الفصل الأول

التوراة وربُّها وشعبها

قيضت مجموعة من ظروف تاريخ الاجتماع الديني، ذكرًا عظيمًا واستمرارًا مدهشًا — عبر المأثور الديني — لواحدةٍ من القبائل الهامشية القديمة هي القبيلة الإسرائيلية، التي جاءت إلى منطقتنا من مكانٍ بعيد، لم يزل تحديده بشكلٍ دقيق مثار خلاف بين الباحثين والمؤرخين، رغم أن تلك القبيلة في حقيقة أمرها لم تكن بهذا الذكر العظيم في مراجع التاريخ كعلم.

وقد دانت هذه القبيلة بدينٍ يُعرف باسم الديانة اليهودية، التي تنسب إما للسبط يهوذا أحد الأسباط الاثني عشر، أبناء يعقوب في أساطير الآباء البطاركة الأولين، وهو الرأي المرجَّح، وإما لرب اليهودية المعروف في التوراة باسم يهوه أو جاهوفاه أو ياه أو ياي أو إهيه أو يهيه، على مختلف التنغيمات الواردة بالكتاب المقدس، وهو الذي — حسبما تقول التوراة — قد ظهر لموسى في تجلٍّ سحري على هيئة لهيبٍ مضيء، ينبعث من شجيرةٍ نباتية (عُليقة) لا تحترق باللهيب.

ورغم ارتفاع شأن الإله يهوه في أفق الديانة اليهودية في طورها المتأخر، فإنه لم يكن كذلك في البدء أبدًا؛ لأن عقائد القبيلة أو القبائل المنعوتة باسم إسرائيل، حسبما وصلتنا في كتابها المقدس (العهد القديم)، تتضمن رواسب لأشكالٍ بدائية من عبادات الحيوانات كالسوائم النافعة مثل الثور والخروف، أو الضارية الصحراوية كالذئب والضبع، إلى عبادة قوى الطبيعة كالشمس والقمر والمطر والأنهار والبراكين، إضافة إلى عبادة الأسلاف الغوابر.

كذلك عبد هؤلاء أرباب المنطقة وخاصة آلهة الخصب الكنعانية «البعول» (جمع بعل أي سيد أو رب)، وقد تميز من بين تلك البعول البعل الرافدي «تموز»، والبعل الكنعاني «بعل مولك» (أي السيد الملك)، والبعل الفينيقي «أدونيس» واسمه بحذف التصريف الاسمي في آخر الكلمة «يس» هو «أدون»، هو اسم يعني السيد أو الرب أيضًا.

وأيضًا عبدوا كبير الأرباب السامية وشيخها ورئيس مجمعها «إيل» الذي تنتسب إليه أسماءٌ شهيرة بالكتاب المقدس مثل «عزرا -إيل، وميكا-إيل، وجبرا-إيل، وإسماع-إيل … إلخ»، وهو الذي اشتق منه اسم الجلالة «إيلاه» أو «الإله»، الذي أصبح في العربية «الله».

كما عبدوا ربات الخصب والزرع والخضرة مثل «عشتروت» الرافدية، و«عشيرة» الفينيقية، و«عناة» الكنعانية، وكلهن زوجات لأرباب الخصب البعول، وكان الثور عادة هو الرمز الأعظم تجلِّيًا، والمشترك الواضح بين تلك البعول؛ لما يتميز به من فحولةٍ جنسية تقارن بخصب الطبيعة وعطائها.

كذلك عبدوا عباداتٍ مصريةً واضحة، مثل «اليواريس» الحية المصرية حامية الملكية والتاج، ومراكب الشمس التي تحمل رب الشمس «رع» في جولته السماوية من الشرق إلى الغرب.

ونماذج لهذه العبادات نقرأ بالعهد القديم «فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها … فأخذ ذلك من أيديهم وصوَّره بالإزميل وصنعه عجلًا مسبوكًا، فقالوا: هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر» (خروج، ٣٢: ٢–٥).

وفي سفر العدد (٢٥: ١–٣) نجدهم يعبدون بعل فغور في بلاد مديان، وفي سفر القضاة (٢: ١١–١٧) يعبدون مع البعل، الأنثى السماوية المخصبة عشتروت ربة الجنس والخصب، وقد عبد أعظم ملوكهم طرًّا «شلما» المعروف عربيًّا باسم «سليمان» عددًا من الآلهة «فذهب سليمان وراء عشتروت إلهة الصيدونيين وملكولم رجس العمونيين … وبنى سليمان مرتفعة لكموش رجس الموآبيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون» (ملوك أول، ١١: ١–٨).

وبعد موت سليمان سار الملك يربعام على ذات الدرب: «وعمل عجلي ذهب وقال لهم: هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر» (ملوك أول، ١٢: ٢٨)، ويحيطنا سفر ملوك ثاني (١٨: ٤) أن الحية نحشتان (أي الحنش) ظلت تُعبد منذ صنعها لهم موسى في سيناء، وحتى زمن الملك يوشيا، وذات السفر يؤكد أنهم قد عبدوا رع رب الشمس المصري؛ لأنهم كانوا يسجدون لمركبه السماوي (عبادة مراكب الشمس).

ويحدثنا سفر «ملوك ثاني» عن الملك حزقيا بن أحاز، الذي كان متعصبًا لعبادة يهوه، وكيف أنه «هو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها (أي يقربون لها القرابين [المؤلف])» (ملوك ثاني، ١٨: ٤).

وقد عبد البطاركة الأوائل من إبراهيم إلى إسحاق إلى يعقوب حتى زمن موسى، الإله السامي المعروف بكبير الآلهة «إيل»، لكن إلى جواره كانت عبادة الأصنام شيئًا اعتياديًّا معلومًا بالتوراة، فهذه راحيل زوجة يعقوب تسرق أصنام أبيها المنزلية اعتزازًا بها، عندما غادرت موطنها حاران إلى فلسطين بصحبة زوجها يعقوب (تكوين، ٣١: ٣٤)، وقد بقيت هذه الآلهة مع غيرها في بيت يعقوب على ما يُفهم من الإصحاح (٣٥: ١-٢) من سفر التكوين، كذلك نجد ذات الأصنام المنزلية موجودة بشكلٍ اعتيادي في بيت الملك «داود بن يس»، بعد قرونٍ طويلة باسم «الترافيم»، وهو ما يوضِّحه لنا سفر صموئيل أول (١٩: ١٢-١٣)، بل يبدو أن الرب يهوه نفسه وهو في عزِّه، عند مطلع القرن السادس قبل الميلاد، لم يكن متفردًا، فهناك جاليةٌ يهودية عاشت في ألفنتين عند أسوان بمصر، وحافظت على مأثورٍ «اختفى في التوراة ولم يُذكر، فكانت تُعبد إلى جوار يهوه زوجته عناة يهوه»، ومعلوم أن اسم عناة كان لربة الخصب الكنعانية، وهو اسم زوجات البعول بشكلٍ اعتيادي.١

والإله يهوه نفسه في التوراة وبلسانه هو لم يدَّعِ لحظة، أنه رب البشر أجمعين بمفرده، بل كان نقيض ذلك تمامًا، فهو يعترف ببساطة بوجود آلهةٍ أخرى أبدى غيرته منها، ووجد أن من حقه على الشعب الذي اختاره أن يميزه عن هذه الآلهة ويعبده دونها؛ لذلك كانت الوصية الأولى بين الوصايا العشر «لا يكن لك آلهةٌ أخرى أمامي» (خروج، ٢٠: ٣) لذلك — ومثل جميع القبائل — عظَّمت القبيلة الإسرائيلية ربها يهوه، وعبَّرت التوراة عن انزعاجها من عبادة الإسرائيليين لآلهةٍ أخرى لقبائلَ أخرى، فالمزمور (٨٦: ٨) ينادي مؤكدًا: «لا مثل لك بين الآلهة يا رب.» ويقول المزمور (١٣٥: ٥): «عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة.» أما أمر يهوه لموسى وأتباعه فكان: «لا تسجد لإلهٍ آخر؛ لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو» (خروج، ٣٤: ١٤).

وكان الشرك بمعنى عبادة آلهةٍ عديدة واضحًا في أفق تلك العقيدة منذ بدئها حتى نهاية تدوين الكتاب المقدس اليهودي، ففي أسفاره الأولى المبكرة نجده يقول صراحة: «آباؤكم … عبدوا آلهةً أخرى» (يشوع، ٢٤: ٢)، والآباء هم البطاركة من إبراهيم حتى موسى.

ولم يقتصر ذلك على زمن إيل والبطاركة الأوائل، بل يبدو أنه كان سمة زمن يهوه منذ موسى، فترنيمة الخروج تتساءل: «من مثلك بين الآلهة يا رب؟» (خروج، ١٥: ١١)، و«الآن علمت أن يهوه أعظم من جميع الآلهة» (خروج، ١٨: ١١)، وحتى الأزمنة المتأخرة المفترض أن يهوه قد تفرد فيها بالعبادة وحده، نسمع النبي إرميا ينادي شعبه صارخًا فيه منددًا: «بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا» (إرميا، ١١: ١٣).

وخلال ذلك السير التطوري الطويل كان كهنة يهوه وأنبياؤه، يكافحون طوال الوقت العبادات الغريبة الأخرى، وحاولوا — خاصةً في الأسفار الأخيرة — تمييز يهوه بحسبانه ربًّا عالميًّا، ومع التطور أمكن لهم إدماج جميع الرموز المعبودة في التاريخ اليهودي في ربٍ واحد هو يهوه، الذي صار ربًّا واحدًا لكن تتجلى فيه قدرات آلهةٍ أخرى قديمة، فهو رب البرق والرعد والأعاصير مثل «بعل» الكنعاني، وهو الذي ينزل السخط والعذاب والجوع والجفاف مثل «سيت» المصري، وهو رب الرحمة رغم ذلك مثل «أوزيريس» المصري، وهو أيضًا رب البراكين والزلازل المدمرة مثل «تيفون» رب الشر والوباء اليوناني، وهو الذي قتل الحية الشريرة المعروفة في مصر باسم «أبو فيس» عدو رع إله الشمس، والمعروفة في بلاد الشام باسم «لوياثان الحية المتعددة الرءوس»، ومثلما كان رع رب الدولة المصري وأتباعه، ينتصرون على أبو فيس الشرير الظلامي كل يوم، لتعود الشمس ساطعةً في اليوم التالي، وكما كان البعل الكنعاني ينتصر على لوياثان، فإن ذات المهمة قد نسبت إلى يهوه، فنجد وصفًا مرعبًا للوياثان في الكتاب اليهودي المقدس يقول: «من يفتح مصراعَي فمه، دائرة أسنانه مرعبة، عطاسه يبعث نورًا وعيناه كهدب الصبح، من فيه تخرج مصابيح، شرار نار يتطاير منه، من منخريه يخرج دخان، كأنه من قدرٍ منفوخ أو من مرجل، نَفَسه يشعل حجرًا …» (أيوب، ٤١: ١٤–٢٠)، وهذا التنين الثعباني قد قتله يهوه في النص «أنت شققت البحر بقوتك، كسرت رءوس التنانين على المياه، أنت رضضت رءوس لوياثان» (المزمور، ٧٤).

وهو الأمر الذي سجلته لنا ألواح أوغاريت المكتشفة على الساحل السوري (رأس شمرا الآن) قبل التوراة بأزمان، فنقرأ في ملحمة البعل: «في ذلك الوقت ستقتل لوياثان الحية الهاربة، وتضع نهاية للحية الملتوية شالياط ذات الرءوس السبع.»٢

وقد كررت هذا النص التوراة في قولها نصيًّا: «في ذلك اليوم يعاقب الرب بسيفه القاسي العظيم الشديد لوياثان الحية المتحوية» (إشعيا، ٢٧: ١).

وأدمجت جميع الآلهة ووظائفها في شخص يهوه، بعضها كان يمثل الخير، وبعضها الآخر يمثل الشر، وتم دمجها في يهوه فحاز الدورين معًا، فهو رب الخير والخصب، وهو رب الشر والجفاف، «أنت فجرت عينًا وسيلًا، أنت أيبست أنهارًا دائمة الجريان، لك النهار ولك الليل أيضًا» (المزمور، ٧٤: ١٥).

لذلك — وبالضرورة — احتسب أن الخير والشر ينبعان كلاهما من يهوه الواحد بذات الدرجة دون تناقض، لكن ذلك أدى إلى مشكلةٍ مستعصية، ظلت بعد ذلك أرقًا دائمًا للأنبياء والكهنة.

وتتمثل المشكلة في أن الديانة اليهودية على غير المعتاد في جميع الديانات، اختار فيها الرب شعبه إسرائيل من دون الناس ليتألَّه عليه، وبالمقابل ينقذهم من ظلم المصريين، بينما المعتاد أن تختار الشعوب آلهتها، أي أنه خص تلك القبيلة دون العالمين بذاته وعبادته وفضلها على العالمين، ومع ذلك فإن هذا الرب الذي جمع صفات آلهة الخير مع آلهة الشر، لم يكن ينزل الشر فقط بالآخرين الأغيار غير اليهود، بل باليهود أنفسهم بشكلٍ يكاد يكون أكثر من الآخرين. لقد كانت مهمته بعد دمج الآلهة في شخصه إنزال الشرور بالأعداء، فما باله ينزل نقمته على شعبه الذي اختاره واصطفاه وفضله على العالمين؟ وتفاقمت المشكلة بعد انقسام مملكة سليمان، وظهور قوًى جبارةٍ أخرى في الشرق كالآشوريين والبابليين إضافة إلى المصريين، وهم من جعلوا المملكتَين الإسرائيليتَين كرةً يتقاذفونها فيما بينهم، إضافة إلى سنوات القحط والمجاعة المتواترة، ناهيك عن أولئك اليهود الذين أخذوا بالإثراء على حساب إخوانهم الآخرين بجشعٍ لا يرحم، وهنا ظهرت المفارقة ما بين الإيمان بإلهٍ حليف للشعب، ظهر أصلًا لإنقاذ هذا الشعب وحمايته، وبين ما بات يعانيه هذا الشعب من آلامٍ وخطوب، لا شك أن الذي ينزلها يهوه نفسه بعد عمليات الإدماج الألوهي، فكيف يجوز احتساب هؤلاء شعبًا مختارًا؟ أم كان مختارًا للعذاب؟

لقد كان ضروريًّا من أجل توحيد صفات يهوه الجمع بين السمتين القومية والشمولية، ليصبح يهوه كلي الجبروت، وتمتد سلطته لتشمل الشعوب جميعًا، لكن إسرائيل يظل شعبه المختار والمحبوب، وهو ما لا يمكنه تفسير ما لحق به من هزائمٍ أمام الوثنيين الذين لا يؤمنون بيهوه؟

إن هذا التناقض كان قد ساقه من قبل الفيلسوف اليوناني أبيقور ٣٤١–٢١٨ق.م. حين تساءل: إذا كان الإله كليَّ الجبروت وكليَّ الخير، فلماذا يوجد الشر في العالم؟ إما أن الإله يريد القضاء على الشر ولكنه لا يستطيع، وفي هذه الحالة يكون عاجزًا ولا يستحق صفته الكلية، وإما أنه يستطيع ولا يريد وفي هذه الحال يكون شريرًا وشيطانًا، يتلذذ بتعذيب عباده، وإما أنه لا يستطيع ولا يريد، وهذا أمرٌ لا يتناسب مع إله، وإما أنه يريد ويستطيع ويبقى السؤال: فمن أين الشر إذن؟٣

أما المشكلة الثانية التي اعترضت طريق اليهودية، وترتبط بالمشكلة الأولى تمامًا، فهي غياب فكرة البعث والحساب، ثم المصير الأبدي إلى ثوابٍ أو عقاب دائمَين، عن أفق التفكير الإسرائيلي، مثلهم في ذلك مثل بقية محيطهم من الشعوب السامية، يعتقدون أن المصير بعد الموت هو الهبوط إلى مملكة تقع تحت الأرض، هي مملكة شيول المظلمة دومًا المخيفة، حيث يعيش الموتى على شكل هوامَّ شبحية، وضعها أسوأ من الحياة ومن العدم، الكل فيها سواء، الصالح مثل الطالح.

وبينما عالجت جارتهم الكبرى مصر هذه المشكلة مبكرًا، فقررت وجود عالمٍ آخر بعد بعثٍ جسدي، فيه ثواب وعقاب عن العمل في الحياة الدنيا، حتى يمكن الاعتراف بعدل الإله، ويأخذ الشرير عقابه وينال الخير ثوابه، فإن الديانة الإسرائيلية ظلت منذ فجرها وحتى القرن الثاني قبل الميلاد تعتقد أن الثواب والعقاب دنيويان، فالصالح من عباد يهوه ينال حياةً أطول وخيرًا ماديًّا (وهو بالطبع الكلام المنطقي)، بعكس الشرير المنحرف دينيًّا، فهو يموت مبكرًا بقرارٍ إلهي، ولا ينال خيرًا في دنياه، يهوه بالأمراض والسقم والفقر والخيبة، ثم يموت حزينًا كميدًا. اليهودية كانت تثق في يهوه، وترفض وهم العزاء الأخروي زمنًا طويلًا، لكن يهوه أبدًا لم يأبه لهم، فالوثنيون أعزاءُ كرام بين العالمين، والإسرائيليون يكابدون، وبين اليهود أنفسهم يعيش الشرير وأصحاب المال عيشةً رغدًا، ويتمتع بالصحة والعافية، بينما يموت المؤمن بيهوه المخلص له فقيرًا مريضًا، بعد أن ذهبت تضرعاته هباءً، وهو الأمر الذي أدى إلى نزعات شك وإلحاد، بدأت تنتشر بين هؤلاء، نجدها واضحةً جلية في أسفارٍ، مثل سفر الجامعة وسفر أيوب بالكتاب المقدس ذاته.

ونتيجة انتشار الموجة الإلحادية، قام الأنبياء يحاولون تبرير يهوه وتبرئته، بإلقاء اللوم في كل محنةٍ على الشعب الإسرائيلي، لأن بعضه ولو كان أفرادًا قلائل، لم يستقيموا في عبادة الرب، وخانوه مع آلهةٍ أخرى أو شعوبٍ أخرى، وتتالت الخطوب تأخذ بعضها برقاب بعض، حتى العصر الهللينستي الذي أطلق عليه عصر الآلام، عشية مجيء القرن الأول الميلادي بقرنَين، فقامت اليهودية تأخذ بالعقيدة الأخروية المصرية كأبرز تبرير للإله، حيث سيمكن تحقيق العدل وتعديل الموازين لكن فيما بعدُ، عندما يأتي «يوم يهوه»، وينال المخلصون ثوابًا أبديًّا، ويذهب الآخرون إلى العار الأبدي، وبذلك يتحقق ليهوه ما كان ناقصًا، وهو العدل الذي لم يحدث في دنيانا الفانية ولا مرةً واحدة.

هنا يجب ألا نغفل أن هذا التطور الجديد وإن حدث في فلسطين، فإن فلسطين إبان ذلك كانت تموج بالأفكار المصرية، كما كانت تموج بها مختلف بقاع المتوسط الشرقي، ومن هناك، وعبر الديانة اليهودية قدر للعقيدة الأخروية لتبرير الإله، أن تجد طريقها إلى المأثور السامي، فتصبح من بعدُ ركنًا ركينًا في ديانات شرقي المتوسط الكبرى، حتى إنها أدت إلى تطور الديانة اليهودية، إلى ما يعرف بالديانة المسيحية، وأصبح الموتى من المؤمنين بألوهية يسوع، يقومون من الموت للجنة، بعد أن كانوا قبله يذهبون إلى الهاوية، ثم جاءت عقيدة مصر الأخروية به بعد ذلك، كأحد الأسس الإيمانية في قانون الإيمان الإسلامي: أن تؤمن بالله وملائكته ورسله وكتبه «واليوم الآخر» والقدر خيره وشره.

لكن هذا المأثور المصري القديم جدًّا، لم تتقبله اليهودية إلا متأخرًا جدًّا، وهي تلفظ آخر بقاياها مع آخر أنبيائها، لينتظر اليهود بعد ذلك وحتى اليوم (يوم يهوه)، الذي يسودون فيه الدنيا، وبينما تدفع العقيدة المصرية الأخروية بالدماء إلى شرايين اليهودية، يبدأ الصراع بين القديم التقليدي الرافض للبدعة المصرية، وبين الجديد الذي وجدها ضرورة استمرار حتمية، لينتصر الجديد، فيأخذ العقيدة برمتها مع ربها «أوزيريس»، الإله الطيب رب النور والخصب والخير، الذي يموت شهيدًا من أجل رعاياه، ويقوم في اليوم الثالث لموته في قيامةٍ مجيدة، ليمنح من يؤمن بموته وقيامته حياةً خالدة في عالمه الآتي، وتنادي الأناجيل هاوية عالم الموتى التحت أرضي تقول: أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاويه؟ الموتى الآن يقومون، يصعدون ولا ينزلون، ويستبدل أوزيريس بيسوع الإسرائيلي، وتظهر في أفق الدنيا ديانةٌ جديدة، هي اليسوعية أو المسيحية أو النصرانية نسبة إلى مدينة «ناصرة» في الجليل — شمال فلسطين — حيث كانت تقيم العذراء «مريم»، حيث حملت بالمسيح، ثم وضعت حملها في «بيت لحم» باليهودية جنوبًا. تنتصر الدماء الجديدة التي ضخت في شرايين اليهودية على القديم، ويتجدد القديم بجديد كان قديمًا مصريًّا، ويقوى أمرها ويستتب، عندما تعتنق الإمبراطورية الرومانية المسيحية دينًا رسميًّا سنة ٣٩١م، تفرضه على رعاياها فرضًا.

لكن كي تتم تبرئة الإله نهائيًّا مما يحدث لعبيده الخلص من نوازل، كان لا بد من العثور على مصدرٍ للشر، وهنا تعود الإنسانية إلى فجرٍ قديم، عندما كانت العقائد القديمة تقول بإلهين أحدهما للخير والآخر للشر، أوزيريس وسيت في مصر، وبعل وموت في كنعان، وأهورمزدا وإهريمان في إيران، وإنليل وتهامة في العراق، وبعل وموت في الشام، ووقع اختيار التيار الإسرائيلي الجديد (المسيحية) على شخصيةٍ عابرة وردت بالتوراة باعتبارها من بني الله ليكون سببًا للشرور، وبنو الله في التوراة عنصرٌ هجينٌ ناتج عن زواج الله ببنات الناس، وذلك الابن هو الذي يحمل اسمًا عبريًّا ترجمته: الغريم أو الواشي، واسمه «شاطان» ونكتبها في العربية «شيطان».

وكان يتوجب على شاطان أحيانًا (في الأسفار المتأخرة من العهد القديم)، أن يقوم بتجريب الناس في إيمانهم بتكليفٍ من يهوه، فيضرب المخلصين مثل أيوب العبد الصالح بالمرض والفقر بعد صحةٍ وغنًى، اختبارًا لإيمانه، والواضح أنها كانت إحدى محاولات تبرير وتبرئة الإله، باعتبار ما يحدث من نوازلٍ هو ابتلاء من الله واختبار لأحبَّائه.

وكان أول ظهور لهذا الابن المتميز «شاطان» في سفر أيوب، وأيوب هو أبرز المحبين لله وأبرز المصابين في الله، وجاء التبرير في هذا السفر في حكاية هي الأولى من نوعها حينذاك، وتقول الحكاية: «وكان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب، وجاء الشيطان أيضًا في وسطهم [في الأصل العبري المازوري شاطان]، فقال الرب للشيطان: من أين جئت؟ فأجاب الشيطان الرب وقال: من الجوَلان في الأرض والتمشي فيها، فقال الرب للشيطان: هل جعلت قلبك على عبدي أيوب لأنه ليس في الأرض مثله رجل كامل ومستقيم يتقي الله ويحيد عن الشر، فأجاب الشيطان الرب وقال: هل مجانا يتقي أيوب الله؟ أليس أنك سيجت حوله وحول بيته، وحول كل ماله من كل ناحية، وباركت أعمال يديه فانتشرت مواشيه في الأرض، ولكن ابسط يدك الآن ومس كل ماله، فإنه في وجهك يجدف عليك، فقال الرب للشيطان: هو ذا كل ماله في يدك … ثم خرج الشيطان من أمام وجه الرب» (أيوب، ١: ٦–١٢)، وذهب شاطان وضرب أيوب بالمرض والفقر.

وهكذا وجد الاتجاه الجديد بُغيته في التراث الإسرائيلي نموذجًا للإله الشرير القديم، ومن ثَمَّ أصبحت كل الشرور في المسيحية الناهضة تنسب إلى واحدٍ من أبناء يهوه هو الشيطان الواشي أو الغريم، وفي الإسلام وجد له مكانًا وركنًا ركينًا، «وتحوَّلت الواشي إلى الوسواس الذي يوشوش أو يوسوس للناس» ويشككهم فيما يعتقدون، أما المسيحية فقد وجدت خلاصها وخلاص البشر في تنزيه الله عن الشر؛ لأنه فقط رب محبة، أما الشر فهو من شاطان أو الشيطان الملعون إبليس، الذي جاء حسب التوراة «من الجَوَلان والتمشي في الأرض»، وهو الكلام الذي لا معنى له، وستكشف عن معناه صفحات هذا الكتاب، عندما نعلم من هو الرب المشاء الجواب، الذي كان ربًّا لمشائين جوابين وكان ربًّا للشر.

وقبل أن نصل إلى هذه المرحلة نجد العهد القديم، عبر المحررين الذين دوَّنوه، وهم غالبًا من الكهنة والأنبياء المتعددين، يحاولون دومًا تجريم الابتعاد عن طريق يهوه، ويعدون ذلك انحرافًا عن صحيح العقيدة وخيانة للرب تستحق عقابه الشديد، لكن يهوه أبدًا لم يحتج يومًا على رب البطاركة الأوائل، رب سفر التكوين المعروف باسم إيل، بل حاول التخفي وراءه، والإيعاز أنه كان هو ذات إيل ونفسه.

لقد كان إيل هو رب زمن البطاركة الأوائل من إبراهيم حتى موسى، لكن موسى الذي عاش مع الإسرائيليين في مصر، وتكررت زيارته إلى سيناء، خرج على شعبه بإلهٍ جديد هو يهوه، زعم أنه قد التقاه في سيناء، في هيئة شجرةٍ ضوئية، لكن يهوه رغم حربه الضروس ضد الآلهة الأخرى، لم يكن بإمكانه أن يتنكر لرب البطاركة، ومن ثم كانت كذبته على موسى:

هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد. (خروج، ٣: ١٥)

أنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق بأني الإله القادر على كل شيء، «وأما باسمي يهوه فلم أُعرف عندهم». (خروج، ٦: ٢-٣)

والصفة «الإله القادر على كل شيء» و«الله العلي مالك السماوات والأرض»، كانت صفاتٍ معلومة للرب السامي الكنعاني «إيل»، وكان ملك أورشليم الكنعاني «ملكي صادق» أو الملك صادق، كاهنًا لهذا الإله، وسبق له أن بارك إبراهيم الوافد الغريب ضيفًا على بلاد كنعان، وقد باركه باعتباره أن ملكي صادق ممثل لإيل ونائب عنه وكاهن له، وقال له: «مبارك إيرام من الله العلي مالك السماوات والأرض» (تكوين، ١٤: ١٩).

وهنا يصح التساؤل من الباحثين المدققين، إذا كان حقًّا يهوه إلهًا معروفًا في فلسطين قبل الخروج من مصر، وإذا كان هو ذات عين إيل، فلماذا سميت المدينة المقدسة «بيت إيل» ولم تُسم «بيت يهوه»؟ ثم لماذا يتخذ سفر التكوين من إيل إليها، بينما تتحدث بقية الأسفار عن يهوه دون أي اعتبار أو وزن للإله إيل، الذي ملأ سفر التكوين بحضوره الكثيف؟ هذا مع ملاحظة أن أول ظهور للإله يهوه كان في لقائه بموسى في سيناء المصرية وليس في فلسطين، لا بد إذن أن هناك تغيرًا جوهريَّا قد حدث، وأن سفر التكوين تحديدًا كان نتاجًا لثقافةٍ قديمة في فلسطين، قبل مجيء إبراهيم إليها من أور الكلدانيين، وعليه تكون بقية الأسفار التالية هي نتاج ثقافةٍ أخرى لشعب يعبد يهوه ولا يعرف إيل، وأنه قد تم ضم السفر الفلسطيني القديم للتوراة صاحب «إيل»، لإثبات علاقة نسب بالدم بين أتباع الإلهين، إله شعب فلسطين «إيل»، وإله شعبٍ جديد «يهوه السيناوي»، وجاء مع الخروج من مصر بدينٍ جديد إلى فلسطين.٤

ويدعم أصحاب هذا الرأي مذهبهم «بانقطاع التاريخ التوراتي عند البطرك يوسف، وتوقف هذا التاريخ تمامًا لمدة أربعة قرون قضاها هؤلاء في مصر» حسب زعم التوراة، ويطرحون السؤال: لماذا سمح محررو التوراة بهذه القفزة في عرض تاريخهم؟ الإجابة لا شك هي أنهم عبدوا آلهةً مصرية؛ مما يشكل لهم عارًا تاريخيًّا، وهو ما جاء في سفر يشوع «انزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم في عبر النهر وفي مصر» (يشوع،  ٢٦)، والمعنى هو أن سلالة البطاركة دخلت مصر مع ربها إيل، لكن لتعيش هناك أربعة قرون، وفجأة يخرج قوم من مصر إلى فلسطين، بثقافةٍ جديدة وربٍّ جديد «يهوه السيناوي» مع موسى، ويزعمون أنهم أخلاف أولئك البطاركة الأسلاف، لكن الواضح أن هذه كانت ثقافة وتلك كانت أخرى جديدة تمامًا؛ «مما يشكك في هوية الجماعة الخارجة من مصر، ومدى انتسابها لهؤلاء البطاركة، وهو ما يطرح السؤال حول هذه الهوية من جديد»!

ومما يؤكد هذا المذهب ووجهة النظر تلك، هو أنه بعد مجيء الخارجين من مصر إلى فلسطين، أن نجد خلافًا جذريًّا بين أبناء الشعب اليهودي، يكاد يقسمه إلى عنصرَين بشريَّين متمايزَين، «قسم يحمل اسم يهوذا»، وقد قرر هؤلاء اليهوذيون استيطان جنوب فلسطين على الحدود السينائية، واتخذوا من أورشليم عاصمةً لهم، «والآخر يحمل اسم إسرائيل» استقر في المناطق الشمالية من فلسطين، واتخذ من مدينة السامرة عاصمةً له.

وعندما قامت مملكة إسرائيل الموحدة زمن شاءول، ثم داود فسليمان، انقسمت فور موت سليمان إلى إسرائيل شمالًا ويهوذا جنوبًا، ويبدأ سفر صموئيل الثاني بالتمييز بين إسرائيل (وتحوي الاسم الفلسطيني الإلهي إيل في تركيبها) وبين يهوذا المنتسبة إلى «يهوه»، وهو التميز الذي يستمر ويتضح، ويتأكد عبر الأسفار اللاحقة، وبعد أن كان المحرر يستعمل تعبير «كل إسرائيل» للدلالة على القبائل المنتسبة للأسباط الاثني عشر، بما فيها يهوذا، فإنه يبدأ في سفر صموئيل الثاني بالحديث عن إسرائيل ويهوذا، حيث تبدو يهوذا الجنوبية شيئًا وإسرائيل الشمالية شيئًا آخر.

وتلخص موسوعة تاريخ العالم علاقة هذا الشعب بالإله يهوه، فتقول: «أصبح يهوه إلهًا لإسرائيل عن طريق موسى، بعد التخلص من الأسر المصري، وكان يهوه في الأصل إلهًا لجبلٍ مقدس (سيناء أو حوريب)، ثم قاد يهوه — باعتباره إلهًا قوميًّا — الإسرائيليين إلى كنعان، وبعد أن أخذ صفات البعول، واستولى على معابدها أصبح إله كنعان بجانب كونه إله إسرائيل، وبإعلانه إلهًا دوليًّا للعدل مهد عاموس ٧٥٠ق.م. الطريق للاعتراف، بأن يهوه هو الإله الواحد في الوجود في إشعيا (٤٠: ٨) حوالي ٥٥٠ق.م. وبالجمع بين هذا اللاهوت النبوي وطقوس العبادة في المعابد التي اقترحها حزقيال في ذلك الوقت نتج دينٌ جديد هو اليهودية.»

وعلينا أن نلاحظ أن عائلة الملك داود التي تعود إلى سبط يهوذا، هي التي حكمت في دولة يهوذا الجنوبية كأسرةٍ واحدة وسلالةٍ واحدة لملوك يهوذا وحدهم، بينما كانت إسرائيل الشمالية قد تناوبت على عرشها تسع أسر مختلفة من القبائل الإسرائيلية في الشمال خلال أكثر من مائتي عام بقليل، ورغم أن المملكتَين قد عبدتا يهوه بعد سيادته الأولى على مملكة «كل إسرائيل»، فإن عبادة يهوه كانت في يهوذا أقوى منها في إسرائيل بشكلٍ واضح، وقد اتهمت التوراة الدولة الشمالية إسرائيل بعبادة الآلهة الغريبة، ولحقت هذه التهمة جميع ملوكها، وأدانت نشاطهم الديني، لكنها لم تتهم من ملوك يهوذا بهذه التهمة سوى ثمانية ملوك، لكن كان فيها ملوك أُخر مخلصون ليهوه، فبفضل الملوك اليهوذيين آسا وويهو شافاط ويهورام وحزقيا ويوشيا تجددت اليهودية وانتعشت.

ومع ما تعرضت له تلك القبائل من مفارقاتٍ تاريخيةٍ قاسية، فقد انغلقت على نفسها في حالةٍ نرجسةٍ قبلية، تماهت فيها الجماعة مع الرب يهوه وعبدت يهوه أو عبدت نفسها لا فرق، وقدمت نفسها للعالم كأفضل الأمم، ودينها كأشرف الأديان، وتحولت الجماعة المندمجة بربها إلى بطلٍ قومي، نقل الإحباط من داخل الجماعة إلى خارجها المعادي المخالف، لتحافظ على انسجامها وعلى وحدتها الداخلية، وهو الأمر الذي يتكرر دومًا مع الجماعات، التي تتعرض لخطر الضياع من صفحة التاريخ.

(١) أقسام العهد القديم

العهد القديم (الكتاب اليهودي المقدس) هو مجموعة كتب وليس كتابًا واحدًا، يطلق عليها الأسفار جمع سفر أو كتاب، وتسمى في مجموعها التوراة، وهي تسميةٌ مجازية تطلق على كل الكتاب؛ لأن التوراة تقتصر على الكتب الخمس الأولى، من مجموع كتب يشملها هذا الكتاب يصل عددها إلى تسعة وثلاثين سفرًا، وقد اتُّفق على تقسيم هذه الكتب إلى أربعة أقسام هي على الترتيب:

القسم الأول

ويُعرف باسم التوراة أو كتب موسى الخمسة أو البنتاتك Pentateque، والكلمة توراة مأخوذة من الكلمة المصرية القديمة توروت أي شريعة، لكنها في العبرية استخدمت بدلالة تعني التعليم، ونطقها العبري «تورة» من الفعل «شورة» (رأى — رأه بالعبرية)، على وزن أفعل، وتعني حرفيًّا الترئية أو الرقية، وتتضمن معنى العودة للشورى الإلهية، وتشمل التوراة خمسة كتب أو أسفار هي:
  • التكوين Cenesis: ويحكي تاريخ العالم من لحظة البدء بخلق الرب للسماوات والأرض ثم آدم ونسله، ثم تسير التوراة مع ذلك النسل في عمليات غربلة واستبعاد، حتى تستبقي شعب التوراة في المصفاة، وذلك عندما تصل إلى أولاد يعقوب المعروف باسم إسرائيل، وهم اثنا عشر ولدًا أو سبطًا، والكلمة سبط مأخوذة من الكلمة المصرية القديمة «سبيت» أي إقليم أو فرع، ومعنى الأسباط الفروع التي انقسم إليها بيت يعقوب، ونسبة للكلمة يطلق المصريون على الحبار ذي الأيدي أو الفروع المتعددة «السبيط»، أي متعدد الأرجل أو الأفرع، ويطلق على عرجون النخل «سباطة» … إلخ، والغريب أن الاسم العلمي للسبيط هو بذات النطق تقريبًا Cephalo poda (سيفالو بودا) ويعني الرأس قدميات.

    وينتهي سفر التكوين باستقرار فروع يعقوب أو الأسباط في مصر، ضيوفًا عليها إبان مجاعة حلَّت بالمنطقة بكاملها، لكن مصر كانت بمأمنٍ منها، ويُرجِّح بعض نقاد التوراة أن يكون قد تم تأليف كتاب التكوين، أو جمعه من المأثور القديم لفلسطين والمنطقة حوالي القرن التاسع قبل الميلاد، أي بعد موت موسى بحوالي خمسة قرون كاملة.

    ويظهر محررو التوراة في كتاب التكوين بحسبانهم جامعي تراث، أكثر من كونهم مؤرخين لواقعٍ حقيقي، وفي التكوين تم حشد قصصٍ عديدة مختلفة المنشأ والأصل إلى جوار بعضها، مع ربطها ربطًا غير محكم بتاريخ إسرائيل؛ مما أبقى على استقلال شبه واضح لكل قصةٍ على حدة، مع تناقض بين الأحداث يسمح للباحث أن يفرز ويصنف، ويظهر أن المحررين كانوا يعون هذا التناقض فيما يدوِّنون من أحداث، لكنهم أبقوا عليها من باب التقديس، وربما برغبة تسجيل أكبر حشد من التنويعات، التي مرت بها القصة الواحدة، مع مهمةٍ أساسية أخذها المحررون على عاتقهم، وهي تنظيم تلك التركة من الأساطير والأحداث والتقاليد والحكي الفولكلوري، في سياقٍ من شأنه أن يخلق لإسرائيل تاريخًا كشعبٍ موحد من البداية، فكان هاجس الأصول — فيما يقول فراس السواح — يسيطر طول الوقت على مجموع أسفار التوراة الخمسة، ثم تعدَّاه إلى بقية الأسفار المعروفة بالأسفار التاريخية.

  • الخروج Exodus: ويتعرض هذا الكتاب للأحداث، التي مرت بها القبيلة الإسرائيلية في مصر، في سطورٍ لا تفصح عن أحداثٍ، يفترض أنها استمرت ثلاثين سنة وأربعمائة، بصمتٍ مريب لا يلتئم. وأسلوب هذا القسم الذي يميل للإطناب والتفصيل والتكرار إلى حد الإملال، وتركز بقية السفر على أحداث الأيام الأخيرة للخروج من مصر، لإبراز قدرات يهوه السحرية وضرباته للمصريين ضرباتٍ مدمرة، انتهت بخروج الإسرائيليين من مصر تحت قيادة موسى، أحد أحفاد سبط لاوي أو ليفي شقيق يوسف والأسباط، في رحلة هروب أو خروج كبرى تتم حكايتها هنا بتدقيقٍ وتفصيلٍ شديدَين، تشير إلى جغرافيا شرقي دلتا مصر وسيناء، بمزيدٍ من التدقيق لأسماء مواضع الحل والترحال، للخارجين عبر سيناء نحو فلسطين، ويحوي هذا السفر بعض أحكام الشريعة اليهودية في العبادات والمعاملات والعقوبات. ويُرجِّح الباحثون أن يكون قد تم تأليفه زمن تأليف كتاب سفر التكوين.
  • اللاويُّون أو الليفيون Leviticus: نسبة إلى ليفي Levi أحد الأسباط، ويشير إلى نسل ليفي هذا، وهم من اختارهم موسى من عائلته اللاويَّة أو الليفية ليكونوا كهَّانًا ليهوه حفظًا لمسئولية العلاقة بالله داخل أسرته، وقد شغل هذا السِّفر في معظمه بشئون العبادة وطقوسها خاصة ما تعلق منها بطريقة تقديم الأضاحي والقرابين إلى الإله.
  • العدد Numbers: واهتم بإحصائياتٍ عديدة عن إسرائيل، كعدد القبائل وعدد أفراد الجيش وكمِّ الأموال، وأي شأن كان يمكن أن يخضع لعملية الإحصاء؛ لذلك سمي العدد أو الإحصاء.
  • التثنية Deuteronomy: وقد شغل هذا السفر بأحكام الشريعة اليهودية في الحرب والسياسة والاقتصاد والعبادات والمعاملات والعقوبات، وسُمي تثنية لأنه ثنَّى أو أعاد ذكر التعاليم، المفترض أن موسى تلقاها من ربه إبان رحلة الخروج عبر سيناء، لكن نقاد التوراة لهم رأيٌ آخر، فهم يُجمِعون على أن هذا السفر لم يتم تأليفه إطلاقًا قبل أواخر القرن السابع قبل الميلاد، أي بعد زمن موسى بحوالي سبعة قرونٍ كاملة، وبعد مملكة سليمان بثلاثة قرون، وأن ذلك قد تم إبان وجود اليهود في المنفى البابلي على الرافدَين.

القسم الثاني

ويعرف بالأسفار الخارجية وعددها اثنا عشر كتابًا، قامت بعرض تاريخ بني إسرائيل منذ دخولهم أرض فلسطين قادمين من مصر، ويشمل أسفار:
  • يشوع Josue: ويشوع هو ربيب موسى وخليفته على قيادة بني إسرائيل إلى فلسطين بعد موت موسى.
  • القضاة Judges: وهم الذين تولوا أمور الحكم على بني إسرائيل بشكلٍ قبلي، حيث كان الحاكم هو من يقضي في الخصومات بين الناس بشكلٍ مباشر في اجتماعاتٍ دورية تعقد لهذا السبب.
  • راعوث Ruth: وهو اسم جدة الملك داود من جهة أبيه، ويحكي قصة لا علاقة لها بالسياق التاريخي.
  • صموئيل الأول وصموئيل الثاني (كتابان أو سفران): وصموئيل هو آخر قضاة إسرائيل قبل التحول عن نظام حكم القضاة القبلي إلى الحكم الملكي المركزي وقيام المملكة.
  • أعمال الملوك أول وثانٍ (كتابان): ويحكيان تاريخ ملوك القبائل الإسرائيلية بدءًا من أول ملوكهم المؤسس شاءول مرورًا بداود وولده سليمان، ثم انقسام المملكة إلى يهوذا في الجنوب وإسرائيل في الشمال، وسيرة ملوك المملكتَين في علاقتهما بالرب وببعضهما وبالدول المجاورة.
  • أخبار الأيام أول وثانٍ (كتابان): ويعرضان على الترتيب شجرة النسب من آدم إلى يعقوب، ويكرران ما سبق عرضه في سفر التكوين، ثم يكرران عرض تاريخ الملك داود وولده سليمان، ثم يعرضان لتاريخ اليهود السياسي بعد سليمان.
  • عزرا Esdras: وينسب هذا الكتاب إلى كاهنٍ إسرائيلي باسم «عزرا بن سرايا»، على رأس الموجة الثالثة العائدة من اليهود المنفيين في بابل إلى فلسطين حوالي منتصف القرن الخامس قبل الميلاد … وإليه تُنسب محاولة تجديد الديانة وإيقاد جذوة القومية الإسرائيلية، وقد أشرف على تجديد الهيكل، وإليه تُنسب كثيرٌ من كتب العهد القديم في رأي نقاد التوراة. وقد بلغ عزرا منزلةً عظيمة عند بني إسرائيل، ويخبرنا القرآن أن الإسرائيليين قد قدسوه حتى قالوا: عزير ابن الله، رغم أننا لم نجد — في العقائد اليهودية ذاتها — ما يشير إلى مثل هذا الاعتقاد.
  • نحميا Nehemie: وهو أحد وُجهاء بني إسرائيل، تمكن مع عزرا من إقناع الملك الفارسي قورش بعد فتح الفرس لبابل، بالسماح للإسرائيليين بالعودة إلى فلسطين، وبناء الهيكل من جديد.
  • إستير Esther: وهو سفرٌ صغير يشتمل على تسعة أبواب أو إصحاحات، ويروي قصة الإسرائيلية الجميلة إستير، التي تمكنت من إغواء أخشويريش ملك الفرس فتزوجها، وتمكنت بوجودها في البلاط من إحباط مؤامرات وزيره الكبير هامان ضد بني جلدتها، ثم دبرت مع عمها الكاهن مردخاي مكيدة قضت على هامان وأتباعه، حتى سمح لهم الملك الفارسي بالولوغ في دم هامان وفريقه كيف شاءوا، وقام الإسرائيليون بذبح الآلاف من قوم هامان ونسائهم وأطفالهم، وحتى اليوم يحتفل اليهود بذكرى تلك المذبحة في عيد البوريم أو عيد إستير في مارس من كل عام.

القسم الثالث

ويعرف بمجموعة كتب الأناشيد أو الأسفار الشعرية، ويشتمل على أسفارٍ في صيغ أناشيد وتراتيل ومواعظَ دينيةٍ مصوغة شعرًا، ويشمل خمسة كتب أو أسفار، هي على الترتيب:
  • أيوب.

  • المزامير.

  • سفر أمثال سليمان.

  • سفر الجامعة وينسب بدوره لسليمان.

  • نشيد الإنشاد وهو بدوره ينسب إلى سليمان، ويسمى نشيد الإنشاد الذي لسليمان.

القسم الرابع

وهو مجموعة أسفار النبييم أو الأنبياء، ويحوي سبعة وعشرين كتابًا، تعرض لتاريخ أنبياء إسرائيل بعد موسى، وهي على الترتيب:
  • إشعيا.

  • إرميا.

  • مراثي إرميا.

  • حزقيال.

  • دانيال.

  • هوشع.

  • يوئيل.

  • عاموس.

  • عوبيديا.

  • يونان.

  • ميخا.

  • ناحوم.

  • حبقوق.

  • صفنيا.

  • حجي.

  • زكريا.

  • ملاخي.

ويرجح علماء مدارس نقد التوراة، أن معظم تلك الكتب النبوية قد تم تأليفها إبان النصف الأخير من القرن التاسع قبل الميلاد، بينما يعود بعضها إلى أوائل القرن السادس قبل الميلاد، ويمكن نسبة بقيتها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، ويمتد تدوينها حتى القرن الثاني قبل الميلاد.

وهكذا تشكَّل العهد القديم بالحفظ الشفاهي زمنًا يصعب تقديره، وربما استغرق تدوينه ٧٠٠ سنة، ويحكي لتاريخ امتد أكثر من ١٥٠٠ سنة قبل الميلاد، تعرض أثناءها للمعالجة والتحرير عدة مرات من محررين أغلبهم مجهول، ومع مرور الزمن والتغيرات التي لحقت ديانة إسرائيل، وأخذت توطد سيادة يهوه بشكلٍ واضح، أتاح ذلك الفرصة لأنصار يهوه وكهنته، استخدام المأثور التاريخي لقبائل إسرائيل وغيرها من شعوب المنطقة، من أجل خدمة وتأكيد عبادة يهوه، ومن ثم تعرضت نصوص المقدس التوراتي لتحويرات كانت تتناسب مع روح المذهب الديني المنتصر، لكن هؤلاء — ولحسن حظ الباحثين اليوم — كانوا أتقياء إلى حد عدم الاجتراء على تصحيح النصوص القديمة أو جعلها ملائمة، وعادة ما كانوا يكتفون بحشر مقدمات وخواتيم ضمن نص السرد الأصلي للحوادث التاريخية، وأحيانًا كانوا يضيفون على السرد الفعلي، وقائع لم تكن موجودة في النص الأصلي؛ وهو ما يلقي على الباحث اليوم مزيدًا من المشقة في غربلة الأصيل مما لحقه من إضافات، خاصة أن المحرر عادة ما كان يستقي موضوعاته من الفلكلور السائد، أو كان يخترعها اختراعًا. ثم تواجه الباحثَ مشاكلُ أخرى لها أسبابها القديمة، فمثلًا كان المحررون لا يتركون فواصل بين مداخلات مؤلِّفين عدة، بقصد توفير الورق الثمين، وهو ما جعل النساخ المتأخرين ينسبون مداخلات نبي إلى نبيٍّ آخر، وأثناء ذلك لم يكن يرى المحرر أي تحرج من حشر مقاطع تناسب وجهة نظره، مع مداخلة نبيٍّ قديم عاش في زمنٍ سابق.

ولسوف نشرك القارئ معنا في معرفةٍ أكثر بهذا الكتاب في فصولٍ قادمة، وكيف يمكن قراءة هذا التل المختل، والخروج من الأخيولة الأدبية والأسطورة الإعجازية بالأحداث التاريخية، وكشف المستور التاريخي الكامن وراء السرد الأسطوري، خاصة إذا علمنا أن التوراة «هي أحد المفاتيح الهامة، لفهم خط سير التاريخ الديني ثم السياسي في منطقة الشرق القديم». وإبان ذلك علينا مراعاة أننا نتعامل مع نصوص تنتمي لضروبٍ أدبيةٍ مختلفة، وتحوي قوانين ومشاهدَ طقسية وخرافات وأساطير وقصصًا، وتاريخًا ينتمي لفئاتٍ اجتماعيةٍ متباينة، مضافًا إلى كل ذلك تعليقات المحررين ونزواتهم.

(٢) مصادر العهد القديم

أما على مستوى الدرس العلمي النقدي للكتاب المقدس، فقد تم وضع تقسيمٍ آخر يعتمد المصادر الأساسية لخطوط سير الوثائق المقدسة، وقد انتهى التطور الأخير لمدرسة يوليوس فلهاوزن الألمانية ١٨٤٤–١٩١٨م، إلى الكشف عن أربعة وثائقَ مختلفة عن بعضها وشديدة التباين، يتكون منها العهد القديم، هي على الترتيب:

أولًا: المصدر اليهودي Jahwist

ويرمز له اختصارًا بالرمز J، وقد أخذت التسمية من اسم الإله يهوه Jahowa؛ لأنه الاسم الإلهي الغالب على الاستعمال في هذا المصدر، ويرجع زمن تأليفه إلى حوالي عام ٨٥٠ق.م. في المملكة الجنوبية يهوذا، وقد ركز هذا المصدر على الوعد الذي أعطاه الله للبطاركة من إبراهيم إلى موسى، والتركيز على هذا المصدر لون من إضفاء الشرعية التاريخية والدينية على الائتلاف، الذي أنشأه داود في فلسطين لدولته، بوضعه هو وأسلافه في خضم تاريخ أقدم، لجعل مملكة داود عهدًا مع الرب، يمتد شرعًا إلى عهد الرب إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى، ويمنح وحدة القبائل المعروفة بالأسباط وجودًا تاريخيًّا قديمًا، بقصد وضع أساسٍ قوميٍّ تاريخيٍّ متين للدولة التي وحدت القبائل، حتى إنه يبالغ ويصعد بتاريخ تلك القومية التاريخية، عبر سلسلة الأنساب إلى آدم زمن الخلق الأول.

ثانيًا: المصدر الإلوهيمي Elohist

ويرمز لهذا المصدر اختصارًا بالرمز E، نسبة إلى الاسم الإلهي الغالب في ذلك المصدر، وهو «إيل EL» أي الإله، واللوهيم أي الآلهة، ويرجع زمن تأليفه إلى حوالي ٧٧٠ق.م. في المملكة الشمالية إسرائيل، التي تحوي في اسمها الشق «إيل/اسم الإله»، وبعد ذلك تم إدماج المصدرَين: اليهوي J والإلوهيمي E في مجموعةٍ واحدة يرمز لها بالرمز E J وذلك حوالي ٦٥٠ق.م. وقد عُني هذا المصدر باستكمال النقص الحادث في المصدرَين اليهوي والكهنوتي، وسيرد الحديث عن المصدر الكهنوتي.

ثالثًا: مصدر التثنية Deuternomy

ويرمز له اختصارًا بالرمز D، ويعني بالإغريقية القانون الثاني، وهو مصدرٌ منفصل تمامًا عن بقية المصادر، ويتمثل في الكتاب أو السِّفر، الذي يحمل اسم التثنية أو تثنية الاشتراع، وقد تم تأليفه خلال القرن السابع قبل الميلاد، في أورشليم عاصمة المملكة الجنوبية يهوذا، وتزعم الرواية الملحقة به أنه كيف يتم إخفاء هذا المصدر منذ زمن «موسى» في جدران هيكل «سليمان» بالرغم من الفترة الزمنية الكبيرة الفاصلة بينهما؟ وأنه تم الكشف عنه أثناء عمليات ترميم المعبد عام ٦٢٢ق.م. أثناء حكم الملك اليهوذي الورع يوشيا Josias (انظر ملوك ثاني، ٢٢: ٣–١٠ و٢٢: ٣–٢٥)، حيث عثر المرممون في وجود حلقيا شيخ الأحبار أو كبير الكهنة على كتاب الشريعة وأحضره للملك، وقد ترك الحدث أثره الشديد على الملك الورع، فقام يحرم كل الطقوس الوثنية، ويمنع كل العبادات عدا عبادة يهوه، وقصر العبادة على معبد أورشليم وحده، دون بقية معابد الآلهة الأخرى، لكن الملاحظة الواضحة هو تعرض ذلك المصدر لكثيرٍ من الحشو والإضافات، من عناصرٍ ثقافية لا علاقة لها بالبيئة البدوية الصحراوية، والمفترض أنها البيئة التي عاشها الخارجون من مصر إلى سيناء، حتى نهاية زمن القضاة، لكن قراءة هذا المصدر تُبين بجلاءٍ أن المحررين كانوا ينتمون إلى ثقافة دولةٍ متماسكة يحكمها ملك، ويُعنى هذا السفر بالشريعة، وبوضع شرائع الحرب والأوامر الإلهية المباشرة لأتباعه.

رابعًا: المصدر الكهنوتي Priestly

ويرمز لهذا المصدر اختصارًا بالحرف P، وهو تجميعٌ كهنوتي يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، ويركز على شعائر العبادة والطقوس، ويعود إلى التركيز على العهد بين الله وبين نوح، ثم مع إبراهيم ثم مع موسى ثم مع داود، ويقوم جوهره على وجوب إخلاص الشعب اليهودي للعهد حتى يستحق الخلاص، ويتم الوفاء بالعهد من قبل الله إذا أخلص الشعب، ووفَّى لربه، وذلك بالتزام عباده بالشريعة بدقة، وشريطة أن يتمسكوا بلحظتَين تاريخيتَين جوهريتَين في تاريخهم: الأولى هي لحظة العهد القديم بين الله وبينهم ممثلين في جدهم إبراهيم، وهو الوعد الذي منحهم الله بموجبه أرض فلسطين، مقابل أن يختتن جميع الذكور في قضبانهم، ومعلومٌ أن أرض فلسطين إبان ذلك كانت خاضعة للحكم المصري، «وكان المصريون هم الشعب الذي ابتدع الختان منذ بداية التاريخ»، في وقتٍ كان فيه المصريون هم السادة في فلسطين زمن الإمبراطورية وكانوا مختَتنين، ويبدو أن ذلك الأمر قد أمسى راسخًا، حتى وجد الإسرائيليون أنفسهم بحاجةٍ للختان، كدلالةٍ على السيادة في الأرض، والسيادة امتلاك وحكم كالمصريين. ويؤكد هذا المعنى اللحظة الثانية في تاريخهم، التي يجب أن يتمسكوا بها تمامًا، وهي لحظة خروجهم من مصر، لحظة المعجزة الكبرى وانشقاق البحر، «تأكيدًا على مصر والانتماء إليها بأي شكل»؛ لذلك فإن العزف على معجزة فلق البحر والخروج من مصر، يكاد يكون ترنيمةً أساسيةً متكررةً دائمة، يومية لدى اليهودي الورع، وتتكرر في كل أسفار أو كتب العهد القديم المقدس بلا استثناء.
(انظر الشكل رقم ١-١.)
fig27
شكل ١-١: الختان المصري.

ويرجع زمن ذلك المصدر إلى عهد «عزرا»، وقد تم إدماج هذا المصدر مع المصدرَين اليهوي والإلوهيمي، حوالي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد.

وقد قامت مدرسة فلهاوزن بعملٍ شديد الجرأة، عندما قررت عكس الترتيب التقليدي لأسفار التوراة، بناء على ما وصلت إليه من نتائج النقد والمقارنة والتحليل، بحيث أصبح الترتيب يُعاد على النحو التالي:

العهد القديم من الكتاب المقدس

  • (١)

    أسفار الأنبياء.

  • (٢)

    الأسفار التاريخية.

  • (٣)

    أسفار موسى الخمسة + سفر يشوع = التوراة.

ثم أضيفت إليها الأسفار بعد ذلك بترتيبٍ منهجي، حسب مادتها المشتركة وموضوعها، وليس حسب الترتيب الزمني لتأليفها.

(٣) طرق تدوين العهد القديم

من كتاب اليهود المقدس ذاته، يمكن للباحث العثور على الطرق والأدوات والوسائل، التي استخدمها محررو التوراة لتدوين مؤلفاتهم، فنحن مثلًا نجد في سفر إرميا (٣٦: ٢)، حديثًا عن التدوين على أدراج، والدرج هو اللفيفة وجمعها لفائف، وتتم الكتابة عليها من اليمين إلى الشمال، وقد أكد لنا هذا سفر حزقيال (٢: ٩ و٣: ١) وسفر زكريا (٥: ١-٢) وسفر المزامير (٤٠: ٨)، وهي أسفار تشرح طريقة الكتابة، وقد استخدمت للكتابة على الأدراج أداتَين: الأولى يذكرها المزمور (٤٥: ٢) وهي قلم الإردواز، والثانية هي الأحبار، أي السوائل الملونة ألوانًا كثيفة ثابتة، وقد ذكر لنا ذلك كتاب إرميا (٣٦: ١٨).

وعلى حد ما نعلمه تاريخيًّا فإن «الأدراج اختراع مصري بحت»، وكانت تصنع من البردي، وإلى جوارها كانت الكتابة على الرق (الجلود)، وقد ظلت تلك المخطوطات على هيئة اللفائف/الأدراج حتى القرن الثالث قبل الميلاد، حيث بدأت تأخذ شكل الكتب مع الاستمرار في العمل بنظام اللفائف، ولم يزل حتى اليوم يعمل بنظام اللفيفة أو الدرج في الأشكال الطقسية، التي تمارس في المعابد اليهودية من باب تحنيط التاريخ، ونجد ذلك مستعملًا خاصة مع أسفار التوراة الخمسة مع سفر أستير نظرًا لمناسبته الخاصة.

(انظر شكل رقم ١-٢.)
fig28
شكل ١-٢: لفيفة توراتية.

لكن ما يبدو للمدقق في قراءة التوراة، أن هناك أسلوبًا في التدوين، قد اتبع قبل القلم والحبر والدرج، هو النقش على الحجر الصلب، لكن أبدًا لم نعثر على نموذجٍ توراتي منه حتى الآن، «وهو الأسلوب المعروف في مصر على جدران المعابد وهرم وتيس، وكثير من الألواح الهامة وعلى المسلَّات»، حيث كان يتم تدوين الحدث المطلوب حفظه على الحجر الصلد بالنقش بالإزميل، وفي التوراة نجد أول شخصيةٍ توراتية تكتب باستخدام هذا الأسلوب، هو النبي موسى أو بالأحرى رب موسى حسب الكتاب المقدس، وتم استخدام هذا اللون من الكتابة في كتابة ألواح الشريعة، منقوشة على الحجر في كتابَين أو لوحَين كبيرَين.

وتزعم التوراة أن الله هو من كتبها بنفسه وبإصبعه، ثم سلَّمها لموسى، وقد وردت قصة كتابة الشريعة متناثرة في التوراة، وقد جمعناها ورتَّبناها من جديدٍ لتنطق بالآتي:
  • وقال الرب لموسى: اصعد إلى الجبل وكن هناك، فأعطيك «لوحَي الحجارة» والشريعة والوصية التي كتبتها لتعليمهم، ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل، وكان موسى في الجبل أربعين نهارًا وأربعين ليلة (خروج، ٢٤: ١٢، ١٣، ١٨).

  • ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء، «لوحي شريعة مكتوبَين بإصبع الله» (خروج، ٣١: ١٨).

  • فانصرف موسى ونزل من الجبل ولوحا الشهادة في يده، «لوحان مكتوبان» على جانبَيهما، من هنا وهناك كانا مكتوبَين، «واللوحان هما صنعة الله»، والكتابة كتابة الله «منقوشة» على اللوحَين … وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص، فحمي غضب موسى وطرح اللوحَين من يدَيه وكسرهما في أسفل الجبل (خروج، ٣٢: ١٥، ١٦، ١٩).

  • ثم قال الرب لموسى: انحتْ لك «لوحَين من حجر» مثل الأولَين، وبكر موسى في الصباح وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الرب، وأخذ من يدَيه لوحَي الحجر (خروج، ٣٤: ١–٤).

  • وقد جاء في الأثر الإسلامي في حديث للنبي محمد : إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده،٥ كذلك جاء في الآيات القرآنية: وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً (الأعراف: ١٤٤).
هذا إضافةً إلى أن ذات الأسلوب قد اتبع مرةً أخرى بعد ذلك، وذلك في كتابة أسفار الشريعة بيد اليهود بأمرٍ من موسى، وبذات الطريقة، وهو ما يتضح في قوله لهم:

فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك، تقيم لنفسك «حجارةً كبيرة» تشيدها بالشيد، وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس … «نقشًا» جيدًا. (تثنية، ٢٧: ٢، ٣، ٨)

(٤) اللغة التي دوِّن بها العهد القديم

على غلاف الكتاب المقدس نجد لافتةً تنبه وتقول: «الكتاب المقدس: أي كتب العهد القديم، والعهد الجديد (الجديد هو الأناجيل)، وقد ترجم من اللغات الأصلية وهي: اللغة العبرانية واللغة الكلدانية واللغة اليونانية.»

أولًا «العبرانية هي اللغة الكنعانية مكتوبة بالخط الآرامي المربع»، ويعترف الكتاب اليهودي المقدس صراحةً بذلك في سفر إشعيا (١٩: ١٨) بأن العبرية هي «شفة كنعان»، وهناك لغاتٌ أخرى استخدمت في الكتابة، لم تُشِر إليها اللافتة المذكورة، فنحن نعلم الآن أن بعض الأجزاء قد كُتبت بالآرامية، وأخرى كتبت بالخط المربع (هو خطٌّ آشوري أصلًا) بعد السبي البابلي، ومعلوم أن عزرا صاحب معظم أجزاء العهد القديم، قد استخدم تلك اللغة، في تدوين كتبه أو أسفاره.

لكن بعض الترتيب المنهجي والمنطقي، لا بد أن يؤدي إلى افتراض أن أول ألوان الكتابة، الذي استخدمه محررو التوراة وأول لغة «كانت هي المصرية»، فنحن نجد جميع البطاركة قبل النزول إلى مصر لا يعرفون الكتابة، ويقيمون الأدلة على العهود والمواثيق بين الناس، ليس بأوراقٍ أو نقوش، بل بقَسَم مثل القسم الذي أقسمه إبراهيم وأبيمالك عند بئر سبع، وحيث تم ذبح سبع نعاج علامة أو وثيقة للعهد، أطلق بموجبهما الاسم على المدينة «بئر سبع»، كذلك عهد يعقوب مع خاله لابان الأرامي، الذي تم بعمل رجمة أحجار تشهد بالعهد وبنوده، أو العهد الإبراهيمي مع الله وختمه بوثيقة الختان بعد أن بلغ غيتا من عمره، كتوقيع منه ووثيقة لعدم معرفتهم بالكتابة، «ثم فجأة تظهر الكتابة عند هؤلاء بالنقش على الحجر، مع خروجهم من مصر» تحت قيادة موسى، المعروف في الكتاب المقدس أنه عاش في قصر الفرعون، و«تعلم بكل حكمة المصريين» على حد تعبير الكتاب المقدس، بل ربما يجب أن نذهب بالفرض بعيدًا، فنقول إن اللغة المزعوم أن موسى قد خاطب بها ربه في سيناء «يجب أن تكون اللغة المصرية القديمة» تحديدًا، فهي لغة موسى في بلاط الفراعين، علمًا أن موسى لم تطأ قدمه أرض فلسطين صاحبة شفة كنعان (العبرية)، ومات وهو بعيد عن تلك الأرض، ناهيك عن كون كلمة توراة نفسها، كما قلنا مصرية قح فهي Torah في العبرية، أي التعاليم من المصرية Toroth أو شوراه أي الشريعة.٦

ترجمات العهد القديم

من المعروف أن ترجمة هذا الأثر الهائل إلى العربية عن لغته الأصلية وهي النسخة المتداوَلة الآن، قد تمت فيما هو مُحقَّق عام ١٨٦٥م، أما الترجمة الإنجليزية فقد تمت في عهد الملك جيمس عام ١٦١١م، وكلتا الترجمتَين قد تمت عن الأصل العبري، المعروف بالنص المازوري المدوَّن في القرن العاشر الميلادي، عن مجموعة نسخٍ مجهولة الآن، ومجهول تاريخها أيضًا، لكن ذلك لا يعني أن نصًّا عبريًّا أو نصوصًا لم تكن موجودة قبل ذلك، وإنما كل ما يعنيه هو أن هذه الأصول قد فُقدت، والنسخة المازورية الأقدم الموجودة الآن، تعود إلى عام ٨٩٥ ميلادية، وتم الكشف عنها «في كنيزة المعبد اليهودي في القاهرة».

وكان النص المازوري في النسخ السابقة للقرن العاشر الميلادي، غير مصحوب بالإشارات والحركات والنقاط فوق الحروف، فكانت جميعًا ساكنة الكتابة، وعند تدوين الأصل البعيد للنص المازوري، تم اقتباس حركات النظام البابلي في الكتابة، واستخدم في تحريك أحرف النسخة المازورية.

وهناك نصٌّ آخر دُوِّن باللغة اليونانية القديمة، ويعرف باسم النص السبعيني، وقد تمت كتابته على يد اثنين وسبعين فقيهًا يهوديًّا، بأمرٍ من ملك مصر آنذاك بطلميوس فيلادلفوس أي «المحب لأخيه» (٢٨٥–٢٤٧ق.م.)، وتزيد عن النسخة المازورية بأربعة عشر كتابًا أو سفرًا جديدًا، وهي أسفارٌ غير موجودة بالطبع في النسخة العربية؛ لأن النسخة العربية مأخوذة عن المازورية وليس عن السبعينية، وتلك الأسفار هي:
  • «سفر طوبيا»: وهو وصف لسيرة أسيرٍ إسرائيلي في الأسر الآشوري بمدينة نينوى في القرن السابع قبل الميلاد.

  • «سفر الحكمة لسليمان»: ويشمل أمثلةً حكمية وعظات ضد الوثنية.

  • «أسفار المكابيين»: وعددها اثنان، تتحدث عن المكابيين الذين تمكنوا من الاستقلال بفلسطين، وحكمها حكمًا وطنيًّا زمن السلوقيين في القرن الثاني قبل الميلاد، وقد جاء اسمهم من الشعار الذي كانوا يتنادون به عند القتال وهو «مي كا مو خابجييم يهوفا» أي «من مثلك بين الآلهة يا يهوه»، فأُخذ من كل كلمة حرف (م كا ب ي) شكَّلت الاسم «مكابي».

  • «سفر يهوديت»: ويروي قصة أرملةٍ يهويةٍ غنية وتقية، ساعدت اليهود في الانتصار على الآشوريين في إحدى المعارك.

  • «سفر الكهنوت»، ويدعى أيضًا: سفر الحكمة ليسوع بن سيراخ، وهو مجموعة أمثال على غرار سفر أمثال سليمان.

  • «سفر تسبيحة الفتية الثلاثة»: وهي تسابيح يُقال إن أصدقاء دانيال الثلاثة كانوا يرنِّموها، وهم ملقَون في أتونٍ مشتعل بالنار، فكانت عليهم بردًا وسلامًا، وقد «نسبت تلك الحادثة في الإسلام للنبي إبراهيم»، وهو ما لم تَقُل به التوراة.

  • «سفر سوزان»: أو سوسنة العفيفة، وهي قصة تمجيد من النبي دانيال لقاضٍ، دحض وشاية ضد سوسنة العفيفة.

هذا إضافة إلى ثلاثة أسفارٍ منسوبة لعزرا، وإصحاحات تمت زيادتها على الأصل المازوري في أسفار إستير ودانيال. والمعلوم أن الكنيسة بمعظم مذاهبها لم تتخلَّ عن النص اليوناني السبعيني إلى النص العبري المازوري، إلا بعد القرن العاشر الميلادي، حيث أصبح النص المازوري هو النسخة المعتمدة للعهد القديم، ورغم ذلك ما زالت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، والكنيسة الروسية وكنائس شرق أوروبا، تستعمل النص السبعيني اليوناني.

(٥) مساحة الصدق التاريخي في العهد القديم

لا يخلو كتاب أو سفر من أسفار العهد القديم، من خرافاتٍ وأساطيرَ واضحةٍ ملتبسة بأحداثٍ وقعت بالفعل، مع تدخلٍ دائم من المحرر التوراتي لتفسير الأحداث، وربطها بإرادة يهوه ومشيئته. والقاسم المشترك دومًا هو الأيديولوجيا الدينية، التي تُرجع كل شيء وتُفسِّر كل شيء، بما يخدم قضية شعب الله المختار، حتى لو تم تزييف بعض الحقائق التاريخية لصالح الهدف القومي، إضافة إلى شغفٍ شديد من المحررين بالمبالغات الأسطورية، التي تكسر قواعد الطبيعة وخط سيرها لصالح الشعب المختار، بل نجد تلك الأساطير والمبالغات، قد أصبحت في اليهودية ومن بعدها في المسيحية وتراث الإسلام، موضوع تصديق وإيمان باعتبارها حقائق حدثت بلا شك.

ونظرًا لحجم الكتاب وما حواه من تأريخ وعقائد وأساطير وسير بشر وملوك، مندمجة جميعًا في صياغةٍ، كان همها الدائم والأول هو يهوه وشعبه، فقد تعددت مدارس نقد التوراة وتتالت كشوفها، بحيث أصبح بالإمكان نخل وغربلة هذا المأثور الهائل؛ لاستخلاص حقائق الأحداث التاريخية، التي يمكن أن تكون محلًّا للبحث ومعينًا للباحثين، فهناك نصوص يمكنها أن تحمل اسم الوثيقة التاريخية، وبإمكانها أن تملأ لنا فراغًا في بعض مناطق التاريخ كعلم، والتي فقدنا وثائقها التاريخية الأصلية.

والمشكلة التي تواجه الباحث أنه حتى النص، الذي يمكن احتسابه نصًّا تاريخيًّا بالعهد القديم، ويتحدث عن واقعةٍ تاريخية بعينها، قد دخله حشو وإضافات وحذف وتفسير، خرج به من فضاء التاريخية إلى الهوام في الأسطورية، وبقيت من الحقائق ظلالٌ باهتة، تحتاج من الباحث إلى مشقةٍ عظيمة، في تدقيق مصداقيتها التاريخية.

والمعلوم مثلًا أن العهد القديم، يحوي رواياتٍ تثبت معرفةً مدهشة من المحرر التوراتي، بأحداثٍ تاريخيةٍ قديمةٍ بائدة، كانت مخفيةً عنا ولم نعلم بأمرها، إلا بعد كشف مناطقها الآثارية وفك رموز لغاتها، وهي أمورٌ حديثة جدًّا قياسًا على ما سبق وساقه العهد القديم، وذلك مثل معرفة ذلك الأثر التوراتي، بأسماء مدنٍ مصريةٍ قديمة، أهال عليها الزمن النسيان، حتى وإن ورد بعضها عند المؤرخين اليونان، ولم نكتشفها ونتعرف على أسمائها بشكلٍ واضح، إلا حديثًا بعد فك رموز اللغة الهيروغليفية، كأسماء مدن مثل نوف/منف، ورعمسيس/رمسيس، وتحفنيس/تفنه أو دفنه، وأون/عين شمس … إلخ، وكأسماء فراعنة مثل شيشق/شيشنق، ونخاو، كذلك اسم فوطي فارع كاهن مدينة أون: بادي بارع، وإله الشمس رع، ومركبات فرعون، ومراكب الشمس.

هذا إضافة إلى معرفةٍ دقيقة بأحوال مصر القديمة، وعقائدها مع طقوس كطرق دفن الموتى والتحنيط ومواعيد الدفن، كذلك الأساليب المعمارية في البناء والكتابة والتوابيت، وكلها أمور لم نعلم دقائقها إلا بعد فك رموز الهيروغليفية، وما كشفت عنه الحفائر الحديثة، هذا ناهيك عن أسماء المواضع الجغرافية — مثلًا — في رحلة الخروج من شرقي الدلتا المصرية عبر سيناء وحتى فلسطين، وهي مواضع تحتمل ثقةً شديدة فيها؛ لأن لا علاقة لها بأية أهدافٍ أيديولوجية ولا أساطيرَ قومية؛ لأنها كانت مجرد مواضعَ جغرافيةٍ معلومة للجميع أوانها، حفظت لنا التوراة أسماءها وإحداثيات بعضها الجغرافية، قبل أن تتغير مسمياتها عبر الزمان.

fig1
شكل ١-٣: نموذج من الكتابة الهيروغليفية.
ورغم ذلك فإن أبرز وأهم النتائج الأولى، التي خرجت بها مدارس نقد التوراة، أن نسبة الكتب الخمسة الأولى لموسى، وأنه صاحبها أو كاتبها بوحيٍ من الله، قد أصبحت نسبةً باطلة تمامًا، ولا ظل لها من الحقيقة، وبسبيل ذلك تم تقديم عدد من الأمثلة الشاهدة، إليك بعضًا منها:
  • هناك عبارات تتعلق بموسى، لا يمكن أن تكون قد صدرت عنه، وذلك مثل «وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًّا، أكثر من جميع الناس، الذين على وجه الأرض» (عدد، ١٢: ٣)، فهنا كاتب أو محرر يتحدث عن موسى، وليس موسى من يتحدث عن نفسه.

  • هناك خبرٌ خاص بموت موسى يقول: «فمات هناك موسى عبد الله في أرض موآب حسب قول الله، ودفنه في الجواء في أرض موآب» (تثنية، ٣٤: ٥)، ومن المستحيل بالطبع أن يكتب موسى عن نفسه قصة موته بعد أن مات، بل تحدد في القصة الموضع الذي دفن فيه.

  • نحن نعلم أن موسى قد مات، ولم تطأ قدماه أرض فلسطين، ومع ذلك تجد في التوراة المنسوبة إليه، أسماء مواضعَ جغرافيةٍ موجودة في عمق فلسطين، هذا إضافة إلى أن أكثر أسماء تلك المواضع، لم تكن قد وضعت بعد زمن موسى، بل تمت تسميتها بعد ظروفٍ ومستجدات، حدثت بعد موت موسى بقرون، وذلك مثل ورود اسم مدينة دان في التكوين، ١٤: ١٤؛ والتثنية، ٣٤: ١، ومجموعة قرى يائير في العدد، ٣٢: ٤١؛ والتثنية، ٣: ١٤، وهي القرى التي لم تظهر أصلًا إلى الوجود، إلا في عصر القضاة (انظر قضاة، ١٠: ١٤).

  • ونجد في سفر التكوين عبارات تتحدث عن يعقوب (إسرائيل) وزمنه، وتقول إن ذلك قد حدث «قبل أن يملك ملك من بني إسرائيل» (تكوين، ٣٦: ٣١؛ العدد، ٢٤: ٧)، وهي جملة لا يكتبها إلا شخصٌ عاصر العهد الملكي، وعرف بقيام المملكة، وهي بذلك لا يمكن أن تكون قد كُتبت قبل العهد الملكي لإسرائيل.

  • ونجد أيضًا تعبيرًا متواترًا هو «حتى اليوم»، يلحق بحكايات بعض الأحداث، كالقول إنه تمت تسمية مدينة كذا زمن كذا، وظل هذا اسمها «حتى اليوم»، أي حتى لحظة التدوين، وبالتدقيق تكتشف أن كل الأحداث والتسميات، التي لحقها هذا التعبير، قد تمت بعد موسى بقرون، والأمثلة على ذلك كثيرة وحاشدة، ونموذجًا لها ارجع إلى (تكوين، ٣٥: ٢٠ و٤٧: ٢٦ و٤٨: ١٥؛ خروج، ١٠: ٦؛ وعدد، ٢٢: ٣٠؛ تثنية ٢: ٢٢ و١٠: ٨ و١١: ٤).

  • وهناك تعبيرٌ بالتوراة يقول: «ولم يظهر نبي مثل موسى» (تثنية، ٣٤: ١٠)، وهو ما يعني معرفة المحرر بظهور أنبياء من بعد موسى، علمًا أن الأنبياء لم يبدأ تواجدهم الفعلي إلا بعد عهد صموئيل، ومع قيام المملكة.

  • أما أهم ما ينفي نسبة التوراة لموسى، فهو أنها أبدًا لم تكن موضعًا واحدًا متكاملًا دفعةً واحدة، ويؤكد ذلك التكرار في قصة الخلق، الذي يشير إلى اختلاف المحررين، وهو تكرارٌ يحوي اختلافاتٍ جوهرية، تشير إلى أكثر من محررٍ، لم يلتقوا معًا، ليصفُّوا ما بينهم من خلافات.

فالعهد القديم مجموعةٌ جمَّة من التآليف، التي اشترك في وضعها محررون كثيرون، اختلفوا فيما بينهم، وهذه المجموعة من التآليف، تُعنى بمسائلَ دينيةٍ ودنيوية وسياسية وأدبية وتاريخية، وقد أبدت الكنيسة الكاثوليكية تفهمًا، لما انتهت إليه مدارس نقد الكتاب المقدس، وسجلت اعترافها بذلك، في مقدمة الطبعة الكاثوليكية للكتاب المقدس، الصادرة في عام ١٩٦٠م في نصٍّ يقول: «ما من عالمٍ كاثوليكي في عصرنا، يعتقد أن موسى ذاته قد كتب كل التوراة منذ قصة الخليقة، أو أنه أشرف على وضع النص؛ لأن ذلك النص قد كتبه عديدون بعده؛ لذلك يجب القول: إن ازديادًا تدريجيًّا قد حدث، وسببته مناسبات العصور التالية، الاجتماعية والدينية.»

ولهذا كله؛ ولأن العهد القديم سيستخدم في هذا العمل كوثيقةٍ تاريخيةٍ أساسية، مثلها مثل بقية وثائق علم التاريخ، وهي الوثائق التي بدورها قد دخلها الحشو والتزييف والأساطير والأغراض، كما في كل نصوص الحضارات القديمة بل والحديثة؛ لهذا سنسلك بقارئنا في يم هذا المأثور التوراتي ومأثورات حضارات المنطقة، برؤية التحري وعيون المباحثية قبل الوثوق، الذي سيكون بدوره دومًا محتملًا.

١  فراس السواح: أرام دمشق وإسرائيل في التاريخ والتاريخ التوراتي، دار علاء الدين، دمشق، ١٩٩٥م، ص١٨٤، ١٨٥.
٢  فراس السواح: مغامرة العقل الأولى، دار الكلمة، بيروت، ١٩٨٠م، ص١٠٩.
٣  Epicurea, ED. H. usener Lipsial, 1887, Lactantius, Deira Dei, 13–19.
٤  يوسف سامي اليوسف: تاريخ فلسطين عبر العصور، الأهالي، دمشق، ١٩٨٩م، ص٥٣-٥٤.
٥  الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، نشر مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، ١٩٦١، ج١، ص٢١١.
٦  فؤاد حسنين علي: التوراة الهيروغليفية، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، د.ت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤