تقديم

يميِّز التفكير الفلسفي بين نوعين من العلوم: العلوم الوضعية التي تدرس الظواهر الطبيعية لتفسيرها بإرجاعها إلى الشروط التي تعيِّنها، والعلوم المعيارية التي تدرس القِيم، كالحق والخير والجمال. وتعتمد العلوم الوضعية على المنهج التجريبي؛ في حين تستخدم العلوم المعيارية النظر العقلي. وبينما تُصدِر الأولى أحكامًا تقريرية تُصدِر الثانية أحكامًا تقديرية أو قِيمية. تلك هي النظرة التقليدية التي تميِّز بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون.

وتنقسم العلوم المعيارية إلى ثلاثة علوم: المنطق وموضوعه الحق، الأخلاق وموضوعها الخير، والإستطيقا وموضوعها الجمال. ويطلق أحيانًا على هذا العلم الأخير «علم الجمال»، غير أن هذه التسمية أصبحت اليوم مضللة؛ إذ إن موضوع الإستطيقا لم يعُد مقصورًا على الجمال.

وقد مرَّت الإستطيقا خلال تطورها منذ عصر اليونان حتى يومنا هذا بثلاث مراحل: المرحلة الدجماطيقية أو اليقينية المطلقة، ثم المرحلة النقدية، وأخيرًا المرحلة الوضعية. وعلى هذا تخرج الإستطيقا من دائرة العلوم المعيارية لتُضم إلى مجموعة العلوم الوضعية.

ذلك هو رأي المدرسة الاجتماعية الفرنسية التي أنشأها أوجست كونت، وما يقال عن الإستطيقا يقال أيضًا عن الأخلاق والمنطق. غير أن الأمر ليس بسيطًا كما يبدو من هذه النظرة السريعة، ولا يزال هناك مفكرون يشكُّون في إمكان إخضاع جميع موضوعات الإستطيقا للمنهج التجريبي، ويذهبون إلى أن وجهة النظر المعيارية لا تزال جديرة بالاعتبار.

ومؤلف هذا الكتاب، شارل لالو، وإن كان ينتمي في تفكيره وأسلوب بحثه إلى المدرسة الاجتماعية، ويعتقد مع أنصار هذه المدرسة أن الإستطيقا قد دخلت فعلًا في طورها الوضعي، غير أنه يُحس إحساسًا واضحًا بالمشكلات التي لا تزال قائمة داخل هذا العلم، وهو لا يرفض فكرة المعيار أو المثل الأعلى، بل يحاول التوفيق بينها وبين فكرة الواقع كما هو فيدعو إلى إنشاء إستطيقا تكاملية تؤلِّف بين مقتضيات التفكير الفلسفي ومنهج البحث الوضعي في علم النفس وعلم الاجتماع.

والفائدة الكبرى التي يقدِّمها لنا هذا الكتاب هي دفع القارئ إلى التفكير المتواصل وجعله يشعر بالجوانب التي لا تزال غامضة في هذا العلم الناشئ. والكتاب على صغَر حجمه يزخر بالتأملات الفلسفية والحقائق التاريخية والمعلومات الفنية، وتتطلب قراءته لكي تكون مُجدية ثقافةً واسعة في الفنون الجميلة وخاصة التصوير والموسيقى. فقد لخَّص المؤلف في هذا الكتاب١ خبرته الواسعة التي ترجع إلى حوالي نصف قرن، ولا أظن أن دسامة مادته وغزارة معلوماته وعمق منهجه قد أخلَّت بوضوح الفكرة والأسلوب. وسيجد القارئ المثقف متعة كبرى في مطالعة صفحاته، كما أنه سيشعر بالحاجة إلى طلب المزيد بالرجوع إلى أمهات الكتب في هذا العلم الطريف، وقد حرص المؤلف على ذكرها في ثبت المراجع.

وقد قام الأستاذ مصطفى ماهر بترجمة الكتاب أحسن قيام، فهو فضلًا عن إتقانه اللغتين الفرنسية والعربية، مزوَّد بثروة غزيرة في أصول الفنون الجميلة وتاريخها. وقد قابلته مصطلحات كثيرة لم تكن نظيراتها باللغة العربية محددة بعد، فوُفِّق إلى تحديدها مع مراعاة الفوارق اللطيفة التي أراد المؤلف إبرازها بين المعاني المتقاربة.

ويسدُّ هذا الكتاب فراغًا في المكتبة العربية، ولا شك أنه سيساهم في نشر الوعي الفني لدى المتذوقين وتبلوُر بعض نواحي هذا الوعي لدى الفنانين مما سيؤدي إلى رقي الإنتاج الفني في البلاد العربية.

يوسف مراد
أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة
القاهرة في ٩ مايو سنة ١٩٥٨م
١  ظهرت الطبعة الرابعة، مزيدة ومنقحة، في عام ١٩٥٢م. وقد نُشرت الطبعة الأولى عام ١٩٢٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤