عزيزة عبده

عندما قدمني لها الدكتور زهير كامل في صالونه لم أكن أسمع باسمها لأوَّل مرة، لعلي اطَّلعت عليه في مجلة أو جريدة. كانت بصحبة زوجها، سمراء أنيقة القسمات خفيفة الروح، قدَّرت عمرها بالثلاثين، وقال جاد أبو العلا إنها في الأربعين، وكان ذلك في عام ١٩٦٠، وهي وزوجها — في الخمسين — فنانان تشكيليان، وقد دعياني إلى مسكنهما في مدينة الأوقاف فاطلعت على معرضهما الدائم، ودهشتُ وأنا أتنقل بين لوحات واقعية في زمن ندرت فيه الواقعية وطغى التجريد، بل كانت واقعية ذات أهداف واضحة، وقلت مداعبًا: أخيرًا أظفر بفن رجعي!

ولكنَّها قالت باحتجاج عذب: أمامك فن تقدمي، بل الفن التقدمي الوحيد!

ونشأت بيني وبينها مودة عميقة، وكما أقنعتني بفنها، أقنعتني بأمومتها الصادقة لابنين، ولكنَّها بدت أقدر على الصداقة من زوجها الذي لا يحب الارتباط، والذي يحضرنا بجسمه على حين يغيب بروحه عن الزمان والمكان. وكانت مثقفة جدًّا، وتُعتبر هي وزوجها من ذوي الميول اليساريَّة، ولكنها كانت تُشعرني دائمًا بقوتها بخلاف زوجها الرقيق، القشة التي تتلاعب بها أخف الرياح. واصطحبت معي الأستاذ يوسف بدران محرر إحدى الصحف الفنية إلى بيتهما بناء على اقتراح منها، فلاحظتُ أنهما تفاهما تفاهمًا روحيًّا عجيبًا وسريعًا، وأنَّهما تبادلا احترامًا ومودة.

وذهبت يومًا لزيارة يوسف بدران في شقته بشارع قصر العيني، وجلسنا نتحادث وأنفاسه تتردَّد على وجهي معبقة برائحة الخمر، وما لبث أن فُتح باب حجرة النوم فخرجت منه عزيزة عبده مرتدية إحدى بيجاماته! دُهشت وارتبكت ولكني واجهت الموقف باللغة المناسبة فتظاهرت بعدم المبالاة، وشجَّعتني على موقفي بضحكاتها العذبة، وحديثها الطبيعي، وكانت أنفاسها تنفث أيضًا شذا الخمر.

وتكلَّمنا في شئون كثيرة أمَّا وجودها في الشقة بالحال التي وجدت عليها فمضى دون ضوء أو تفسير كأنه حقيقة مُسلَّمٌ بها، وقال لي يوسف بدران فيما بعد: هكذا وقع الحب علينا من السماء!

فقلت له: أنت تُحب الغَزَل!

– ولكنَّها كانت البادئة.

فرميته بنظرة شك فقال: صدِّقني، وسيطرتها أقوى من جمالها.

– تحبها؟

– هي تُحبني وفي ذلك ما يكفي.

– وأنت؟

– هي كنز لا يُستهان به ولكنَّها لا تعكس الأسلوب الذي أعشقه!

– وزوجها؟

– ولا أهمية له في الموضوع!

والتقيت بها بعد ذلك في صالون جاد أبو العلا، وكانت وحدها إذ كان زوجها في الإسكندرية، فطلبت مني أن أوصلها إلى بيتها، وسرنا معًا في الطريق فإذا بها تقول: أنا حريصة على صداقتك.

فقلت بصدق: وأنا حريص على صداقتك.

– ولا صداقة بلا احترام.

– وإني أحترمك.

– أكاد أقرأ في نفسك تساؤلات محيِّرة.

– لست قليل الخبرة كما قد تظنين.

– ولكن قد يبدو لك زوجان شاذَّين لنظرتهما المغايرة للدنيا والحرية؟

– لا أظن.

– أنا لم ولن أمارس الخيانة!

– لا تسيئي الظن بفهمي يا عزيزتي.

وحدثتني عن ماضيها فقالت إنها التحقت بالمدرسة الثانوية، وهي مزودة بإرشادات أمِّها الطيبة المرددة لصوت الجيل السابق، ولكنها سَلَّمت نفسها لأول شاب بادلها الحب، وهي تظنه سيفي بوعوده، ثم كررت ذلك مرارًا، بدافع الثورة حينًا، وبدافع اللهو حينًا آخر، وبدافع الحب في بعض الأحوال.

– وكنتُ أشعر بالخوف أحيانًا، ولكني لم أشعر بالندم قط.

وتوقفتْ عن السير متأثرة ثم قالت: أصبحتُ سيدة نفسي، وتحديتُ العالم كلَّه، بكل قيمه التي لم أعُدْ أومن بها.

وواصلنا السير وهي تقول: وآمنت دائمًا بأنني نقية مثل الأوكسيجين.

ولما حمَّ الافتراق شدت على يدي وهي تقول: نحن أمل المستقبل الحقيقي!

وبعد سنوات من تعارُفنا اعتُقل زوجها فيمن اعتُقل من الشيوعيين، فحزنتْ حزنًا عميقًا شاملًا، ونهضتْ بعبء الأسرة والابنينِ رغم اضطراب بطنها بجنين جديد. وتوارت عن الصالونات والمعارض، ولم نجد وسيلة للاطمئنان عليها إلا التليفون. وسألتْ يوسف بدران عنها فقال لي: عِلْمي عِلمك.

فسألته بدهشة: ألا تتقابلان كالعادة؟

– قطعتِ العَلاقة مذ اعتُقل الرجل.

– حقًّا؟

– إنها غريبة الأطوار، ولكني غير آسف.

انقطعت عنها فلم أعد أتذكرها إلا لمناسبة. وزُرتها بعد ذلك بسنوات — بعد الإفراج عن زوجها — للتهنئة. كان ابناها طالبين في الجامعة، وكانت ابنتها في السادسة. ودبَّ النشاط في حياتها مرة أخرى، ولكنها لم تصل ما انقطع من أسبابها بيوسف بدران الذي تزوج في تلك الفترة من مُهاجرة فلسطينية مثقفة. ويومًا كنتُ ويوسف في زيارة للجبهة الشرقية ضمن مجموعة من المواطنين، وجاء ذِكر عزيزة فسألني: أرأيت ابنتها الصغيرة؟

فقلتُ: نعم، وهي جميلة جدًّا!

فهمس في أذني بهدوء: إنها ابنتي!

فقلت بذهول: كلا!

– هي الحقيقة!

ثمَّ قال: حاولتُ إقناع عزيزة بإجهاض نفسها ولكنها رفضت.

– متى كان ذلك؟

– في الأيام السابقة مباشرةً لاعتقال الرجل.

– ولِمَ رفضتْ؟

فصمت قليلًا ثم قال: قالت لي لقد أحببتك حبًّا لم أحبه أحدًا من قبل وسأحتفظ بثمرته!

– رغم أنَّها قاطعت الدنيا عقب اعتقاله!

– وزوجها هل يعلم؟

– لا أدري.

وتفكَّرتُ قليلًا ثم قلت: الحق أنَّ البنت تشبهك!

– أجل، ولذلك أحرص على تجنب رؤيتها!

وبحلول عام ١٩٧٠ أحرزت عزيزة عبده أوَّل نجاح حقيقي في حياتها الفنية بنجاح معرضها، واعتُرف بها كفنَّانة مصرية أصيلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤