجنَّب الحِدَّة فثاب إلى الهدوء وجعل يبتسم في مودة، ثم سأله: وماذا تُفضِّلون: الاشتراكية أم الرأسمالية؟

فرفع صبري منكبيه وأجاب: لا تهمنا الأسماء!

– الأسماء؟!

– أجل، مللنا ذلك … يهمُّنا أن تتحقق لكل فرد حريته ونجاحه وسعادته.

فقلت متدخلًا في الحديث مرة أخرى: هذا يعني أنك تُفضِّل الاشتراكية!

– لا أدري!

– أتفضِّل النظام الرأسمالي؟

– لا أعتقد.

– ألديك نظام جديد؟

– كلا .. ولكننا مللنا ذلك.

ورجع الأستاذ عباس فوزي يسأل: وما موقفكم من الحب؟ .. ألا زال للحب عندكم قيمة أم أصبح الجنس كل شيء؟

– الجنس مسيطر، وقليلون يحبون، بل ويرغبون أن يمتد بهم الحب حتى الزواج!

– وماذا عن الأكثرية؟

– يمارسون المغامرات الجنسية.

– مع من؟

– التلميذات .. الطالبات .. الفتيات!

– هل يقبلون الزواج من المغامِرات؟

– كثيرون يقبلون … والبعض يتبع تقاليد الجيل الماضي.

– أعتقد أنَّ الفتيات لا يتخلين عن حلم الزواج.

– هذا هو عيبهن الأول.

– وغير مُستحيل أن تتزوج أنت نفسك يومًا ما.

– غير مُستحيل وإن يكن مُرتبي مضحكًا ومُستقبلي عدمًا.

– ولكن ثمَّة ما يشدك إلى الحياة ولا شك؟

– غريزة حب البقاء.

– رُبَّما لم تخلُ حياتك من سرور؟

– لقمة سائغة، فيلم جيد، علاقة جنسية بريئة.

– بريئة؟!

– أي ليست استدراجًا لزواج.

– أتعتقد أنك خير من أبيك؟

– كان أبي وفديًا يُقدِّس سعد زغلول ومصطفى النحاس، وأنا أعتبر ذلك مُضحكًا.

– لِمَ؟

– ثبت أنهم أصنام لا أكثر ولا أقل.

– لا أجد عندك عقيدة بديلة؟

– كان عندي، وتزلزل كل شيء عقب ٥ يونيو.

– ماذا تقترح لتحسين الأحوال؟

– العالم كله عدم وهباء.

– ماذا تقترح لتحسين أحواله؟

– القضاء على جميع المسئولين فيه!

– وماذا يحدث بعد ذلك؟

– لا يهم، ستتحسَّن الأحوال وحدها.

– لقد جئتني يا عزيزي لإجراء حديث عن التراث على حين أنك لا تؤمن به؟

– إني صحفي تحت التمرين!

– ولكنَّ سلوكه لا يخلو من انتهازية؟

– وما العيب؟ أي وسيلة تنفع للوصول في هذا العالم المُكتظ فهي مشروعة!

– أشكرك جدًّا.

– العفو.

وغادرنا عمارة الأستاذ وصدري يجيش بانفعال عاصف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤