كاميليا زهران

يوم أقبلت علينا في السكرتارية بفستانها الأنيق، وشعرها الأسود المقصوص المطوَّق لرأسها تذكَّرت عبدة سليمان، ولكن ما أبعد المسافة بين عام ١٩٤٤ وعام ١٩٦٥! اختفت الوجوه القديمة مثل طنطاوي إسماعيل، وعبَّاس فوزي، وعدلي المؤذن، وعبد الرحمن شعبان، وعم صقر. اجتاحت السكرتارية موجة من الشباب نصفها من الجنس اللطيف، وها هي كاميليا زهران تنضم إلينا كأحدث قطفة من تلك الأزهار، وكنا ألفنا وجودهن بيننا، كما ألفنا الشائعات التي تلاحقهن في الفترة الحرجة التي تسبق الزواج، وأكثرهن تزوجن من شُبَّان خارج وزارتنا عدا واحدة تزوجت من زميل في الإدارة القانونية، ولم تهجر واحدة منهن العمل بسبب الزواج.

وكاميليا زهران حقوقيَّة في الثالثة والعشرين، وقد استقبلت عملها بامتعاض لإلحاقها بعمل كتابي بعد دراسة قانونية توشك أن تذهب هباءً، وسرَّني أن أطالع في عينيها نظرة مستقيمة وجريئة جاوزت بشكل ملموس نظرة الحريم المستكينة الخاملة، ومع ذلك شعرتُ بطريقة ما بعمق تجربتها في الحياة، وأنَّها لا تكاد تختلف في أمر جوهري من هذه النَّاحية عن زميلها الجالس إلى جانبها. وسرعان ما رفع الحجاب الكلفة بينها وبين الزملاء، ولكنه لم يجاوز حدود الأدب التقليدية، شأن من تنظر إلى المستقبل بحكمة وتعمل حسابًا للعقد الشرقية التي يحملها الزملاء من أسلافهم في البيوت.

وعقب الإجازات الصيفية حدثني زميلٌ قديم نسبيًّا في الإدارة فقال: لعلَّك لا تدري أنَّ كاميليا زهران راقصة بارعة؟

فسألته بدهشة: راقصة؟!

– رأيتها في هانوفيل تراقص شابًّا وكانت مندمجة في الرقص بنشوة كأنها نغمة.

فقلت متوثبًا للدفاع: لم يعد عيبًا ما كان يُعَدُّ عيبًا على أيامنا.

فهرش رأسه قليلًا ثم قال: أود أن أتخيل كيف تكون الحياة مع زوجة مثلها؟

فقلتُ: إنَّ نسبة الطلاق في هذه الأيام أقل من نظيرتها على أيامنا، وكذلك نسبة تعدُّد الزَّوجات!

فقال ضاحكا: الظاهر أنك رجل عصري رغم كهولتك؟

– أود لو كنت من أبناء هذا الجيل، لا استخفافًا بمتاعبه ولكن لتخففه من كثير من العُقد التي نغَّصت علينا صفو الحياة.

وقد قلت مثل ذلك لصديقي رضا حمادة، وهو أقرب أصدقائي القدامى إلى المحافظة، فسألني عمَّا أعني فقلت: تبادُل الحب في جو من الصراحة الصحيَّة خيرٌ من الكبت والتقلُّب بين أذرع البغايا.

فقال بارتياب: يُخيَّل إليَّ أنَّ الحب كالديمقراطيَّة أصبح معدُودًا من المهازل البائدة!

وكنتُ أُرهف السمع كلما دار الحديث بين الشباب في إدارتنا، ومن كلمات متناثرة أدركتُ أشياء لا بأس بها، خاصَّةً عن كاميليا التي استحوذت على اهتمامي أكثر من غيرها لحداثتها، فأُسرتها مثلًا متوسطة وهي أول من توظَّف من إخوة خمس، وليس من الصعب تخيُّل المتاعب التي تُعانيها أسرة من ذلك النوع والدرجة، ولا المتاعب التي تتحدى الفتاة كإنسانة مستقلة ومسئولة عن نفسها ورُبَّما عن أسرتها جزئيًّا، وما تطالبها به الحياة العصرية من نفقات، وما يُطالبها به المستقبل كفتاة تتطلَّع إلى عريس محترم، ولذلك فإنَّ اهتمامها بالشئون العامة اهتمام سطحي، وهي تُسلِّم بأشياء تسليمًا واقعيًّا دون تفكير ولا إيجابيَّة مثل الدين والثورة، ولكن حياتها الخاصة هي شُغلها الشاغل، وما حياتها إلا الحب والزواج وثمرات الحضارة الحديثة.

وندر أن صادفتنا أنثى تهتم اهتمامًا حقيقيًّا بالدين أو الفلسفة أو السياسة، ولعلَّ تفسير ذلك أننا لا نُزامل منهن إلا الأوساط أمَّا النابغات فلهن طريق آخر في الجامعات أو الحياة العامة، وللدكتور زهير كامل رأي في الموضوع. قال: عدم اهتمام المرأة بالعقائد والفلسفات يقطع بأنها — العقائد والفلسفات — معطلة للنشاط الحيوي الحقيقي.

وقال أيضًا: المرأة لا تُعنى إلا بالخلق وما يتعلق به، هي خالق جميل، الخلق محور حياتها كلها، أمَّا ما عدا ذلك من نشاطات فهي من صُنع الرجل وهي ضرورية للسيطرة لا للخلق!

وقال أيضًا: الدنيا هي هدف المرأة ومعبودتها، وبمعنى آخر هي هدف الخلق، وهذا يدُلُّ على أننا خُلقنا لنهتم بالدنيا دون سواها، وأنَّ كل ما عداها باطل، وأنَّ الخلود يجبُ أن يتحقق فيها، ولو أنَّ الأديان تصوَّرت الله على صورة امرأة لأهدتنا حكمة جديدة هي السعادة الحقيقة!

وربما تعذَّر تفسير هذه الآراء على ضوء ما عرفنا من عقلية زهير كامل، ولكن لن يتعذر تفسيرها على ضوء حياته؛ إذ كان يُعاني الحنين إلى زوجته وابنته اللتين هاجرتا إلى الخارج، كما كان يفتح قلبه لحب جديد، حب نعمات عارف، وكانت تظلنا سحابة من الغم والنَّكد في أعقاب هزيمة يونيو عندما قال لي الزميل القديم: توجد أحداث غريبة لا صلة لها بالمعركة.

فسألته عمَّا يعني فقال: كاميليا زهران تلعبُ مع المدير العام تلك اللعبة القديمة.

حقًّا أصبح المديرون في سن الشباب لا كالعهد القديم، ومديرنا العام في الأربعين، ولكنه متزوج وأب وذو سمعة — من هذه الناحية على الأقل — طيبة. قلت: ولعلها إشاعة!

– ولعلها حقيقة!

فسألته: وما تفسيرك للأمر؟

– لعله حب، وإن صح هذا الفرض فسيُخرب بيت ويقام مكانه بيت جديد.

وصمت مليًّا ثم عاد يقول: ولعلها اللعبة القديمة على طريقة شرارة النحال.

– هل تسللت انتهازية جيلنا إلى الجيل الطازج؟

– إنَّ المغريات اليوم أقوى وأعنف.

فقلتُ بامتعاض: لعل الانتهازية يُعترف بها في النهاية باعتبارها أخلاقًا جديدة، ومهارات جديدة مثل التكنولوجيا!

وحدثت صديقي الدكتور عزمي شاكر في الموضوع وقلت له: إنك مفكِّر بارع، فلِمَ لا تدرس الأخلاق الجديدة؟ أعني الأخلاق الصالحة للعصر الحديث، التي يجب أن تُستلهم من المجتمع الجديد لا من القِيَم القديمة.

فسألني: ما الذي دعاك إلى هذا التفكير؟

فقلتُ وأنا من الاستياء في غاية: انظر إلى مآل صديقنا الدكتور كامل رمزي، وعندي نظائر له عرفتهم في مجرى الحياة ممن نُعدهم أمثلة طيبة للإنسان، ألا يجوز أنَّ أخلاقهم لم تعد صالحة للعالم الحديث؟

فقال باسمًا: إنك تنفِّس عن مرارة نفسك.

– الحق أني حائر وحزين.

وتفشَّت الشائعات عن كاميليا والمدير، وأصبح الشك يقينًا عندما نُقِلت أخيرًا إلى الإدارة القانونية، ولكن لم يخرب بيت، ولم يقم محله بيت جديد، ولما تعين عندنا صبري جاد نشأت بينه وبين الفتاة علاقة حب صادقة. ومع أنه بدا أوَّل الأمر مُتمردًا ومستهترًا إلا أنه أحب كاميليا كما أحبته، وبالرَّغم من أنه كان يصغرها بعامين أو أكثر إلا أنهما أعلنا خطوبتهما رسميًّا، وسعدت أنا شخصيًّا بهذه النهاية السعيدة، التي شدت الاثنين إلى حياة أصيلة ومسئولية جادة من شأنها أن تُعيد خلق الإنسان وتضمه إلى الركب الجاد في الطريق، ويومًا بعد يوم فإنَّ إيماني يرسخ بأنَّ نقاء الإنسان يجيء من الخارج بقدر ما يجيء من الداخل، وأنَّ علينا أن نُوفر الضوء والهواء النقي إذا أردنا أزهارًا يانعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤