تاريخ دولة آل سلجوق

ذِكر نبذة من بداية حال السلجقية

قال — رحمه الله: كانت السلجقية ذوي عُددٍ وعَدد، وأيدٍ ويد، لا يدينون لأحد، ولا يدنون من بلد، وميكائيل بن سلجق زعيمهم المُبجَّل، وعظيمهم المُفضَّل. وقد سكنوا من أعمال بُخارى، موضِعًا يُقال له نور بُخارى، وما زالوا في أنصر شيعة، وأنضر عيشة، وهم في الرعي يكلَئُون الكلأ، وفي الريع يملَئُون الملأ، لا يذعرهم ذاعر، ولا يردعهم داعر، والسلاطين يرعونهم للملمات ولا يُروِّعونهم، ويَدْعونهم للمهمات ولا يَدَعونهم، حتى عبر السلطان يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى بُخارى لمساعدة قدر خان، فرأى مكيال ميكائيل يُحصي الحصافة معيرًا، وصاع مصاعه ييأس البستان موفرًا، فرغب في استرغابه، وانجذب إلى اجتذابه، وأراد أن يعبر إلى خُراسان به وبأهله، وبكنف أكنافها لذي الحفظ والحفيظة بنبله ونبله، وامتنع ميكائيل عليه، ومال عنه ولم يمل إليه، فغاظ السلطانَ تمنُّعُه، فقبضه واعتقله، وعبر به وبأصحابه إلى خراسان ونقله، وقال له أرسلان الحاجب: إني أرى في أعيُن هؤلاء عين الهول، وإنهم لمعروفون بالجراءة والقوة والحول، والرأي عندي أن تقطع إبهام كل من تُعبره منهم ليؤمَن ضره، ولا يُخاف شره. فما قبل خطابه في هذا الخطب، وقال له: إنك لقاسي القلب.

فلما أقاموا بُخراسان تقربوا إلى عميدها أبي سهل أحمد بن الحسن الحمدوني، وأهدوا إليه ثلاثة أفراس ختلية، وسبعة أجمال بختية، وثلاثمائة رأس غنم تركية، وهداه إقبالهم إلى قبول الهدية، وكانوا سألوه أن يمرجهم في المروج، ويسد بمواشيهم مخارم تلك الفروج، فعيَّن لهم مروج دندانقان، فقروا بها وبما قاربها، وتحاماها من عداهم وجانبها. وتُوفِّي محمد بن سبكتكين وهو كاره لأمرهم، مُشفِقٌ من وميض جمرهم، مستشفٍ ستر القضاء في قضية شرهم. وعدَّ أبو سهل الصعب فيهم سهلًا، واتخذهم لارتفاقه بهم صحبًا وأهلًا، ونفد مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكرًا من غَزنة إلى خراسان، فواقعهم وقتل منهم عدة، وأسر منهم جماعة حملهم إلى غزنة، منهم بيغو أرسلان، فاستعطفوه فلم يعطِف، واستسعفوه فلم يسعف، ولمَّا غلق رهنهم، وتوثَّق سجنهم، شربوا كأس اليأس، وأبدلوا إيناس الناس بإيحاش الحاشية، ومشى شحنة طوس لاستياق ما لهم من الماشية، واستلان خشونتهم، واستسهل صعوبتهم، ولمَّا ظنَّ أنه آب بالغنم والغنيمة، وباء بعز العزيمة، ركبوا إليه صهوات الحنق، وصرفوا نحوه أعِنَّة الخَبَب والعنق، حتى لقوه فتركوه لقًى، وتبعوا المنهزمين، ودخلوا إلى طوس فملكوها، وجاسوا خلال ديارها وسلكوها، وتشاوروا فيما بينهم، وقالوا هذا بحرٌ خُضناه، وفتحٌ ابتكرناه، وطوس مدينتنا التي تُئوينا، وحِصننا الذي يحمينا، فلا نفرج عنها، ولا نخرج منها، وشرع أبو سهل الحمدوني في استدراك ما فرط، واستمساك ما اختبط، وكادوا يُجيبونه بالجميل ويجملون في الجواب، ويميلون بممالأته إلى صوب الصواب، فتسرع شحنة نيسابور وتعسر، وجنَّد وعسكر، وشن على سرحهم غارة على غِرَّة، ونهض لمنفعة نهضَتْ بمضرَّة، فركبت السلجقية إليه وإلى جماعته إرسالًا، ونشبوا معهم وشبُّوا قِتالًا، وهزموهم وكسروهم، وقتلوهم وأسروهم، وامتدُّوا إلى نيسابور فدخلوها، ووجدوا في خلوِّها فرصة فاهتبلوها، وذلك في شهر رمضان سنة ٤٢٩، وعزموا على مدِّ اليد، ونهب البلد، فمنعهم طغرل بك محمد بن ميكائيل بن سلجق، وهو أميرهم وكبيرهم، وقال لهم: نحن في شهر حرام لا نهتك حُرمته، ولا ننهك عصمته، ولا يحصل من النهب أرب، وإنما تسوء به السمعة ويشيع الشنعة. فنفَرَتْ جماعته من مقاله، وسخَّفوا رأيه في تبيين حرام الفعل وحلاله، فما زال بهم طغرل بك يقول لهم: أمهلوا بقيَّة هذا الشهر، واعملوا ما شئتم بعد الفِطر. وفي أثناء ذلك وصل إليهم كتاب القائم بأمر الله أمير المؤمنين يُخوِّفهم ويُذكِّرهم بالله، ويحملهم على رعاية عباده، وعمارة بلاده، فخلعوا على الرسول المعروف بأبي بكر الطوسي ثلاث عشرة خِلعة، وتباهوا برسالة الخليفة، وازدادوا بها قوةً ورِفعة.

ولمَّا كان يوم العيد، اجتمعوا من القريب والبعيد، وهمُّوا بالنهب، فركب طغرل بك لمنعهم، وجدَّ في ردعهم، وقال: الآن وقد جاء كتاب الخليفة، المُفترَض الطاعة على الخليقة، وقد خصَّنا من توليته إيَّانا بالحق والحقيقة. فلحَّ عليه أخوه جغري بك داود، وأخرج سكينة وقال: إن تركتني وإلا قتلتُ نفسي بيدي، فرقَّ له وسكَّنه، وأراه أنه مكَّنه، وأرضاه بمبلغ أربعين ألف دينار قسطه، ووزن أهل البلد معظمه، وأدَّى هو من ماله الباقي وغرَّمه، وجلس على سرير الملك الذي كان لمحمود بن سبكتكين في نيسابور، ونهى وأمر، وأعطى وأخذ، وأبرم ونقض، وأحكم وقوَّض، وجلس يومي الأحد والأربعاء لكشف المظالم، وبسط المعدلة وبث المكارِم، وسيَّر أخاهُ داود إلى سرخس فملكها، ونهج له طريقة في العدل فسلكها، وسيَّر إلى دار الخلافة المُعَظَّمة رسولًا يُعرف بأبي إسحاق الفُقاعي صبيح البهجة، فَصِيح اللهجة، بكتاب مضمونه أنهم لمَّا وجدوا ابن يمين الدولة مائلًا عن الخير والسمو، مُشتغِلًا بالشر والعُتُو، غاروا للمسلمين وللبلاد، وهم عبيد أمير المؤمنين في حفظ البلاد والعباد، وقد سنُّوا سُنَّة العدل، وأسنوا سنا الفضل، وبطَّلوا مراسم العسف، وعطَّلوا مواسم الحيف، ومضى رسولهم، وقضي سؤلهم، وتواصلت مع مسعود بن محمود بن سبكتكين حروبهم، وهزموه في سنة ٤٣٠، واشتدَّتْ منعتهم، وقوِيَتْ شوكتهم، واستولوا على خراسان، وتجاوزوها إلى العراق، وطرءوا على ملك الديلم، ورموه بالصيلم، وغلبوا الأملاك، وبلغوا الأفلاك، واقتسموا البلاد، وطرقوا طرافها والتِّلاد.

قال: وللسلطان طغرل بك محمد بن ميكائيل بن سلجق ولأخيه جغري بك أبي سليمان داود بن ميكائيل بن سلجق من نهر جيحون إلى نيسابور، ولأخيه من أمه، وهو ابن عمه إبراهيم بن نيال بن سلجق قهستان وجرجان، ولابن عمه أبي علي الحسن بن موسى بن سلجق هراة وبوشنج وسجستان وبلاد الغور.

قال: وامتدَّ طغرل بك إلى الري، وقد كانوا جعلوا له جميع ما يفتحه من هذا الصوب، فحمد الرأي بالريِّ، ونجزت عدة جدته بعد اللَّيِّ، ووجد في دور الديلم دفائِن وخزائن، سفرت بها أيامه عن أيامن، فتأثَّل وتأثَّث، وورى زند سعده بما ورَّث، وقدم قدامه إبراهيم بن نيال فقرَّ بقرميسين وانتزعها من الأمير أبي الشوك فارس بن محمد بن عنَّاز، وحلَّ بحلوان، وتُوفِّي أبو الشوك في شهر رمضان، وذلك سنة ٤٣٧. وفي هذه السنة وزَّر رئيس الوزراء أبو القاسم علي بن الحسن بن مسلمة للقائم بأمر الله، وهي أول سنة ورد فيها الأتراك إلى العراق، وانتشروا منها في الآفاق.

قال: وكان عند طغرل بك رسول الخليفة، وهو أبو محمد هبة الله بن محمد بن الحسن بن المأمون مُقيمًا يدعوه إلى بغداد ولا يدعهُ يُقيم، ويروم منه صدق القصد ولا يُريم، وطال بالحضرة حضوره حتى حرَّك عزمه، فعزم على الحركة واندفع كالسيل، وكسا العلق عجاج فيلقه صبغة الليل، ولم يترك الترك وردًا إلا شفهوه، ولا حسنًا إلا شوَّهوه، ولا نارًا إلا أرَّشوها، ولا دارًا إلا شعَّثوها، ولا عصمةً إلا رفعوها، ولا وصمةً إلا وضعوها. وأجفل الملوك من خوف إقدامهم، وتنحَّوا من طريق ضرامهم، فما جاءوا إلى بلدة إلا ملكوا مالكها، وملَئُوا مسالكها، وأرعبوا ساكنيها وأسكنوها الرعب، وغلبوا وُلاتها وولوها الغلب، وازورُّوا إلى الزوراء، وأشاعوا مد اليد بالغارة الشعواء.

ذكر دخول السلطان ركن الدولة طغرل بك أبي شجاع محمد بن ميكائيل بن سلجق إلى بغداد في ٢٥ من رمضان سنة ٤٤٧ ومعه الوزير عميد الملك أبو نصر محمد بن منصور الكندري، وهو أول وزراء السلجقيَّة

قال: كان حصيفًا فصيحًا رجيحًا نجيحًا مُتسلِّطًا بمكانه، متمكِّنًا من سلطانه، يُرجى ويُخشى، ويقصد ويغشى، والسلطان بأُذنه وناظره يُبصر ويسمع، وبإذنه ونظره يرفع ويضع، وله البهجة المَهيبة، واللهجة المصيبة، وكان مع السلطان طغرل بك يوم وصوله إلى بغداد وقد خرج رئيس الرؤساء وزير الإمام القائم لاستقبال السلطان، ومعه أرباب المناصب، وأصحاب المراتب، وقاضي القُضاة والشهود، والجنود والبنود، فلما وصل إلى نهر بين، لقيه صاحب للسلطان من المقربين، وقدم للوزير فرسًا، وقال هذا مركوب السلطان وقرَّبه، فنزل عن بغلته وركبه، وجاءه بعد ذلك عميد الملك أبو نصر الكندري في موكبٍ ضخم، وفخر فخم، وقد وقف يتوقَّع مطلعه، فلما بصر به قصد عميد الملك أبو نصر أن يترجَّل، فمنعه وتعانقا راكبين، وخلطا الموكبين، ووصل السلطان إلى بغداد ونزل على دجلة، عند مسناة عز الدولة، رائع الهيبة، رائق الهيئة، قد ضاقَتِ الأرض بجنوده، وضافَتِ السماء عذبات بنوده، فقبض على الملك الرحيم أبي نصر الديلمي من نسل عضُد الدولة، وسيَّره إلى الري، فقطع عليه الأجل الطريق في طريقها، وآذنت جموع ممالك الديلم بتفريقها، وقبض عميد الملك أبو نصر الكندري الوزير الأعز أبا سعد وزير الملك الرحيم، ثم استدام صحته حين ألفاه في الكفاية صحيح الأديم، وأطلقه وأطلق يده في الحل والعقد والحبس والإطلاق، وعوَّل عليه وفوَّض إليه النظر في العراق.

قال: وتُوفِّي في هذه السنة قاضي القُضاة الحسين بن علي بن ماكولة، فخاطب عميد الملك في تولية قاضي القُضاة أبي عبد الله محمد بن الدامغاني، فتسنَّتْ قاعدته في ذي القعدة من السنة، وأحسن العناية به لمعانيه الحسنة، وقال: هو قدوتنا بخُراسان الموصوف بجميع الألسنة. وحضر عميد الملك الكندري في بيت النوبة الشريفة، وخُصَّ من دار الخلافة بالمنزلة اللطيفة، وأنفذَتْ معه برسم السلطان خلع سنيه، وتشريفات سريه، قال: وتقدَّم طغرل بك ببناء مدينة على دجلة، وهي التي جامعها اليوم باقٍ، وكانت حينئذٍ ذات أسوار وأسواق. قال: ودخلَتْ سنة ٤٤٨، وفي المحرم منها عقد الخليفة على ابنة أخي طغرل بك أرسلان خاتون خديجة بنت داود بن ميكائيل، وقصد بذلك تعظيمه والتبجيل؛ ولئلَّا يجد الأعداء بهذه الوصلة إلى قطع سبيل المودة بينهما السبيل.

ذكر الحال في ذلك

قال: في المُحرَّم جلس الإمام القائم بأمر الله أمير المؤمنين، وأحضر عميد الله الكندري، وقدَّمه على المقدمين، وتقدَّم إليه بإحضار من يجوز إحضاره، ويقع عليه إيثاره، فشدَّ وسطه وأخذ دبوسًا في يده، وجرى في حفظ آداب الخدمة على جدده، واستدعى أماثل دولة السلطان، فخدموا الخليفة، وشاهدوا السدة الشريفة، ثم شرع رئيس الرؤساء في خطبة النكاح، وجاء بها على وفق الاقتراح، واستوعب شرائط الإيجاب بالذِّكر، من تسمية المخطوبة والمهر، ثم قال: إن رأى سيدنا ومولانا أن يُنعم بالقبول. فقال الخليفة: قد قبلنا هذا العقد بهذا الصداق، فامتزجَتِ الدولتان بالاستحاق، واستمرَّت البركة، واستقرَّت المملكة. قال: وفي هذه السنة كانت ولادة المقتدي سحرة الأربعاء ثامن جُمادى الأولى، وسُمِّي عبد الله، وكُنِّيَ أبا القاسم، وأمه جارية لذخيرة الدين أبي العباس بن القائم بأمر الله، وكانت وفاة الذخيرة في ذي القعدة سنة ٤٤٧ وعمره ١٤ سنة، وبوفاته قامَتْ قيامة القائم؛ فإنه كان ولي عهده، ولم يكن له ولد سواه، فلما ولدَتْ جاريته ابنًا استجدَّ به جدًّا وبهاءً ويُمنًا وأمنًا، وجلس رئيس الرؤساء، ثلاثة أيام للهناء، وحضر عميد الملك وجماعة الأمراء. قال: وتُوفِّي في هذه السنة عميد الرؤساء أبو طالب بن أيوب عن ٧٠ سنة، وقد كتب للخليفة ١٦ سنة، وكانت حسناته سائرة وسيرته حسنة.

ذكر عوارض عرضَتْ وحوادِث حدثَتْ

قال: كان ابن عم طغرل بك بالموصل وديار بكر — وهو قتلمش بن إسرائيل بن سلجق — مُتَّسق الأمر، مُتسع الصدر، فاجتمع البساسيري، وهو أبو الحارث أرسلان، وقريش بن بدران العقيلي، ونور الدولة دبيس بن علي بن مزيد الأسدي على حربه، وأوقعوا به وبحزبه، وكانت الوقعة بسنجار، ومضى قتلمش إلى همذان مُوَلِّيًا، فانتحى طغرل بك من ذلك وتوجَّه إلى الموصل، فأجفل البساسيري إلى الرحبة، فأذعنَتْ لطغرل بك البلاد وواتاه الأدب، ووافاه العرب، وأطاعه الأميران دبيس وقريش، واتصل به أخوه ياقوتي بن داود فزادت قوته، وأرعبت بالناس صولته، وكان على أهل سنجار حاقدًا؛ فإنهم مثَّلوا بقتلى قتلمش وتركوهم بالعراء، وأظهروا الرءوس على القصب، وأخذوا النفوس بالوصب، فسار طغرل بك إلى سنجار واجتاحها واستباحها، وسلب أرواحها وأشباحها، إلى أن شفع فيهم إبراهيم بن ينال، فعفا بعد أن عفَّى، وكفَّ بعدما اكتفى قال: وفي هذه السنة مات أبو العلاء المعرِّي.

ذكر عود السلطان إلى بغداد وحضوره بين يدي الخليفة

قال: وعاد إلى بغداد ظافر اليد وافر الأيادي، وجلس له الخليفة يوم السبت ٢٥ من ذي القعدة، فركب دجلة مُجريًا طياره في تيارها، حتى وصل إلى باب الرقة من السدة الشريفة ودارها، وقُدم له فرس فركبها، ودخل راكبًا إلى دهليز صحن السلام، وحصن الإسلام، ثم نزل ومشى والأمراء بين يديه بغير سلاح، يمشون إلى حيث الجلالة مقيمة، والدلالة بالقائم قائمة، والرسالة ملائمة، والإمامة دائمة، والنبوة مستمرة الإرث، والمروة مستقرَّة البعث، وستارة البهاء مسدولة على البهو، وطهارة الانتماء مجبولة بالزهو، والقائم بأمر الله جالس من وراء الستر على سُدَّة مشرفة مشرقة، في إيوانٍ منه للجلال إيواء، ودار أرضها للإقبال سماء، وعلى كتفه وبيده البُردة والقضيب النبويَّان، وهما بماء الطُّهر المحمدي رويان.

ولمَّا قرب طغرل بك من المقر الأشرف، والمرقى المسجف، ورُفعت ستارة البهو، وأنار وجه الخليفة كالقمر في سدفة السدة الشريفة أدى الفرض، وقبَّل الأرض، ثم مثل قائمًا للقائم، ووقف لترقُّب ما يقف عليه من المراسم، وصعد ريس الرؤساء إلى سريرٍ لطيف، فقال له الخليفة: أصعِد ركن الدولة إليك، ومعه محمد بن منصور الكندري مفسرًا ومترجِمًا، ومُعربًا عنه ما كان مُعجمًا. ثم وُضع لطغرل بك كرسي جلس عليه، وفسر عميد الملك له تفويض الخليفة إليه، ثم قام طغرل بك إلى مقام الرفعة، ومكان الخلعة، واحتبى بعز الاحتباء، واجتاب خلع الاجتباء، وتُوِّج وطُوِّق وسُوِّر، وأُفيضت عليه سبع خِلَع سود في زيق واحد اتُّخذت له بها مملكة الأقاليم السبعة، وشرف بعمامة مسكية مذهبة، فجُمع له بين تاجي العرب والعجم، وسما بهما، وتَسعَّى بالمتوج والمعمم، وقُلِّد سيفًا مُحلًّى بالذهب، فخرج في أحلى الحُلي وأهيَب الأهب، وعاد وجلس على الكرسي، ورام تقبيل الأرض، ولم يتمكن لموضع التاج الخسروي، وسأل مُصافحة الخليفة فأعطاه يده دفعتين، فقبَّلها ووضعها على العين، وقلَّده سيفًا آخر كان بين يديه، فتمَّ له بتقليد السيفين تقلُّد ولاية الدولتين، فخاطبه بملك المشرق والمغرب، وأحضر عهده وقال: هذا عهدنا يقرؤه عليك محمد بن منصور بن محمد صاحبنا ووديعتنا عندك، فاحفظه واحرسه؛ فإنه الثقة المأمون، وانهض في دعة الله محفوظًا، وبعين الكلأة ملحوظًا. قال: ولأبي الفضل صر در في عميد الملك من قصيدة:

ملكٌ إذا ما العزم حثَّ جياده
مرحَتْ بأزهر شامخ العرنين
بأغرِّ ما أبصرت نور جبينه
إلا اقتضائي بالسجود جبيني
عمَّتْ فواضله البريَّة فالتقى
شُكر الغنيِّ ودعوة المسكين
لو كان في الزمن القديم تظلَّمَتْ
منه الكنوز إلى يدي قارون

قال: وفي سنة ٤٥٠ انتقض على طغرل بك أمر الموصل، فقد كان استخلف بها الأميرَين أردم وباتكين، فقصدهما البساسيري وقريش بن بدران، وحاصراهُما أربعة أشهُر، وأخرجاهُما بأمان، فعاود طغرل بك الخروج إلى الموصل، لطب الدواء المعضل، ونصب بنصيبين مضاربه، فخالفه إبراهيم بن ينال خالعًا للطاعة، ومضى إلى همذان ناويًا للمناواة، فسار السلطان وراءه من نصيبين إلى همذان في سبعة أيام، ونفَّذ وزيره عميد الملك وزوجته خاتون إلى مدينة السلام، ثم كتب إليهما يستدعيهما، فتمسَّك بهما الخليفة، وتواتَرَتِ الأراجيف المُخيفة، فتارة بوصول البساسيري، وتارة بانهزام السلطان من أخيه.

قال: وشرع عميد الملك الكندري في أخذ العهد بالمملكة لأنوشروان بن خاتون، وأنفق من ماله الظاهر والمخزون، فما وفقا ولا استوثقا، وأرادت خاتون القبض عليهما فهربا، فأما عميد الملك فإنه انحدر إلى الأهواز، وأمِنَ عند هزارسب بن بنكير بن عِياض من الأعواز، وسارَتْ خاتون تطلب السلطان، ولحق بها ولدها أنوشروان، وذلك في سنة ٤٥١، وفي هذه الفترة تمَّتْ فتنة البساسيري ودخل إلى بغداد سادس ذي القعدة سنة ٤٥٠، وخرج سادس عشر ذي القعدة سنة ٤٥١، وكانت سنة سيئة كادت تكون لنور الله مُطفئة، فإنه دعا إلى الدعيِّ بمصر مصرًّا، ولم يجد الخليفة بمقره من دار الإمامة مقرًّا، وحصل من تلك الحادثة بالحديثة، وتوالت منه إلى طغرل بك أمداد كتبه ورسله المستصرخة المستغيثة، وهو مشغول بحرب أخيه، مهموم بما هو فيه، مغلوب الجند، مسلوب الجد.

قال: وطلب البساسيري رئيس الرؤساء وأبا محمد بن المأمون رسول الخليفة في استدعاء السلطان طغرل بك، وقتل أصحابُ قريش بن بدران عبد الرزَّاق أبا نصر أحمد بن علي، واختلَّ نظام الإسلام، واعتلَّتْ دار السلام، وطالت غربة الإمام، وهالت كربة الأنام، إلى أن استنجد السلطان أولاد أخيه ألب أرسلان وياقوتي وقاورد بني داود وهو بالري، فأنجدوه وأسعفوه وأسعدوه؛ فخرج بهم إلى إبراهيم بن ينال بهفتان بولان فكسره، ثم وجده وقد وقف به فرسه فأسره، وخنقه بوتر لوتره وحنقه، واستراح من حثِّ ذميله إليه وعَنَقه، وعاد سعده وسعد عيده، وكثفت عدَّته وكثر عديده، وسار إليه عميد الملك، وجهَّزه هزارسب جهازَ مثله، وأفضل عليه لفضله، ولم يبقَ لطغرل بك بعدها همٌّ سوى رد الخليفة إلى داره، وإظهار قمره من سراره، ورحل نحو بغداد فأحسَّ البساسيري بريحه، وأيقن بتياره ووقع في تباريحه، ولما قربت العساكر السلجقية من بغداد بعد، وقامت قيامته وما قعد، وكان الخليفة بحديثة عانة، فطلبه قريش بن بدران من ابن عمه مهارش بن مجلى فحَماه، وما أباح حِماه.

قال: وخرج مهارش بالخليفة إلى تلعفر، فقصد بدر بن مهلهل ومعه الفقيه ابن فورك، وقد تيمَّن به وتبرَّك، وهناك فاز من وحَّد، وهلك من أشرَك، ولمَّا وصل السلطان إلى بغداد سيَّر إلى الخليفة عُظماء مملكته، وصدر وزارته عميد الملك وأنوشروان بن خاتون، ومعهم المهد والسرادق، والخيل السوابق، ولما مثلوا بالحضرة الشريفة، وشاهدوا أحوال الخليفة، أراد عميد الملك أن يكتب إلى السلطان كتابًا بشرح الحال، وبوصف ما اجتلاه من المهابة والجلال، ولم يكن بين يدي الخليفة دواة، ولا أداة للكتابة مسواة، فأحضر من خيمته دواة عليها من الذهب ألف وسبعمائة مثقال، وأضاف إليها سيفًا ذا فرند وصقال، وقال هذه خدمة محمد بن منصور أصغر الخدم، وقد جمع في هذه الدولة بين خدمة السيف والقلم، وأحسن الخليفة قبوله وخطابه، وتوَّج بخطه الشريف كتابه، ولمَّا وصل الخليفة إلى النهروان، وصل إليه السلطان، وتباشَرَتْ بقدومه الأوطار والأوطان، واستأذنه عميد الملك في حضور السلطان، فأذن ودخل، وقبَّل الأرض سبع مرات، وأتى من أدب الخدمة الممكن، وقدَّم له الخليفة مخدة من دسته وقال اجلس، فقبَّلها وجلس، وآنسه فأنس، وجعل عميد الملك يُفَسِّر لهما ويُترجم، ويُعرب ويُعجم، والسلطان يعتذر عن تأخره وتراخيه، بما شغله من وتر أخيه، فمهد عذره، وهمَّد ذعره، وقلَّده الخليفة سيفًا تبرَّك به، وكان قد خرج معه من الدار، وذلك يوم الأحد الرابع والعشرين من ذي القعدة، واستقرَّ أن يدخل إلى الدار غدًا، ويعيد بعوده عيش الإسلام رغدًا، فلمَّا أصبح السلطان تقدَّم إلى باب النوبي وجلس مكان الحاجب، فلما قرب الخليفة قام وأخذ بلجام بغلته، ومشى في خدمته إلى باب حجرته، وذلك يوم الإثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة ٤٥١، فعادت الأنوار إلى الطلوع، والإنوار إلى الهموع، وحلَّ الشرف في موطنه، وفاض الكرم من معدنه.

قال: وهرب البساسيري إلى حلة دُبيس بن علي بن مَزيَد، وقد ولَّتْ سعادته فهو مُطلق في زيٍّ مُقيَّد، فسيَّر السلطان وراءه عسكرًا مقدموه سرهنك ساوتكين وأنوشروان وخمارتكين الطغرائي، وأردم وأنفذ معهم ابن منيع الخفاجي، فواقعوا البساسيري وأوقعوه، ووقع في فرسه سهم رميت به فرمته، وحام حوله حُماته فما حمته، وصادفت وجهَه ضربة أدمته، وكمش كمشتكين العميدي فأسره، ثم احتزَّ رأسه وحُمل إلى بغداد، وعُلِّق قبالة باب النوبي، وزالت بزواله نوبة النبوَّة الحالَّة بالمحل النبوي واستقام الأمر، وأرج النشر، وتولَّتِ الغمَّاء وتوالت النعماء، وكان طغرل بك بواسط فقدم بغداد في صفر سنة ٤٥٢، فعمل له الخليفة في روشن التاج سماطًا، وأحضر عليه من أكابر دولته رؤساءَ وأوساطًا، ثم عمل للسلطان في ثاني ربيع الأول سماطًا آخر، فأضلَّ به مَن قبله مِن الملوك وفاخر، وتوجَّه في خامس الشهر إلى الجبل، ودخل عميد الملك إلى الخليفة فأقامه في موضع الاصطفاء، ولقَّبه سيد الوزراء.

قال: وفي سنة ٤٥١ احترقَتْ ببغداد دار الكتب التي وقفها الوزير شابور بن أردشير بين السورين، وأخذ عميد الملك ما سلِمَ من النار، وكان أحد الحريقين، وتُوفيَتْ في ذي القعدة سنة ٤٥٢ خاتون زوجة السلطان بزنجان.

قال: ولمَّا رحل السلطان استصحب معه أرسلان خاتون ابنة أخيه زوجة الخليفة، فلما استقرَّ بالري، عزم على نشر ما كان من رغبته في الطي، وسيَّر قاضي الري أبا ساعد صاعدًا إلى دار الخلافة رسولًا، وضمَّن رسالته في خطبة السيدة ابنة القائم سؤالًا وسؤلًا، وذلك في سنة ٤٥٣، فندب الخليفة للجواب أبا محمد بن التميمي للاستعفاء، وإنه لم تجرِ بهذا سُنَّة الخلفاء، ثم قيل له: إن عدمت في الاستعفاء الوسائط، فاطلب صداق ثلاثمائة ألف دينار وأعمال واسط، فلما وصل ابن التميمي أعلم عميد الملك بالحال، فقال: أما الاستعفاء فلا يحسُن مع رغبة السلطان وضراعته في السؤال، وأما طلب المال والأعمال فيقبُح؛ لأنه يفعل أكثر ما يدور في خواطر الآمال، والصمت أولى من هذا المقال، فخلني أخلِ سرك من هذا السر، ودعني أتوَلَّ هذا الأمر. فقال ابن التميمي: الأمر إليك، والاعتماد عليك، والصواب ما تُدبِّره، والتدبير ما تستصيبه، وأنت أعرف بما تُخاطب به صاحبك وبِما تُجيبه. فقال عميد الملك للسلطان: إن القضيَّة قد تسهَّلَتْ، وإن العُقدة قد تحلَّلَتْ، وإن المُنيَة قد أُمكِنَتْ، وإن البُغية قد تمكَّنَتْ.

فأشاع السلطان خطبته وأذاع رغبته، وتقدَّم إلى عميد الملك بالمسير مع أرسلان خاتون بنت أخيه زوجة الخليفة إلى دار الخلافة، واستصحب ما جاوز حد الكثرة من الدنانير المبدرة والجواهر المثمنة، وسيَّر معها عِدَّة من الأكابر وذوي العُلى، ومن عُظماء الديلم فرامَرْز بن كاكويه، وسُرخاب بن كامروَا، وكان قد وزر للخليفة في تلك السنة مجد الوزراء أبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست، فخرج لتلقِّي الواصلين إلى قُرب النهروان، والتقى هو وعميد الملك وهما راكبان، ودخل عميد الملك بغداد، وجلس على باب النوبي، فلما وصلَتْ خاتون سار في خدمتها إلى دارها، ثم حضر بيت النوبة وأخذ دواة الوزير بن دارست، وأنهى حضوره وحضور الأُمراء الذين معه، وأدَّى من الرسالة ما أودعه؛ فنفر الخليفة وغضب، وغاض ماء بشره ونضب، وقصد الامتناع ومنع المقصود، وسدَّ الباب ولم يفتح الباب المسدود، فشرع عميد الملك يتكلم بكل فن، ويُقعقع بكل شن، ويقول: ما بالكم افترحتم ثم امتنعتم، وفيمَ ذهبتم إلى أبعد غاية في الطلب ثم رجعتم، وقد خاطرتم عند السلطان بدمي، وأزلتُم بما قدمتم من التقدُّم قدمي، فأخرج إلى النهروان مضاربه، وخلع الأهبة السوداء ولبس البياض، فاستوقفه ابن يوسف وقاضي القُضاة، ليستنزلوه من المضارة إلى المراضاة، وما زالا يتلطَّفان به حتى حضر بعد ذلك عند الخليفة دفعتين ومعه جماعة من الأمراء والحُجَّاب والقُضاة والشهود، وبالغ في الخطاب وبذل المجهود، وذلك في جُمادى الآخرة سنة ٤٥٣.

وقال الخليفة: «نحن بنو العباس، خير الناس، فينا الإمامة والزعامة، إلى يوم القيامة، من تمسَّك بنا رشد وهدى، ومن ناوأنا ضلَّ وغوى.» وكان الخليفة قد كتب إلى عميد الملك: نحن نرد الأمر إلى رأيك ونُعوِّلُ فيه على أمانتك ودينك، فقال عميد الملك: أسأل مولانا أمير المؤمنين التطوُّل بذكر ما شرف به الخادم الناصح شاهنشاه ركن الدين فيما رغب فيه وسمَتْ نفسه إليه. وأراد أن يقول الخليفة ما يلزمه من الإجابة، ففطن لذلك وغالطه، وقال: قد سطر في الجواب ما فيه كفاية، فانصرف عاتبًا، وذهب مغاضبًا، وراح راجلًا، وردَّ المال إلى همذان، وأخبر بالحال السلطان، وكان الخليفة قد كتب إلى خمارتكين الطغرائي يشكو من عميد الملك وإلحاحه، فكتب في جوابه يُشير بالرفق والتلطُّف، وينصُّ على التثبُّت والتوقُّف، فنسب عميد الملك قطع الحديث في الوصلة إلى مخامرة خمارتكين، فتغيَّر السلطان عليه، فرهب وهرب، وتسرَّع وتسرَّب، وكتب السلطان إلى قاضي القُضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف بالعتب الممضِّ، والخطب المقضِّ، وقال: هذا جزائي من الإمام القائم، وقد قتلتُ أخي في طاعته، ووهبتُ عمري لساعته، وأنفقتُ أموالي في خدمته، وطلبتُ فقري لثروته، فما باله ما بالى بردِّ قولي، وقال بردِّي، وصدَّ قصدي، وقصد صدِّي، وكتب إلى عميد الملك بأن يقبض الإقطاعات ولا يترك للخليفة إلا ما كان باسم الإمام القادر قديمًا، وأن يكون لمعارضة أسبابه مستديمًا. فحضر العبيد رئيس العراقين بيت النوبة وعرض الكتب، وأعاد العتب، فخرج جواب الخليفة: ما رجونا من ركن الدين ما صنع، وما توقَّعنا ما وقع، وبين يديك الإقطاعات فاقطعها، وقد ارتفعَتِ الموانع فامنعها.

قال: وخرجَتِ السنة والوحشة القائمية قائمة، وعين التأنيس عن إزالة أسبابها نائمة، فلما دخلت سنة ٤٥٤ أجاب الخليفة في المحرَّم منها إلى الوصلة، وكتب وكالة باسم عميد الملك، شهد فيها قاضي القُضاة، وابن يوسف بما سمعاه، من تلفُّظه بالإجابة، وضُبطت الشهادات بالكتابة، وسُير أبو الغنائم بن المحلبان في الرسالة، واستصحب كتاب الوكالة، فسُرَّ السلطان واحتفل، ووفَّى له القدر بما كفل، وعقد العقد في ظاهر تبريز بالمخيَّم، وكان رئيس العراقين بالمعسكر، فأعيد إلى بغداد في صحبة ابن المحلبان، وسُيِّرَتْ على يده الهدايا، وأصحبه برسم الخليفة ثلاثين غلامًا وجارية أتراكًا على ثلاثين فرسًا وخادمين، وفرسًا بمركب ذهب، وسرج مرصَّع بالجواهر الثمينة، وعشرة آلاف دينار، وبرسم السيدة عشرة آلاف دينار وتوقيعًا ببعقوبا، وما كان لخاتون المتوفَّاة بالعراق، وعقدًا فيه ثلاثون حبة، كل لؤلؤة مثقال، وبرسم عدة الدين خمسة آلاف دينار، وبرسم السيدة والدة المخطوبة ثلاثة آلاف دينار، وذلك في شوال من السنة، فلما قرب رئيس العراقين من بغداد، تلقَّاه الناس واستبشروا بانتظام الألفة بين الإمامة والسلطنة، فلما وصل إلى باب النوبي نزل وقبَّل الأرض، ثم وصل إلى باب أرسلان خاتون، زوجة الخليفة، وأدَّى من خدمتها الفرض، وأوصل إليها ما حمله، فتولَّتْ تسليمه، وباشرت عرضه بالمقام النبوي وتقديمه.

ذكر سبب تولِّي ابن دارست وزارة الخليفة إلى حين انصرافه

قال: كانت وزارته في سنة ٤٥٣، وسبب ذلك أن الخليفة لمَّا عاد إلى الدار عدم الوزير، وفقد من يتولَّى التدبير؛ فحدث رأيه بأنه يستخدم رجلًا خدمه بالحديثة، وهو أبو تراب الأثيري، وقد وجده أثير الأثر، فلقَّبه حاجز الحجاز عز الأمة، واستخدمه في الإنهاء وحضور المواكب وتنفيذ الأوامر المهمة.

قال: وكانت بين ابن يوسف وبين الأثيري وحشة حملت ابن يوسف على أن ذكر ابن دارست وقرَّظه، وقال إنه مع أمانته يخدم بغير إقطاع ويؤدي مالًا، فمضت الكتب إليه وهو في شيراز باستدعائه، فقدم الجواب باستعفائه، فخرج إليه ابن رضوان ومعه ظفر الخادم لاستقدامه، وقوَّى عزمه أبو القاسم صهر ابن يوسف، فورد بقوة اعتزامه، وكتب عميد الملك عن السلطان إلى الخليفة بأنه كاره لاستقدامه واستخدامه، لإملاقه مع ثروة المال من الكفاية وإعدامه، فأجاب الخليفة أنه مع وصوله إلى واسط ومفارقته وطنه لا يجوز رده، ولا يخلف وعده، وقدم بغداد ثامن ربيع الأول سنة ٤٥٣، ووصل إلى الخليفة في منتصف شهر ربيع الآخر، وأُفيضَتْ خِلَع الوزارة عليه، وأُفيضَتْ مع الوزارة الأمور إليه، وبقي في المنصب منتصبًا إلى رابع ذي الحجة سنة ٤٥٤، فإنه صرف من تلك المراتب، بل ترك الخدمة مستعفيًا، ولرقَّة جاهه مستجفيًا. قال: وكانت وفاته بالأهواز حادي عشر شعبان سنة ٤٦٧.

ذكر حوادث في هذه السنين

قال: في سنة ٤٥٠ تُوفِّي القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله بن طاهر الطبري ببغداد عن مائة سنة وسنتين، وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء، يُناظر ويُفتي ويستدرك على الفقهاء، وحضر عميد الملك الكندري جنازته، ودُفن بالجانب الغربي عند قبر الإمام أحمد بن حنبل.

قال: وفي آخر هذه السنة تُوفِّي أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، وقد كان في العلم بحرًا زاخرًا، وفي الشرع بدرًا زاهرًا، قال: «بسطتُ الفقه في أربعة آلاف ورقة (يعني الحاوي)، واختصرته في أربعين (يعني الإقناع).» فيا لهما من بحرين نضبا، وبدرين غربا، وطودين وقعا، وجودين أقلعا.

قال: وفي سنة ٤٥٣ تُوفِّي قريش بن بدران وتولى ولده مسلم إمارة بني عقيل، وتُوفِّي في شوَّالها نصر الدولة أبو نصر بن مروان بميافارقين عن نيف وثمانين سنة، وفي يوم عرفة من سنة ٤٥٤ وزر فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير للخليفة، وسبب ذلك أنه كان مقيمًا بميافارقين عند ابن مروان في جاهٍ، وعِزِّ آمرٍ ناهٍ؛ فسمَتْ همَّته، وعلَتْ سعادته، وكتب إلى الخليفة يرغب في زيارته لوزارته، وأنه يبذل بذلًا ويحمل حملًا؛ فندب إليه من دار الخلافة نقيب النُّقباء الكامل أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي، وقرَّر ما أراد تقريره، ودبَّر ما شاء تدبيره، فخرج من ميافارقين عند انفصال نقيب النُّقباء ليُوَدِّعه، وسار معه، وفات ابن مروان ولم يلحقه لمَّا تبعه، وخرج الناس عند وصوله إلى بغداد لاستقباله، ونزل بالحريم الطاهري، ومكث ثمانية أيام حتى جاوز الكسوف، ونشق نشر العز المشوف، وتيَمَّن بيوم عرفة، فحضر بيت النوبة وقد أسعَدَته السعادة، واجتمع هناك من طبقات الناس من جَرَتْ به العادة، واحتفل له الخليفة بالجلوس، وطلع نور اليمن من أفقه، وقرأ أمين الدولة أبو سعد بن الموصلايا توقيعًا خرج في حقه.

ذكر وصول السلطان طغرل بك إلى بغداد

قال — رحمه الله: في محرم سنة ٤٥٥ توجَّه السلطان إلى بغداد من أرمية بعزم الدخول على الزوجة، وخرج فخر الدولة بن جهير، وتلقَّاه بالقُفص في الموكب الأعظم، والأُبَّهة الباهرة، والأهبة الزاهرة، ونزل عسكره بالجانب الغربي، فزادت به الأزية، وارتاعت الرعية، ووصل عميد الملك إلى السُّدة الشريفة مُطالبًا بالشريفة السيدة، فوقعَتِ الإجابة في نقل الجهة إلى دار المملكة، ونزلَتْ منها في الهجرة الشرقية باليمن والبركة، وزُفتْ في ليلة النصف من صفر، وجلست على سرير ملبس بالذهب، يخطف النواظر منه أشعة الذهب، ودخل إليها وقبَّل الأرض، وخدمها وجلس بإزائها، على سرير ملبس بالفضة، وقد كان أنفذ لها مع بنت أخيه زوجة الخليفة عقدين نفيسين ثمينين، وجامًا خسروانيًّا من إبريز العين، وفرجية من نسيج الذهب مُكللة بالحب، وصارت نفسه لها مُوكلة بالحب، وظهر منه بها سرور، وسرَّه منها لشرفه ظهور، وبقي مدة أسبوع يهب ويخلع، ويمنح ولا يمنع، وخلع على عبيد الملك وعلى الأمراء، وأفاض التشريفات على الأكابر والعظماء، فقد كان ورد معه إلى بغداد أبو علي ابن الملك أبي كاليجار وهزارسب وفرامرز بن كاكويه وسرحاب بن بدر بن مهلهل، فما منهم إلا من أُفيضَتْ عليه الخِلع الرائقة، وأُضيفَتْ له العطايا اللائقة.

قال: وحضر عميد الملك في تاسع شهر ربيع الأول بيت النوبة، واستأذن للسلطان في الأوبة، وأن يستصحب السيدة والخاتون، وذكر أنهم بعد مُضِيِّهم عن قريبٍ آتون؛ فأذن في ذلك الخليفة، وكانت أرسلان خاتون قد حملَتْ من إطراح الخليفة لها غمًّا، وأما السيدة فقد كره الخليفة مسيرها، فلمَّا مضت أمضت بألم فراقها، وومضت لأمل رفاقها، ولما انفصل السلطان عن بغداد أذن لهزارسب في المضي إلى الأهواز، مَرعيًّا بالإعزاز، فإنه مكث على بابه ثلاث سنين لا يؤذَن له في الانفصال، ولا يؤذن إربه المفارق بالوِصال، وعقد ضمان بغداد على أبي سعد القايني بثمانية وخمسين ألف دينار؛ فأعاد كل ما أبطله رئيس العراقين من ضر الضرائب، وشر النوائب، وقد كان هذا يتولى مطبخ عميد الملك، وهو أستاذ داره، فجرى المقدور برفع مقداره.

ذكر وفاة السلطان طغرل بك بالري

قال: وفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان سنة ٤٥٥ تُوفِّي طغرل بك بالري، فاضطرب بهلكه الملك، وبلغ عميدَ الملك نعيُه وهو على سبعين فرسخًا من الري، فقطعها في يومين إشفاقًا من تشويش يتم، وتشوير ينم، فوصل وهو بحاله لم يُدفن ولم يُقبَر، فتولَّى دفنه، وتوخَّى سكون الخلق وأمنه، ومنع الغلمان من شق الثياب، وأخرج جميع ما كان يملكه على العسكر حتى الدواب، وأجلس سليمان بن داود ابن أخي السلطان وكانت أمه عنده، ونصَّ عمه عليه، وقرر الأمر له وفوَّضه إليه، فسكنَتِ الممالك، وأمِنَتِ المسالك.

ذكر سيرة طغرل بك رحمه الله

قال: كان كريمًا حليمًا محافظًا على الطاعة، وصلاة الجماعة، وصوم الإثنين والخميس، وكان يلبس الواذاريَّ والبياض، وأشبهت أيامه بمحاسن سيرة الرياض، وكان لا يرى القتل ولا يسفك دمًا، ولا يهتك مُحَرَّمًا، وكان شديد الاحتمال، سديد الأفعال، حكى عنه أقضى القُضاة الماوردي أنه توجه في رسالة القائم إليه في سنة ٤٣٣، فكتب فيه كتابًا ضمنته الطعن عليه والقدح فيه، وغمط محاسنه وبسط مساويه، ووقع الكتاب من غلامي فحلَّ إليه، فوقف عليه ثم ختمه وكتمه، ولم يتغير عن عادة إكرامي، وشيمة احترامي. قال: وكذلك ذكر أن بعض خواصه كتب مُلطفات إلى الملك أبي كاليجار، يُطلعه فيها على بعض الأسرار، فوقعَتْ في يده فأخفاها، وداوى هفوته بحلمه وشفاها، وكان كثير الصدقات، حريصًا على بناء المساجد، مُتعبِّدًا مُتهَجِّدًا، ويقول: أستحي من الله أن أبني دارًا ولا أبني بجنبها مسجدًا.

قال: وحكى عميد الملك أنه لمَّا مرض قال: إنما مثلي في مرضي مثل شاة تُشَد قوائمُها لجزِّ الصوف، فتظن أنها تُذبح فتضطرب، حتى إذا أُطلقت تفرح، ثم تُشد قوائمُها للذبح، فتظن أنها لجز الصوف وتسكُن فتُذبح، وهذا المرض شدُّ القوائم للذبح، وكان كما قال. قال: وتُوفِّي وعمره سبعون. قال: وحكى عميد الملك أن طغرل بك قال له: رأيتُ منامي في مبتدأ أمري بخُراسان كأني رُفعت إلى السماء، وقيل لي: سل حاجتك تُقْضَ، فقلت: ما شيءٌ أَحَبَّ إليَّ من طول العمر، فقيل: عمرك سبعون. قال: قال عميد الملك: وكنت سألته عن السنة التي وُلد فيها، فقال: السنة التي خرج فيها الخان الفلاني بما وراء النهر، فلما تُوفِّي حسبتُ المدة فكانت سبعين سنة كاملة. قال: ولمَّا وصل خبر وفاته إلى بغداد جلس الوزير فخر الدولة ابن جهير للعزاء به في صحن السلام في السادس والعشرين من شهر رمضان.

ذكر جلوس السلطان عضد الدولة ألب أرسلان أبي شجاع محمد بن داود بن ميكائيل بن سلجق

قال: تُوفِّي أبوه داود ببلخ سنة ٤٥٠ وقام مقامه، ولمَّا خطب لأخيه سليمان بالري بعد وفاة طغرل بك مضى أرسعن وأردم إلى قزوين، وخطب لألب أرسلان، وبلغ عميد الملك ذلك، فأقام الخطبة بالري لألب أرسلان، وبعده لسليمان، وأقبل عضد الدولة ألب أرسلان من نيسابور، يطوي السهول والوعور، وأقبل إقبال الضيغم الضاري، وأقدم إقدام الخضم الجاري، وكان ابن عم أبيه قتلمش بن إسرائيل في كردكوه وقد طمع في الملك، ولم يعلم أن ذلك يُوَرِّطه في الهلك؛ فعارضه في جموعه فتقابلا وتقاتلا، وانجلَتِ المعركة عن قتل قتلمش، وكانت منيته في عثور الفرس به، وقتل ألب أرسلان من التركمان عدة وافرة، وحاز من أموالهم غنيمة ظاهرة، وساق حتى وصل إلى خُوار الري ظافر الجند، ظاهر الجد، ومعه وزيره نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، فتلقَّاه عميد الملك في حشمه وخدمه، وكوسه وعلمه، وعربه وعجمه، وأجلسه على السرير، وجرى على عادته معه في التدبير؛ فغار نظام الملك من استقلاله، واحتال مدة في قبضه واعتقاله، فلما كان في محرم سنة ٤٥٩ زار عميد الملك نظام الملك زيارة إيناس واعتذار، وترك بين يديه منديلًا فيه خمسمائة دينار، فلما انصرف من حضرته، سار أكثر العسكر في خدمته، فتخوَّف السلطان من عاقبة ذلك ومغبَّته، فأمر بقبضه، وأنفذه إلى مرو الروز ومكث سنة في الاعتقال بها، ثم سيَّر إليه غلامين، فدخلا عليه وهو محموم، وأخبراه بأن قتله أمر محتوم، وأنظراه حتى اغتسل وتوضَّأ وتاب، ودخل لوداع أهله وخرج إلى مسجد فصلى ركعتين، واستسلم للقضاء المُقَدَّر بالحَين، ووجد الغلظة من الغلامَين، وضرباه بالسيف وأخذا رأسه وحملاه إلى السلطان بكرمان، وأما جثته فإنها لُفَّتْ في خرقة كانت لفافة البردة النبوية كان استهداها من الخليفة، وفي قميص دبيقي من ملابس القائم الشريفة، وقُبر في قبر أبيه بكندر، وكانت مدة وزارته ثمانيَ سنين وشهورًا، ولم يزل موسم جاهه فيها مشهودًا مشهورًا، وكان عمره نيفًا وأربعين سنة، وكانت محاسنه مُفَضَّلة وفضائله مُحَسَّنة، لَكِنَّهُ لِكُنْهِ تهوُّره وتهوينه، وغاية غيِّه في سوء التدبير وتهوينه، قصرت يده الطولى عن استمالة القلوب الجافية، واستلانة الخطوب الآبية. قال: وكان يرجع إلى حسب ونبل، وأدب وفضل، وهو الذي يقول:

الموت مرٌّ ولكني إذا ظمئَتْ
نفسي إلى المجد مستحْلٍ لمشربه
رئاسةٌ باض في رأسي وساوسها
تدور فيه وأخشى أن تدور به

قال: وكان خصِيًّا، وسبب ذلك أن طغرل بك أنفذه في ابتداء حاله، وريعان إقباله، ليخطب امرأة فزوَّجها لنفسه وعصاه، ولمَّا ظفر به أقرَّه على خدمته بعد أن خصاه، وكان حنفيَّ المذهب كثير التعصُّب لمذهبه، والذهاب مع عصبه. ثم فارق التعصُّب وجمع بين العصابتين، وحسُن رأي اجتهاده في الإصابتين، وكان سبب معرفته بطغرل بك أنه لمَّا ورد نيسابور افتقر إلى كاتب يجمع في العربية والفارسية بين الفصاحتين، فدلَّه عليه الموفق والد أبي سهل، فظفر منه بشاب في رأي كهل.

ذكر نظام الملك

قال: ولمَّا صُرف عميد الملك وعُزل، ونُقل إلى حيث اعتُقل، استوى أمر نظام الملك وبزغت بالسناء شمسه، وبلغت المنى نفسه، وعلا علمه، وجرى قلمه، وترفَّعَتْ وسادته، وتفرَّعَتْ سيادته، ومضت مضاربه، ومضت سحائبه.

ذكر ما جرى لألب أرسلان بعد ملكه

قال — رحمه الله: كان قاورد بن داود أخوه قد استولى على كرمان في زمان عمه طغرل بك في سنة ٤٤٧، وملك شيراز في سنة ٤٥٥، وقتل كل ديلمي بها وسفك وهتك، وبطش وأوحش، وخالف أخاه ألب أرسلان، واعتصم منه بمدينة برد شير بكرمان، فسار إليه ألب أرسلان وآمنه، وأخذ قلعة اصطخر، وأتاه مستحفظها بتحف فيروزج وكأس زمرُّد لم يرَ مثلها، وشمل بلاد فارس إحسان الدولة وعدلها.

قال: ووصل إليه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش في سنة ٤٥٧ فأكرم وفادته، وأكثر إفادته، وأجرى في إقطاعه هيت والأنبار وحربي والسن والبوازيج، ووصل شرف الدولة هذا إلى بغداد في شهر ربيع الآخر سنة ٤٥٧، فتلقَّاه الوزير فخر الدولة ابن جهير، وألفى من إقباله عليه خير ظهير. قال: وأوغل السلطان في بلاد الخزر من طريق نخجوان، وكثر لإعانة الإيمان ونصره الأنصار والأعوان، وألجأ ملك الأبخاز بقراط ابن كيْوُرَكي إلى طلب هُدنته، وعرض ابنته، فتزوَّج بها وهادنه، وقبل بذله وأمَّنه، ثم طلق الملكة الكرجية وزوَّجها لنظام الملك وزيره، وسار وفتح بلد آني، وعنت له البلاد، وأذعنَتِ العباد، وسُرِّيَ الباس، وسُرَّ الناس.

ذكر وصول شرف الملك أبي سعد محمد بن منصور بن محمد مستوفي المملكة إلى بغداد

قال: وكان وصوله إلى بغداد في صفر سنة ٤٥٩، وقد كان جليل النسب، جليَّ الحسب، وما تولى للسلجقيَّة مثله كرمًا وخيرًا وفضلًا كثيرًا وغِنًى وغناءً، وسنًا وسناءً. قال عماد الدين — رحمه الله: وكان جدي لأمي أمين الدين علي المستوفي — رحمه الله — كاتبًا له في ريعان عمره، وعنفوان أمره، إلى أن صار بعدُ كاتبًا لخزانة السلطان محمد بن ملكشاه، وكان يُحدثني في صغري وهو شيخ كبير عن شرف الملك بكل ما يدل على سيادة نفسه ونفاسة سؤدده، وذكر أنه كان مع فضله ذا تفضُّل، ومع إجماله ذا تجمُّل، وحكى أنه كانت له ثلاثمائة وستون كسوة مكملة، مفضلة معزلة على عدد أيام السنة من الملابس الفاخرة، فيلبس كل يوم ما يناسبه من أيام الفصول الأربعة، فإذا خلع منها أو وهب، أعاد خازنه إلى الخزانة عوض ما ذهب، فلما وصل إلى بغداد حضر بيت النوبة في ثاني عشر صفر، فبشَّر بإقباله سفيرًا وجه القبول، وسفر وخدم الخليفة بمصحفٍ جليل وقطعة بلخش في منديل، وأوصل كتاب السلطان في خريطة سوداء، وسرَّ الأوِدَّاء وساء الأعداء. قال: ووجد نُوَّاب نظام الملك الوزير قد شرعوا في بناء المدرسة، فاغتنم أقداره على الاقتداء، وبنى على ضريح أبي حنيفة — رحمه الله — بباب الطاق مشهدًا ومدرسة لأصحابه، وأعلم بمعلمها ثوب ثوابه. قال: وكتب الشريف أبو جعفر البياضي على القبة:

ألم ترَ هذا العلم كان مُشتَّتًا
فجمَّعه هذا المُغيَّب في اللحدِ
كذلك كانت هذه الأرض ميتة
فأنشرها فضل العميد أبي سعد

قال: ووصلتْ أرسلان خاتون زوجة الخليفة إلى بغداد في مستهل جُمادى الأولى سنة ٤٥٩، واستقبلها الوزير فخر الدولة على فراسخ، وجلا فجر فخره السافر وطود وقاره الراسخ، ووقفَتْ موكبها له عند القرب من الالتقاء، وخدمها على ظهر فرسه بالدعاء، وأقبلَتْ وقبلتْ، ودخلت وخلت، وعادت إلى عادة السعادة، ووافت للزيادة، للإيفاء على الزيادة.

ذكر حوادث طوارئ وطوارق واتفاقات وموافقات

قال: في شهر رمضان سنة ٤٥٨ تُوفِّي محمد بن الحسين بن الفرَّاء شيخ الحنابلة، وناهج طريقهم السابلة، وفي هذه السنة استتمَّ بناء المدرسة النظامية ببغداد وانتظمَتْ أحوالها، وسكنها من حملة الشريعة رجالها، ودرس فيها الشيخ أبو إسحاق الشيرازي — رحمه الله — فأحيا من العلم ما درس، وكشف من الحق ما الْتبس، وشرح الأصول وفرَّعها، وأوضح الأدلة ونوَّعها، وفي سنة ٤٦٠ تُوفِّي الشيخ عبد الملك أبو منصور بن يوسف، وكان من أماثل بغداد وأعيانها، والمرجوع إليه في نوائب الليالي وحدثانها، وكان قد أجمع الناس على صلاحه، واستجادة رأيه واسترجاحه، ومن جملة خيراته أنه تسلَّم البيمارستان العضدي وقد استولى عليه الخراب، وناب أوقافه بالنوائب النواب، فعمره وطبقه وأحسن في أحواله ترتيبًا، وأقام فيه ثلاثة خُزَّان وثمانية وعشرين طبيبًا. قال: ورثاه أبو الفضل صر در بقصيدته التي أولها:

لا قبلنا في ذا المصاب عزاءَ
أحسن الدهر بعده أم أساءَ

قال: وفي هذه السنة تُوفِّي أبو الجوائز الواسطي، وكان شاعر زمانه، وفارس ميدانه، وفي هذه السنة تُوفِّي أيضًا أبو جعفر الطوسي بمشهد أمير المؤمنين علي — عليه السلام — وكان إمام الشيعة، وهو الذي صنَّف التفسير، ويسَّر من أمورهم العسير. وفي جُمادى الأولى من هذه السنة كانت زلزلة بأرض فلسطين أهلكَتِ الديار وأتلفتها، وخرَّبَتْ مبانيَها ونسفتها، وفيه تُوفِّي صاحب ديوان الزمام أبو نصر محمد بن أحمد المعروف بابن جميلة، ورثاه أبو الفضل بقصيدة منها:

إن يكن للحياء ماءٌ فما كا
ن له غير ذلك الوجه مُزنًا
لهف نفسي على حسام صقيل
كيف صارت له الجنادل جفنًا
ونفيس من الذخائر لم يؤ
مَن عليهِ فاستودع الأرض خزنًا

قال: فرتَّب في ديوان الزمام أبو القاسم بن فخر الدولة بن جهير، ولُقِّب عميد الرؤساء، واجتاب خلعة الاجتباء، ومدحه أبو الفضل بقصيدته التي أولها:

صبَّحها الدمع ومسَّاها الأرقُ
كم بين هذين بقاء للحدق

وفي ثاني عشر رجب ورد إلى بغداد أبو العباس الخوافي عميدًا، وقدم بخوافي جاهه وقوادمه حميدًا. قال: وعُزل الوزير فخر الدولة بن جهير ليلة المهرجان في ذي القعدة بالتوقيع الإمامي بمحضرٍ من قاضي القُضاة أبي عبد الله الدامغاني، فسار إلى نور الدولة دبيس وهو بالفلوجة فآواه، وأكرم مثواه، وقد كانت الوزارة تقرَّرَتْ لأبي يعلى، والد الوزير أبي شجاع، وهو كاتب هزارسب بن بنكير، فكوتب للزيارة وخوطب بالوزارة، فورد الخبر بمرضه يوم صرف ابن جهير، وبوفاته يوم وصوله إلى الفلُّوجة كما جرى به قلم التقدير.

وفي سنة ٤٦١ عوَّل الخليفة في الوزارة على أبي الحسن بن عبد الرحيم، فثار العوام، وقالوا: لا طاقة لنا من ظلمه بورود الجحيم؛ فهو الذي أتى بالبساسيري وأعلن أحداث الليالي. وقالت خاتون: هو الذي نهب مالي، فصرف قبل التصريف، ونكر قبل التعريف، ولم يزل الخليفة فيمن يستوزره يفكر، حتى كاتب نور الدولة الخليفة في معنى ابن جهير، وذكر أنه خير وزير وظهير، فأجاب إلى إعادته إلى عادته، ووصل في ثاني عشر صفر وجلس له في التاج، ووجد أمله بالنجح مفتوح الرتاج، وقال له: «الحمد لله جامع الشمل بعد شتاته، وواصل الحبل بعد بتاته.» وفي تلك النوبة مدحه صر در أبو الفضل بقصيدته التي مطلعها:

قد رجع الحق إلى نصابه
وأنت من دون الورى أولى به

وركب هو وولداه في موكب واجتاز في جميع محال الجانب الغربي، ونثر عليه أهل الكرخ أكياس الدراهم والدنانير، وخرج إليه توقيع من إنشاء ابن الموصلايا، وتسنَّتْ له المراتب السنايا.

قال: وفي النصف من شعبان هذه السنة احترق جامع دمشق ففُجع الإسلام بمصابه، وصلَّتِ النيران في محرابه، واشتعل رأس القبة شيبًا بما شبت، وأكلتْ أم الليالي منها ما ربت، وطار النسر بجناح الضرام، وكاد يحترق عليه قلب بيت الله الحرام، وكأن الجحيم استجارت به فتمسَّكَتْ بذيله، أو كأن النهار ذكر ثأرًا عنده فعطف على ليله، فواهًا له من مسجد أحرقته نفحات أنفاس الساجدين، وعلقت فيه لفحات قلوب الواجدين. وقيل: أصابت حسنها العيون، واتهم بذلك الوُلاة المصريُّون، ثم تداركه الله بالألطاف والإطفاء، وأتاه بالشفاء بعد الإشفاء، وقال حسبه اصطلاءً واصطلامًا، وحقق فيه قوله: قلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا.

قال: وفي سنة ٤٦٢ أقبل كلب الروم في جموعه، وأخنى على من بمنبج واجتاحها، واستبى حاميتها واستباحها، وعاد إلى قُسطنطينيته وقد ساءت آثاره، والدين قد ثار ثاره، وفي هذه السنة زوَّج نظام الملك بنته لعميد الدولة أبي منصور محمد بن فخر الدولة الوزير ابن جهير، وصارت له مصاهرته خير ظهير، وكان عميد الدولة قد توجَّه إلى السلطان بالري في رسالة، فتُلُقِّيَ بكرامة وجلالة، واستتمَّتْ له هذه المصاهرة واستتبَّتِ المظاهرة، ووصل في رجب وفي صحبته رسل محمد بن أبي هاشم، وقد كان بعثهم إلى السلطان، وضمن لهم إقامة الخطبة بمكة — حرسها الله تعالى — له، وخلع الخليفة على عميد الدولة في بيت النوبة، فرفل في ملابس الاصطناع، وجعل إليه الإنهاء والمطالعة ومراعاة الإقطاع، وقُرئ له توقيع من إنشاء ابن الموصلايا تمكَّن به من افتراع عذرة الارتفاع، وتصدَّر في الوسادة، وتصدَّى للسيادة، وفي هذه السنة تُوفِّي تاج الملوك هزارسب بن بنكير بن عِياض، منصرفًا من باب السلطان ألب أرسلان، وهو خارج من أصفهان، على قصد خوزستان، وكان قد علا أمره وعرض جاهه وتزوَّج بأخت السلطان، واستظهر منه بالمكانة والإمكان، وتزوج بعده مسلم بن قريش بأخت السلطان زوجته، وتدرَّج إلى درجته، وفي هذه السنة ورد أمير الحرمين محمد بن أبي هاشم الحسني إلى بغداد على قصد الوفادة إلى السلطان، فكتب الخليفة معه بعد أن شرَّفه ورفعه، وعاد في محرم سنة ٤٦٣ من المعسكر السلطاني على باب آمد، وقد استفاد الفوائد، وأفاد المحامد.

ذكر أحوال ألب أرسلان بديار بكر والشام

قال — رحمه الله: ولمَّا توجَّه ألب أرسلان إلى ديار بكر خرج إليه نصر بن مروان وتلقَّاه وحمل له مائة ألف دينار، فقبل إحسانه وأحسن قبوله، وسأل عن قضاياه وقضى سوله. وقيل إنه قيل له: إن هذا المال قد قسطه على البلاد فأمر برده، وعفَّ عنه وعاف وبيل ورده، وانتهى إلى أمد آمد من قصده، فوجد ثغرها ممتنعًا، وسورها مرتفعًا، فمسح السلطان للتبرُّك به يده على سورها وأمرَّها على صدره، ثم توجَّه منها إلى الشام وعبر بالرُّها وتعذَّر عليه أمرُها، فحلَّ بحلب وشرع في حصارها، وأحاط بأسوارها، وصاحبها حينئذٍ محمود بن صالح بن مرداس، وكان قد خطب في تلك السنة لبني العباس، وقد وجد لتشريف الخليفة خلف سروره جافلًا، وأصبح في ملابس الجلال وخلع الجمال رافلًا، وعنده من جانب الخليفة نقيب النُّقباء الكامل أبو الفوارس طراد بن محمد الزينبي، فضايقه ألب أرسلان وأخذ بمخنقه، ووقف على طرقه. وخرج نقيب النُّقباء، وسأل أن ظل الإكرام عنه لا يقلص، وأن ورد الإنعام عليه لا ينقص، فأبى الرضي عن محمود إلا بدوس بساطه حامدًا راضيًا، ولعفوه عافيًا، ولحق طاعته وضراعته متقاضيًا، فلم يخرج إليه؛ فاحتدَّ القتال واحتدم النزال، وطال الحصار، وطارت الأحجار، ووقع في فرس السلطان حجر استشاط من وقعه، وخاف محمود لمَّا ضاق به الأمر من اتساع خرق يعجز عن رقعه؛ فخرج ليلًا إلى السلطان ومعه والدته منيعة بنت وثاب النميري يخضعان ويضرعان، وقالت للسلطان: «هذا ولدي قد جئتك به فافعل ما تحب، وقد اعترفنا وعرفنا أن سلامتنا إلا بسلمك لا تستتب.» قال: فعفا السلطان وصفح، وأعاد محمودًا إلى مكانه محمودَ المكانة، وقد ارتفع بالتواضُع وتسامَى بالاستكانة، وأمنت الشهباء وسكنت الدهماء.

ذكر خروج ملك الروم وكسره وقسره وأسره

قال: وبلغ السلطان خروج أرمانوس ملك الروم في جمعٍ لا يُحصى عدده، ولا يُحصَر مدده، فلما سمع هذا الخبر أغذَّ السير إلى أذربيجان إذ سمع أن متملِّك الروم أخذ على سمت خلاط، وكان السلطان في خواص جُنده؛ فلم يرَ أن يعود إلى بلاده ليجمع عساكره، ويستدعي من الجهات للجهاد قبائل الدين وعشائره، فسيَّر نظام الملك وزيره وخاتون زوجته إلى تبريز مع أثقاله، وبقي في خمسة عشر ألف فارس من نخب رجاله، ومع كل واحد فرس يركبه وآخر يجنبه، والروم في ثلاثمائة ألف ويزيدون ما بين رومي وروسي وغزي وقفجاقي وكرجي وأبخاني وخزري وفرنجي وأرمني، ورأى السلطان أنه إن تمهَّل لحشد الجموع ذهب الوقت وعظُمَ بلاء البلاد، وثقلَتْ أعباء العباد؛ فركب في نخبته وتوجَّه في عُصبته، وقال: «أنا أحتسب عند الله نفسي وإن سعدت بالشهادة، ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي، وإن نُصرت فما أسعدني، وأنا أمسي ويومي خير من أمسي.»

ثم توكَّل على الله وسار بهذه العزيمة الماضية القوية، والصريمة الصارمة الرويَّة، وكان متملِّك الروم قد قدم رؤساء مقدمين من الروس في عشرين ألف فارس، ومعهم عظيمهم الأصلب وصليبهم الأعظم، وخالطوا بلاد خلاط بالبلاء، والسلب والسباء؛ فخرج إليهم عسكر خلاط ومقدمهم صنداق التركي، فصبَّ صبح البيض على ليل النقع المظلم، وخاض إلى العز مُشَمِّرًا نار الحريق المتضرِّم، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وقاد قائدهم في القيد أسيفًا أسيرًا؛ فأمر السلطان بجدع أنفه، وإرجاء حتفه، وذلك يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة سنة ٤٦٣، وعجل الصليب السليب إلى نظام الملك ليجعل إنفاذه إلى دار السلام، مبشرًا بسلامة الإسلام، وتلاحق عسكر الروم ونزل على خلاط محاصرًا، وأهلها واثقون بالله الذي لم يزل لدينه ناصرًا، ونزل متملِّك الروم على منازكرد في أنصار نصرانيته، وعمداء معموديته، فانزعج سكانها وتزعزعَتْ أركانها، وعلموا أنه ليست لهم بما نزل بهم طاقة، وأن دماءهم لا شك بسيوف الكفر مهراقة؛ فخرجوا بأمان وسلَّموا البلد، فبيَّتهم تلك الليلة عند بلاطه، تحت احتياطه، فلمَّا بكَّر يوم الأربعاء سيرهم بأسرهم في أسر، وأردفهم بعسكر مجر، وخرج ليشيعهم بنفسه، وهو في جماعة حماته وحمسه، ووافق ذلك وصول أوائل العسكر السلطاني، ووقعت العين في العين، واجتمعت على المجالدة أجادل الجمعين، وجرى الخيل، وجرف السيل، وانجر من الأرض على السماء الذيل، وصحتْ على الروم كسرة أردتهم، وصدفتهم عن مقصدهم وصدَّتهم؛ فانعكسوا إلى مجثمهم في مخيمهم، وانكشفوا بما تمَّ من عرس الإسلام بمأتمهم، وشرعت المنازكردية يتسلَّلُون؛ فقتل الروم منهم من أدركه أجله ونجا الباقون، وعرف الروم أنهم للموت ملاقون، وعاد متملكهم إلى مضاربه، وبات تلك الليلة والكوسات تصرخ، والبوقات تنفخ، ولمَّا أصبحوا بكرة يوم الخميس وصل السلطان ألب أرسلان ونزل على النهر، ومعه من المقاتلة الأتراك خمسة عشر ألف فارس لا يعرفون سوى القتل والقهر، وكلب الروم نازل بين خلاط ومنازكرد في موضع يُعرف بالزهرة، وهو في مائتي ألف فارس من ذوي القلوب المدلهمة والوجوه المكفهرَّة، وبين العسكرين فرسخ، وبين مجرى التوحيد والتثليث برزخ، فأرسل ألب أرسلان رسولًا، وحمَّله سؤالًا وسولًا، ومقصوده أن يكشف سرهم، ويتعرف أمرهم، ويقول للملك: إن كنت ترغب في هُدنة أتممناها، وإن كنت تزهد فيها توكلنا على الله في العزمة وصمَّمناها. فظن أنه إنما راسله عن خور فأبى واستكبر، ونبا وتعسَّر، وأجاب بأني سوف أُجيب عن هذا الرأي بالري، وانتهى عن النهي إلى غاية الغي؛ فاغتاظ السلطان وارتفعت بينهما المخاطبة، وانقطعت المواصلة، ولبث يوم الخميس الخميسان يعبيان، ولداعي المنون يلبيان، والشمس تشكو حر ما تصاعد إليها من زفرات الأحقاد، وكأنما شعاعها دم أراقته على الآفاق وخزات تلك الصعاد، والطلائع على المطالع، والمنايا على الثنايا، والعزم السلطاني إلى اللقاء مشرئب، وللمضاء مستتب، فقال له فقيهه وإمامه أبو نصر محمد بن عبد الملك البُخاري الحنفي: «إنك تقاتل عن دين الله الذي وعد بإظهاره؛ فالْقَهم يوم الجمعة بعد الزوال والناس يدعون لك على المنابر.» فلمَّا أصبحوا يوم الجمعة ارتجَّتِ الأرض بالضجاج، وارتجَّتِ السماء بالعجاج، وقد لقحت الحرب العوان بالمهندة الذكور، والمسوَّمة الفحول، والكماة الحماة يحمون حمى الحمام ويحومون حول الدحول، ووقعت الطوالع في الطوالع، وقرعت القواطع بالقواطع، وغنت الظبى ورقصت المرَّان، ومال القنا وجالت الفرسان، ودارت الكئوس، وطارت الرءوس، وما فتئت الفتيان تجور وتجول، والخرصان تصوب وتصول، إلى أن دنا وقت الزوال، ودان لمقت الدين مقت النزال، وصدحت أعواد المنابر بالخطباء، وصدقت نيَّات أهل الجمعة للمجاهدين في إخلاص الدعاء؛ فنزل ألب أرسلان عن فرسه وشدَّ للحزم حزامه، وأحكم سرجه ولجامه، ثم ركب جواده، وثبَّتَ فؤاده، وقَوَّى قلبه، وفرَّق أصحابه أربع فِرقٍ كل فرقة منهم في كمين، وراح وله من الروح الأمين مجير أمين، ولمَّا علم أن الكمين مكين، وأن الضمير شاهد بما يشهده من النصر ضمين، تلقَّى بوجه الحر حر الحرب، واستحلى طعم الطعن وضرب الضرب، وحمل متملِّك الروم بجمعه، وأخذ ببصر الدهر وسمعه، وأقبل كالسيل يطلب القرار، والليل يسلب النهار، وثبت لهم خيل الإسلام ثم وثبت، وجالت وما وجلَتْ، واستجرت الروم إلى أن صار الكمين من ورائها، ووقفت المنون بإزائها، ثم خرج من خلفها وذوو الأقدام من قدَّامها، ووقعت نار البيض في حلفاء هامها، فآذنت بانهزامها، وانكسرت كسرة لا تقبل جبرًا، فطائفة لم تثبت للقتال ولم تصبر، وطائفة تثبت فقتلت صبرًا، فما نجت من أولئك الألوف آحاد، وما سلمَتْ من أعداء الإسلام أعداد، وملك الملك وقُيِّد وقِيدَ قَيدًا، وأُسر ولم يجد له معينًا ولا معيذًا، وركب المسلمون أكتافهم، وقتل الآحاد آلافهم، وطهرت الأرض من خبثهم، وفُرشت بجثثهم، وصارت الوهاد بأشلاء القتلى أكمًا، والمروت من قصد القنا أجمًا.

قال: وكانت مع الروم ثلاثة آلاف عجل تنقل الأحمال، وتحمل الأثقال، ومن المنجنيقات التي تحملها منجنيق هو أعظمها وأثقلها، له ثمانية أسهم ويمد فيها ألف ومائتا رجل، ويحمله مائة عجل، يرمي حجرًا وزنه بالرطل الكبير الخلاطي قنطار، وكأنه جبل له في الجو مطار.

قال: وشملهم بأسرهم القتل والأسر، وبقيَتْ أموالهم منبوذة بالعراء لا تُرام، ومعروضة لا تُسام، وسقطَتْ قيم الدواب والكراع، والسلاح والمتاع، حتى بيعَتْ بسدس دينارٍ اثنتا عشرة خوذة، وبدينارٍ ثلاث أدرع. ومن عجيب ما حكي في أسر الملك أنه كان لسعد الدولة كوهرائين مملوك أهداه لنظام الملك فرده عليه، ولم ينظر إليه، فرغبه فيه كثيرًا، فقال نظام الملك وما يراد منه، عسى أن يأتينا بملك الروم أسيرًا، وذكر ذلك استهزاءً به واستصغارًا لقدره، واحتقارًا لأمره، فاتفق وقوع متملِّك الروم يوم المصاف في أسر ذلك الغلام، ووافق تصديق قول النظام، وخلع السلطان عليه، وقال: «اقترح من العطاء ما أعطيك.» فطلب بشارة غزنة.

قال: ودخل السلطان إلى أذربيجان بملكه وأيده، والملك في قيده وصيده، وهو أسيف جهده وأسير جهله، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، فإنه خرج وفي نيته فتح الدنيا وحتف الدين، وقهر السلاطين، ونصر الشياطين، ثم ذل بعد العزِّ وهان، وتعرَّض للابتذال كل ما صان، ثم تعطَّف عليه السلطان وأحضره بين يديه، وقال: «أخبرني بصدقك في قصدك، وما الذي قدَّرت لو قدرت.» فقال: «كنت أحسب أني أحبس من أسَرته منكم مع الكلاب، وأجعله في السبايا والأسلاب، وإن أخذتك مأسورًا اتخذتُ لك وقد ساء جوري ساجورا.» فقال السلطان: «قد عثرت على سر شرك، فما ذا بك الآن نصنع، ونحن منك بما نويته فينا لا نقنع.» فقال: «انظر عاقبة فساد نيتي، والعقوبة التي جرَّتها إليَّ جريرتي.» فرقَّ له قلب ألب أرسلان، وأرسله وفكَّ قيده ووصله، وأفرج عنه معجلًا، وسرَّحه مبجلًا، ولما انصرف الملك أرمانوس مأنوسًا رمى ناسه اسمه، ومحوا من الملك رسمه، وقالوا: هذا من عداد الملوك ساقط، وزعموا أن المسيح عليه ساخط.

ذكر أحداث حدثَتْ في هذه السنين

قال: في آخر سنة ٤٦٣ تُوفِّي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المحدث الخطيب، مؤلف تاريخ بغداد، وكان علَّامة دهره، وعالم عصره، وفي سنة ٤٦٤ كان السلطان رتَّب لبغداد شحنة يُقال له آيتكين السليماني، ووردها في شهر ربيع الأول، فلم يرضَ الخليفة بتوليته؛ وذلك لأن ابنه قتل أحد الغلمان الدارية، فصرفه السلطان بسعد الدولة كوهرائين، ووصل إلى بغداد في شهر ربيع الآخر في جمعٍ كالبحر الزاخر، ووقع بإقباله الاحتفال، ورتب لحفله الاستقبال، وخرج الناس على طبقاتهم لتلقِّيه، وجرى القدر بترقِّيه، وجلس له الخليفة في دار أرسلان خاتون وتهذب البلد بسياسته، وتمَّتِ الحماية بحميته، وورد في آخر شهر ربيع الأول الوزير أبو العلاء محمد بن الحسين وعليه خُلع سلطانية، وكان قد نبَّه السلطان إلى خدمة الخليفة، لتقوية ما توهَّمه من الأسباب الضعيفة، وخصَّه بالحب والحباء، ولقَّبه بوزير الوزراء، وأقطعه النصف من إقطاع الوزير فخر الدولة ابن جهير، فلما وصل تقدَّم الخليفة بألا يُستقبل ولا يُحتفل به إذا أقبل، ولا يُقبل، فلما انتهى إلى باب النوبي نزل وقبَّل الأرض وانصرف، ولم يرضَ للقبول وما تصرَّف، وأقام ببغداد أيامًا ثم رحل، وحلَّ بالحلة المزيدية مستزيدًا، وصُرف أخوه أبو المعالي عن الحجيَّة، فعاد بعد أن كان حاجبًا قريبًا، محجوبًا بعيدًا، وفي صفر من هذه السنة توجَّه عميد الدولة أبو منصور ابن الوزير بخلع إمامية إلى ألب أرسلان بنيسابور، ووكل في تزويج المقتدي ببنت ألب أرسلان المنعوتة بخاتون السفرية، فسفر وجه وجاهته بهذه السفرة الصفرية، فلما وصل تُلُقِّيَ بالعظماء واستُقبل، وتقدَّم بإنزاله في المرتبة الكبيرة، وترتيب الأنزال الكثيرة، وعقد العقد للمقتدي على بنت السلطان في أسعد ساعة، وأحسن عادة، وكان يومًا مشهودًا أزهر، قد نثر فيه الملوك الجوهر، ولمَّا عاد عميد الدولة جعل على أصفهان العبور، فلقي من ملكشاه ولد السلطان الحب والحباء والحبور، وأفاض عليه الخُلع الإمامية فلبسها، وأحكم عنده قواعد الأمور في العواقب وأسَّسها، وكان ملكشاه قد عاد من شيراز وهو سائر إلى والده، وورد المملكة منه ظمآن إلى وارده، وعاد عميد الدولة إلى بغداد في ثامن عشر ذي الحجة، بادي الحجة، هادي المحجَّة.

ذكر وفاة ألب أرسلان في سنة خمس وستين وأربعمائة

قال: في أول هذه السنة توجَّه السلطان ألب أرسلان لقصد بلاد الترك، وقد كملت له أسباب الملك، في أكثر من مائتي ألف فارس، ومدَّ على جيحون جسرًا، كما خطَّ الكاتب على الطرس سطرًا، وكانت مدة عبور العسكر عليه شهرًا، وكان قد قصده شمس الملك تكين بن طفقاج، والإقبال قد بلغ الكمال وأوضح المنهاج، وأنه في سادس شهر ربيع الأول، بكر وهو في الصدر الأرحب والباع الأطول، والكمال الأبهى والبهاء الأكمل، وهو جالس على سرير سروره، لابس حبير حبوره، وسمطا سماطيه المدودين من فرائد مفرديه منظومان، والبأس والنائل لأوليائه وأعدائه مقسومان، والعظماء واقفون والموقف عظيم، والكرماء قائمون والمقام كريم، والهيبة مالكة، فحمل إليه أصحابه مستحفظ قلعة يُقال له يوسف الخوارزمي وهو يرسف في قيده، ولم يدرِ أنه يُسرف في كيده، وحُمل إلى قرب سريره وهو مع غلامين، وقد شدا بيده البدين، فتقدَّم بأن يضرب له أربعة أوتاد لتشد إليها أطرافه، ويعجل على تلك الهيئة إتلافه، فقال: «مثلي يُقتل هذه القتلة، ويلقى هذه المثلة.» فحمي السلطان واحتدَّ وأخذ قوسه وسهمه، وترك رأيه وحزمه، وأمر بحل رباطه، وأن يخلى عن احتياطه، وقال للغلامين خلِّياه، ورماه فأخطأه، وكان على تختٍ فوثب ونزل، فوقع على وجهه في عثره، فجاءه يوسف فجاءة، فوجأه بسكين في خاصرته، وكان سعد الدولة كوهرائين واقفًا فجرحه يوسف جراحات، ونهض السلطان إلى خيمة أخرى مجروحًا، فأما يوسف الخوارزمي، فإنه ضربه فراش أرمني بمرزبَّة على أم رأسه، فوفت الضربة بقطع أنفاسه، وأما ألب أرسلان فإنه أحضر وزيره نظام الملك فأوصى به وإليه، وعوَّل في كفاية المهمات وكف المُلِمَّات عليه، وجعل ولده ملكشاه ولي عهده، وفوَّض إليه الملك من بعده، وخصَّ ابنه أياز بما كان لأبيه داود ببلخ، وعين له خمسمائة ألف دينار، وقال له اقصد نصرة أخيك، وجعل القلعة بها لملكشاه، وقال له: إن لم يرضَ فضيِّق عليه واستعِن على قتاله، بما عين له من ماله، ووصَّى لأخيه قاورد بك بن داود بأعمال فارس وكرمان، وأجرى له بتعيين شيء من المال والإحسان، وانتقل إلى جوار ربه فائزًا بالشهادة، حائزًا للسعادة. وكان مولده في سنة ٤٣٤، واستُشهد وقد بلغ من العمر أربعين سنة، وملك تسع سنين وشهورًا.

قال: وحُكي أنه قال حين حينه، وقد عاين الموت بعينه: ما كنت قط في وجهٍ قصدته، ولا عدو أردته، إلا توكلت على الله في أمري، وطلبتُ منه نصري، وأما في هذه النوبة فإني أشرفت من تلٍّ عال، فرأيت عسكري في أجمل حال، فقلت أين من له قدر مصارعتي، وقدرة معارضتي، وإني أصل بهذا العسكر إلى أقصى الصين، فخرجتُ على منيتي من الكمين.

قال: وكان ألب أرسلان بالبرية بارًّا، ولم يزل إحسانه عليهم من داره دارًّا، وكان يُطبخ كل يوم خمسون رأسًا من الغنم في مطبخه للفقراء، وذلك سوى الراتب المعيَّن للسماط برسم العسكر والأمراء، وكان إذا أمر ببناء أوعز بأن يكون أسمى بنيان وأسمقه، وأشرف مكان وأشرقه، ويقول: «آثارنا هذه تدل على علوِّ همتنا، ووفور نعمتنا.» وخلف عدة من البنين، وهم: ملكشاه وتكش وأياز وتتش وأرسلان أرغون وبوري برس.

ذكر جلوس السلطان جلال الدولة أبي الفتح ملكشاه بن ألب أرسلان على سرير الملك

قال: ولمَّا دُفن ألب أرسلان عند قبر أبيه بمرو، أقام ابنه أياز ببلخ، وعاد ملكشاه بالعساكر، وسمع قاورد بوفاة أخيه ألب أرسلان، فسار المري طالبًا، وفي الملك راغبًا، فسبقه إليها ملكشاه وأمن ما كان يخشاه، وصار منها قاصدًا للقاء قاورد ورده، وفل حده، فالتقوا بقرب همذان رابع شعبان، وكان عسكر ملكشاه إلى عمه مائلًا، وبقوله قائلًا، فلما تلاطم البحران، والتقى الجمعان، حمل قاورد على ميمنة ملكشاه وجعلها دكًّا، وأوسعها فتكًا، وحمل شرف الدولة مسلم بن قريش، وبهاء الدولة منصور بن دُبيس ومن معهما من العرب والأكراد على ميمنة قاورد فدكُّوها وخرقوها، وغاظ أصحاب ملكشاه ما صحَّ من كسر عمه وقالوا: ما عرتنا هذه الأكدار إلا من الأعراب والأكراد، وصدونا بقصدهم عن مراد المراد، فمضى المنهزمون من أصحاب ملكشاه إلى حلل العرب ونهبوها، وشنُّوا عليها الغارة وسلبوها، وجاء رجل من أهل القُرى إلى ملكشاه وأخبره بأن عمه في قرية بقربه، وقد انفرد عن حزبه، فسار إليه وأخذه، وأمضى فيه حكم بأسه وأنفذه، وتقدَّم إلى كوهرائين بخنقه وهو يتضرَّع ويتضوَّر، فخنقه غلام أرمني أعور.

قال: وملك ملكشاه، وجاءه الجاه، وحمل أمر أمرائه بحلمه، وحكم برضاهم وأرضاهم بحكمه، وخلع على نظام الملك ورد به الملك إلى النظام، وعول عليه في تَولِّي وزارته ومناصبه العِظام، وأعطى سرهنك ساوتكين أعمال قاورد عمه، ولقَّبه بلقبه عماد الدولة، وولَّاه ولاياته، وخصه بمجانيقه وكوساته، وأجزل لأمراء العرب والأكراد نصيب الاصطفاء والاصطناع، ووفَّر حظه من التشريف والإطلاق والإقطاع.

ودخلت سنة ٤٦٦ وورد في صفر منها سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد، جلس له الخليفة القائم بأمر الله في ثاني صفر، وقام عدة الدين المقتدي على رأسه وهو ابن ثماني عشرة سنة، وسلم الخليفة إلى كوهرائين عهد الخلافة بعد أن قرأ أوله، ومتضمَّنه أنه جعل عليه في الملك معوله، وكان إذنًا عامًّا للخاصة والعامة في الوصول، ولم يُمنع في ذلك اليوم أحد من الدخول، وورد الخبر بوفاة أياز أخي السلطان، وكُفي أمره كما كُفي أمر عمه، قلبه من شغله واستراح من همه، قال: وفي هذه السنة غرقت بغداد ولم يسلَم سوى دار الخليفة وما في جوار سدتها الشريفة، وغرق مشهد باب التبن وانهدم سوره، وخرب معموره، فأطلق له شرف الدولة مسلم بن قريش ألف دينار، وأُعيدت عمارته، وأمكنت زيارته، وورد مؤيد الملك أبو بكر عبيد الله بن نظام الملك والماء طام، وغارب دجلة ذو سنام سام، وقد انسدَّتْ أفواه الطرق فترك استقباله للضرورة العائقة، ودخل على غير الصورة اللائقة؛ فإنه ركب في سفينة وانحدر إلى باب المراتب، ولمَّا حاذى التاج قام أداءً للواجب، ولمَّا قرَّ في منزله ظنَّ أن الخليفة ما نبأ باستقباله إلا وقد نبا عن تقبُّله، ومضى إليه النقيبان وقاضي القُضاة، ولم يوصلهم بل ردهم، وصدفهم وصدهم، وقال: «جرى بي تهاوُن، وعليَّ تعاوُن.» فأنفذ الخليفة إليه من أوضح له العذر، واستخلص منه بإنفاذ الخلع إليه الحمد والشكر، واستأذن الخليفة في الركوب بباب المراتب، فأذن له وأملى له، في كل نجح أمله. قال: وورد عميد الدولة أبو منصور بن الوزير فخر الدولة من الري مشمولًا من جلال الدولة ملكشاه بالإجلال، وترك استقباله لما اتفق في حق مؤيد الملك من ترك الاستقبال، وفي آخر هذه السنة تُوفِّي زعيم الملك أبو الحسن بن عبد الرحيم في الحلة المزيدية، وكان مرشحًا للمناصب السامية السنية.

ذكر وفاة القائم بأمر الله — رضي الله عنه — وتَولِّي المقتدي بأمر الله

قال: وكانت وفاته ليلة الخميس ثالث عشر شعبان سنة ٤٦٧، وقد كان زرع عمره واستحصد، فما اقتصد في ألمٍ ألمَّ وافتصد، ونام منفردًا فانفجر فصاده لما غلبه رقاده، وخرج منه دم كثير أقوت منه قواه، وانتبه والضعف قد تضاعف، والحِمام قد شارف، فطلب ثقاته واستحضر عدة الدين، وأودعه وصايا يكون بها عن القائم القائم، وأحضر النقيبين وقاضي القُضاة أبا الحسن بن البيضاوي، والقاضي أبا محمد بن طلحة الدامغاني، والوزير قائم، والقائم مستند في شباك، وهو في سكون يشعر بما ليس بعده من حراك، وقال لهم: «اشهدوا على ما تضمَّنته هذه الرقعة التي كتبت فيها سطرين بخطي.» ثم قضى نحبه، وتولى أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم، وبويع يوم وفاة جده، وجلس في دار الشجرة على كرسي بقميصٍ أبيض وعمامة بيضاء لطيفة، وفوقها طراحة قصب دري، ودخل الوزير فخر الدولة أبو نصر وولده عميد الدولة أبو منصور، واستدعى مؤيد الملك بن نظام الملك والنقيبان وقاضي القُضاة، وحضر أعيان الدولة من ذوي المراتب والكُفاة، وهناك نور الدولة؛ دبيس بن علي المزيدي وولده بهاء الدولة، وأبو عبيد الله محمد بن حمَّاد الأسدي وبايعوه، وعاقدوه على الطاعة وشايعوه، وصلَّى بالناس العصر في صحن السلام، وَأْتمُّوا به، وصلَّى على القائم، وأُغلقت الأبواب ببغداد ثلاثة أيام لعقد المأتم، وجلس فخر الدولة الوزير وابنه عميد الدولة للعزاء ثلاثة أيام، ومضى عميد الدولة إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة عليه، وحمل عهده إليه، وعاد إلى بغداد في سنة ٤٦٨، وأوصله الخليفة إلى مجلسه الأشرف، وخصه بإكرامه الألطف، وكان قد سُير من الديوان القاضي أبو عبد الله محمد بن محمد البيضاوي، في صحبة مؤيد الملك إلى والده نظام الملك ليسير منه إلى غزنة ويأخذ البيعة على صاحبها، فعاد مصحوبًا بالجدة، قد أترب وفرع الرتب، ولمَّا سكن إلى الثراء سكن إلى الثرى، وتُوفِّي في شهر ربيع الأول من سنة ٤٧٠، وكان فاضلًا على مذهب الشافعي ذكيًّا زكيًّا.

قال: وفي سنة ٤٦٨ جدَّ الجدب وحلَّ المحْل، وحطَّ للقحط الرحْل، وأقوت القوة وعدم القُوت حتى كفى الله الغمَّة، وكشف الملمة. قال: وفي هذه السنة تسلَّم نصر بن محمود صاحب حلب قلعة منبج من الروم وخلَّصها من أيديهم، وأنقذها من تعدِّيهم. وفي سنة ٤٦٩ تزوَّج علي بن أبي منصور فرامرز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه بأرسلان خاتون بنت داود التي كانت زوجة القائم، وكانت فارقت بغداد حين عرفت بوفاة أخيها ألب أرسلان، وخرج عنها وتوفي بعد ذلك القائم عنها؛ فاستبدلَتْ عن القرشي ديلميًّا، وعن الإمام أُمِّيًّا. وفي هذه السنة ورد إلى بغداد الشيخ الإمام أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيري — رحمه الله — حاجًّا، وأوضح بعلمه منهاجًا، وجلس للوعظ في النظامية، وفي رباط الصوفية، وأبدى شعار الأشعرية، يزعم أنه يحقق أدلة الموحِّدة المنزِّهة، ويُبطل شُبَه المجسِّمة؛ فثارت الفتنة من العامة، وقصدت الحنابلة سوق المدرسة وقتلوا جماعة، وأظهروا شناعة، وكان قد ورد مؤيد الملك بن نظام الملك من المعسكر فلم يطِق دفعًا، ولم يستطِع منعًا، فنسب نظام الملك إلى بني جهير الجهر بتلك الفتنة، وحنا أحناءه لهم على الإحنة.

واتفق وفاة ابنة نظام الملك زوجة عميد الدولة في شعبان سنة ٤٧٠، ودُفنت بدار الخلافة إكرامًا لأبيها، ولم تجرِ العادة بالدفن فيها، وانقطع ما بين النظام، وبينهم من النظام، وآذنت عرى النسب بالانفصام، ووصل في المحرم سنة ٤٧١ بشحنكية بغداد سعد الدولة كهرائين، وضرب على بابه في أوقات الصلاة الثلث الطبل، وكان قد منع من ذلك، وقيل لم تجرِ به عادة من قبل، وأعقب ذلك عزل الوزير ابن جهير، وذلك أن كهرائين أوصل عند وصوله كتابًا من السلطان إلى الخليفة يتضمَّن عزل الوزير، فقيل في جوابه إنه ليس بوزير، وإنما الوزير ولده عميد الدولة، وقد قصد نحوكم بالمعسكر، ووالده ينوب عنه إلى أن يحضر، وكان عميد الدولة بعد وفاة زوجته خرج إلى المعسكر، وعرف أن كهرائين إن صادفه في الطريق صدفه وصرفه، فعرج بالجبال، وأتبع الترحال بالترحال، وجاء كهرائين في النصف من صفر إلى باب الفردوس وهو على حالة من السكر، فغلق دونه الباب، وربط هناك خيله، وأقام هناك يومه وليله، وقال: «لا بد لي من الوزير، ولا مهلة في التأخير.» فلما عرف فخر الدولة الحال، قدم السؤال، وطلب الاعتزال، فأذن له أن يعتزل، ويلزم المنزل، وخرج إلى كهرائين توقيع فيه لما عرف محمد بن محمد بن جهير ما عليه جلال الدولة ونظام الملك من المطالبة بصرفه سأل الإذن في ملازمة داره إلى أن يُكاتبا في أمره، ولم يزل عميد الدولة يستعطف نظام الملك حتى عطف، ويتألَّف قلبه حتى انقلب إلى ما ألف، وألزمه تقلد منه، وزوَّج ابنته بابنه، وكتب إلى كهرائين بإعادته إلى الخدمة، وزيادته في الحرمة، وسأل الخليفة الإغضاء عن ذلته، ولما وصل إلى بغداد عزله الخليفة عن خدمته، ونقله إلى منزله عن منزلته، ورتَّب الوزير أبا شجاع محمد بن الحسين نائبًا في الديوان، وجلس بغير مخدة، ثم توزَّر عميد الدولة ابن جهير للخليفة المقتدي في سنة ٤٧٢، وأفيضت عليه خُلع آذنت بتبجيله، وتولى أمين الدولة ابن الموصلايا قراءة توقيع خرج في حقه بتجميله.

قال الإمام عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الكاتب الأصفهاني — رحمه الله: ولمَّا كان الكتاب الذي صنَّفه أنوشروان الوزير عرَّبته وهذَّبته، وقد انتهيت في هذا الموضع إلى مفتتحه، وصلت هذه الجملة التي ذكرتها به، وجعلتها طريقًا إلى دخول بابه، لكني عند انقضاء أيام كل سلطان أوردت حوادث تجددت في عصره، وأخلَّ أنوشروان ينشر حديثها وذكره، ومن ها هنا يقع بما بدأ به البداية، وتكمل بتعريبه والإعراب عنه العناية.

أيام السلطان جلال الدنيا والدين أبي الفتح ملكشاه ابن ألب أرسلان يمين أمير المؤمنين

قال: عقد لواء سلطنته في أيام أمير المؤمنين القائم بأمر الله — رضي الله عنه — وعصر خلافته قد قارب انتهاءه، وشارف انقضاءه، ولهج عند وفاته بهذين البيتين:

سلا أم عمرو كيف بات أسيرها
تفك الأسارى حوله وهو موثق
فإن كان مقتولًا ففي القتل راحة
وإن كان ممنونًا عليه فمطلق

وتولى بعده الخلافة أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله، أنار الله برهانه، وبايعه هذا السلطان. قال: وكان ملكشاه ملكًا سيرته العدل، وسريرته الإنصاف والفضل، شجاعًا، مقدامًا، صائب الرأي والتدبير، حقيقًا بالتاج والخاتم والسرير، أيامه في آل سلجق كالواسطة في العقد، قد تناسبت في الحُسن بدايته ونهايته، وتناسقَتْ في الإقبال فاتحته وخاتمته، ولم يتوجَّه إلى إقليم إلا فتحه، وقهر العدوَّ وفدحه، ولمَّا توجَّه إلى الشام وأنطاكية بلغ إلى حد قسطنطينية، وقرر ألف دينار أحمر يُحمل إلى خزانته من تلك الولاية، ووضع في النواحي التي فتحها من الروم خمسين منبرًا إسلاميًّا، وعاد إلى الري، وقصد فتح سمرقند، ولم تزِد مدة هذه الأعمال على شهرين.

ولمَّا وصل سمرقند نزل عليها وحاصرها، فظفر بخانها وهو في موضع سلطانها، وجرت له حروب عظيمة هزمه فيها وكسره، وظفر به وأسره، فحمل غاشية السلطان على كتفه، وسار في ركابه من موضع سرير أفراسياب، الذي كان ملك ملوك الترك، إلى موضع سرير ملكه، وحمله أسيرًا إلى العراق، تحت الوثاق ثم منَّ عليه بالإطلاق، وأنعم عليه بإعادته إلى ملكه، وإعادة نظامه إلى سلكه، وتوجه السلطان في السنة الأخرى إلى أوزكند، ووصل حمل أنطاكية إليها وانقاد له ملك الترك ووصل به إلى أصفهان، ثم أكرمه وشرَّفه وأعاده إلى مقرِّه من بلاد الترك، وهذه السعادة كلها إنما تيسَّرَتْ بسعادة الوزير الكبير خواجة بُزُرك قوام الدين نظام الملك أبي علي الحسن بن علي بن إسحاق رضيِّ أمير المؤمنين الوارف الظل الوافر الفضل، وكانت وزارته للدولة حلية، وبهجته للمملكة زينة، كأنما خلقه الله للملك والجلالة مصورًا، وكان الإقبال له معلمًا والظفر مسخرًا، قد مشى في ركابه سلطان العرب مسلم بن قريش، وقبَّل حافر مركوبه، وكانت ملوك الروم وغزنة وما وراء النهر في ظل حمايته، وكنف رعايته، وكانت ملوك الأطراف يُقَبِّلون كتفه إجلالًا وتشريفًا، ويتشرفون بلبس خلعه، وكانوا أنجادًا له على أعدائه، وجرَّ الجحافل الثقيلة، والعساكر الكثيفة، وبقي في صدر الوزارة ثلاثين سنة. قال: كنت في مبتدأ أمري في خدمة الأمير بيجير أسفهسلار خراسان، فأشخصني إليه من موضع كنت متوليًا له تحت التوكيل وأنا متوجه نحوه خائب الأمل منكسر القلب على فرس حرون هزيل يتعبني سيره، وأنا في ضرٍّ شديد من ركوبه، فبينا أنا سائر إذ ظهر من صدر البرية تركماني على فرس يجري جري الماء رهوان، فتمنيت مع ما كنت فيه من ألم القلب أن أكون راكبًا مثل ذلك الفرس، فتقرَّب التركماني مني واختلط بالموكلين بي وكلمهم، ثم التفت إليَّ وقال هل لك أن تُقايض فرسك بفرسي، فحسبت أنه يهزأ بي، وقلت له يجوز مع ما أنا فيه من هذه المحنة ألا تستهزئ بي؛ فنزل في الحال عن فرسه وأعطانيه وأخذ فرسي، واليوم منذ ثلاثين سنة أتمنى لقاء ذلك التركماني، وأسأل عنه ولا أجده.

قال: وكانت علامة نظام الملك الحمد لله على نعمه، وكان مؤيَّدًا موفَّقًا من جملة البشر، مخصوصًا من الله بالنصر والفتح والظفر، والدهماء ساكنة في أيامه، وأهل الدين والعلم والفضائل راتعون في إنعامه.

قال: وفي أيامه نشأ للناس أولاد نُجباء، وتوفر على تهذيب الأبناء الآباء، ليحضروهم في مجلسه ويحظوا بتقريبه، فإنه كان يرشح كل أحد لمنصب يصلح له بمقدار ما يرى فيه من الرشد والفضل، ومن وجد في بلدة قد تميَّز وتبحَّر في العلم بنى له مدرسة، ووقف عليها وقفًا، وجعل فيها دار كتب. قال: وكأنما عناه أبو الضياء الحمصي بقوله:

وما خُلقتْ كفَّاك إلا لأربع
وما في عباد الله مثلك ثاني
لتجريد هنديٍّ وإسداء نائل
وتقبيل أفواه وأخذ عنان

قال: وظهر من تدبيره في سياسة الممالك ما قاله سليمان بن عبد الملك: عجبتُ لهؤلاء الأعاجم، ملكوا ألف سنة فلم يحتاجوا إلينا ساعة، وملكْنا مائة سنة لم نستغنِ عنهم ساعة. قال: وفي عصره نشأ طبقات الكُتَّاب الجياد، وفرَّعوا المناصب وولوا المراتب، ولم يزل بابه مجمع الفضلاء وملجأ العلماء، وكان نافذًا بصيرًا، ينقب عن أحوال كلٍّ منهم، ويسأل عن تصرُّفاته وخبرته ومعرفته، فمن تفرَّس فيه صلاحية الولاية ولَّاه، ومن رآه مستحِقًّا لرفع قدره رفعه وأعلاه، ومن رأى الانتفاع بعلمه أغناه، ورتَّب له ما يكفيه من جدواه، حتى ينقطع إلى إفادة العلم ونشره، وتدريس الفضل وذكره، وربما سيره إلى إقليمٍ خالٍ من العلم ليحلي به عاطله، ويُحيي به حقه ويميت باطله، تولى الوزارة والملك قد اختلَّ نظامه، والدين قد تبدَّلَتْ أحكامه، في أواخر دولة الديلم وأوائل دولة الترك، وقد خربت الممالك بين إقبال هذه وإدبار تلك، وقد أقفرَتِ البلاد وأقوَتْ، واستولَتِ الأيدي العادية عليها وتقوَّتْ، وقامت النوائح على النواحي، والنوادب على النوادي، فأعاد الملك إلى النظام، والدين إلى القوام، وعمر الولايات، ووالى العمارات، وكانت العادة جارية بجباية الأموال من البلاد وصرفها إلى الأجناد، ولم يكن لأحدٍ من قبل إقطاع، فرأى نظام الملك أن الأموال لا تُحَصَّل من البلاد لاختلالها، ولا يصح منها ارتفاع لاعتلالها؛ ففرَّقها على الأجناد إقطاعًا، وجعلها لهم حاصلًا وارتفاعًا، فتوفرت دواعيهم على عماراتها، وعادتْ في أقصر مدة إلى أحسن حالة من حليتها، وكان للسلطان نسباء يدلون بنسبه، ويدلون بسببه، ويستطيلون بأنهم ذوو قرابته، فقصر أيديَهم، ومنع تعدِّيَهم، وساس جمهورهم بتدبيره، ونظَّم أمورهم بسياسته، وربما قرَّر لواحد من الجند ألف دينار في السنة، فوجَّه نصفه على بلد من الروم ونصفه على وجه في أقصى خراسان، وصاحب القرار راضٍ، وليقينه بحصول ماله غير متقاضٍ، وتوقيعه مأمون التعويق، وتفويقه لسهم السداد مقرون بالتوفيق، فقسم الملك الذي حازه السيف بقلمه أحسن تقسيم، وقوَّمه أحسن تقويم، وكان ينظر في الأوقاف والمصالح، ويُرتِّب عليها الأمناء ويُشدِّد في أمرها، ويُخوِّف من وزرها، ويُرغِّب في أجرها، ويكلها إلى الأمنة، ولا يدعها مأكلة للخونة، ووظف على ملوك الأطراف وعلى أقاليم الممالك والأمصار حمولًا لخزانة السلطان يحملونها، وخدمًا عن عصمة ولايتهم يوصلونها، وقرر معهم الحضور إلى الخدمة، وموالات الخدمات للحضرة، والوصول بالعساكر الجمة، حتى ملأ الخزائن بالذخائر، والملأ بالعساكر، ونشأ له أولاد كبروا في دولته فأوطأ عقبهم، وأعلى رتبهم، ثم إنه لمَّا وفر الأموال على الخزانة والعسكر، جعل فيها لأرباب العلوم وأصحاب الحقوق حقوقًا لا تؤخَّر، ورسومًا لا تُغيَّر، وصير إحسان السلطان بين أهل العلم ميراثًا يأخذونه بقدر الفرائض، ويأمنون به من النوائب والعوارض؛ فلا جرم تذلَّلَتْ له المصاعب، وتيسَّرَتْ له المطالب، ودانت له المشارق والمغارب.

ذكر الأكابر والكُتاب في زمانه وهم الكمال والشرف وسيد الرؤساء وابن بهمنيار وتاج الملك

قال: كان نظام الملك مؤيدًا بقرينين، مؤيدين لدولته أمينين؛ وهما كمال الدولة أبو الرضي فضل الله بن محمد صاحب ديوان الإنشاء والطغراء، وشرف الملك أبو سعد محمد بن منصور بن محمد صاحب ديوان الزمام والاستيفاء، وكلاهما صاحب الرأي والتدبير والجاه والمال والدهاء، ومعدن الفضل والعطاء، وكان لهذين الكبيرين نائبان، والكمال ولده سيد الرؤساء أبو المحاسن محمد، وكان مقبلًا مقبولًا، قد اختصَّه السلطان بخدمته واختاره لندمته، واستأمنه على سره، وبلغَتْ مرتبته من اصطفاء السلطان إلى غاية لم يبلغها أنيس، ولم يصل إلى رتبتها جليس، وقد كتب إليه السلطان يستبطئه بخط يده بيتًا بالفارسية معناه: إنك لا تتأثر بالغَيبة عني؛ فإنك تجد من تأنس به غيري، وأنا أتأثَّر بغَيبتك، فإني لا أجد الأنس بغيرك.

قال: فصار ختنًا لنظام الملك، وتزوَّج بابنته، وزاد ذلك في منزلته، وضرب له سرادق وله الكوس والعلم، والخيل والحشم، وأما النائب عن شرف الملك فقد كان الأستاذ أبا غالب البراوستاني من أهل قم والنجيب الجرباذقاني، ثم انصرف أبو غالب وتولى مكانه في النيابة الأعز الكامل أبو الفضل أسعد بن محمد بن موسى البراوستاني، فلم يزل نائبًا إلى أن صار أستاذًا، ولُقِّبَ بمحمد الملك بعد شرف الملك، ولم يكن لأحدٍ من السلاطين مستوفٍ كأبي الفضل في الضبط والتحفُّظ، والذكر والتيقُّظ، وحفظ القوانين، وتدبير الدواوين، وكان أيضًا ملجأً لفضلاء الزمان، وموسعًا عليهم بالإحسان، وكان على باب السلطان وفي ديوانه كُتَّاب فضلاء، وكفاة كُبراء، ونُوَّاب علماء أذكياء، وكان لمتولي فارس وزير يُقال له ابن بهمنيار، ويُلَقَّب بعميد الدولة، وهو رجل بصير بالأعمال ذو همة عالية، فاتصل بخدمة السلطان وعلت مكانته، وسمَتْ منزلته، وصار بينه وبين سيد الرؤساء اتحاد، وصداقة ووداد، وجمعت بينهما عاهة عداوة الوزير نظام الملك ومخالفته، وتصادقا على عداوته، وكيف تكون عاقبة حال المدبر إذا عادى المُقبِل، فلم يزالا حتى نُكبا وأُهينا وطُردا وهُجرا بعد ذلك القرب، وأُبغضا بعد ذلك الحب، وسُجنا واعتُقِلا، وحُبسا وسُمِلا. وسقطت منزلة كمال الدولة أيضًا بسقوط منزلة ولده، وأدركته حرفته، ونكبته نكبته، وخدم من ماله الخزانة السلطانية بثلاثمائة ألف دينار، وزادت جلالة نظام الملك بعداوة المذكورين، وتولى مؤيد الملك بن نظام الملك مكان كمال الدولة من ديوان الإنشاء والطغراء، وأقام مدة، واستناب أبا المختار الزوزني، ثم استعفى فتولى أبو المختار بحكم الأصالة، ونُعت بكمال الملك، وكان من نُوَّاب كمال الدولة أبي الرضي وأتباعه، فبلغ إلى منصبه، ثم انتقل إلى جوار ربه، وكان الرئيس تاج الملك أبو الغنائم المرزبان بن خسرو فيروز من أولاد الوزير بفارس، وقد خدم السرهنك ساوتكين مدة، وهذا الأمير كبير الدولة والمتحكِّم فيها، وكان قد أثنى على تاج الملك عند السلطان وشكره، وذكر أنه يصلح لخدمته، وقال إنه معتمده على خزانته وأمواله، وكان رجلًا سريًّا بهيًّا فصيح اللهجة، حسن البهجة.

له هِمَمٌ لا منتهى لكبارها
وهمَّته الصغرى أجلُّ من الدهرِ
له راحةٌ لو أن معشار جودها
علا البرَّ كان البرُّ أندى من البحرِ

فقبله السلطان وأقبل عليه وولَّاه وزارة أولاده الملوك، وسلَّم إليه خزانته وولَّاه النظر في أمور دوره وحرمه، وعوَّل عليه في بعض الولايات، وفوَّض إليه أمر بعض العساكر، وجعل له مع ذلك كله ديوان الطغراء والإنشاء:

ألبسه الله ثياب العلى
فلم تطُل عنه ولم تقصُر

فاستناب عنه إلكيا مجير الدولة أبا الفتح علي بن الحسين الأردستاني، وصار كاتب الرسائل، وكان أوحد عصره، ونسيج وحده، وكان رجلًا سكيتًا حسن السمت كثير الأدوات، موصوفًا بالثبات، فغيَّر تاج الملك بهجته المقبولة وإصغاء السلطان إليه، وأضاع المملكة جميعها وبدَّدَ نظامها النظامي، وبدَّدَ إحسانها الحسني، وأذهب حلاوة قبول الوزير من قلب السلطان، وظهرت عليه آثار الملال، ونطقَتْ أساريره بأسراره، كالماء يبوح بأسراره صفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، ومع ذلك كلما زاد تقريب السلطان لتاج الملك ازداد تقرُّبه إلى الوزير، بالتوقير والتوفير، فقد كانت هذَّبته نكبة عميد الدولة وسيد الرؤساء، فلم يغتر من السلطان بذلك الإدناء، لكنه تحيَّل عليه، ودبَّتْ في الباطن عقاربه إليه، وكان يكرم مجد الملك المستوفي ويثني عليه عند السلطان، وكان سديدُ الملك أبو المعالي المفضَّل بن عبد الرزَّاق بن عمر عارض الجند، فقرَّبه أيضًا تاج الملك، وجعله من حزبه، واستولى بهما على حيازة الأموال والأعمال، واتفقوا على حل نظام الملك ومخالفته، وغيروا رأي السلطان في وزارته، وراموا إزالة ذلك الطود العظيم، ونثر ذلك السلك النظيم، وهو شيخ قد طعن في سنه، وبلغ بقوته أمد وهنه، وأيس من نجابة أولاده، وطال عمره حتى سئمه، وأنس بالمُلِمَّات فلن تؤلمه، فلم يكترث بهم، ولم يلتفت إليهم، ولا تأثر بكيدهم، ولم يُقم وزنًا لعُمَرهم وزَيْدهم، فقتل يومًا غيلة بسكين ملحد، ودفن بدفنه الجود والفضل والدين في ملحد، وذلك في سنة ٤٨٥.

وتُوفِّي السلطان بعد قتل الوزير بثلاثة وثلاثين يومًا، ولم يعِش تاج الملك بعد ذلك أكثر من ثلاثة أشهُر على الخوف والخطر، ثم قتلا قتلًا ذريعًا، وبُضِّع بالسيوف تبضيعًا، وسبب ذلك أن المماليك النظامية اتهموه بقتله فأجمعوا على عداوته وفتكوا به، فعلم الناس أن سلامة تلك الدولة وأربابها وسلامة سلطانها كانت بسلامة ذلك الشيخ منوطة، وبحياته محوطة.

قال: ولمَّا ملَّ السلطان طول مدته، واستطالة مكنته، أنفذ إليه يومًا تاج الملك برسالة، ووكل على لفظه بعين من أكابر خواصه حتى يبالغ في إبلاغها، ولا يراقبه في أدائها، وكان مضمون الرسالة: إنك استوليت على ملكي، وقسَّمت ممالكي على أولادك وأصهارك والمماليك، فكأنك لي في الملك شريك، أتريد أن آمر برفع دواة الوزارة من بين يديك، وأُخَلِّص الناس من استطالتك؟ فأجاب جواب مثبت رابط القلب، حاضر اللب غير مرتاع ولا مرتاب، وقال: «قولوا للسلطان كأنك اليوم عرفت أني في الملك مساهمك، وفي الدولة مقاسمك، وأن دواتي مقترنة بتاجك، فمتى رفعتها رُفع، ومتى سلبتها سُلب.» فلما سمع جواب الرسالة ازداد في غيظه عليه واستشاطته، وكان ما جرى على نظام الملك من الاغتيال تجويزًا من السلطان مُضمرًا، وأمرًا مبيَّتًا مدبَّرًا.

قال: ونظَّم أبو المعالي النحَّاس أبياتًا بالفارسية يُخاطب فيها السلطان، فقال ما معناه: كان ملكك من أبي علي وأبي سعد وأبي الرضي بالعلوِّ والسعد مرضيًّا، فلما آل إلى أبي الغنائم وأبي الفضل وأبي المعالي عاد من كسوة جمالها عريًّا عنى بالأوَّلين نظام الملك الوزير، وشرف الملك المستوفي، وكمال الدولة المشرف المنشئ، وعنى بالآخرين تاج الملك الوزير، ومجد الملك، وسديد الملك المنشئ، مع أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم، وكان تاج الملك يظهر أنه صائم الدهر، قال: ورأيت صلة لتاج الملك خمسة عشر ألف دينار في أكياسها.

قال: ومع خلالهم الرياضية، والخصال الزكية، لم يخلصوا من أبناء الزمان، ونشبت فيهم مخالب الهجاء، وعثرَتْ بهم ألسنة الشعراء، وقد جمعهم أبو يعلى بن الهبارية في قصيدته التي يقول فيها:

لو أن لي نفسًا هربْتُ لما
ألقى ولكن ليس لي نفس
ما لي أُقيم لدى زعانفة
شم القرون أنوفهم فُطس
لي مأتم من سوء فعلهمُ
ولهم بحسن مدائحي عرس
ولقد غرست المدح عندهمُ
طمعًا فحنظل ذلك الغرس
الشيخ عينهمُ وسيدهم
خرف لعمرك بارد جبس
كالجاثليق على عصيته
يعدو ودار خلفه القس
والناصح الغندور حتى إلى
جنب الوزير كأنه جعس
وأبو الفتوح أنت تعرفه
وسهيل مثل الكلب يندس
وخليفة الري الخبيث له
بالتيس فرط القرب والأنس
وأبو الغنائم في تبظرمه
يعلو وليس ليومه أمس
والزورني فبارد سمج
كالموت فيه البرد واليبس
لو أن نور الشمس في يده
من بخله لم تطلع الشمس
متخفف أي إنني دمث
وأخف من حركاته قدس

•••

قد صار مال الأرض في يده
عفوًا وقيمة رأسه فلس
هذي أمور الملك أجمعها
فسعودها من أجلهم نحس
ولقد هممت بأن أفارقهم
وتجد بي عيرانة عنس
لكن ثناني عن فراقهمُ
علمي بأن الناس قد خسوا
من ذا أروم وأجتديه لقد
عمَّ البلاء وأشكل اللبس
المقتدي المسكين ليس له
عقل ولا رأي ولا جس

•••

هذا وكهرائين شحنته
كالكلب خب بارد نمس

•••

وأبو شجاع في وزارته
كالخرس لا بل دونه الخرس
أبَني جهير أرتجي وهمُ
بالأمس أقرب سوقة غبس
أعَلى أمورهم إذا نفق الطِّـ
ـرِّيخ عنهم أو غلا الدبس
والله لو ملكوا السماء لما
عرفوا ولا اهتزُّوا ولا انجسُّوا
أم باب إبراهيم أقصده
هيهات خاب الظن والحدس
قد كان محبوسًا وكان له
جود فزال الجود والحبس

•••

ذكر ظهور الإسماعيلية

قال: فنابت النوائب، وظهرت العجائب، وفارق الجمهور من بيننا، جماعة نشئوا على طباعنا، وكالوا بصاعنا، وكانوا معنا في المكتب، وأخذوا حظًّا وافرًا من الفقه والأدب، وكان منهم رجل من أهل الري وساح في العالم، وكانت صناعته الكتابة، فخفي أمره حتى ظهر وقام، فأقام من الفتنة كل قيامة، واستولى في مدة قريبة على حصون وقِلاع منيعة، وبدأ من القتل والفتك بأمور شنيعة، وخفيَتْ عن الناس أحوالهم، ودامت حتى استتبَّتْ على استتار، بسبب أن لم يكن للدولة أصحاب أخبار، وكان الرسم في أيام الديلم ومن قبلهم من الملوك أنهم لم يخلوا جانبًا من صاحب خبر وبريد، فلم يخفَ عندهم أخبار الأقاصي والأداني، وحال الطائع والعاصي، حتى ولا في الدولة السلجقية ألب أرسلان محمد بن داود، ففاوضه نظام الملك في هذا الأمر، فأجابه أنه لا حاجة بنا إلى صاحب خبر، فإن الدنيا لا تخلو كل بلد فيها من أصدقاء لنا وأعداء، فإذا نقل إلينا صاحب الخبر وكان له غرض، أخرج الصديق في صورة العدو، والعدو في صورة الصديق، فأسقط السلطان هذا الرسم لأجل ما وقع له من الوهم، فلم يشعر إلا بظهور القوم وقد استحكمَتْ قواعدهم، واستوثَقَتْ معاقدهم، وأخافوا السبل، وأجالوا على الأكابر الأجل، وكان الواحد منهم يهجم على كثير وهو يعلم أنه يقتل، فيقتله غيلة، ولم يجد أحد من الملوك في حفظ نفسه منهم حيلة؛ فصار الناس فيهم فريقين، فمنهم من جاهرهم بالعداوة والمقارعة، ومنهم من عاهدهم على المسألة والموادعة، فمن عاداهم خاف من فتكهم، ومن سالمهم نُسب إلى شركهم في شركهم، وكان الناس منهم على خطرٍ عظيم من الجهتين، فأول ما بدءوا بقتل نظام الملك، ثم اتسع الخرق، وتفاقم الفتق، ولمَّا كانوا قد تجمَّعوا من كل صنف، تطرَّقَتْ إلى جميع أصناف الناس التُّهم، ودب إلى البريِّ السقم، وتوفرت على التوقي الهمم، وتعيَّنَ على السلطان أن يُكاشفهم مدافعًا؛ لئلَّا ينسبه العوام وأهل الدين إلى الإلحاد، وفساد الاعتقاد، كما جرى على ملك كرمان؛ فإن الرعية اتهموه بالميل إلى القوم فبطشوا به وقتلوه، وأقاموا ملكًا آخر مقامه، وسيأتي ذكر بعض الأحوال في أيام السلاطين الذين وُلُّوا، وما كان سلطان يلي يثق بخواصه، وسعى ذوو الأغراض في ذوي اختصاصه، ولمَّا عرفوا جد السلطان في إبادة القوم سعى بعض الناس ببعض، وأحب وصمه بالإلحاد لسابق عداوة وبُغض، ووسمه باسمٍ لم يمحُه عنه غير السيف، ولم يجد محيدًا عن التزام الحيف، وبقي في هذه الاصطكاكات والاصطدامات خلق كثير، وجم غفير، ولم يبقَ للأكابر في دفع ما عرا رأي ولا تدبير.

قال: وتُوفِّي أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله بعد سنة، وكان في سنة واحدة موت السلطان والوزير وجميع أركان الدولة، كل شيء هالك إلا وجهه.

قال الإمام السعد عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني الكاتب — رحمه الله وقدَّس روحه.

ذكر نُبذ من حوادث وأخبار في أيام ملكشاه أغفلها الوزير أنوشروان

قال — رحمه الله: وُلد ملكشاه في التاسع عشر من جُمادى الأولى سنة ٤٤٧، وتُوفِّي في السادس عشر من شوال سنة ٤٨٥ وعمره ٣٨ سنة وأشهُر، وكان يُعرف بالسلطان العادل، ومن جملة عدله أنه رأى شاكيًا باكيًا فسأله عن موجب اشتكائه، وسبب بُكائه، فقال اشتريت بطيطيخًا بدريهمات لأعود بربحها على عيالي، وأعيد منها رأس مالي، فأخذها مني من يده قوي أضعف عن الأخذ على يده، وتركني التركي وهو يضحك من بليتي وأنا أبكي من نكده، فقال له السلطان طِب نفسًا، واستبدِل من الوحشة أنسًا، فهل تعرفه؟ فأنكر معرفته، وكان البطيخ في أول باكورته ولا يكاد يُصاب منه شيء في البلد، فقال السلطان لبعض خواصه قد اشتهيتُ بطيخًا، فاجتهِد في تحصيله ولو واحدة؛ فما زال يطلبه حتى قال له بعض الأمراء عندي وقد أحضره عبدي، فلما علم ملكشاه أحضر المتظلِّم وقال خُذ بيد هذا الأمير؛ فإنه مملوكي وقد وهبته لك، ففدى نفسه عنه بثلاثمائة دينار، وأُثريَ صاحب البطيخ بعد إقتار.

وكان مُحِبًّا للصيد، وقيل إنه كان حصر عدد كل ما اصطاده بيده فبلغَتْ عدته عشرة آلاف، فتصدَّق بعشرة آلاف دينار، وكان بالعمارات ذا اهتمام، وبالغرامات فيها ذا غرام، فحفر أنهارًا، وأوثق على المدن أسوارًا، وأنشأ رباطات في المفاوز، وقناطر للجائز، ومن جملة جميل صنعه في العمارة عمارة مصانع طريق مكة ومنازلها، وتسهيل ما توعَّر من مسالك قوافلها، وخرج سنة من الكوفة لتوديع الحجيج، فجاوز العُذَيب، وبلغ السُّبيعة بقرب الواقصة، وبنى هنالك منارة ترك في أثنائها قرون الظُّبِيِّ وحوافر الحُمُر الوحشية التي اصطادها في طريقه، والمنارة باقية إلى الآن، تُعرف بمنارة القرون، وكان قد خرج إلى الصيد وعاد في ثالث شوال، فابتدأتْ به حمى محرقة من إمعانه في أكل لحم الصيد، فتُوفِّي في سادس عشر الشهر، وعاد الملك بظهور وفاته منقصم الظهر، وكانت قد جرت بينه وبين الخليفة في تلك الأيام وحشة أساءَتِ الظنون، ونسبت إلى عوارضها المنون، ومن أسباب الوحشة اقتراحُه على الإمام المقتدي انتقاله عن بغداد إلى حيث يختاره من دمشق أو الحجاز، وعدم من جانبه الإمام ما يجب من الإكرام والإعزاز، فطلب منه المهلة، ثم كفي أمره ولم يخف النقلة.

قال: وقد كان قرر فتح أقاليم الدنيا، فجعل الأمير بُرسُق للروم، فضايقها حتى قرر على قسطنطينية له في كل سنة حمل ثلاثمائة ألف دينار للسلطان، وثلاثين ألف دينار له جزية يؤديها الرومي بالصغار والهوان، وسيَّر أخاه تاج الدولة تُتُش إلى الشام، وقرر معه فتح ديار مصر وبلاد المغرب، وأمر مملوكيه بزان صاحب الرها وأق سنقر صاحب حلب أن يُطيعاه على هذا الغرض، ويُساعداه على أداء هذا المفترض، وأمر سعد الدولة كهرائين بفتح بلاد اليمن، واستخلاص زبيد وعدن؛ فسيَّر إليها جيشًا قدَّم عليه ترشك، فمضى إليها واستولى واستعلى، ومات بها وعمره ٧٠ سنة وهو مجدور، وتولَّى مكانه يَرِنْقُش صاحب قُتْلُغ أمير الحاج، وجرى في الاستيلاء على ذلك المنهاج، وأوغل ملكشاه في بلاد الترك حتى أطاعه صاحب طراز، وكانت حلة الدولة بجلالة جلالها ذات طراز.

وفي سنة ٤٧٣ عرض العسكر وأسقط منه سبعة آلاف رجل من الأرمن المتشبهة بالترك، فمضوا إلى أخيه تَكِش بقلعة وَنَج، فقوى بهم جانبه وشقَّ عصاه بالعصيان والشقاق، وما زال السلطان ملكشاه يقصده، فتارة يُصالحه وتارة يُكافحه، حتى ظفر به في سنة ٤٧٧، وقد كان عاهده ألا يؤذيه، ففوَّض السلطان أمره إلى ولده أحمد فأخذه وسمله، وفي سنة ٤٧١ دعا الأقسيس تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان إلى دمشق واثقًا به خارجًا عن خلافه، وخرج إليه من دمشق مسلِّمًا، ولحكمه مستسلمًا، فضرب رقبته صبرًا، وغادره عاريًا بالعراء غدرًا، ودخل إلى البلد مستبِدًّا، وأصبح الملك به مستجدًّا، في هذه السنة استولى شرف الدولة مسلم بن قريش على حلب، وفي المحرم من سنة ٤٧٣ عاد السلطان ملكشاه من كرمان إلى أصفهان، وكان قد ورد إليها عام أوَّل، وخرج إليه ابن عمه سلطان شاه بن قاورد وعاهده وعاقده، وأخذ على العهد يده، وفي صفر تسلَّم مؤيد الملك من المهرياط تكريت وقلعتها، وأحكمها ووفَّر عدتها، وفي ليلة الأحد عاشر شوال تُوفِّي دبيس بن علي بن مزيد، وكانت إمارته سبعًا وستين سنة، وقام بالأمر بعد بهاء الدولة منصور، ومضى إلى السلطان، وعاد في ثاني عشر صفر سنة ٤٧٤ بمكنة قوية وقوة متمكِّنة، وقد تقرَّرَتْ عليه أربعون ألف دينار في كل سنة.

وفي شوال سنة ٤٧٤ خلع المقتدي على الوزير فخر الدولة ابن جهير، وتوجه ليخطب للخليفة من السلطان ابنته، وسار بعده أبو شجاع محمد بن الحسين إلى المعسكر، فإن نظام الملك كان يُكاتب في إبعاده، وكان الخليفة راغبًا فيه لسداده، فكتب بخطه إلى نظام الملك يأمره بالعود إلى العهود في حق أبي شجاع، وأنفذ معه مختصًّا الخادم، فعاد إلى بغداد في رجب سنة ٤٧٥ في حرمة وافرة وحشمة ظاهرة، وأما الوزير فخر الدولة ابن جهير، فإنه لمَّا وصل إلى المعسكر بجَّل وعظم، ومضى نظام الملك معه إلى تركان خاتون وخاطباها في معنى الوصلة بابنتها، فقالت إن ملك غزنة وملوك الخانية قد أرسلوا في خطبتها وبذل كلٌّ منهم عن ولده لها أربعمائة ألف دينار، فإن بذلها الخليفة فإني أختار شرفه، وهو أشرف مختار، فعرَّفتها أرسلان خاتون زوجة القائم ما يصير إليها من الجلال والجمال، وبيَّن لها الفقيه المشطَّب جليَّة الحق وحقيقة الحال، وقال هؤلاء عبيد الخليفة ومثله لا يُقابل بطلب المال؛ فحينئذٍ أجابت وسددت إلى الغرض وأصابت، وأخذ فخر الدولة يد السلطان على العقد، وعاد في صفر سنة ٤٧٥ إلى بغداد، وفي جُمادى الأولى ورد مؤيد الملك من أصفهان إلى بغداد ونزل في داره، وضربت على بابه الطبول في أوقات الصلوات الثلاث، وعُدَّ ذلك من منكرات الأحداث، ووصل بعطاء رضيه وقطع به ضرب الطبل، وآذنت الحباء بوصل الحبل، وفي شعبان من السنة جلس مؤيد الملك للعزاء بأخيه جمال الملك، وركب إليه فخر الدولة وعميد الدولة، وأقامه فخر الدولة من العزاء في اليوم الثالث ومعه الموكب.

ذكر جمال الدين أبي منصور بن نظام الملك

قال: كان كبير أولاد نظام الملك، وفيه دهاء وجرأة وعزَّة ونخوة، وخاطبه أبوه في أيام ألب أرسلان أن يُوَزِّر لولده ملكشاه، فأظهر امتناع أبي، وقال: «مثلي لا يكون وزيرًا لصبي.» ثم أقام ببلخ متوَلِّيًا، وعلى تلك الممالك مستوليًا، فسمع أن جعفرك مسخرة السلطان، تكلم على والده نظام الملك بأصفهان، وقرر الوزارة لابن بهمنيار، فهاج وتغيَّظَ وثار، وأغذَّ السير من بلخ حتى وصل إلى الحضرة، وأخذ جعفرك من بين يدي سلطانه، وتقدَّم بشق قفاه وإخراج لسانه، فقضى في مكانه، ثم أوقع التدبير في حق ابن بهمنيار حتى أخذه وسلمه، ثم توجَّه مع والده في خدمة السلطان إلى خراسان، وأقاموا بنيسابور، ودبَّروا الأمور، فلما أراد السلطان أن يرتحل استدعى بعميد خراسان أبي علي وقال: أنا مُفضٍ إليك بسرٍّ خفي. فقال: أنا من كل ما تأمرني به على أقوَم سُنن. فقال: رأسك أَحبُّ إليك أم رأس أبي منصور بن حسن؟ فقال: بل رأسي أَحبُّ، وأنا لِما تستطِبُّني من دائه أطبُّ. فقال له: إن لم تقتله قتلتك، وصرفتك عن ولاية الحياة وعزلتك. فخرج من عنده ولقي خادمًا بخدمة جمال الملك مختصًّا، وعرف في عقله نقصًا، فقال: إن السلطان قد عزم على أخذ صاحبكم وقتله غدًا، والصواب أن تصونوا بإبادته حرمتكم أبدًا، فظنَّ السخيف العقل، أن ذلك عن أصل، وجهل النظر ونظر عن جهل، وخاف على تشتُّت آل النظام بهذا الولد؛ فعمد إلى كوز فُقَّاع فسمَّه، ولمَّا انتبه صاحبه بالليل وطلب الفقاع أتاه بالكوز المسموم، فلمَّا شربه أحسَّ بالموت فاستدعى أخته ليوصي إليها، فقضى نحبه قبل أن تقع عليها عينه، وكان السلطان قد رحل ونظام الملك قد سبقه، فسار مغذًّا أربع منازل حتى لحقه، ودخل إلى الوزير ولم يعلم بوفاة ولده، فعزَّاه وقال: أنا ولدك والخلف عمَّن ذهب، وأنت أولى مَن صبر واحتسب.

قال: وفي سنة ٤٧٥ سار الشيخ الإمام أبو إسحق رسولًا من المقتدي إلى السلطان بعد أن أوصله الخليفة إليه وفاوضه شفاهًا، وشكا من العميد أبي الفتح بن أبي الليث سفاهًا، فوصل إلى خُراسان وناظر مع الإمام أبي المعالي الجويني، وكان في صحبته من أكابر تلامذته الشاشي وابن قنان والطبري، وكان معه جمال الدولة عفيف الخادم، وعاد الشيخ أبو إسحق إلى بغداد والقلوب إلى حضرته متعطِّشة، والعيون من غيبته مُستوحِشة، ثم تُوفِّي — قدَّس الله روحه — في ليلة الأحد الحادي والعشرين من جُمادى الآخرة سنة ٤٧٦، ورتَّب مؤيد الملك أبا سعد المتولِّي مُدَرِّسًا، فلم يرضَ نظام الملك به وجعل التدريس للشيخ الإمام أبي نصر الصبَّاغ صاحب الشامل، فاتفق خروج مؤيد الملك وخرج معه المتولي، فعاد متولِّيًا، وفي رتب السموِّ مُتَعَلِّيًا، وقد لقب شرف الأمة وأبو نصر الصبَّاغ مدرس، وتُوفِّي يوم الخميس النصف من شعبان، وبقي المتولي مدرسًا إلى أن تُوفِّي في شوال سنة ٤٧٨، وعزل عميد الدولة في صفر سنة ٤٧٦ بمكتوب خرج إليه من الخليفة، واجتمع يارق الحاجب والشحنة والعميد وأصحاب مؤيد الملك على باب عمورية حتى خرج بنو جهير بأهلهم وحواشيهم، وكهلهم وناشيهم، وسارو إلى المعسكر، وحصلوا على المنصب الأظهر؛ فإن السلطان عقد على فخر الدولة بن جهير ديار بكر، وخلع عليه وأعطاه الكوس والعلم، وآذن له في الخطبة لنفسه، وفي السكة باسمه.

ثم أنفذ السلطان في سنة ٤٧٧ أُرتق بن أكسب صاحب حلوان مع التركمان إلى فخر الدولة مددًا، وتُوفِّي وتقَّوى بهم عُدَدًا وعَدَدًا، وكان ابن مروان صاحب ديار بكر قد استنجد شرف الدولة مسلم بن قريش وأعطاه يده، على أن يُعطيه آمد إذا أمَدَّه وأيَّدَه، وقصد ابن جهير الصلح وقال: «أكره أن يحل بالعرب مكروه أنا سببه.» وعلم التركمان ما رآه، فخالفوا هواه، وركبوا ليلًا وأحاطوا بالعرب، فهربوا ورهبوا وطلبوا، في كل وادٍ ونادٍ وسلبوا، ولم يحضر تلك الوقعة ابن جهير ولا أُرتق، وإنما اصطلى نارها الأمير جَبُق، وحقن دماء العرب واستولى على جميع جمالهم، وعامت أيدي العامة في أموالهم، وأُلجِئ شرف الدولة مسلم إلى فصيل آمد، فعزت الحيلة، وأعوزت الوسيلة، ووصى فخر الدولة ابن جهير الأمير أُرتق بأن يأخذ عليه الطريق، وقال: إذا حصل شرف الدولة في اليد فتحنا للسلطان البلاد، وحوينا الطراف والتلاد. فبذل شرف الدولة للأمير أُرتق مالًا ليفرج عنه، فمال إلى المال، وأظهر الغضب عن تحكُّم فخر الدولة، ونَفَّسَ عن خِناق مسلم، فسار إلى الرقة، وذلك في حادي عشر شهر ربيع الأول، وقصد فخر الدولة ميافارقين ومعه الأمراء الأكابر سيف الدولة صدقة بن بهاء الدولة، وأياز، وترشك، وخمارتاش في عسكر كهرائين، ولما قصد خلاط رجع هؤلاء عنه إلى العراق.

وفي سنة ٤٧٩ خرجت ديار بكر عن نظره، وسلمها السلطان إلى العميد أبي علي البلخي، فأما شرف الدولة فإنه لمَّا وصل إلى الرقَّة، أحمد عاقبة المشقة، وعدَّ ما بذله لأُرتق من الحقوق المستحقة، فأنجز الوعد وأرسل المال، وصدق المقال، ولم يشُك السلطان لمَّا نمى إليه الخبر أن شرف الدولة قد قبض، وأن مبرم أمره قد نقض؛ فخلع على عميد الدولة ابن جهير وأنفذه إلى ولايته، وكاتب التركمان بطاعته، وأنفذ معه الأمير آق سنقر قبل أن يصير صاحب حلب، وسار في صحبته، واتصل به الأمير أرتق وصار في جملته، ووصل إلى الموصل فأطاعه أهلها، وتسهَّل له وعرها وسهلها، وتوجَّه السلطان إلى بلاد مسلم بن قريش في أقوى جأش وأوقى جيش، فلما علم سلامته ونجاته، وأنه بالمكر قد فاته، أرسل إليه مؤيد الملك بن نظام الملك ووثَّقه بالأيمان، وآمنه بالمواثيق، وقدِمَ به إلى السلطان وهو بالبوازيج، فأحلى له جنا الجناب المريع، وأسامه في مراد المراد البهيج، وكانت أحواله قد ذهبت، وأمواله قد نُهبَتْ، واستقرض ما خدم به، وقدم خيله وفيها بشار، وكان فرسًا سابقًا مذكورًا، وهو الذي نجا به يوم آمد وسبق ووثب الخندق، وراهن السلطان شرف الدولة على مسابقته، فأجراه مع الخيل في حلبته، فجاء سابقًا، ولمَّا طلع صبح غُرَّته من ظلام قتامه، قام السلطان للإعجاب به وأظهر أنه لإكرامه، وفي صفر سنة ٤٧٨ تجرَّع شرف الدولة كأس الحمام، فإنه فتك به خادم له في الحمام.

قال: وكان المظفَّر أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء قد رتَّب في ديوان الخليفة بعد خروج بني جهير، واستقلَّ بكل ترتيب وتدبير، إلى أن وُزِّر أبو شجاع محمد بن الحسين في سنة ٤٧٩ لأمير المؤمنين، وخلع عليه خلعة الوزارة، ولقَّبه ظهير الدين مؤيد الدولة سيد الوزراء صفي أمير المؤمنين، وخرج في حقه توقيع من إنشاء أبي سعد بن الموصلايا، ووصل عماد الدولة سرهنك ساوتكين إلى واسط، ومنها إلى النيل في شهر رمضان، وزار المشهدين الشريفين، وأطلق بهما للإشراف مالًا جزيلًا، وأسقط خفارة الحاج وحفر العلقمي، وكان خرابًا من دهر، وقدم بغداد وتلقَّاه الوزير أبو شجاع، ووصل إلى حضرة الخليفة ليلة الأربعاء ثامن ذي الحجة، وخلع عليه، وأحسن إليه، وكان قد علق به السل، فسار لوقته إلى أصفهان وتُوفِّي بها في سنة ٤٧٧، وكان قد توجه جمال الدولة عفيف إلى أصفهان في إتمام العقد للخليفة على بنت السلطان، فعاد إلى بغداد، فخلع الخليفة علي بن أبي شجاع، وسنه يومئذٍ اثنتا عشرة سنة، ولقبه ربيب الدولة، وأخرج لاستقبال عفيف، واستمر أبو شجاع في وزارته جريئًا في الشجاعة، شجاعًا في الجراءة، أهلًا لمحمود الذمام، ذامًّا لأهل الذمة، وألزم أكابرهم بلبس الغيار، وأداء الجزية على وجه الصغار، حتى أسلم الرئيس أبو غالب بن الأصباغي غيرة من الغيار، ونفضًا لما كان على صفحات أحواله الحالية بموضع النصرانية من الغبار، وأسلم الرئيسان أبو سعد بن العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا صاحب ديوان الإنشاء، وابن أخيه أبو نصر بن صاحب الخبر، وكان في رتبته في السماء، وذلك في رابع عشر صفر سنة ٤٨٤، وثقلَتْ وطأة الوزير، على الصغير والكبير، وترك المحاباة في الدين، ووافق ذلك وصول كتاب من السلطان في عزله، ووقوع ضجر الخليفة من فعله، فخرج التوقيع بصرفه في تاسع عشر صفر، فانصرف وهو ينشد:

تولَّاها وليس له عدوٌّ
وفارقها وليس له صديق

قال: وكانت أيامه أنضر الأيام، وأعوامه أحسن الأعوام، فخرج ثاني يوم عزله يوم الجمعة ماشيًا إلى الجامع من داره، في زيِّ شاهد باستبصاره واعتباره، وانثال الناس عليه يُصافحونه، فأُنكر ذلك عليه وأُلزم داره، وضيَّق الخليفة عليه أعذاره، ثم سافر في الموسم إلى الحج، وتُوفِّيَ بالمدينة — على ساكنيها السلام — في النصف من شهر جُمادى الآخرة سنة ٤٨٨، فدُفن بالبقيع عند قبر إبراهيم — عليه السلام — وكان مولده بكِنِكوَر سنة ٤٣٧.

ولما عُزل أبو شجاع تولى أبو سعد بن الموصلايا النظر في الديوان، وكان كبير الشان، كثير الإحسان، تولى ديوان الإنشاء بعد سنة ٤٣٠، وعاش إلى أن ناب عن الوزارة المقتدية والمستظهرية، ثم أُعيدَتِ الوزارة إلى عميد الدولة ابن جهير في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ٤٨٤، وكان السلطان ببغداد، فركب نظام الملك وتاج الملك وأكابر الأمراء إلى دار عميد الدولة لإجلاله، والتنويه بمنصب إقباله، وفي سنة ٤٨٢ درَّس أبو بكر الشاشي في التاجية ثالث عشر المحرم، وفي جُمادى الآخرة تُوفِّي أبو القاسم الشريف الدبوسي مدرس النظامية. وفي محرم سنة ٤٨٣ قدم الشيخ أبو عبد الله الطبري بمنشور نظام الملك متولِّيًا للتدريس بالنظامية، ثم وصل بعده القاضي أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي للتدريس بالنظامية أيضًا، وتقرَّر أن يدرس هو يومًا والطبري يومًا. وفي سنة ٤٨٤ قدم الشيخ أبو حامد الغزالي إلى بغداد للتدريس في المدرسة النظامية، وكان في العلم بحرًا زاخرًا، وبدرًا زاهرًا، وأشرقَتْ غرائبه في المشرقين والمغربين، وملأت حقائب الملوين، وثقلت غوارب الثقلين.

ذكر دخول السلطان ملكشاه إلى بغداد

فأما في النوبة الأولى فإنه دخل إلى بغداد في رابع ذي الحجة سنة ٤٧٩، والوزير أبو شجاع خرج لاستقباله، وتوفية حق إعظامه وإجلاله، وركب في اليوم الثالث إلى الحلبة، ولعب بالأُكرة، وأنفذ إليه الخليفة أفراسًا وألطافًا، وتصافيًا وتهاديًا، ومضى نظام الملك إلى المدرسة وإلى دار الكتب بها، وقلبها وتصفحها، ورمَّ أحوالها وأصلحها، وعاد إلى دار ولده مؤيد الملك، فأقام بها ليلتين، وفي سابع عشر المحرم سنة ٤٨٠ استدعى الخليفة السلطان إلى حضرته على لسان ظفر الخادم، فبشر وجهه وسفر ونزل في الطيارة، فلما وصل إلى باب الغربة قُدِّمَ إليه فرس من مراكب الخليفة، حتى انتهى إلى السدَّة الشريفة، وأمره الخليفة بالجلوس فامتنع، وتواضع حتى ارتفع، ثم أقسم عليه حتى جلس، وزاد في إيناسه فأنس، ولم يزل نظام الملك يأتي بأمير أمير إلى تجاه السدة، ويقول للأمير هذا أمير المؤمنين؛ ليُعَفِّر بتقبيل الأرض الجبين، ويقول للخليفة هذا فلان وعسكره كذا وولايته كذا، وكانوا فوق الأربعين، وكان فيهم آيتكين خال السلطان، فإنه استقبل القبلة وصلَّى ركعتين، ومسح وجهه للتبرُّك بأركان الدولة من الجانبين، وعاد السلطان وعليه الخُلع السبع والطوق والسوار، وقد ظهرت عليه من آثار الجلالة الأنوار، فمثل بين يدي السدة الشريفة، وقبَّل الأرض مرات، وأمر الخليفة مختصًّا خادمه فقلده بسيفين، وقال الوزير أبو شجاع: «يا جلال الدين سيدنا أمير المؤمنين الذي اصطفاه الله لعز الخلافة، واجتباه لشرف الإمامة، واسترعاه للأمة، واستخلفه للدين والملة؛ قد أوقع الوديعة عندك موقعها، واصطفى الصنيعة عندك موضعها، وقلَّدك سيفين لتكون قويًّا على أعداء الله تجوس بلادهم، وتذل رقابهم، ولا تألو في مصلحة الرعية مقامًا، ولا تدخر عنها اهتمامًا، فبطاعته تقبل عليك الخيرات من جوانبها، وتدر البركات بسحائبها.» وسأل السلطان في تقبيل يد الخليفة، فلم يُجب الخليفة إلى تقبيلها، فسأل في تقبيل خاتمه لترفيهها وتبجيلها.

قال: وفي النصف من صفر خرج من بغداد إلى خراسان، وأما النوبة الثانية من دخوله إلى بغداد، فإنه دخل إليها في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة ٤٨٤ ومعه نظام الملك وتاج الملك، وأكابر مملكته، وأرباب دولته، وبرز أمين الدولة بن الموصلايا لاستقباله، وخرج خروج في جميع أحواله، وخرج السلطان منها ومضى إلى خوزستان في صفر سنة ٤٨٥ بعد أن سيَّر قسيم الدولة آق سنقر إلى حلب والأمير بوزان إلى الرُّها وحرَّان، وأما النوبة الثالثة فإنه دخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان سنة ٤٨٥ بعد قتله نظام الملك ومعه تاج الملك، وكانت وفاته بها في شوال.

ذكر حوادث

قال: في ليلة السبت السادس والعشرين من شهر رجب سنة ٤٧٨ تُوفِّي قاضي القُضاة أبو عبد الله محمد بن علي الدامغاني، ومولده سنة ٣٩٨، ودخل بغداد سنة ٤١٩، ووُلِّي القاضي أبو بكر المظفر بن بكران الحموي الشامي قضاء بغداد، وتُوفِّي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير بالموصل في سنة ٤٨٣، ومولده بها سنة ٣٩٨.

قال الإمام عماد الدين — رحمه الله: عاد الحديث إلى تعريب كتاب أنوشروان.

ذكر حال ولاية السلطان أبي المظفر بركيارق ابن ملكشاه برهان أمير المؤمنين

قال: كان للسلطان ملكشاه أربعة بنين، وهم: بركيارق ومحمد وسنجر ومحمود، وكان محمود طفلًا، فبايعوه على السلطنة؛ لأن أمه تركان خاتون كانت مستولية في أيام ملكشاه، فلما درج بقي حكمها، ولأن الأمراء والوزراء كانوا من صنائعها فاختاروا ولدها؛ ولأن الخاتون المذكورة كانت من أولاد الملوك ففضَّلوا ابنها، على أن بركيارق كانت أمه سلجقية، ولكن لم يكن من بني السلطان ببغداد حاضرًا إلا ولدها الطفل، فبايعوه وساروا إلى أصفهان، وأجلسوه على سرير الملك، وأخرجوا تلك الأموال العتيدة، والذخائر الطارفة والتليدة، ففرَّقوها بأمر خاتون.

قال: وفي أول العهد فتك بتاج الملك مماليك نظام الملك، فإنه كان وزيرًا لخاتون وولدها، ولمَّا سمع مماليك نظام الملك أن خاتون وولدها قد قصدا أصفهان خرجوا ببركيارق منها إلى الري، وشرعوا في جمع العساكر عليه، وحملهم على ذلك دخلهم القديم الذي في قلوبهم من تاج الملك، وكانوا ينسبون إليه قتل نظام الملك، وفي مبادئ هذا الأمر تولى المستظهر بالله الخلافة، وأخذوا منه بيعة محمود، ثم جاء بركيارق إلى أصفهان محاصرًا، ولم يكن معه أحد من أرباب الدولة حاضرًا، فإن الأكابر كانوا محصورين، واجتمعَتْ عليه جماعة من أبناء الدهر غير معروفين، ولما سمعت والدته بأصفهان — واسمها زبيدة خاتون — أنه على قصدها سفر، وجهها للسفر، وخفر ما كانت فيه من ذمام الخفر، ومات محمود وماتت والدته ولم تنقضِ سنة، وتمَّ الملك لبركيارق.

وزارة عز الملك أبي عبد الله الحسين بن نظام الملك

قال: كان شِرِّيبًا خِمِّيرًا، لا يصيب رأيًا ولا يُحسن تدبيرًا، بعيدًا من الكفاية، قريبًا إلى الغواية، خاليًا من المعاني، معروفًا بالقصور والعجز والتواني، فلما زاد اختلال الملك، بعدم نظام الملك، ظنوا أنه يرجع إلى نظامه بأحد أولاده، فاستوزروه ووقَّروه وعزَّروه، وكانت علامته أحمد الله وأشكره، وكان له أخ صغير اسمه عبد الرحيم، فجعلوا إليه منصب الطغراء، وقالوا إن هذا المنصب لا يحتاج إلى فضل، وليس إلا مجرد ذلك الخط القوسي، وكان الأستاذ علي بن أبي علي القُمي وزير كُمشتكين الذي كان قديمًا مُربيًا لبركيارق وآتابكه، فحين وُلِّيَ السلطنة نفذ أمره ومضى حكمه، حتى كأنه في الملك شاركه، وتولى الأستاذ علي ديوان الاستيفاء، وجرت بإيالة هؤلاء في الدولة أمور شنيعة، وأحوال فظيعة، ولو تمشى أمر من الأمور فإنما كان بكفاية الأستاذ علي، فإنه كان يرجع إلى نظر لوذعي، ورأيٍ وَرِي، والباقون كالأصنام لا يضرون ولا ينفعون، وأم السلطان قد خلعت عذارها ووافقت كمشتكين الجاندار على المنكر ومعاقرة المسكر، والسلطان مشغول باللعب والعشرة مع عدة من الصبيان، والوزير أيضًا منهمك في الشرب مع الأخدان، والمساخر والمُجَّان، ووصلوا إلى بغداد واختاروا المقام فيها، وألهتهم مغانيها وغوانيها، وصار الأمر مُهملًا، والعدل مُغفلًا، وكان من أكابر الأمراء في ثغور مصر والشام أميران كبيران في الجاه والقدر، كافيان في حفظ الثغر، وهما آق سنقر، وبُزَان، فتابعا الكتب والرسل إلى السلطان، بخروج عمه الملك تتش بن ألب أرسلان، وأنه قد خرج من دمشق وقد حشد جموع التركمان، فما قرأ لهما كتابًا حتى يئس الأميران ووقعا في ورطة الشر، وظنَّا أنهما يُقاومان تتش في ردِّه عن قصده، فوقعا في طريقه حتى حصلا في قبضته، وقُتلا بسيف سياسته، وتوجه تتش نحو الري وهمذان وقم وجرباذقان، وأمراء الدولة البركيارقية كلٌّ منهم في بلده مشغول بما هو فيه من القصف والعزف. قال: ومما قاله أبو منصور الآبي أحد فُضلاء العصر بالفارسية في قتل الأميران ما معناه:

قد غرقنا في الشرب والسكر حتى
لم نفكر في سنقر وبزان
ما ظفرنا بالبيدق الفرد في الدسـ
ـت ولكن قد أسلم الرخان

قال: والأجناد طلبوا إصلاح حالهم، وتركوا بركيارق، واتصلوا بعمه، ووقع هو إلى أصفهان، وكان بها من بقايا الدولة الخاتونية جماعة أقوياء فحبسوهم وأتعبوهم، فمنهم من مات في اعتقاله، ومنهم من فُجع دون نفسه بماله، قال: وكانت خُراسان أيضًا مضطربة، وكانت بين ولدي ألب أرسلان بوري برس وأرغو مقارعات هرب منها مؤيد الملك أبو بكر عبيد الله بن نظام الملك إلى أصفهان، فرأوه أهلًا للوزارة في ذلك الوقت، فخلعوا عليه خلعة تامة للوزارة، وعاد به الملك إلى النضارة، وكان مصرفًا للسيف والقلم، عارفًا بلغتي العرب والعجم.

له بين العوالي والمعالي
وما بين المهندة الذكور
مقامات شرفن فما يُبالي
أمات على جوادٍ أم سرير

ولم يكن في أولاد نظام الملك أكفى منه، وكان أوحد العصر، بليغًا في النظم والنثر، فتقدم ونظم تلك الأمور المنثورة، وطوى تلك السيئات المنشورة، وكانت علامته الحمد لله على النعم، فتوجَّه إلى مصاف تتش، وقال لمجد الملك أبي الفضل وهو منزوٍ بأصفهان: «قم وصاحبني.» فأجابه: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، فلما ضرب المصاف كُسر تتش وقُتل في المعركة، وتوحَّد بركيارق بالمملكة، واستبرك بالوزير.

قال أنوشروان: كنت معه في المصاف، وذلك في سابع عشر صفر سنة ٤٨٨ عند قرية يُقال لها: داشلو على اثني عشر فرسخًا من الري، فوصل مؤيد الملك إلى السلطان في المعركة، وهنَّأه بالفتح، فابتسم سرورًا بما آتاه الله من المنح، وقال له: «كل هذا ببركتك ويُمن نقيبتك.» فأمن الناس من أنه معزول، وأنه وزير مقبول، وكانت وزارته في ذي الحجة سنة ٤٨٧، ولما وصلوا إلى الري بعد الوقعة بادر مجد الملك أبو الفضل إلى الري من أصفهان، واستمال قلب والدة السلطان في مبدأ الأمر، وتمكَّن من الدولة، وقبض على الأستاذ علي المستوفي، فسُمل وأُعمِيَ، وبقي مؤيد الملك وحيدًا يتوقع البلاء، ويتعرض ويتمثل: أُكِلتُ يوم أُكل الثور الأبيض، وكان أخوه فخر الملك أبو الفتح المظفر أكبر سنًّا منه، وهو حينئذٍ بالري، متعطِّش إلى الوزارة، فأطمعه مجد الملك في موضع أخيه، وساعده على تولِّيه، واعتُقل مؤيد الملك وحُبس، ورتب فخر الملك في الدست وأُجلِس. ولمَّا كانت والدة السلطان صاحبة العناية بمجد الملك أعانت على مؤيد الملك، فكتب من الحبس إليها أبياتًا بالفارسية يستعطفها ويتضرَّع إليها، واستقلَّ مجد الملك بالاستيفاء، وغلب على الوزارة، وبقي فخر الملك صورة بلا معنى، وكان أيضًا خاليًا من الكفاية والفضل والأدب، وعلامًا لكل شيء غير النسب، وهو أسير تصرُّفات مجد الملك، وتابع رأيه، وليس له من رسوم الوزارة إلا علامته، وهي الحمد لله على نعمائه، وقال مؤيد الملك فيه بيتين بالفارسية عرَّبهما عماد الدين، وهما:

ماذا أقول عن امرئ
جمع المعاير والمعايب
عادت مناقب والدي
من شؤم منصبه مثالب

قال: وخلص مؤيد الملك من الاعتقال، وأقام مدة مديدة في حماية بعض الكبراء، تارة في نهاوند، وتارة في مشكان، مُظهِرًا انقطاعه إلى العبادة، ثم إنه قصد سرير الملك المحمدي في جنزة، ورأى أن إقبال محمد على إدبار بركيارق غالب، وأنه لا محالة لملك أخيه وارث أو سالب، وكان في نفس محمد طلب السلطنة، فقوَّاها مؤيد الملك، وحقَّق رجاءها فيها، فقبله الملك محمد واصطفاه واستأمنه لخلواته، واستشاره في عزماته، ثم سلم إليه وزارته، وشغف بقربه، وأسكنه صميم قلبه، وقلب مؤيد الملك موكل بالانتقام، ورأيه مُعمَلٌ في تسديد مرامي ذلك المرام، ولم يزل يقرب على السلطان محمد البعيد ويلين عنده الشديد، ويحبب إليه الجد ويبغض إليه اللعب، حتى حرك إليه ساكن إرادته، وسار من أران به في شرذمة قليلة، وبلغ به في مدة يسيرة إلى دار الملك أصفهان، فتبوَّأ بها سرير سروره، واجتاب حبير حبوره، واستمال إليه العساكر، واستقاد إلى بهجته ونهجته الأسماع والنواظر، وألجأ بركيارق من الأوساط إلى الأطراف، ومني بالاغتراب والاعتساف، وقبض على الخاتون زبيدة وحُبست في قلعة الري، ثم سعى مؤيد الملك في خنقها، فخُنِقَتْ، وأحاطت به أوزار قتلها وأحدقت، وأما مجد الملك فإنهم أفسدوا عليه قلوب العساكر وأضروها بمضرته، وأغروها بطلب غرته، فبضعوا بين الجمهور بسيوفهم أعضاءه، ووزعوا أشلاءه، وذلك في سنة ٤٩٢ وله إحدى وخمسون سنة، وكان رجلًا مواظبًا على الخيرات والصيام والقيام، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، مُديمًا للصلات والصدقات، لم يسعَ قط في دم، ولم يخطُ إلى مضرة أحد بقدم.

ذكر خروج السلطان أبي شجاع محمد بن ملكشاه قسيم أمير المؤمنين من جنزة وأرَّن إلى الري وأصفهان

قال: كان هذا السلطان مؤيدًا موفَّقًا، محققًا للرجاء فيه مصدقًا، ميمون النقيبة، محافظًا على تقواه مع الشبيبة، يحب الاقتداء بآثار جده ألب أرسلان في سياسة المملكة وعلو الهمة، وكان وقورًا مهيبًا، أريبًا لبيبًا، فلما جلس على سرير ملك أبيه وجده ووجد قواعد الدولة بإيالة أخيه مختلة، وعقودها منحلة، ضمَّ النشر، ونظر المنتشر، وأحكم القواعد، وأبرم المعاقد، وأعاد مؤيد الملك إلى منصب أبيه في الوزارة، وملأ بسناه أفق السيادة، فلابس هذا الصدر الأمور بصدر واسع، ورأي رائع، وتدبير لشمل السداد جامع، فاستقلَّتِ الدولة باجتهاده عن كبوتها، وزالت نوبة نبوتها، وبقي سنين وقد انتقم من خصومه بأخذ الثار، وشفاء غلل الأوتار، وحاز مال مجد الملك، وسعى في قتل زبيدة خاتون، فلا جرم عاد مرتهنًا بجرمه، وعثرت قدمه في ظلمة ظلمه، وأسره عسكر بركيارق في مصاف جرى بين الأخوين على حد همذان، وأحضره بركيارق بين يديه وأوثقه كتافًا، وعصب للقتل عينيه وهو قد رفع صوته بكلمة الشهادة، ولم يظهر منه جزع، ولا خور ولا فزع، فضرب بركيارق بيده عنقه، وكان قصد والدة السلطان والسعي في دمها أوبقه، فأعدم مثل ذلك الشخص العديم النظير، وأعتق ذلك الوزر في حز عنق ذلك الوزير، وهيهات أن يلد الزمان مثله في دهائه، وزكائه ورأيه وحيائه، ولطفه وظرفه، ولينه وعطفه.

قال: وآلت وزارة بركيارق إلى الأستاذ عبد الجليل الدهستاني، ولم يكن له أثر محمود، ولا يوم في الكفاية مشهود، بل تفاقم شره إلى أن أخرج أملاك الناس في الإقطاع، وكان في الظلم مستطيل اليد طويل الباع، ولم تطُل أيامه، فإنه بقر بطنه باطني على باب أصفهان. قال: وبقيت حقوق مؤيد الملك عند السلطان محمد محفوظة، وبعين الرعاية ملحوظة، فاعتقد أن نصير الملك ولده النجيب، وأنه إذا ولَّاه قضى حق أبيه، فولَّاه وزارة بنيه، وكان يأنف الكلب من لؤمه، واليوم من شؤمه، ومعايبه لا تُعد، ومخازيه لا تُحد، وعنَّ له أن يشتغل بعلم الأوائل، فبلغ حد التعطيل، ووقف عند محار الدليل، وقد صنف أبو طاهر الخاتوني فيه كتابًا سمَّاه تنزير الوزير، الزير الخنزير، وبطل بعد مؤيد الملك ذلك الترتيب، وظهر على وجوه الأيام التقطيب، واستمرَّتْ سنين بين محمد وبركيارق مصافات، وتمت مخافات وآفات.

قال أنوشروان: وكنتُ قد فُجعتُ بمصرع مؤيد الملك، وأثَّر في قلبي مؤلم ملمه، وأزعجني عن المقام مقيم همه، حتى حصلت بالبصرة فأقمتُ بها مدة ثلاث سنين، وصادفتُ إخوانًا صادقين، من جملتهم الشيخ الإمام أبو محمد القاسم بن علي الحريري صاحب المقامات، يوافقني في الجد والهزل طائعًا، فينظر من عيني ويسمع من سمعي، وفي هذه المدة التي أقمتُ فيها بالبصرة درج بركيارق، وكانت وفاته بالسل والبواسير ببر وجرد في ربيع الآخر سنة ٤٩٨، وبلغ من العمر خمسًا وعشرين سنة، ووقع عليه اسم السلطنة وله اثنتا عشرة سنة، وقاسى من الحروب واختلاف الأمور ما لم يُقاسه أحد، فتفرَّد بالسلطنة أخوه محمد، ودان له المشرقان، وتصرَّف بيده زمام الزمان.

قال أنوشروان: فجاءني يومًا توقيع سلطاني على يد أمير من بعض الخواص، فاستدعاني واستدناني، فوصلت إلى بغداد والسلطان محمد بها في وزارة سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد الآبي، وكان وزيرًا سعيدًا حسن الطريقة ذا هدوٍّ وهداية، ورأي وكفاية، فجمع العساكر على الطاعة السلطانية، وأطفأ نائرة الفتنة الشيطانية، وكان الأمير الأسفهسلار أياز مقدم العسكر البركيارقي، فلما تُوفِّي بركيارق صار آتابك ولده ملكشاه، فقام مقام والده، وردَّ ملكه به إلى قواعده، فاهتم سعد الملك باستمالته، وحلف له على سلامته، فلما مكن من نفسه قتلوه، وأخذوا ملكشاه بن بركيارق فسملوه، وذلك في سنة ٤٩٩، فزال الشغب وسكنت الدهماء، وكانت للوزير سعد الملك في هذه الحيل اليد البيضاء. قال: وسرت في الخدمة لما ساروا إلى أصفهان، وما دام هذا الوزير في ولاية السلطان، ظهرت له آثار حميدة، وآراء سديدة، وكانت علامته الحمد لله على نعمه، وكانت له في الباطنية نكايات، ورُفعت له في فتح قلعة شاهدز رايات، وكانت قلعة منيعة على جبل أصفهان تُناصي السماك، وتُناظر الأفلاك، وقد تحصَّن بها أحمد بن عبد الملك بن عطاش، طاغية الباطنية في طائفته، وبليَتْ أصفهان وضياعها ببليته، فسما لها سعد الملك بالرأي الصائب، والعزم الثاقب، وتلطَّف في افتتاحها، ودبر في استنزال من فيها على إيثار الملة الإسلامية واقتراحها، فأنزلوه من معقل إلى عقال، وبدلوه آجالًا من آمال، وألصقوا خد تلك القلعة بالترب، ووضع الهناء فيها مواضع النقب، وكذلك افتتح قلعة خان لنجان، وهي أيضًا بقرب أصفهان، وكانت قد خربَتْ تلك الولاية بما لأهلها فيها من النكاية. وكان بأصفهان رئيس يُقال له عبد الله الخطيبي، وهو حاكمها والمستولي على رئاستها، وهو رجل جاهل، من أنواع العلوم خالٍ محتال، يُبدي تنمُّسًا بإظهار زهد وورع محال على محال، ولم يكن له سوى ضخامة جثة، وفخامة لحية كثة، وكان لقاؤه الأمي مقبولًا، وكلامه السمي معسولًا، وكان من هذا الوزير خائفًا، وبمعرفة الوزير بباطن شره عارفًا، وطلب من السلطان خلوة غرَّ السلطان فيها بتنميسه، وروَّج لديه سوق تلبيسه، وتمَّ نفاق نفاقه، وبرز هلال محاله من محاقه، وجرى من مناصيبه على سعد الملك أنه حقق في اعتقاد السلطان أنه صديقه الصادق، ورفيقه الموافق، إلا أن فيه عيبًا واحدًا، وهو أنه إلى الباطنية مائل، وبمذهبهم قائل، وأنه مجتهد في إزالة هذا الاعتقاد من قلبه، والمبالغة في نصحه، إشفاقًا على ما أجد من حبه، فإنه يعز عليَّ فساد مثله، مع فضله ونبله، واعتقد السلطان صدق قول الخطيبي وحسبه خاليًا من الغرض، حاليًا للنصح المفترض، ثم أغفل مدة وعاد إليه وآيسه من قبوله، وأسف على ما فاته إليه من سوله، وصار يشفع إلى السلطان في تأجيل أمره لأجل ما عنده من مودته، وألا يعجل في عقوبته، وقد وضع من خواص السلطان صبيانًا على الوقوع في الوزير، وأنه باطني الضمير، ولم يزل به حتى أوقعه في الحبس، ولمَّا قيَّد رتب جماعة من الأوغاد شنعوا على الوزير في دار السلطان في مجمع من الأمراء والقاضي حاضر، وقال كلٌّ منهم هو ملحد وكافر، وما زالوا بالسلطان حتى صلب الوزير مع عدة من أكابر ديوانه، ببهت عدوه وبهتانه، وذكر أنه لمَّا اطَّلع الوزير على مكيدة خصمه، دبَّرَ في مكيدة عليه، فعاد على الوزير وبالُها، وآل إلى إهلاكه مآلُها؛ وذلك أنه كان عارفًا بمكاتبات كانت بين الخطيبي ورئيس الباطنية أحمد بن عبد الملك بن عطَّاش في مبادي أمره، وكان مُطَّلِعًا على سره، فأراد أن يستدعي بعض تلك المكاتبات بخط الخطيبي ويقول للسلطان هذا الرجل رماني بما هو مذهبه وشانُه، وخطه هذا حُجَّة قولي وبرهانُه. وأرسل في ثقاته في هذا المهم من كتب على يده بخطه توقيعًا بالجواز، ولم يوصِهِ بالاحتراز، فظفر بالرسول من كان مرتبًا لحفظ طريق القلعة، ومنع الميرة عنها والطعمة، فوجدوا خط الوزير معه بالجواز، فأخذوا الخط، وكان من أعظم أسباب ذلك الخطب، وذلك أن السلطان حفظ خطه إلى أن قبضه، ثم عرضه عليه، فصرَّح له أن كتابه للتلف عرضه، فلما أوتي كتابه، لم يعدَّ جوابه، وما نبس بكلمة، ولا فاهَ ببنت شفة، ولو قال لما سمع، ولو اعتذر لدفع عذره ومنع، وكان من أمره ما كان، ولقي الرحمن، ولقد كان رجلًا خيِّرًا نقي الأديم، كريم الخيم، جامعًا لآلات الوزارة وأسبابها، لائقًا بقلم السيادة ودواتها.

قال: وكان المستوفي في وزارته للسلطان زين الملك أبو سعد بن هندو، ولم يكن له أصلٌ ثابت، ولا فرعٌ نابت، ولمَّا تولى خرج واستخرج، وأمر وأمرج، وأخذ الأموال جزافًا، وأسرف فيها إسرافًا، ولما انقضى أمر سعد الملك رُفعت عليه رفائع، وأُخذ وحُبس واستصفِيَتْ أمواله، ونُهِبَتْ دُوره، وتخبَّطَتْ أموره، وبقي في الحبس سنين، ولقي العذاب المهين، وكان صاحب ديوان الإنشاء في وزارة سعد الملك نصير الملك محمد بن مؤيد الملك، وكان مع جهله وعدم فضله للديوان به أُبَّهة وجلالة، وحلية وحالة، فزلَّتْ به قدمه، ولم يأخذ أحد بيده، وبقي مشنوءًا مهجُوًّا مهجورًا بكمده، وكان وكيلدر السلطان في وزارة سعد الملك أميري القزويني المعروف بالزكي ذو كيسة من جملة التجار، وكان قد هرب من أبي مسلم رئيس الري، والْتجأ إلى سعد الملك، فرأى الوزير أن يكون بينه وبين السلطان من يتردد في المهمات، ويأتيه بجواب المؤامرات والرسالات، والذي يتولى هذا الشغل يُقال له في العجم وكيلدر، أي وكيل الباب، ومنزلته أخص من منزلة الحجاب، ويجب أن يكون منطيقًا بليغًا، متجرِّعًا في مضايق الكلام الغصص مسيغًا، مستقِلًّا بإقامة الحجة عند الحاجة، متجنِّبًا للسماجة بقول يُنسب إلى السماحة، عارفًا بأخلاق السلطان في أوقات رضاه وسخطه، وقبضه وبسطه؛ فإذا وجده منقبضًا تلطَّف في تنشيطه مما ينفق عليه من الحديث الرائق، والقول النافق، حتى إذا رأى منه سيماء القبول حدَّثه بمقصوده، وإلا جرى في الإمساك على معهوده، فإن السلطان لا يثبت خلقه على حالة، ولا بد له من ضجر وملالة، وكان هذا القزويني خاليًا من هذه المعاني كلها، لكنه التمس إلى سعد الملك هذه الولاية فأجابه إلى ملتمسه، ووافقه على هوسه لسلامة نفسه، وذهب عنه أنه سوقي قفز من الدكان إلى باركاه السلطان، فزاحم أركان الدولة بالمكانة والمكان، وكان إذا خاطب السلطان وشافهه حدث له عجب، فانخرع وانخلع، وخرج عما فيه شرع، وجمع بين الأروى والنعام، والضباح والبغام، ثم لا يتكلم إلا بكل ما يضر، ويسوء ولا يسر، واستضر سعد الملك من جانب ذلك العاجز بغير قصد منه في حقه، وأي ضرر أقوى وأمكن من كونه قتل في حبل خنقه، وكان عارض الجيش في وزرته أيضًا أبو المفاخر القمي، وكان قد غلب عليه في اصطلاح الخاصة والعامة نعت طرطنبيل، وما عرفوه بغير هذا الاسم الثقيل، وصرف في وزارته وولي عمله عز الملك بن الكافي الأصفهاني، وبقي فيه أشهُرًا، فلما أخذ سعد الملك اقترنت نكبته بنكبته، واتفقت صلبته مع صلبته، واستدعى مختص الملك أبو النصر القاشي في وزارة سعد الملك، وصرف به من ديوان الإنشاء محمد بن مؤيد الملك، فقُبل هذا وذاك طُرد، وأُقيم ذلك وهذا أُقعِد.

قال: وخلا الميدان للخطيبي، فصار محكًّا للإسلام، وهو عند السلطان مقبول الكلام، وأصحاب السلطان عنه خاشون، وإلى بابه غاشون، وكان إذا سأله السلطان عن واحد كيف تعرفه، أجاب مرة بلا أدري، ومرة بلا أعرفه، وتارة أمهِلني فإني أبحث عنه وأكشفه، وتارة يشهد عليه بما يُهدر دمه.

قال: وحدثني ابن المطلب — وكان وزير الإمام المستظهر — قال ما زال هذا الخطيبي ببغداد يتوصل حتى أبصر قهرمانة لدار الخلافة، فقال لها اليوم أجرى معي السلطان حديث هارون أخي الإمام المستظهر وسألني عنه، فدخلت القهرمانة إلى الدار، وأوصلت إلى سمع أخيه ما حدَّثها به الخطيبي، فقامت قيامة الخليفة، وتمكَّن الاستشعار من نفسه الشريفة، فكتب إلى الوزير يأمره بالركوب إلى الخطيبي، ويحمله على الإضراب عن ذكر أخيه، ويحمل إليه ستة آلاف دينار أميرية يدفع بها شره ويكفيه.

قال: فاستأذنته في الركوب إليه في الليل، فإنه أخفى للويل، فما صبر ولا وجد القرار حتى ركبتُ إليه وأرضيته بما حملته، واستعفيته عن حديث هارون واستنزلته.

قال: وكذلك لم يترك من خواص السلطان أحدًا إلا لوَّثه، وشوَّش عليه رأيه وخبَّثه، ولم يغادر أحدًا من الخاصة والعامة إلا طرق إليه ظِنَّة، أو قلده بسكوته عنه مِنَّة، وقال له السلطان يومًا: كيف كان أصحاب دواوين والدي وجدي في أديانهم، وأنهم كانوا لا قدح في إيمانهم، فكيف اختصَّ هذا اللوث بزماني وبأصحاب ديواني؟ فقال: أولئك كانوا من أصحاب خراسان، وهم أهل الدين والإحسان، وهؤلاء أهل العراق، أهل الإلحاد والنفاق، فتخيَّل السلطان صحة مقاله، واستحكم تقريب الخراسانيين وإبعاد العراقيين في خياله، واعتقد أنه ليس في العراق مسلم، وأن أفق الملك بغير الشرفيين مظلم، وكان بالعراق جماعة من أهل خراسان محرومون مهجورون من كل جاهل مجهول، وساقط ذي خمول، ومنزوٍ إلى ناحية، ومتنحٍّ إلى زاوية، ومتنمِّس بالرياء، ومتهوِّس بالكيمياء، وبطَّال مُرجف، وعمَّال محترف؛ فلما عرفوا ميل السلطان إليهم رفعوا رءوسهم وعرَّضوا نفوسهم، وخطبوا المراتب، وطلبوا المناصب، وغفلوا — بل غفل السلطان — عن هذه النكتة؛ أن خراسان عُشُّ مذهب الباطنية، وبها أفرخ وباض، ومنها شاع وفاض، وفيها حصونه التي لم تُفتح، وعيونه التي لم تُمتح، وانقضى عصر سعد الملك سريعًا، وصار بالمكر الصريح صريعًا، وعاد الملك المريع منه مروعًا.

وزارة الأمير ضياء الملك أبي نصر أحمد بن نظام الملك

قال: لمَّا نُكِبَ سعد الملك طمح إلى الوزارة عمرو وزيد، ووصل يوم نكبته الأمير ضياء الملك، وخطير الملك أبو منصور محمد بن الحسين الميْبُذي، وكان قد استُدعي من فارس، فاختلفت عليهما الآراء، فرأى السلطان حفظ الجانبين، وأمر بتولية الصاحبين، وجعل دست الوزارة للنظامي، ومنصب الاستيفاء للميبذي، وألَّف بتأليفهما قلوب خواصه، وخصَّ كلًّا منهما باستخلاصه، وأعطى سياسة ملكه حقها، وجلا بسناء إحسانه أُفقها. قالت الحكماء: «منازل السياسة أربع؛ فالأولى سياسة الرجل نفسه، والثانية سياسة أهله وولده ومن يضمه منزله، والثالثة سياسة بلد واحد يتقلَّده، والرابعة سياسة الملك كله. فمتى عجز عن منزلة من هذه المنازل فهو عن التي تليها أعجز.» لا جرم ابتُلي هذا الوزير بشفعة نسبه، وهو غير خبير بسلوك مذهبه، ولم يكن من شغله ولا من إربه، وكانت علامته أحمد الله على نعمه، فقضى حقه بشغل عجزت اللقاة الدهاة عن القيام به، ووقع اسم الاستيفاء على الخطير كما يدعي بالجهل، اسم النبوة أبو جهل، فلم يكن للمنصب المأهول دسته بأهل، وخواجه مختص الملك صاحب ديوان الرسائل، معدم من الفضائل، وهو عند أولئك أكتب الكُتَّاب، ويعجز عن كتب خمسة أسطر بالفارسية فضلًا عن العربية.

قال أنوشروان: وأنا ولَّاني السلطان الخزانة، فإنه استدعاني إلى خلوته، وخصَّني بكرامته، وسلَّم إليَّ خزائن ممالكه، وكان هؤلاء الأكابر إنما يصلون إلى السلطان في الباركاه إذا جلس لعامته، وأنا أختصُّ بخلواته وأستسعِد بمحادثته، فعظمَتْ وجاهتي بمواجهته، وحسدني أكابر الدولة على منزلتي، وانتظروا زلتي ومزلتي، واتفق في ذلك الوقت أن الأمير السيد أبا هاشم الحسني — رحمه الله — رئيس همذان، قد تغيَّر عليه رأي السلطان؛ وذلك لأن قومًا من أرباب الدولة تناصروا عليه، وأدَّبوا عقارب مكايدهم إليه، وأطمعوا المتوج بن أبي سعد الهمذاني في إيالة همذان ورئاستها، وكان المتوج هذا من جهة الرئيس منكوبًا، وبيده مضروبًا، فأوقعوه في معارضته، وعرَّضوه لواقعته، وأغلقوا على الأمير السيد وعلى أولاده باب داره، وسدُّوا عليه طريق فراره، وقرَّروا عليه سبعمائة ألف دينار أحمر، سوى ما يلزمه من توابع ولوازم هي أكثر من أن تُحصر.

قال أنوشروان: فأمرني السلطان بالمسير إلى همذان لاستيداء هذا المال، وعاد السيد أبو هاشم، وهو شيخ كبير قد ضعف بصره، واختلَّ نظره، فعظم عنده ما قرره عليه واستكثره، فمحضت له النُّصح، وضمنت له النُّجح، وعاقدته على مساعدته، وعاهدته على معاضدته، ووعدته بالسعي في إصلاح حاله، وإنجاح مآله، ونقَدَ سبعمائة ألف دينار عتيق في سبعة أيام من موجود خزانته، ولم يستعِن بأحدٍ من أهل مدينته، وحثَّنا على المسير، ولم يأذن لنا في المقام اليسير، فحين أوصلت المال إلى خزانة أصفهان، ولقيتُ السلطان، شافهتُهُ بحقيقة أمره، وعرَّفته اختلاف أصحاب الأغراض بالباطل في حقه، فأمر السلطان بإعادته إلى رئاسته، ومنصب سيادته، وسيَّر إليه الخلع السنية والتشريفات اللائقة بشرفه، وأحيا متلد مجده بمطرفه.

قال: ولمَّا حصل ذلك المبلغ في الخزانة سلَّمها إليَّ، وعوَّل في دخلها وخرجها عليَّ، فتوليت الخزانة والزكي ذو كيسة فيها، وكذخدائية الخزانة به منوطة، وأمورها بأمانته مربوطة، ولمَّا سار السلطان إلى بغداد فتك بالزكي هذا في سوقها، فقُتل في الحال قاتلُه، ولم يعرف من أي وجه غالته غوائلُه. قال: وقد سبق القول بأنه لم يخلص من طعن الخطيبي سوى مختص الملك الكاشي، فلم يثبت على تلك الحالة؛ فإنه شرع عند السلطان يقدح في دينه، ويجري من الشر في ميادينه، ثم إنه قد نقش في لوح خاطر السلطان أن الباطني لا يعرفه غير الباطني، فاجتهد حتى دلَّ على رجل من الباطنية من الخوف مُختفٍ، وفي بعض الزوايا مُكتفٍ، فأحضره وآمنه، وقوَّى نفسه بما أمكنه، وقال له: «لا بأس عليك، ولا سبيل للأذى إليك.» ولقَّنه أسامي مائة نفس من خُدَّام السلطان، وأعيان البلدان، وقال له: «إذا سُئلت عمَّن تعرفه من الباطنية فاذكر هؤلاء، وعدهم على الولاء.» فردَّه إلى موضعه وقال: «لا تخف؛ فإنك إن أُخِذتَ أنجيتُك، وإن أُخذ منك أعطيتُك.» فلما عاد الرجل إلى مكمنه حضر الخطيبي عند السلطان وقال: «قد دُلِلْتُ على رجل باطني في موضع كذا، وأرجو أن يقع؛ فلعله يفتح علينا بشيءٍ من أمر الباطنية.» فأمر الحاجب بإنفاذ من يأخذه، فأُخِذ وأُحضِر، وسُئل عمن يعرفه من الباطنية في البلاد والعسكر، فأعاد ما تلقَّنه من الخطيبي، وأجرى ذكر مختص الملك أبي نصر، والصفي القُمِّي أبي الفضل نائب الخطير في ديوان الاستيفاء، وكذلك عد قريبًا من مائة من المعروفين، فأُخذوا وسُلِّموا إلى الأتراك، وتصرَّفوا منهم في الدور والأملاك، وتشتَّتَ أهلهم وتفرَّق شملهم، وفي أثناء هذه المكايد والحِيَل نزل الخطب بالخطيبي، وضُرب بغتة بسكين سكَّنَتْ حركته، وأسكَنَتْ نامته، وأشمتت به خاصة الزمان وعامته، وبقي المكذوب عليهم في السجن شهورًا، وانتقم الله ممن جاء في أمرهم بُهتانًا وزورًا، ثم تبيَّن للسلطان بعد قتل الخطيبي أنه كان محاليًا مستحِلًّا، مستبِدًّا بالاحتيال والاغتيال مستقِلًّا، وعرف أن ذلك الباطني ذَكر من ذَكره بتلقينه، فندم السلطان ولات حين مندم، وأمر بالإفراج عن أولئك المساكين، ولم يسع السلطان بعد ذلك حديثًا في اعتقاد، ولم يصدق نسبة مسلم إلى إلحاد، وإذا جرى عنده حديث الباطنية قال: «إنهم في القِلاع وهي موضعها، ونحن نقصدها ونقلعها.» وشغف بحصار حصونهم، وفتح قِلاعًا لو بقيَتْ إلى الآن في أيديهم لعمَّ العالم الكُفر.

قال: وكان شمس الملك بن نظام الملك أخو الوزير حاضرًا، وكنت متولِّيًا لعرض الجيش، فنقل هذا المنصب مني إليه بعد أن أخذ منه ألفي دينارٍ خدمةً أوصلها إلى الخزانة، وبقي في قلب السلطان من مختص الملك شيء من الارتياب به لم يزل، ومن يسمع يَخَل، ولم يكن ظهرت بعد احتيالات القاضي، فأزال السلطان اختصاص المختص، وتعمَّد قوادم شغله بالحص، وكان الأمير العميد محمد الجوزقاني عميد بغداد، فاستدعاه ونقل إليه منصب المذكور، واعتمد عليه في تلك الأمور، وهو منصب الطغراء، وليس أكبر منه بعد الوزارة إلا منصب الاستيفاء، ثم الطغراء، ومن جملته ديوان الرسائل والإنشاء، ثم الإشراف، ثم عرض الجيش، والطغرائي هو وزير السلطان في الصيد لغيبة الوزير وعليه المعول، فصار الأمير العميد طغرائيًّا، وكان من كسوة الفضائل عريًّا، وتولى أيضًا وزارة كوهر خاتون بنت الأمير إسماعيل بن ياقوتي زوجة السلطان، وكانت وزارتها أيضًا منوطة بكفاية المختص، فصُرف من الشغلين، وتسلَّم الأمير العميد المنصبين. وهذا محمد الجوزقاني كان ولد خطيب جوزقان، خراساني المولد والأصل، وإنما كانت الرغبة فيه لخراسانيته، لا لإنسانيته، وتعرَّف إلى السلطان بالمذهب الحنفي ومشاغبته فيه، وإدلاله بالتعصُّب بين ذويه، إذا سلم عليه واحد لم يسمح له برد السلام، حتى يقول له: ما مذهبك من أهل الإسلام؟ وكان قبيح الجبة، شديد النجة، صفيق الوجه، كأبي براقش في تلوُّنه، وكالعقعق في تقلُّبه، وكالذئب في توثُّبه، وهو خارج عن الحد في تعصُّبه.

قال: وكان قد خلص زين الملك أبو سعد بن هندو من الحبس، ونزل في المعسكر بغير شغل، ثم داخل صدور الديوان، واستولى على المكانة والمكان، وكان خاليًا من أدنى فهم، جاهلًا بكل علم، ومن جملة ذلك أنه سلم إليه كتاب قرار ليكتب خطه بما جرى من قرار الديوان، فكتب كذا الاستقر بالألف واللام، وكتب فلان بن فلان:

تعِس الزمان لقد أتى بعُجابِ
ومحا صنوف العلم والآدابِ
وأتى بكُتَّابٍ لو انطلقتْ يدي
فيهم رددتُهم إلى الكُتَّابِ

وكان الوزير ضياء الملك رجلًا سهل المحجَّة، صادق اللهجة، إذا جلس في صدر وزارته، وأحدق الصدور بوسادة سيادته، أنار دسته، وحسن سمته، وكان كلٌّ منهم إذا اجتمعوا سلقوه بألسنة حِداد، وكدَّروا ورده فيما هو قانون الوزارة من الاستقلال والاستبداد. قال: ولما لم يكن مباشرته للوزارة صائبة، وكانت الآمال في نُجحه خائبة، لم تلقَ مدة ولايته تمكينًا، وبقي بعد صرفه اثنتي عشرة سنة مسجونًا، ولقي أضعاف كرامته هوانًا، ولم يُصادف من زمانه وإخوانه إلا خوانًا.

قال: وتُوفِّي الأمير السيد أبو هاشم الحسني رئيس همذان، فنقل من خزانته إلى خزانة السلطان بعدما أداه مبلغ مائتين وخمسين ألف دينار، وما أثر ذلك في حال بيته، وقام حيه بتأثيل مجد ميته، وزاد تقريب السلطان لولده، وقوى يده على رئاسة بلده، وظهرت مخايل عصيان ملك العرب صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وذلك في سنة ٥٠٠، فتغيَّر رأي السلطان فيه حتى جرَّ إليه عسكره، وكدر إليه مورده ومصدره، وجرت بينهما وقعة غلبه السلطان فيها وقتله، واستضاف مملكته إلى مملكته، واستخلص ما كان في يده من ولايته، وحيز إقليمه بقلم الحيازة الديوانية، وتصرف فيه كتاب الدولة السلطانية، ومزقوا بالتبذير تلك الأموال الجزيلة، وخربوا بسوء التدبير تلك الأعمال الجليلة.

قال: وقد كثر تعجُّبي من السلطان يتأنق في تخيُّر كلاب الصيد وفهوده، وإنما يقتني منها ما يراه موافقًا لمقصوده، فيسأل عن فرعه وأصوله، وانقطاعه ووصوله، فما باله لا يتخيَّر لديوانه، ومراتب سلطانه، من الكُفاة الأفاضل، والصدور الأماثل، من عرفه ذاك، وعرفه زاك، وعرقه كريم، ومجده قديم، وطريقه في الكفاية مستقيم، لقد كان هؤلاء أولى بالاختيار، وأجدر بالاختبار؛ فإنهم أُمناؤه على مملكته، ووُكلاؤه على دولته، وسُفراؤه في خدمته.

وزارة خطير الملك أبي منصور محمد بن الحسين الميبذي

قال الصادق — عليه السلام: كل شيء يحتاج إلى العقل إلا الدولة. قال: وقد عرف أنه معدم من كل آلة وأداة، غير لائق برعاية يراعة أو ألاقة دواة، حِمارٌ رامحٌ، جانحٌ جامحٌ، عَضوضٌ رفوس، حرونٌ شموس، معدن الغش والدغل، منبع المكر والحيل، وكان قد وُزِّرَ مرة أولى، وعرفوا أن يده في القصور طولى، لكنه توسل في هذه المرة لعوده إلى الوزارة بجنس توصل ابن جهير في الوصلة إلى نظام الملك بابنته، وهذا لم يكن له وصلة شرعية، ولكن تمَّ الأمر بمثل وسيلته، وإلى ذلك أشار ابن الهبارية في وزارة ابن جهير:

قُل للوزير ولا تفزعك هيبته
وإن تعاظم واستعلى بمنصبه
لولا ابنة الشيخ ما استوزرتَ ثانيةً
فاشكر حِرًا صرتَ مولانا الوزير به

وكان رجلًا جسيمًا ملء التابوت، وعقله أوهن من بيت العنكبوت، فإذا استند إلى مسنده في الديوان، اعتقد أنهما مسندان محشُوَّان:

وزيرٌ غاص في شحمٍ ولحم
ولم يُنسب إلى عقلٍ وفهم
إذا لبس البياض فعِدْلُ قطن
وإن لبس السواد فتلُّ فحم

وكانت علامته الحمد لله المنعم، وكانت له في الجهل نوادر شوارد، وبوادر بوارد، ومن جملة ذلك أنه كان يومًا ببغداد راكبًا في زيٍّ حسن، وموكب خشن، وجمع جم، وبُهم ودُهم، وجلال الدين عميد الدولة أبو علي بن صدقة الذي وزَّر للمسترشد مسايره، والجند قد عقدت بروايته ورويَّته أسماعه ونواظره، فالتفت الخطير الوزير وقال: «قد أُشكِلَتْ عليَّ مسألة لا بد من حل إشكالها، وانشاطَ قلبي من عُقالها، هذه اللواطة سُنَّة قديمة سبق إليها القدماء، أو رسم مُستحدث أحدثه السفهاء.» قال له بعضهم: «هذا رسم قديم لقوم لوط.» فقال الخطير: «ومن كان لوط؟» فقالوا: «نبي من أنبياء الله.» فقال: «متى كان؟ قبل نبينا أم بعده؟» قالوا له: «كان نبينا خاتم النبيين، وسيد المرسلين، ولا نبي بعده.» قال: «فما الذي قال فيه؟» قالوا له: «قد أنزل الله في قوم لوط: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.» قال: «ما معنى تجهلون؟» وكان عجميًّا لا يعرف كلمة عربية، فقالوا له: «أي: لا تعلمون.» فقال: «هذا حسبُ؛ فالأمر إذًا سهلٌ وعُذر فاعله أنه ذو جهل، وأنا أعتقد أنه أعظم وِزرًا وأفظع أمرًا.» فانظر إلى جهالته في ضلالته، ونزارته في وزارته، وكان مهذارًا مِكثارًا، لا يستر شوارًا، ولا يحذر عثارًا، وما كفاه ذلك حتى استناب ابن الكافي الأصفهاني الناقص المُلَقَّب بالكامل، الطويل بغير طائل، واللئيم الذي كان له عند الكرام طوائل، طنَّازٌ غمَّاز، همَّاز لمَّاز، وكان من نوائب الدهر، كونه نائب الصدر، يمن بأن أخته تحت الوزير، وهو بذلك بالغ القدرة والقدر، وهو من الذين قال ابن الهبارية فيهم من أبيات في ذم أصفهان:

بلد أبو الفتح اللئيم عميده
والقاسم بن الفضل قيل رئيسه
وطريفه الكافي الطويل وشيخه
مع أنه دنس المحل خسيسه
وابن الخطيبي الصغير محله
قاضٍ وجرو المندوي جليسه

فاتفق جميعهم على الوقيعة في زين الملك أبي سعد بن هندو، حتى بلغوا في مكروهه ما ودُّوا، فباحوا بسر سرائره، وحملوا السلطان على أخذه بجرائره، وإنما تمشَّى لهم السعي فيه بما كثروا عند السلطان من ثروته، وقالوا إننا ننقل مائتي ألف دينار إلى الخزانة من خزانته، فأمر السلطان بأخذه وتسليمه إلى التونتاش، وأوقعه في مخلب ذلك البطاش، فحمله من أصفهان إلى مدينة ساوه، وصلبه يوم الجمعة في شارعها، فلما قُتل تصرَّفوا في ماله، وتديَّنوا باستحلاله، وأنسوا السلطان المائتي ألف دينار، وتحكَّم ابن الكافي في ذلك المال، واستوعبه الكامل على الكمال، وأُعيد في وزارة الخطير ديوان الاستيفاء إلى معين الدين مختص الملك، فتولى بعد العزل، وتمكَّن من الشغل، وعبث بهم أبو طاهر الخاتوني في أبيات فارسية، قال الإمام عماد الدين: وعرَّبتُ بعضها وقلت:

صدور ما بهم للملـ
ـك إيراد وإصدار
خِفاف لو نفختهمُ
وهم في دستهم طاروا
رأيتهم كما كانوا
وأعرفهم كما صاروا

وكان الأستاذ الموفق أبو طاهر الخاتوني من صدور الدولة، وأعيان المملكة، وأفاضل العصر، وأماثل الدهر، ذا فصاحة وحصافة، ولطافة وظرافة في النظم والنثر، جامعًا لأدوات خدمة الملوك، خبيرًا في مناهج المناحج بالسلوك، قد قلب الأمور ظهرًا لبطن، وجرَّب الحالين من قوةٍ ووهن، ولم يزل مذ نشأ وإلى آخر عمره صدرًا كبيرًا، ومُشارًا إلى صوبه وبالصواب مشيرًا، وما زال الخاتون مستوفيًا، وديوان السلطان بكفايته مكتفيًا، فلما تولَّى هؤلاء عرفوا نقصانهم عند فضله، وانخفاض محلهم في البراعة عند ارتفاع محله، وعلموا أنه لا يغضي عن عيبهم عَينَه، وأنه لا يقضي إلا من عروض عرضهم إن قارضوه أو عارضوه دَينَه، فتخيلوا من تزبيقه وانتقاده، وتحيَّلوا بكل طريق بعد تقريبه في إبعاده، فتمحَّلوا له من جرجان شُغُلًا، وعدُّوه له أهلًا، وجُرَّ إلى جرجان، جَرَّ جان، ونُقل من أعز مكانة إلى أذل مكان. قال الإمام عماد الدين — رحمه الله: وشكا في أبيات عجمية إعجام حظه واتهامه، وإقلال قلمه وإعدامه، فعرَّبتُها وقُلتُ:

لَمرتبة الكلب في عصرنا
على رتبة نحن فيها شرف
وما عاد ذو قلم مفلحًا
فإن الفلاح لطبل ودف

قال: وكان مختص الملك قد شمر جفنه للشعر فيه، فعاد كأنه شكل مثلث في عين رأسه، فقال فيه الموفق الخاتوني بيتًا بالفارسية مشتملًا على معنًى بديع، وهو أنه ينظر من مثلث عينه إلى الناس نظر تربيع، فقلت:

لصدر الصدر ضيق في اتساع
ويطمع في كمال من قصور
على التثليث ناظره ولكن
من التربيع ينظر في الأمور

قال: وما زال الوزير يصغي فيه إلى السعاة، ويسيم في مرعى سمعه سرح الوُشاة، ونسبوا إليه التقصير والتخليط، والإفراط والتفريط، وأحال الوزير عليه بمائة ألف دينار، وانتهز في أمره الفرصة، وأخذ في استدعائه من جرجان الرخصة، فاستحضره وتشدَّد في إرهاقه، واستصفى ماله فعاد ذلك بإملاقه.

قال الفتح بن علي البنداري الأصفهاني منتخب الكتاب: رأيتُ بخط جدي — رحمه الله — أن موفق الدولة قال في تلك الحالة أبياتًا مطبوعة بالعربية، ومن جملتها قوله:

نهبوا ما ملكتُ في بغدادي
واستباحوا ذخائري وعتادي
فأنا اليوم غير ذقني وسني
مثلما كنتُ ساعة الميلادِ
وهما الآن رهن قلعٍ ونتفٍ
تحت هذا الإبراق والإرعادِ

قال: فأحوجته الحوالات عليه إلى الاستقراض، وانضاف اشتغال ذمته إلى الإنفاض، وكان للأستاذ الموفق معرفة بالكمال السميرمي، وبينهما صداقة صادقة، ومودَّة صالحة من كأس الصفاء غابقة، وسيأتي ذكر الكمال عند انتهاء ديوان الإشراف إليه في الأيام المحمدية، وعند استقلاله بالوزارة في الأيام المحمودية، ولقد كان من أوسع الصدور صدرًا، وأرفعهم قدرًا، وأحسنهم تدبيرًا، وأجملهم تأثيرًا، وكان يُلقَّب بعز الدين، وهو في منصب مشهور، ومذهب في السماح مشكور، فلما أملق الموفق كتب إليه أبياتًا ذكَّره فيها بحقوق خدمته، وعقوق حظوته، وشكا فيها حاله، وهجا الوزير وأشكاله. قال عماد الدين: ولم يأتِ لي تعريبها، ولم يأنس بخاطري غريبها، فأضربتُ عن ضربها، لمَّا عصاني ضريبها، وله في شكوى حاله، ما عرَّبت معناه نسجًا على منواله، وقلت:

وكم بيذق في خدمة الشاه ساعة
تفرز لما صار في سابع الدست
ولي أخدم السلطان سبعين حجة
وها أنا حيٌّ للإضافة كالميت

قال: وملأ هذا الوزير الخطير مخازن مخازيه، والكامل بن الكافي موازنه وموازيه، ولم يكن عنده من الله خبر، ولا في قلبه من الدين أثر، وكلما طال عليه الدهر تطاول على نبيه حتى تأسست بالشر مبانيه، وحلَّت له مكاسب لا يرضى المجانين بها مجانيه، والسلطان لهم كاره، وضميره له بما هم فيه مُشافه.

ذكر جلوس شرف الدين أنوشروان بن خالد في نيابة الوزارة

قال أنوشروان: فراسلني السلطان بخادم من خواصه، وشكا من الوزير اعتياد اعتياصه. وقال: «هذا الوزير قد أيِسْتُ من فلاحه، ولا مطمع لي في إصلاحه، وفي كل وقت يحكم في بيتي من أولاد الكافي غير كافٍ، وإذا رمتُ وفِيًّا جاء فيه منهم بجافٍ، وقد عرفتُ يا أنوشروان طريقتك، وعلمتُ حقك وحقيقتك، وأنا أوثر أن تنوب من قبلي في الوزارة، وتعمر ما بيني وبينك في السفارة، حق العمارة.» فقبلت الأرض، وأديت في تولي خدمته وشكر نعمته الفرض، وقدمتُ عذرًا لائقًا بالحال، فلما أنكره سارعتُ إلى الامتثال، وكان السلطان كريمًا حليمًا، لا يُعجِّل مؤاخذة من يخونه وإن كان بحاله عليمًا، فحفظ قلب الوزير في نيابة ابن الكافي لمَّا عزله، وكان في نفسه مؤاخذته بالمال الذي اختزله، مراعاة لقلب الوزير، ومحافظة على خطر الخطير.

قال: وجلستُ في النيابة عنه، على الكره منه، وكان احترامه للوزير لا تبجيلًا، بل تدفيعًا للوقت به وتأجيلًا، فأجلسني في الديوان مُكرَّمًا، وعلى الصدور مُقَدَّمًا، لكن الوزير اعتقد أنِّي للسلطان عليه عَين، فهو يستثقلني كأني ممن له قِبلَه ثأر أو دَين، وكانت صحبته لي على مضض، وصحة ملقاه لي عن مرض، وصدور الديوان عن يمينه ويساره، مؤثرون لإيثاره، يُبدون لي بشرى، ويُضمرون لي شرًّا، واتفقت كلمتهم مع افتراق طبائعهم على مضادَّتي، واعتقدوا حصول محابِّهم في محادَّتي، فما اشتريتُ بشعيرتين سبالهم، ولا شغلت بالي بما شغلوا به بالهم، ولمَّا عجزوا عن إيقاعي في مصايد المكايد، شرعوا في تعويق الرسوم والفوائد، وتوقَّفوا في توجيه واجباتي من الديوان، وتوافقوا على قطع ما أطلق لي من صلات السلطان، فكنتُ أتسلَّى بقول القائل:

إن لله غير مرعاك مرعى
نرتعيه وغير مائك ماءَ
إن لله بالبرية لطفًا
سبق الأمهات والآباءَ

قال: ولم أخلُ من قصد الجماعة في نوبتي الوزارتين الضيائية والخطيرية، وما زالت تأتي منهم قوارض الأذية، وكان بين الوزير الخطير وبين المعين المختص مناوشة ومناواة، ومواحشة ومنافاة، وما كان يقدر أحدهما مع المبالغة في قصد صاحبه أن يبلغ فيه غرضه، وكأنما يخفي مرضه ومضضه، حتى مال الوزير إلى كمال الملك السُّميرمي، فصار بينهما موازرة في أمر المعين، ومشورة في تكدير ذلك المعين، حتى بلغ فيه ما تمنَّاه، والخصيُّ يفتخر بزبِّ مولاه (وسيأتي شرح ذلك في موضعه). وتُوفِّي الأمير العميد الطغرائي في وزارة الخطير، وخمد شرر شره المستطير، وجلس مكانه في ديوان الطغراء، وصدر الإنشاء، الأستاذ أبو إسماعيل الكاتب الأصفهاني، وكان ذا فضل غزير، وأدب كثير، وكان في حياة الأمير العميد منشئًا على سبيل النيابة عن الطغراء، ثم تولاه بالأصالة متصدِّرًا في دست العلاء، وكان مع ذلك بطيَّ القلم كليله، ملتاث الخط عليله، وهتف به أبو طاهر الخاتوني في نظمه، وسلَّط سفه الهجاء على حلمه، وأشار إلى القلم في يده وقال كأنه وهو يجره برجله، مذنب يعاقبه بجرمه، وكانت بديهته أبيَّة، ورويَّته روية محبية، فإذا أنشأ تروَّى بطيًّا، وتفكَّر ملِيًّا، وغاص في بحر خاطره ثم أتى بالمعاني البديعة، والاستعارات الغريبة، وسنذكر أحواله فيما بعد، وحال الوزير الخطير لمَّا خانه السعد.

ذكر تولي كمال الملك علي السميرمي أشراف مملكة السلطان محمد بن ملكشاه وابتداء أمره

قال: كان كمال الملك علي بن أحمد من مدينة بقرب أصفهان يُقال لها سميرم، أهلها ذوو فطرة زكية، وفطنة ذكية، وكانت هذه المدينة في معيشة كهر خاتون زوجة السلطان، وأبو كمال الملك زارع غلاتها، وقابض ارتفاعاتها، ووزيرها حينئذٍ الأمير العميد والكمال لسبب شغل والده وإنجاح مقاصده، متردِّد إليه متودِّد، ومتصدٍّ لأموره مسدد، فاستجلاه واستجلده، واستكفاه وأحمده، واستنابه في خاصِّه حين استبان نصحه، واستوضح في ليالي نوائبه بالنجح صبحه، فوفَّر ماله، وثمَّر حاله، وجعل له في العيون هيبة، وفي الصدور رهبة؛ فبقي الأمير العميد لا يعتمد في أموره إلا عليه، ولا يسكن إلا إليه، فلما اتفق مسير الأمير العميد إلى بغداد في تولي العمارة، لم يكن له بد من إقامة نائب في وزارة كهر خاتون يلازم الدركاه، ويقيم له بخدمته عنه الاسم والجاه، فرأى أن الكمال أوفق وأوثق، وأشفى لصدره في التصدُّر وأشفق، فاستنابه على أنه لا يستعين فيما ينوبه إلا بالعزيز، وكان العزيز أبو نصر أحمد بن حامد — رحمه الله — عمي أول ما شبَّ، ومضى في البلاغة شباه، وعُقِدَ بحب العُلى حُبَاه، وصرَّف اليراعة بنانه، وعرَّف البراعة بيانه، وهو في الديوان الخاتوني نائب عن الأصل يحكم، وشابٌّ عند مشايخ صدور يجهلون ما يعلم، فلما تولى الكمال نيابة وزارة كهر خاتون انضمَّ إليه العزيز، فضمَّ نشره، وحسَّن أثره، وأرشده ودبَّره.

وكان الديوان الخاتوني في الوزارة العميدية خاملًا خامدًا، ما له غير رواتب موظفة، ووظائف مرتبة، ومعايش مرسومة، وعوائد معلومة، ليس لنوابه في غيرها أمرٌ ولا نهي، ولا لوُرَّاده من سواها شِربٌ ولا ري، وخاتون راضية بالهدوِّ متغاضية عن النموِّ، فعرَّفها الكمال ما في الخمول من ذهاب رونق السلطنة، وعزل ولاية القدرة المتمكِّنة، وكانت هي ابنة الملك إسماعيل البغاني من أذربيجان، وكان كبير الشان، فقال لها: «قولي للسلطان: إن أجناد أذربيجان من صنائع والدي وأشياعه، وهم صاروا متبوعين، فقد كانوا أمس من أتباعه، وأريد أن تكتب منشورًا بأنهم في اهتمامي، وأن أمر معايشهم يُبرَم بإبرامي.» فأجاب السلطان سؤالها، وكتب لها مثالها، فسيرت الكتب السلطانية، وأُمر بخدمتها الأمراء الأذربيجانية، فتبادروا إلى بابها بتقبيل العتبة، وتأميل المرتبة، ووصلوا بالهدايا والتحف، والألطاف والطُّرف، وازدحمَتْ على بابها وفود الملوك، واتَّسق إلى قصدها سلك الفج المسلوك، فرأَتْ من الدولة شيئًا ما رأت، ورعت من الدولة روضًا ما رعت، فتبرَّكَتْ بموضع كمال الملك، وسمع الأمير العميد بأن نائبه قد جاءه الجاه، وقبلت يديه الشفاه، فقام وقعد، وأبرق وأرعد، وكتب بصرفه، والغض من طرفه، ومطالبته بفرعه، وعمل الحساب ورفعه، فلم تلتفِتِ الخاتون إلى قوله في كتابه، ولم تكترِث بخطابه، وكتبَتْ: «إن هذا النائب عندي مرْضي، وحقه مرْعي، فما لك أن تصرفه، بل عليك أن تُعرِّفه، وتعرف له حقه وتُنصفه، وهو إن حاققته فليس لك بنائب وإنما هو شريك، وإن أمرنا بالإنكار إن قُصد منك أو شيكَ وشيك، وأنت تعلم أيها العميد أن دور الحرم، مبرمة لها معاقد العصم، محكمة لها قواعد العظم، فما يجوز أن يتولاها في كل قريب غريب، وما يحسُن أن يتجدد في كل حين لها مُستناب ومستنيب، هذا عرفناه بك، فالأولى أن تُبقيه، وإلا بقي لجاهك أن توليه.»

فعرف الأمير العميد أن الأمر خرج عن يده، فجدَّد للكمال بشغله منشورًا، وطوى من شره فيه ما كان منشورًا، وكتب إلى خاتون: «أنِ الآن قد قوي أملي، حيث مكنتُ نائبي، وعرفتُ صحبة صاحبي، وإني ما أردتُ صرفه وإنما أردت تهذيبه، ورُمتُ تجريبه، وقد وفَّرت عليه ثلث الرسوم، وأشركته معي في أصل الفرع المعلوم.» فاستقلَّ الكمال واستمرَّ مريره، وثاب سروره وثبت سريره، وبقي كذلك متولِّيًا مُستولِيًا، ومتغلِّبًا مُستعلِيًا، إلى أن قضى الأمير العميد نحبه، فسوَّلته وزارتها بالأصالة، وخصَّته بالإيالة، ثم تعصَّبَتْ له عند السلطان حتى ولَّته إشراف المملكة، فدانت له الأمم، وأطاف به الحشم والخدم، وصار السلطان يكتب إليه خطه، ويُطلعه على حالتَي رضاه وسخطه، ثم شوَّش على أرباب المناصب قلب السلطان حتى تغيَّر رأيه في وزيره الخطير، وردَّ وِرده إلى التكدير، ونقله من بني جنسه إلى بناء سجنه، ومن مجلس عزه إلى محبس عزله، وسلمه إلى الأمير الحاجب عمر بن قراتكين ليخرجه ويستخرجه، وليروج ماله ويورجه. قال: ونظم أبو طاهر الخاتوني بيتين فارسيَّين عرَّبتهما وقُلت:

كان حمارًا وزيرنا ومضى
فما يملك السلطان من خلل
لكنما في صدور دولتنا
ليس لذاك الحمار من بدل

وكان شمس الملك عثمان من نظام الملك قد بقي في حبس الوزير سبع سنين، فأفرج عنه ليواقف الوزير على أوزاره، ويُقرِّب خُطى الخطير إلى أخطاره، فكان حبس ذلك لهذا فرجًا، ودخوله في المحبس له مخرجًا، وجمع السلطان أمراء دولته وأرباب ديوانه، وفاوضهم في وزير يفوِّض إليه وزارته.

قال أنوشروان: فأجمعوا على أن أكون المتكلم عنهم بالصواب، والمبلغ للخطاب، وكان رأيي مائلًا إلى مثل ما حكي عن المعتضد، أنه كان قد حُرِّض على عبيد الله بن سليمان، وسُعي عنده عليه، وكان يقول: «إذا فكرت فيما ينتقَض من التدبير، ويضيع من الأمور بين صرف وزير وتقليد وزير، وإن كان المتقلِّد أكفى أضربت عن نكبته.» فاتفقوا أن أكون الناظر في الأمور، ومتقلد مصالح الجمهور، ومنفذ الأوامر، وجامع شمل الأكابر والأصاغر، وأن المنشئ والمشرف يكفيان بخطي وتمثيلي، ويتأثلان في شغلهما بتأثيلي، حتى يُقضى كل مهم، ويُقصى كل مُلم، وبقيت الرعية مرعية، والسيرة رضية مرضية، والدهماء ساكنة، والغبراء آمنة، وطال حبس الوزير تلك المدة، ولقي الشدة، وكان خلَّف الزمان رجلين من أولاد الكافي من بقايا السيوف، وزوايا الحتوف، فحبسهما السلطان معه وأختهما التي كانت زوجة الوزير على مائة وخمسين ألف دينار، وسامهم في تلك المصادرة كل خسار وصغار، وباح السلطان بما كان يُضمره من أمر الوزير ولا يُظهره، وكشف الغطاء عمَّا كان يستره، وألزمه بتطليق زوجته ابنة الكافي، ورماه من مفارقتها بثالثة الأثافي.

قال: وكانت الدولة السلطانية قد شارفَتِ انقضابها وانقضاءها، وقارب خطو انتهاضها، لمَّا قاربَتِ انتهاءها، وبدأ بالسلطان مرض طويل أضناه وأنحله، وألهاه عن المملكة وأشغله، ووقع الفناء في أمراء دولته، وأكابر مملكته، وبقي السلطان من مرضه في ذوب، ومن عيشه في كدرٍ وشوب، فأراد أن يُوَلِّي وزيرًا يُوصي إليه بولي عهده، ويستكفي به مهام الدولة؛ حيث علم أنه لا يستقل بها من يقوم من بعده.

ذكر وزارة ربيب الدولة أبي منصور ابن الوزير أبي شجاع رحمه الله

قال عماد الدين — رحمه الله: ذكر والدي أن أرباب المناصب لمَّا عرفوا ميل السلطان إلى تولية وزير يكفي المهام، ويحفظ النظام، ويكفل الأمور العظام، خافوا من استنامته إلى بطل بطاش ومستجيش بثبات جاش، وأنهم يبلون إمَّا بذي حنق عليهم، وإما بذي فرق منهم فيدب كيده إليهم، فحسَّنوا للسلطان طلب وزير من تربية دار الخلافة، فإنه ليس بالحضرة من يصلُح لهذا المنصب، فاستدعى ربيب الدولة من بغداد إلى أصفهان، وسدَّ به المكان، فصار له اسم الوزارة بالوراثة، وكان لائقًا بتلك الدولة المريضة الملتاثة، وكانت علامته الحمد لله على النعم.

قال: قال أنوشروان: وكان قد بقي من أيام عمر السلطان مقدار أربعين خمسين يومًا، وقد استحصد زرعه، وانتسخ شرعه، فجاءوا بهذا الصنم ودسُّوه في الدست، وقصدوا بترتيبه شغل الوقت، واتفق موت الكفاة، وضمهم حبل الوفاة، وتناثروا تناثُر ورق الخريف، وتفرَّقوا تفرُّق سحاب المصيف، ولم يبقَ في تلك المدة اليسيرة من المعروفين كبير موصوف، ولا من الأمراء الأكابر معروف، فصار الاتِّباع أصولًا، والإقطاع نصولًا، والدراريُّ شموسًا، والأذناب رءوسًا، ولم يبقَ في الدولة من القدماء إلا مختص الملك المستوفي، والأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي، فأما المختص فإنهم عزلوه واعتقلوه، وقرروا عليه خمسين ألف دينار للخزانة، ثم أخذوا خطه بأنه لا يخطب ما عاش عملًا، ولا يستنجح ما طال أمد عمره أملًا، وخلَّوا سبيله، وما خلَّوا له إلى ثروة سبيلًا، وأخذوا ما كان له فلم يتركوا له كثيرًا ولا قليلًا، فأفلت بجُرَيعة الذقن، وعدَّ سلامته من المنح في تلك المحن، فتولى ديوان الاستيفاء كمال الملك السُّميري، وعلا منه الأمر، وحلا له المر، واستقلَّ واستقام، وسما وسام، ورمى ورام، والوزير هيِّنٌ ليِّن، وعجزه عن البطش بيِّن، وكمال الملك فارس ذلك الميدان، وحاكم ذلك الديوان.

وأما الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي، فإنهم لمَّا لم يروا في فضله مطعنًا، ولا على علمه من القدح مكمنًا، أشاعوا بينهم أنه ساحر، وأنه في السحر عن ساعد الحذق حاسر، وأن مرض السلطان ربما كان بسحره، وأنه إن لم يُصرَف عن تصرُّفه فلا أمن من أمره، فبطلوه وعطَّلوه، واعتزلوه وعزلوه، وعاد الخطير الذي كان وزيرًا يمد الطغراء خطه، ولم يضره عن درجة الوزارة حطه، وكان قد خلا دركاه السلطان من الأمراء والكبراء، فإنه كان شغلهم بحصار قلعة أَلَمُوت مع الأمير الكبير أنوشتكين شركير، ولقد كان شهمًا شديدًا، وسهمًا سديدًا، وسُمًّا ذُعافًا على العدو، وموتًا زؤامًا على أهل الإلحاد والعُتُو، ولولا موت السلطان لتسلَّط على أَلَمُوت، ولم يترك فرصة فتحها أن تفوت، وهو في ذلك لها حاصر، والله له ناصر، فصيَّر السلطان عليُّ بن عمر حاجبه الكبير، وأسمى مكانه الأثير، وكان أمير البار يعني أمير الإذن، وأمير البار هو الآذن عن السلطان إذا اجتمع الأكابر، والأمير الحاجب الكبير هو الذي يسمع مُشافهة السلطان ويؤديها إلى الوزير، فهو الناهي الآمر.

قال: ولمَّا مضى شهر اشتدَّ مرض السلطان، وبلغ الرجاء فيه الياس، ووجد بالعدم الإحساس، وأصبح يعد الأنفاس، وأمر بالحجاب، وحُجب عن الأمراء، وأيقن أن القدر لا يرعى له زمام ما بقي من الدماء، ولم يكن يدخل إليه إلا الأمير الحاجب علي بن عمر بن سرمة، فهو الذي يسمع كلامه، وينفذ بالتبليغ أحكامه، وسمَّى حديثه وصية، وجعل نفسه وَصِيًّا، وعدَّ مصدقه مطيعًا والمستريب برأيه الرائب عصيًّا، ولمَّا قرُبَ الأجل، وحلَّ الوجل، ذكر الأمير الحاجب أن السلطان أمر بإخراج مائتي ألف دينار من الخزانة لإرضاء الخصوم وإشكائهم، والاستحلال من فقراء الرعايا وأغنيائهم، فتسلَّم ذلك المال وقبضه، وتصرَّف فيه على ما وافق غرضه، وكان وزير الأمير الحاجب الكبير حينئذٍ أبو القاسم الدركزيني، ويُلقَّب بزين الدين، فمن ذلك المال تموَّل، واستكثر العبيد والخُوَّل، وكان ذلك مبدأ غناه، وريعان نُجح مُناه، وأمر العسكر بمبايعة ولي العهد ومتابعته، وطاعته ومشايعته، وأنه لا بد من جلوته على السرير وإجلاسه، ووقوف الأمراء على رأسه. وقيل للسلطان: مرضك سحريٌّ، ومضضك خفيٌّ، وإنما سحرتك زوجتك فأعضل دواءك، وحملوا السلطان على أن كحلها وسملها، وحبسها في بيتٍ ضيِّق واعتقلها، وأتلف عدة من حواشيها، وعصابة من جواريها، ثم أخرجوا خاتم السلطان وقالوا إنه أمر بخنقها، ودخل إليها من شد الوتر في حلقها، ومن عجيب القدر ومقدور العجب، أن الزوجين تُوفِّيا في ساعة واحدة على العطب، فالخاتون في بيتها خُنِقَتْ، والسلطان على فراشه نفسه زهقَتْ، وذلك في أواخر سنة ٥١١، وقد كانت أيامه أيامن للأيامى، ومراحم لليتامى، ورسومه جائزة غير جائرة، وأحكامه راضية غير ضائرة، وحصاه رصينًا، وحجاه رزينًا، ودينه متينًا، وشرع علمه في العمل بالشرع مبينًا، وكان رجل السلقجية الكامل، وفحلهم البازل، وله الآثار الحميدة والآراء السديدة، ولمَّا حسُنَتْ سيرته، وكمُلَتْ دولته، وأصحت سماؤه، وطاب هواؤه، وصفا ماؤه، وآلت آلاؤه، أن يغني الفقير، ويَجبر الكسير، ويفك قلاع الأسير، ويكف العسير، وينصر الإسلام، ويكشف الإظلام، ويقلع الملحدين، ويُعلي أعلام الموحدين، قبض القضاء يده، وقصر أمله وأمده، وغيض بحره، وغيب بدره.

بين الصفائح والثرى ريحانة
قد كان لي من قربها مستمتع
وإذا تذكرت الذي فعل البلى
بجمال وجهك جاء ما لا يدفع

قال: وتُوفِّي أمير المؤمنين المستظهر بالله — رضي الله عنه — بعد وفاة السلطان محمد — رحمه الله — بمدة يسيرة، وتحوَّلَتِ الدولتان، وتفصَّلَتِ الجملتان، وخلف السلطان محمد خمسة بنين؛ وهم: محمود، ومسعود، وطغرل، وسليمان، وسلجق، وكلٌّ منهم تولى السلطنة سوى سلجق، وسيأتي ذكرهم فيما بعد — إن شاء الله تعالى.

ذكر جلوس السلطان مغيث الدنيا والدين أبي القاسم محمود بن محمد بن ملكشاه يمين أمير المؤمنين

قال: فجلس على التخت مكان والده، واستقرَّ من الملك في أعلى وسائده، وأحكم قواعده، وحضر الناس على طبقاتهم للهناء، وجلوه في دست السنا والسناء، وقبَّلوا الأرض، وأدَّوا من إقامة الرسم الفرض، ووقف العظماء والكبراء سماطين على ترتيب أقدارهم وقدر مراتبهم، وتناسقوا على درجاتهم، في مراقي مراتبهم.

قال أنوشروان: وتقدم الوزير الربيب، وصعد إلى السرير للتهنئة وتقبيل اليد، ونزل وتقدم الخطير بحكم أنه كان وزيرًا يفعل مثل ما فعل، وكان على كل حال للشيخوخة والتقدمة يستحق أن يقدم ويبجل، فزاحمه الكمال السميرمي وأخره وتقدَّمه، ولم يعرف سابقته وخدمته للدولة وقدمه، فأقام الخطير رسم التهنئة بعده، ولزم كلٌّ منهم في ذلك المقام حده، وأنا أيضًا أقمتُ رسم التهنئة، ووفَّيتُ حق التوفية، وكان السلطان حينئذٍ في سن الحلم، متوقِّد الذكاء كالنار فوق العلم، مُشرِقًا وجهه مع صغر سنه بسناء العظم.

وفي ابتداء هذه الدولة انتقلَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين المسترشد بالله بن المستظهر بالله — رضي الله عنهما — وبويع له وجدد تقليد السلطان على الشرائط المشروعة، والرسوم الموضوعة، واجتمع أرباب الدولة السلطانية، واصطلحوا على التحالُف وتحالفوا على الصلاح، وأجالوا بينهم في مظاهرة البعض للبعض ضرب القداح، وكان أبو القاسم الأنساباذي الدركزيني وزير الأمير الحاجب علي بار، فصار يُلَقِّن مخدومه ويفهده، ويدله على طرق الضلال ويريه أنه يرشده، ويقول إن الوزير والمستوفي ينبغي أن يكونا بحكمك، وهذا السلطان صغير ينبغي أن يكون تحت حجرك، ولا يأمر إلا بأمرك، فأدخل في رأسه ما لم يُخرجه منه في آخر الأمر إلا السيف، فأول ما دبَّر أنه ذكر للسلطان أن صلاح دولته في إفساد عمه، وأنه يغلب على دولته برغمه، وكان عمه سنجر السلطان الأعظم عماد آل سلجق، وسلطنته ببلاد خُراسان إلى العراق إلى ما وراء النهر إلى غزنة وخوارزم والترك قد عمَّت ونمت، ودولته قد علَتْ وسمَتْ، وهو شيخ البيت وعظيمه، وحافظ عزه ومُديمه، فأحضروا الشهاب أسعد كاتب الإنشاء، وأمروه أن يكتب إلى خان سمرقند، وقالوا له إنا نقصد السلطان سنجر، وهو لا شك يتوجه إلينا إذا توجَّهنا للقائه، والرأي أن تأتيَ أنت من ورائه، فيقع الخصم في الوسط ويحصل التورُّط، وكان هذا الرأي الفائل، أول ما أدب الأدبار وأهب دبوره، ومحا من الإقبال حبره وأذهب حبوره. ومن جملة تدبيراتهم المدبرة أيضًا أن الأمير ملك العرب دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي كان مُقيمًا في خدمة السلطان منذ عشر سنين، وقد سلا عن بلده، وقنع بما في يده، ورضي من السلطان بالرضى، وانقضى طمعه في ملك أبيه الذي انقضى، وبلاد الحلة والولايات في تصرُّف نواب السلطان، والأمير المجاهد بهروز الخادم الخصي نائب السلطان ببغداد، والرعايا آمنة، والأذايا مأمونة، والنعم راهنة والذمم بشكرها مرهونة، فبدلوا تلك القواعد، وحللوا تلك المعاقد، وارتشَوا من الأمير دبيس وأعادوه إلى العراق، فقامت الحرب على ساق، وكتبوا ملطفة بالقبض على بهروز، ومحاسبته واستخراج سر غناء المرموز، وكل هذا عاد بالفساد وفسد العوائد، وأفاد التمحيق ومحق الفوائد، والمفسدة الثالثة أن بلاد فارس كانت على أحسن نظام وأوفق مرام، وطاعتها شائعة، وشيعتها طائعة، والبذول فيها حاصلة، والحمول منها متواصلة، واتفق في ذلك الوقت أن عاملها كان حاضرًا بأصفهان، فأشار الدركزيني على مخدومه بالقبض على العامل، ومطالبته بالحاصل، فأخذه وعذَّبه، وما صدَّقه أن المال بعدُ مُعَدٌّ بفارس بل كذَّبه، فلما نمى الخبر إلى أمير فارس طمع في المال، وكان مبلغًا وافرًا، وضنَّ برده واستوحش، وجاهر بالعصيان وأفحش، وكان للسلطان جشران بتلك البلاد فاستاقها، وأذخار فاعتاقها، فاختلَّ نظام الولايات الفارسية بتلك الآراب السيئة والآراء المسيئة.

والمفسدة الرابعة أن جماعة كانوا مقيمين في الخدمة من أمراء مازندران وأمراء الشبانكارية، وهم جيل من جنس الأكراد في جانب بلاد فارس، بلادهم ممتنعة، وقلاعهم مرتفعة، وكان السلطان الماضي قد ألَّف قلوبهم بإحسانه، وقادهم باليد إلى سلطانه؛ لأنه كانت الطرق منهم مخوفة، والفرقة منهم مألوفة، فأساء الدركزيني وصاحبه ومن وازرهما إليهم، فاشتطُّوا عليهم، فنفروا وعادوا إلى حصونهم، فأظهروا من الشر ما كان كمن، وحرَّكوا من الفتنة ما كان سكن.

والمفسدة الخامسة أنه لم يُخَلِّف أحد من السلجقية ما خلَّفه السلطان محمد من العين والأثاث، فتصرَّفوا فيه وتقاسموا به وفرَّغوا الخزانة من العين، في أقرب من شهرين، فلما ذهب الذهب فضُّوا ختم الفضة وفضُّوها، واستخرجوا وجوه المعاملات الرابحة واستنضُّوها، ثم تصرفوا في المصوغات من الحلي والأواني والآلات، ثم في الجواهر ثم في الثياب، ثم في الخيل المسومة العراب، ثم في الجِمال، ولم يُبقوا شيئًا حتى تفرَّقوا بأغنام النتاج، وتقاسموا بالكباش منها والنعاج، فصيَّروا الملك الآهل قفرًا، وأضعفوا بعد الغنى فقاره فقرًا.

والمفسدة السادسة أنهم قالوا إن هؤلاء مماليك السلطان لا يطيبوا بطاعتنا نفسًا، ولا يجدون بمتابعتنا أنسًا، فاحتالوا في شت شملهم، وراموا كل سهم منهم إلى هدف، وكل شهم منهم إلى طرف.

والمفسدة السابعة، وهي المفسدة الكبرى، أن العساكر التي كانت مشغولة بحصار أَلَمُوت وقد شارفت فتحها، وشاهدت نجحها، شرع الدركزيني في تفريقها لميله إلى الملاحدة، ووعده لهم بالمساعدة، وأخذ رخصة في قبض الأمير الكبير أنوشتكين شيركير، وهو أمير ذلك العسكر، فرحلوا عن الحصار بغير ترتيب، وتبعهم أهل أَلَمُوت فقتلوا خلقًا، وذهب الباقون غربًا وشرقًا، ونقلوا إلى القلعة من العدد الكثيرة، والأزواد والميرة، ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار، ووصل الأمير الكبير كُندُغدي إلى الباب، وكان عظيمًا من أولي الألباب، فولَّوه آتابكية الملك طغرل أخي السلطان، ثم حذروا السلطان منه، فخاف كندغدي على نفسه وعلى ملكه فأدلج به ساريًا، وذهب متواريًا، فلم يحوِهما بعد ذلك دار، وصار من ذلك للقلب اشتغال، ولنار الفتنة اشتعال.

والمفسدة الثامنة أن الأمير قراجة الساقي سلموا إليه الملك سلجق أخا السلطان، وولَّوه بلاد فارس، فلما سمع الأمير قيصر بقدومه — وكانوا قد ولَّوه فارس من قبل — هرب، وحصل عند السلطان سنجر بخراسان وهو موتور، ونفث شكاويه التي هو بها مصدور.

والمفسدة التاسعة أنه كان للسلطان مماليك صغار، كأنهم أقمار، وكان عليهم من الخصيان الخواص رُقباء، وعلى طوائفهم من جنسهم نُقباء، فأخذ كل واحد منهم عدة، واقتسموا بالغلمان الروق، وأقاموا ألف سوق للفسوق.

والمفسدة العاشرة أنهم أخرجوا الجواريَ المطربات، والإماء المغنيات، من دور الحرم إلى دورهم، وآثروا حضورهن مجالس حضورهم، وركبوا في الفسق كل مركب، وذهبوا في الخزي كل مذهب، وتسلَّطوا على السلطان واجترءوا عليه بما اجترحوه، وتمشى لهم بصبوته كل ما اقترحوه.

قال أنوشروان: ذُكر لي أنه لما تُوفِّي السلطان محمد دخل الأمير علي بار إلى خزانته، فأخذ صناديق الجواهر النفيسة، واليواقيت الثمينة، فأودعها عند وزيره الدركزيني، فلما قُتل — على ما سنذكره — حصل بها ولم يسأل أحد عنها.

قال عماد الدين: وأذكر طرفًا من هذا الأنساباذي؛ وأنسباذ ضيعة من إقليم الأعلم، قريبة من دركزين، فنسب نفسه إلى دركزين لأنها أكبر قُرى تلك الولاية، ومعظم أهلها أهل الإباحة والغواية، وأكثرهم من المزدكية الخرمية، وشرهم شائع في البرية، وكان أبوه فلَّاحًا منهم، فجاء به إلى أصفهان وعلَّمه الخط، والجرأة والخبط، وما زال مخالطًا للمتصرِّفين غُمرًا ذا غِمر، ووترًا في الشر أخا وتر، ما أحسن إليه أحد إلا قتله، وما آوى إلى جبل إلا زلزله، وأول من استخدمه بين يديه كمال الملك السميرمي، وعمي العزيز، فلقي منهما الأمَرَّين، وقابل بالإساءة منهما الحسنين.

قال: وجرى وزير الوقت على تلك القاعدة في الإفساد، ولم يرَ مخالفتهم على المراد، وكان من خرقه وخرق أصحابه أنهم جعلوا خطاب الأمير علي بار بوصي السلطان، وسيَّروه أخص ألقابه، فإنه ألزمهم بذلك، وقال يجب أن أُلقَّب به، وعزلوا الخطير من شغل الطغراء، وناطوا به وزارة الملك سلجق المندوب إلى فارس مع الأمير قراجة الساقي، ومقصودهم أن يُبعدوه عن الدركاه، فلا يقع منهم له التلاقي، وفي كل ما عملوه لم يستطلعوا رأي السلطان ولا استأذنوه، وحقَّروه واستضعفوه، وتواتَرَت أخبار هذه الفضائح، وتواصلت أثناء هذه القبائح، فانتحى السلطان سنجر لبيته الذي شرعوا في هدمه، وتحركت على ابن الأخ الشفيق الشقيق شفقة عمه.

ذكر وصول السلطان الأعظم شاهنشاه المعظم مُعِزُّ الدنيا والدين أبي الحرث سنجر بن ملكشاه، يمين أمير المؤمنين، من خراسان إلى حدود العراق، وظفره وعفوه وعوده

قال: فانتهى إلى هذا السلطان العادل، الكامل الشامل، المحبوب الشمائل، أن أمر ابن أخيه محمود غير محمود، وأن ملكه إن لم يتلافَ مؤدٍّ إلى التلاف مئود، فصوَّب رايته صوب الري، ونشر لواءه ليعيد اللَّأواء إلى الطي، وكان كالشمس أضاءَتْ من مشرقها، وأنارت من أفقها، فلما أطلَّ عسكره على العراق، وسد عثيره جوانب الآفاق، برز السلطان محمود سرادقه، وعرض فيالقه، ولم يغِب أحد في تلك النوبة من العساكر، وتلاطمَتْ أمواج بحارها الزواخر، وكان مقدمي عسكر السلطان الأميران الأصفهسلاران علي بار ومنكوبرس، وبينهما تبايُن، وتضاد وتضاغُن، فلا جرم لاختلاف رأيهما، واختلاط أهوائهما، لم يستقم تدبير، ولم يتدبَّر تقويم، ولم يتضح في المصلحة تأخير ولا تقديم، ودرج الوزير الربيب في تلك الأيام، وسكن في حمى الحمام، وتولى الوزارة كمال الملك أبو الحسن علي بن أحمد السميرمي، وذلك في سنة ٥١٢، وذلك قبل المصاف بين السلطانين بثلاثة أيام، وجرى أمره على نظام، في غير وقت انتظام، وكان العسكران مشغولين بالتعبية، فلما التقى الجمعان، واختلط النقعان، انهزم عسكر محمود وكُسر جيشه، وانكسر جأشه، ولمَّا ضلَّ عن النار فراشه، ظلَّ كأنما على النار فراشه، وقُتل في المعركة جماعة مُبَرَّءون، وسَلِمَ المجرمون. فلما أصبح السلطان سنجر سأل عن ولد أخيه، ولم يحمد ما كان من تأخره عن حضرته وتراخيه، فأرسل إليه رسولًا لقبض زعره، وبسط عذره، وأنه يؤثر حفظه في قلبه، والأنس بقربه، وتنفيس كربه، وأنه يتدارك ما فرَّط بالتلافي، وأنه يتم التقصِّي عن عهدة تلك الهنَّات بالتصافي، فاستَخِر الله ولا تستأخر، واستأثِر لقاء من على لقائك لم يستأثِر.

وكان أحاط أولئك المذمومون بالسلطان محمود لا يهدونه إلى الصواب، ولا يُصَوِّبونه إلى الهُدى، ويصدون عنه ري الري ولا يروُون منه الصَّدى. وكان قد سبق أبو القاسم الدركزيني صاحب الأمير علي بار الأعظمي، فحضر لإصلاح أمر صاحبه، وأحضر قدرًا من المال الذي اختزله من الخزانة السلطانية، فنثره وبذره، وقدَّم الرُّشَى حتى أمن ما حذره، وأراد أن يكون هو المتوسط في الصلح والصلاح، والمتحدث في الإنجاز والإنجاح، وكان السلطان يؤْثر ألا يطول مقامه، فتثقُل وطأته وتكثر مضرَّته، ولم يرَ أن يترك البيت متداعيَ البنيان غير معمود، ويريد الانصراف راشدًا وقد طالت عليه غيبة محمود، وما صدَّق بحضور الدركزيني على بابه، وظنَّ أنه قد حصل من النجح على لبابه، فأمر بإحضاره، فلما بصر به قال: «أين علي بار؟ فإنه لأمر ولدي ضمينٌ.» فتلا: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قال: «فأين ولدي؟» قال: «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ، وإنه يسعه عطفُك وعُرفُك.» فندبه إلى أصفهان لإحضارهم، وأجرى الأمور على إيثارهم، فبلغ الوزير كمال الملك السميرمي أنس الدركزيني بالحضرة السنجرية، وأنه واصل بالجُرأة، فسبق بالرأي ورأى السبق، وأن يكون هو الذي يتولى بالرَّتْق والفَتْق، فقال للسلطان: «هذا عمك في مقام والدك وله عليك حقوق، وعصيانه عقوق، ومن حُسن الأدب استعطافه، واستجداد رضاه واستئنافه، وأنا أمضي إليه لإمضاء الآليَّة، وإرضائه بالكلية.» وخاف أنه إن وصل الدركزيني يصير الأمير علي بار للأمر متولِّيًا، ويبقى هو عن الشغل متخلِّيًا، وأنه يصير تابعًا، وماؤه غائضًا، وماء جاه الدركزيني نابعًا؛ فتوجَّه إلى الري من جي، وقطع الطريق بالنشر والطَّي، ولقي الدركزيني في طريقه، وأخبره بتوثُّقه من السلطان سنجر وتوثيقه، فلم يعرج على تصديقه، وقال له: «إني قد قضيت الشغل فلا تتعب، وعرفتهم زهدنا فلا ترغب، فاجتهد بكل طريقٍ في إعادته عن طريقه.» فما التفت ولا اكترث، وأغذَّ السير وما لبث، فمضى الخبر إلى السلطان سنجر بأن الوزير كمال الملك قد قدم، وأن ابن أخيك أرسله إليك للعذر لما ندم، فسُرَّ بذلك وأمر الأمراء باستقباله، واحتفل في حفله لتوفير إقباله، وأبصر الوزير من تعظيم خطره ما لم يخطر بباله؛ فحبط عمل وزير علي بار وبار، وانهدم كل ما كان بناه وانهار، وأخذ يد السلطان على شد أواخيه لابن أخيه، وأعلمه بإرادة الوفاق وتوخِّيه، واستوثق منه في كل ما استوقفه، واستدرك بالروية في الرأي كل ما فاته واستلحقه، وأقام الوزير وسيَّر إلى سلطانه من عنده رسولًا يستدعيه ويستحِثُّه، ويُعلمه أن عمه لانتظاره طال مقامُه ولبثُه، فأقبل محمود إلى وزيره حامدًا، وإلى عمه وافدًا، فأكرم وفادته، وأنجح إرادته، ولم يجد علي بار بُدًّا من الاتباع، وحضر ضَيِّق الذرع قصير الباع، وخرَّ لتقبيل الترب، واعترف بالذنب، فأبدى له السلطان الرحيم صفحة الصفح، ومنحه العفو وأعفاه عن المنح، ثم اجتمع كمال الملك وعلي بار ووزيره، على ما يتم به تقرير أمر السلطان محمود وتدبيره، وأنه يجب أن يترك رسم السلطنة احترامًا لعمه، وأن يكون مدة مقامه عنده بحكمه، وذلك أنه إذا استقبل بجنيب السلطان يركبه ليحسن أدبه، وأنه ينتقل من نوبتيته الحمراء، نوبتية بيضاء في سوداء، وأنه يأمر بإبطال ضرب طبله، ما دام في ظله، وأنه إذا دخل على عمه قبَّل الأرض، وأنه يقوم عنده على قدمه، وأنه يمشي في رِكاب عمه راجلًا من الباركاه إلى السرادق، وأنه لا ينفرد عن عمه بسرادق، بل ينزل في جوار خيمه، وفي موضع أولاده وحرمه، وأن يبقى عشرين يومًا على هذه القاعدة؛ ليستعطف عمه في عود مراضيه المتباعدة.

قال: وكان من حلم سنجر أنه يُغْضي عمَّن يغضب، ويُجدي على من يجدب؛ فصفح عن كبائر ذنوبهم، بعدما تصفح سرائر قلوبهم، وأفاض عليهم الخُلَع، واصطفى كلًّا واصطنع، وكتب منشورًا للوزير كمال الملك بتقريره على الوزارة، ومنشورًا لعلي بار بتمكينه في الإمارة، ومنشورًا لأبي القاسم الدركزيني بمنصب الطغراء والإنشاء، ثم إنهم طلبوا من السلطان سنجر خلوة حسَّنوا له فيها من سفك الدماء كلَّ قبيح، وأعلُّوا عنده كلَّ صحيح، وكان من جملة من ضُربت رقابهم الأمير منكوبرس وقراتكين القصاب، ثم قفل السلطان سنجر بعساكره إلى خُراسان، وقرَّر عليهم أن يبسطوا العدل والإحسان، وعاد الوزير الكمال، وله الأُبَّهة والجلال، والدركزيني في ديوان الطغراء، وشمس الملك بن نظام الملك في ديوان الاستيفاء.

قال: وكان عمِّي العزيز في ذلك الوقت ينوب في الوزارة والاستيفاء، والوزير كمال الملك لا يرجع إلا إلى كماله، ولا يُعوِّل إلا على اشتغاله، بل السلطان لا يأنس إلا به، ولا يُصغي إلا لخطابه. قال: ولا شك أن أنوشروان صعب عليه انحطاط حظوظه إلى الحضيض، وانحراف مزاج شغله للحظ المريض، وعرَّض للوزير كمال الملك بأبيات غير واقعة في موقعها، وتمثل بتمثيلات باردة ليست في موضعها، وكأنه ما سمع للقاضي أبي بكر الأرجاني فيه قبل أن يليَ الوزارة وهو مشرف المملكة قصيدتَه التي يقول فيها:

دع عنك يُمنى ويُسرى غير مُجدية
واقصد أمامك واطلب منتهى السبل
واعلم إذا قلت رِدْ بالعيس بحر ندى
أني على غير عز الدين لم أحل
البحر أسماؤه شتَّى وأشهرها
على اصطلاح بني الآمال كف علي

قال عماد الدين — رحمه الله: سمعتُ من والدي — رضي الله عنه — أنه لم يكن في وزراء الدولة السلجقية أكمل من كمال الملك حزامة، وصرامةً وشهامة، وكُتبه بالفارسية تدل منه على فضلٍ غزير، وعلمٍ كثير، ومن معانيها تعرف قواعد الوزراء وقوانينها، وهي رياض ناضرة للناظرين أزهارها، فاغمة للمستنشقين بالريَّا رياحينها. قال: قال أنوشروان: فأول ما شرع فيه الوزير كمال الملك من أمر وزارته أنه لمَّا وصل إلى أصفهان، تقدَّم بقراءة منشوره بوزارة العراق من خُراسان، ثم دبَّر في قتل الأمير أحمد بن بغرا، وبعث السلطان على الفتك بالأمير علي بار وأغرى، حتى أفلت منه هربًا، واتَّخذ الليل جملًا وأدلج رَهَبًا، فأركب وراءه من رجَّل نفسه عن بدنه، وأخرج روحه من جسده، ووكل بوزيره الدركزيني واعتقله، وهمَّ بأن يقتله. قال عماد الدين — رحمه الله: قال والدي: وكان الدركزيني حينئذٍ صديقي فاستدعاني، ولمَّا بصر بي دعا على نفسه بالويل، واستجار بي وأخذ مني بالذيل، فقال: «أسألك أن تتوسَّل لي في أماني من القتل، فقد أيقنت أني مقتول، وإن لم تنصرني فإني لا شك مخذول.» فشفعتُ في حقه إلى أخي عزيز الدين، فما زال بالوزير كمال الملك حتى خلَّصه، وفتح على ذلك الطائر المشوم قفصه، وكان محبوسًا في موضع سبيل الخلاء فخلى سبيله، فقدَّر الله أن الشافع فيه بعد عشر سنين كان قتيله، فما عرف والدي ولا عمِّي — رحمهما الله — أنهما يسعيان في قلع البيت بخلاصه، ويحصلان بتيسير أمره على تعسير أمرهما واعتياصه، فقد كان هذا أبو القاسم للدماء سفَّاكًا، وبالكرام فتَّاكًا، وتفرَّس فيه الوزير كمال الملك الشر، فأراد أن يُريح الناس من غائلته، وأراد الصحيح فما صحَّ له ما أراد، وما بدا من الدركزيني ما بدا منه لو باد، ولكن القدر لا يُطاق، والمقدور ما يُعاق.

وأصلح الوزير بقتل علي بار قلوب الجماعة، واستمالهم إلى الطاعة، فقد كانت في نفوسهم منه إحن، وتمَّتْ عليهم باستيلائه مِحَن؛ فوجدوا بانزعاجه الثبات، وبقتله الحياة، وتقدَّم الأمير قيصر وترقَّتْ درجته، وقامت بالقيام في الدولة حُجَّته، وارتفع شأن أُمراء كانوا مُتَّضِعين، وتحالفوا على طاعة السلطان وترجيح جانبه، والإضراب عن مقاصد عمه سنجر ومطالبه.

قال أنوشروان: فشرع الوزير في المصادرات، وسمى ديوانها ديوان المفردات. قال عماد الدين: ولم يكن كما ذكر، ولا على وفق ما أنكر، وإنما طالب أصحاب الأمير علي بار بأمواله، وأمر بمحاسبة عُمَّاله، والبحث عن أسبابه وأحواله، وأعاد رونق سلطنة العراق غضًّا، وضمَّ من نشرها ما كان مُنْفَضًّا، وخرج في خدمة السلطان من أصفهان على عزم بغداد، وقد حكَّمه في الأمر وأعطى حُكمه النفاذ، ولمَّا قُبض الدركزيني وعُزل وَلَّى الوزير كمال الملك منصب الطغراء أخاه النصير، وناط به ذلك المنصب الكبير، وكان النصير رصينًا، ثقيل الطبع رزينًا، ولم يكن فيه ما كان في أخيه الوزير من التلطُّف، والتطفُّل على المكارم والتعطُّف، وكانوا يقولون: نعم المولى وبئس النصير.

قال: وفي سنة ٥١٣ جرى بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود مصاف بقُرب همذان، وكان النصر فيه للسلطان؛ وذلك أن الملك مسعود كان مسلِّمًا إلى الأمير جَوْشَبك، وهو آتابكه بالموصل وعسكر الشام وديار بكر في خدمته، وهو ينعت في ملك الغرب لحد مملكته، فجمع آتابك جوشبك جيوشًا كثيرة وجمعًا جمًّا غفيرًا، وطمع في أخذ السلطنة، وجعل الأستاذ أبا إسماعيل وهو مؤيد الطغرائي وزير مسعود، ولم يعلم أنه لا يتمكن فيها من مسِّ عود، فعلم السلطان بحشده، فجاء في حشره، وجاء جوشبك بمسعود تحت جتره، ولمَّا اصطفَّ الجمعان، وكاد يلتقي البحران، ويجتمع الصفَّان، بصر مسعود بأخيه محمد فحنَّ إليه، وضبطه جوشبك فلم يعرج عليه، وصاح إيجي إيجي، وهي كلمة بالتركية للأخ الكبير، فتشوَّش على جوشبك جميع ما قدمه من التدبير، وساق محمود ووقف إلى جنب السلطان محمود أخيه، وأسلم للسلب والنهب جميع ما كان معه من جنوده ومواليه، فأول من أُخذ وزيره الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي، فأُخبر الوزير كمال الملك به، فقال للشهاب أسعد — وكان طغرائيًّا في ذلك الوقت نيابة عن النصير: «هذا الرجل ملحد.» فقال الوزير: «من يكون ملحدًا يستحق أن يُقتل ظلمًا.» فقُتل ظلمًا، وقُتل من الفُضلاء الأكابر الأستاذ زين الكفاة أبو الفتوح، وكان وزير البرسقي، فأحسن محمود إلى أخيه، وأعاده إلى عظمته، ورتَّب آخر لآتابكيته وخدمته.

قال: وكان من بقية أولاد ملوك الديلم في الخدمة السلطانية المغيثية الملك عضد الدين علاء الدولة أبو كاليجار كرشاسف بن مؤيد الدولة علي بن شمس الملوك فرامرز بن علاء الدولة، وكان من السلطان بمنزلة الأخ، وقد أنزله بالمحل الأشمخ، وكان مع ذلك محترزًا من حاسديه، فلزم بيته في مدينة يزد، فما زالوا يُحسنون منابه بالباب، ولا يُصوِّبون رأيه بالأغباب، فلما ركن إلى ركنهم وركب، وكرب أن يجلوَ بلقاء السلطان عنه الكرب، جرَّدوا إليه ثلاثمائة فارس فاعترضوه، وأخذوه من طريقه وقبضوه، وكان الأمير قيصر تولى بإبداء الود إخفاء ختله وختره، فحمله إلى قلعة يُقال لها فرَّزين فاعتقله، وأحكم قيده وثقله، وهي قلعة منيعة، وتلعة رفيعة، تعدها النجوم من أترابها، والسماء من أسبابها، فلطف الله به، وأوضح له مذهب مهربه، وذلك أنه توسَّل حتى أشرف على السور، في جنح الديجور، وألقى بنفسه من المكان العالي، وفعل فعل الآيس من حياته السالي، وسلَّمه الله حيث لا تُرجى السلامة، ونزل نزول الغيث حدرته الغمامة، وتوقل في تلك العقاب، وتسلَّل من تلك الشعاب، ووقع إلى ولايته، وسُرَّ الناس بعود الأُنس والسرور بعوده إلى بلدته، وعلموا أن خُطى الخطوب لا تصل في طورها إلى طوده، وكانت عاقبة الأمير قيصر أنه ضُربَتْ ببغداد رقبته، وأودَتْ به في سبيل العقوبة عقبته.

قال أنوشروان: وكان الملك في عهد السلطان محمد مجموعًا، وجانبه من الأطماع ممنوعًا، فلمَّا صار إلى ابنه محمود فرَّقوا المجتمِع، وضيَّقوا المتسِع، وجعلوا له فيه شركة، ولم يتركوا له منه مُسكة، وذلك عند حضور السلطان سنجر، فأول ما اقتطعه سنجر لخاصِّه مازَنْدَران وطبرستان وقومس والدامغان والري ودُباوَنْد وأعمالها، وما أفردوه للملك ركن الدين طغرل بن محمد ساره وآبه وسارق وسامان وقزوين وأبهر وزنجان وجيلان والديالم والطالقان، وللملك سلجق أخيه ولاية فارس بأسرها، وشطر من أصفهان من الخوز، وتغلَّب الأمير دبيس بن صدقة بن منصور على البصرة وأعمالها، والمضافات إليها من البطائح، وكذلك هيت والأنبار وأعمال الفرات والرحبة وعانة، وكذلك أعمال الموصل ونصيبين والخابور قد تغلَّب على كلٍّ منها أمير، والذي بقي للسلطان أقطع جميعه، وما انحفظ ريعه، وانخفض رفعه، ولمَّا لم يكن للسلطان خاصٌّ لم يكن له عُمَّال، وبطل الديوان، وتدوَّن البطلان، فإنه لم يبقَ للديوان شغل إلا أخْذ أموال ذوي اليسار وإسعار نار الإعسار.

وقال عماد الدين في ذكر كمال الملك الوزير: وبينا هو وزارته في ريعانها، وسعادته في عنفوانها، ودولته في كمال سلطانها، فلم يشعر حتى عاجله القدر فَجاءه فجاءة، واستحال في الحال كل مسرة مساءة، وذلك في سنة ٥١٥، فإن السلطان خرج من بغداد عائدًا إلى همذان، فتخلَّف عنه الوزير يومًا على أنه يتبع في غد السلطان، فلمَّا بكر ركب وقد رتب الموكب والسيوف بين يديه مسلولة، والغاشية محمولة، فوثب عليه قوم من بعض تلك الدكاكين، وضربوه بالسكاكين، فحُمل جريحًا، وبقي في حجرة من غرف السوق طريحًا، وأُحضر من يداويه، واستقلَّ بالجرح آسيه، فلم يُحسُّوا إلا برجل قد قفز من السقف، ونزل عليه بمُدية الحتف، فأتلف مُهجته، ومحا من الزمان بهجته، فتولى عمي العزيز حفظ مخلفيه، وحلم عنهم حد الزمن السفيه، واستُشهد وله ولدان؛ أحدهما عضد الدين محمد، والآخر فخر الدين محمود، فتعصَّب الولد الكبير ذو الفضل الأوفر، والاعتقاد الأنور، والدين المتين، والعلم واليقين، فولَّاه السلطان أشرف المناصب، وأرفع المراتب، فزهد في الدنيا مع القدرة، وسلك طريق الانكسار والقناعة بالكسرة. قال عماد الدين: وهو إلى اليوم من سنة ٥٧٩ حسن السيرة، صافي السريرة، خشن العيشة، قالٍ للمعيشة، يلبس السمل البالي، ويألف المنزل الخالي، ويأمر بالمعروف، ويأخذ بيد الملهوف، ينظر إلى الدنيا بعين العيافة، مُقبِلٌ على الآخرة والتقوى قد ألبسته شعار المخافة، وتولَّى أخوه فخر الدين محمود الأعمال الفاخرة إلى آخر زمانه، وظهر قدر مكانه، وقدرة إمكانه، والعضد الزاهد فيه زاهد، وفي صرف جاهه عنه جاهد، وكان بينهما تضاد، وتباغُض في الدنيا لا تواد، وعضد الدين يرجع إلى فضل وافر، ووجه عن الحق والحقيقة سافر.

قال عماد الدين: عُدنا إلى ما ذكره أنوشروان.

ذكر وزارة شمس الملك بن نظام الملك

أنشد أنوشروان فيه متمثِّلًا:

لئيمٌ أتاه اللؤم من عند نفسه
ولم يأتِهِ من عند أمٍّ ولا أبِ

قال: قال لمَّا صرع الكمال، واتسع المجال، سمت همة شمس الملك لطلب الوزارة، وخطب عروسها مع العجز عن افتراع البكارة، فاجتاب لبأسها، وأنارت شمسه من مطلعها، وورد على الظماء البرح عد مشرعها، وتولى عزيز الدين أبو نصر أحمد بن حامد منصب الاستيفاء، وقد فضل بالفضل والكفاية جميع الأكْفاء، ومن جملة مبتدعاته في الخير أنه جعل للمعسكر السلطاني بيمارستان يحمل آلاته وخيمه وأدويته، والأطباء والغلمان والمرضى مائتا بختي، ومن جملتها أيضًا أنه بنى بمحلة العتَّابيين ببغداد مكتبًا للأيتام، ووقف عليها وقوفًا مستمرة الجدوى على الدوام، والأيتام مكفولون منها إلى أن يبلغوا الحلم بالنفقة والكسوة والطعام، وتعلُّم الآداب وحفظ القرآن، ومعرفة الحلال والحرام، وصحَّ له التحكُّم على الوزير، بإحكام التدبير، وتولى ديوان الطغراء والإنشاء الشهاب أسعد، وكان معلمًا للسلطان في أيام والده، وتنجز حظه أنه يوليه الطغراء إذا انتهت إليه السلطنة، ولمَّا تولى لم يتغيَّر عليه، وبقي إلى آخر عهده في الطغراء، وتولى أبو القاسم الأنساباذي ديوان العرض، وكان أنوشروان عارضًا وهو غائب، وفي مقامه عنه نائب.

قال أنوشروان: كنتُ أنا قد تخلَّفتُ في بغداد في ذلك الأوان لشُغل أقضيه، وأمر أُمضيه، فاجتمع هؤلاء القوم واغتنموا غيبتي، وأخذوا بأخذي وتعويقي توقيعًا، وشنَّعوا على عملي وعملوا شنيعًا، وكان مضمون المثال السلطاني أن الأمر المطاع أعلاه الله أن أنوشروان إن كان في حدود بغداد أُلزم بيته بباب المراتب، وسُدت عن لقائه طرق الأقارب والأجانب، وإن كان قد وصل إلى بلاد الجبل فيقعد في ولاية الأمير بُرسُق بقلعة كفراش، ويُشترط عليه ألا يطلب المنصب والمعاش، ويحضر مماليكه إلى الدركاه لينتقلوا إلى الخواص من الأمراء، ويحمل ثقلهم عنه مع الانزواء. قال: وكان المثال بخط العزيز، وقد مدَّ الطغراء عليه أسعد، وعلامة الوزير فيه أحمد الله على نعمه، وتوقيع السلطان اعتصمتُ بالله، وما وجدت من أنسب إليه هذا القصد غير العزيز؛ فإن الآخرين كانوا مسخرين له، وهو المتوحِّد بالتمييز والتبريز، وكتب الوزير بخط كاتبه أن شغل العرض قد فُوِّض إلى العميد الأجلِّ الأخ زين الدين ظهير الدولة أبي القاسم — يعني الدركزيني — فتُختم جميع دفاتر العرض وأوراقها وتُنفذ حتى تُسلم إليه.

قال: وأنهضوا إلى طريقي جماعة من الفرسان لولا إعظام الأمر السلطاني المطاع، لما رعيت حرمة أولئك الرعاع، ولعادوا وحكوا أنهم لقوا مني رجلًا، ولركبوا من الخوف الليل جملًا، فامتثلتُ الأمر وسلمتُ إليهم موجودي، وخرجت من مالي كالشعرة من العجين، ووقع الهجان بتوقيع الهجين، وسلمتُ نفسي إلى الحبس، وبقي أمري على اللبس.

قال: عدنا إلى الحديث عن شمس الملك بن نظام الملك، قال: فعاد الملك به إلى أدنى استقامة، ووجد إلى كفايته أيسر استنامة، لكنه لم يطوِ بساط الظلم والمصادرة، ولم يقبض عن التعدي الأيديَ المتجرِّئةَ على المبادرة، وكان إلى الناس مبغَضًا، ولمقتهم متعرِضًا، فلم يكفِهِ ذلك حتى استناب بغيضًا، واستطَبَّ لمرضه مريضًا، وهو الكامل ابن الكافي الأصفهاني الذي مضى ذكر مخازيه في وزارة الخطير، ووُصف بالشؤم والسوء في الإدبار والتدبير، وهذا الكامل ما ناب عن أحد إلا نابه خطب مبير، ودهمه مُلِمٌّ كبير، كما قال البحتري في سعد حاجب عبيد الله:

يا سعدُ إنك قد خدمتَ ثلاثة
كلٌّ عليه منك وسم لائح
وأراك تخدم رابعًا لتُبِيرَهُ
فارْفُقْ به فالشيخُ شيخٌ صالح
يا حاجبَ الوزراء إنك عندهم
سعدٌ ولكن أنت سعدٌ ذابح

فبدأ هذا النائب في الأول بأخذ مخلفي الوزير المستشهد، وكانت خزانته قد نُهبَتْ، وذخائره قد ذهبت، وهم في بيوت الأحزان، يرجون عواطف السلطان، فلم يرضَ لهم بالعدم حتى سَجنهم وحَبسهم، وضاعف عليهم محنهم وعرق عظامهم، وفرَّق نظامهم، ثم أمر باستعادة الرسوم والإدرارات، ولم يقتصر على قطع الصلات، حتى كتب إلى جميع البلاد باسترجاع ما أخذه أرباب الصدقات لسنتين، ومن أخذ عرضًا بإدراره أُلزم برد العين، فوكلوا في كل بلد بالأخيار والأشراف، وسلطوا أقوياء الشرط على المتضوِّنين.

قال: وكان قد عزم السلطان في هذه السنة على الغُزاة، فصدُّوه وعرضوا عليه كتابًا من بعض أُمراء بلاد شروان يذكر فيه أنني قد استخلصتُ لكم المملكة الشروانية، وأهلها ينتظرون الراية السلطانية، وأن الملك شروانشاه محصور، وأن الفرج عليه محظور، فإن أردتم تملُّك الخزائن، واستخراج الدفائن، والاستيلاء على الممالك، فاصرفوا إليها الأعِنَّة، واشرَعوا نحوها الأسِنَّة؛ فثنوا عزم السلطان، إلى قصد بلاد شروان، فلما وصل وجد الأمر بخلاف ما ذُكر، وخرج إليه الملك شروانشاه راجيًا أنه قد عاد عيده، وأن يتحلى بعد العطل بطوق الإنعام جيده، فإنه كان فقيرًا قد قنع الرعية بملكه، وألفوا الانخراط في سلكه، فحين وطئ البساط طوى بساطه، وعقل نشاطه، وسحب وحبس، وغبن وبخس، وانتظر أهل البلد أنه يعود إليهم مملكًا مكملًا، مُشَرفًا مجملًا، فحين عرفوا الحال أكثروا الصراخ والبكاء، وأثاروا الرجال والنساء وخربوا الجامع ورموا منارته، وشعثوا البلد وأذهبوا عمارته، فما نفعهم ذلك، وجرت عظائم تأنف منها العظماء، واجتُرحَتْ كبائر تأباها الكُبراء، وجرَّ ذلك الخبط خطبًا، لم يدع يابسًا ولا رطبًا، وطمع الكفار المثاغرون فأغاروا، وأبادوا الأعمال وأباروا، وقتلوا خلقًا من المسلمين، ونزلوا قبالة السلطان في ثلاثين ألف عنان على فرسخين، لكن الله تدارك رمق الإسلام، بكسر أولئك الأغنام، ونهض السلطان محمود إليهم محمودًا، ولم يَدَعْ في هزمهم مجهودًا، وعاد منصورًا مسعودًا.

ولمَّا حبس الملك وقع الشروع في مصادرة الرعية، فلم يحصلوا على طائل، ولم يظفروا بحاصل، وكانت للخزانة السلطانية، في كل سنة على الأعمال الشروانية، مقاطعة مبلغها أربعون ألف دينار، فبطل حق تلك المواضعة بوضع الباطل، وطال المقام في تلك البلاد لدفع البلاء، ورفع الأهوال والأهواء، وكان هذا القرار على شروان من عهد السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان، فإنه لما عبر على أرَّان وصل إلى خدمته الملك فريبرز صاحب شروان بعد امتناعه، والتزم بحمل سبعين ألف دينار إلى الخزانة، وما زالت المسامحات تدخل في القرار، إلى أن وقف على أربعين ألف دينار، فباء الوزير بالوزر، وقُبْح الذكر، ولم يحظَ في مدة سنة واحدة من وزارته بعملٍ يُذكر به إلا حبس أنوشروان، وتخريب شروان، ولمَّا أبصر السلطان اختلال الأحوال، واختلاط تلك الأعمال، سخط على الوزير شمس الملك بن نظام الملك وقتله بالسيف صبرًا، وذلك في آخر ربيع الأول سنة ٥١٧ بباب بيلقان.

قال أنوشروان: وكان الذي جرى عليَّ من الأخذ والنهب بباب حلوان أيضًا في آخر ربيع الأول سنة ٥١٦.

من يرَ يومًا يُرَ به
والدهرُ لا يُغترُّ به

قال عماد الدين: وسبب قتل هذا الوزير أن أبا القاسم الأنساباذي كان رسولًا عند السلطان سنجر، وقرر من أمر ابن أخيه السلطان محمود ما قرَّر، وذكر له أن الوزير هو الذي أذهب الهيبة وشتَّت شمل الأجناد، وبتَّ حبل السداد، وتوسَّل بكل طريق حتى تنجز كتاب السلطان سنجر إلى ابن أخيه في طلب وزيره، وأمره بتسييره؛ فحار محمود وخشي أنه إن سيَّره اطَّلع على سره، وإن لم يُسَيِّره أسخط عمه بمخالفة أمره؛ فأُشير عليه بقتله وتسيير رأسه، فبغت الوزير أقوى ما كان رجاءً في الحياة ببأسه.

قال عماد الدين: وعاد حكم المملكة كله إلى عزيز الدين أبي نصر أحمد بن حامد، وكان حينئذٍ مستوفيَ المملكة وجاذب زمامها، ومالك نظامها؛ فسكن السلطان إليه، وعوَّل عليه، وعرض الوزارة عليه فأباها، ووجد مغارس المملكة ذاوية فروَّاها. وقال: أنا أنفذ أمورك وأوامرك، وأُصَفِّي مواردك ومصادرك، ولا أدع مصلحة تقف، ولا منفعة تنصرف، لكنني لا أتسم بالوزارة ولا أتقلد وزرها، على أنني أتقلد أمرها، فإذا حضر صديقي أبو القاسم الأنساباذي جعلته صدرها، وما عرف أن صداقته عند عودِهِ تعودُ عداوة، وأنه يتجرَّع مرارة سم ما ظنه حلاوة، فمكث سنة بالمناصب متوحِدًا، وبالمراتب متفرِّدًا، وعاد السلطان إلى مقر ملكه محبُوًّا بالظفر محبورًا، محمودَ الأثر مشكورًا. واستمر الشهاب أسعد الطغرائي في الإنشاء ومنصب الطغراء، ولمَّا عاد الدركزيني قال العزيز للسلطان: «قد وصل من يكفل بالأمر ويكفي في الحل والعقد، فأنهِضه للوزارة فإني غير ناهض بأوزارها، واتركني ومضائي في غير هذه الخدمة، ولا تُقِلَّني بمضارب مضارها، وأنا إن خليت الوزارة اسمًا فما أُخليها نظرًا، وأعذقها بسواي وأكون عليه بحكمي مستظهِرًا، فيكون أبو القاسم لي قسيمًا، وأُصبح أنا له مقعدًا في المصالح مُقيمًا.» فقال السلطان: «ما أعرف سواك، ولا أُعوِّل إلا على حجتك وحجاك.» وسيأتي ذكر الحال في ذلك.

قال أنوشروان: وفي تلك المدة استدعاني السلطان إلى بابه وانتهت شدة حالي، وانقضت مدة اعتقالي، وأنقذني اللطف الرباني من كيد الخصوم، وعرَّفتْني التجارب أنه لا محيد من المحتوم، وعلمتُ أنه لا يُجدي طلب العز في زمان الذل، ولا يوجد الخصب في سنة الأزل، وصمَّمتُ في الاعتزال حد العزم، ونزلتُ على آل المهلب ذوي الكرم والفضل والعلم، كما قيل:

نزلتُ على آل المهلب شاتيًا
غريبًا عن الأوطان في زمن محل
فما زال بي إحسانهم وافتقادهم
وإلطافهم حتى حسبتهمُ أهلي

قال: ويعني أنوشروان بآل المهلبِ الإمامَ صدر الدين عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي بأصفهان، وكان أجود الأمجاد، وأمجد الأجواد، فلما ضافه أنوشروان أكره مثواه، وقبله وآواه. قال: قال أنوشروان: فصرف إليَّ الأصدقاء الهمم، وحقق إكرامهم عندي الكرم، واستقرضتُ من تاجر غريب جملة، وكتبتُ له عليَّ وثيقة، فجاءني بعد حين إنسان وقال مخدومي عزيز الدين يُسلم عليك، وقد نفذ هذه الوثيقة إليك، وقال لك أبطِلها فإن الدَّيْنَ قد قُضي، وصاحبه قد رضِي؛ فعجبتُ كيف توسل في إسداء هذه اليد إليَّ، وأفضاله عليَّ؛ فبقيتُ مدة في تلك الضيافة، آمنًا من المخافة، سالمًا من الآفة، حتى استدعاني السلطان بعد قتل الوزير، وأهَّلني للتدبير، فامتنعتُ أيامًا، وطلبتُ من الخطر زمامًا، ولمَّا وصلتُ إلى الدركاه رأيت كُلًّا من الجماعة، يقول ما استحضر إلا لسبب، وما استقدم إلا لأرب. قال: فراجعتُ فكري، وندمتُ في أمري. وقلتُ: أعمال السلطان عواريُّ لا بد من ارتجاعها، وملابس لا بد من انتزاعها، ولو خلصت فرُحتُ فرِحتُ، ولو استخرتُ الله في الانزواء لاسترحتُ، وكان السلطان في الإذن لي متوقِّفًا، وأنا قد مِلتُ إلى الوحدة والانفراد، وقصُرَتْ همتي على هذا المُراد، فما زلتُ به حتى استأذنتُ منه فأذن في الانصراف، وخصَّني من مواعيد عوائده الجميلة بالإلطاف، فساعدني أرباب الدولة من الخيل وغيرها بما حمل أثقالي، ومن الأزواد وغيرها بما ثقل أحمالي. وتوجَّهتُ من أصفهان إلى بغداد، وعدمت الملاذ لأجل الملاذ، فلما وصلتُ إلى حضرة الخلافة وجدتُ الإكرام، والإنعام والاحترام.

ذكر وزارة الدركزيني في سنة ٥١٨

قال: لمَّا وضع عليه اسم الوزارة، تبدَّلت الغزارة بالنزارة، وهو أول فلاح ترك العمل بالفدَّان، فدَان له عمل الترك، وحلَّ البقر عن الملك، فحلَّ في دست الملك، ففتك وهتك، واستباح الدماء وسفك، وشرع المنكرات، وأنكر المشروعات، وعادى الكرام وبدَّد النظام، وظاهر الباطنية، وأظهر السنَّة الجاهلية، وشرع في الفتك بالأحرار، والهتك للأستار؛ فمن جملة من فتك به القاضي زين الإسلام أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي، وكان أوحد دهره، ونسيج وحده، والمعروف بإسداء المعروف، والمرجُو لأعداء الملهوف، وهو حبر العالم وبحر العلم، والحاكم بالعدل والعادل في الحكم، وقد ملك من قلوب السلاطين القبول، ولم يَرَوْا من نصحه وإشاراته العدول، وكان من مُتعصِّبي عمي العزيز، المخصوصين في الفضل والإفضال بالتبريز، فتقررتْ له بعد وزارة الدركزيني رسالة السلطان الأعظم سنجر، وسار إلى خُراسان في البهاء الأبهر، والجمال الأوفر، فصعب على هذا الوزير أمره، وتقسَّم سره، وعرف أنه إذا حضر هناك انهتك ستره؛ فإنه كان موَّه ولبس، وأخفى أحواله عند السلطان سنجر ودلَّس، فعرف أن الهروي يهرِّيه، وينزع لباس تلبيسه ويُعرِّيه؛ فقرر مع عدة من الباطنية أنهم فتكوا به عند عوده من رسالة خُراسان، وقد حضر للصلاة في جامع همذان، فاستُشهد قبل أن يشهد السلطان، وذلك في سنة ٥١٨.

قال: وكان حينئذٍ بالموصل آق سنقر البرسقي، الغازي المجاهد التقي النقي، فدخل في وزر ذلك السعيد الوزير الشقي؛ فإنه كان قد قمع أهل الإلحاد، وغمه أمر هذا الوزير الذي سد باب السداد، وتوسَّل الوزير عند السلطان في عزله فلم يقدر، وبالغ في كل مكيدة ولم يُقَصِّر، ولمَّا أعياه أمره استدعى إخوانه من الباطنية، حتى جلسوا له في جامع الموصل بزي الصوفية، وقفزوا عليه وضربوه بالسكاكين، فجلَّ به مصاب المسلمين، وذلك في ذيالقعدة سنة ٥٢٠، وكان وزير السلطان سنجر في ذلك العهد الأجلِّ معين الدين مختص الملك أبو نصر أحمد بن الفضل بن محمود، وقد مضى ذكر كرمه وفضله في زمان السلطان محمد وتَولِّيه ديوان الاستيفاء، ولقد كان موئلًا لأهل الرجاء، وهو من ممدوحي القاضي أبي بكر الأرجاني، وله فيه قصيدة صاديَّة أولها:

روِّحا ساعة متون القلاص
واحفظا وقفة بتلك العراص
يا خليليَّ من سراة بني الأقـ
ـيال والغر من بني الأعياص
واسياني فللأخِلَّاء قدما
بالتواسي في النائبات تواصِ
كيف أشكو خطبًا ومختص ملك الـ
أرض أضحى بالقرب منه اختصاصي
وإذا استنصر الهمام أبو نصـ
ـر أطاعت لنا الليالي العواصي
ذو ندى يستهِلُّ كالديمة السكـ
ـب ونشر كالكوكب الوبَّاص
وبنان يُريك للقلم النا
حل فضلًا عن القنا العرَّاص

قال: فأنف من وزارة الدركزيني بالعراق، ولقد كان على الدولة شديد الإشفاق، وعرف الدركزيني أن نقصه مع فضل أبي الفضل بادٍ، وأن أمره مبنيٌّ لعمى دهره عنه على غير عمادٍ؛ فلم يزل يُعمل كيده في نكبته، ويتسلَّق بالمكر على هضبته، وباطن الباطنية في قتله، وفرغ فكره لشغله، فوجده متحرِّزًا متيقِّظًا، مُتحرِّسًا مُتحفِّظًا، فبثَّ عليه حبائله، وأدبَّ إليه غوائله، وسيَّر إلى خراسان عدة من الملاحدة، فتوصَّل منهم واحد إلى أن خدم في إصطبل الوزير المختص سائسًا لدوابِّه، فأراد يومًا عرض الخيل، فحضر ذلك السائس وهو عريان، وقد خبَّأ سكينة في ناصية الحصان، فأطلق حصانه من يده حتى شغب، واستخرج من ناصيته السكين ووثب، وتعمَّد مقتل الوزير فأصابه، وعظم على الكرام مصابه، وبضع السائس في الحال تبضيعًا، ومزَّعوه تمزيعًا، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة ٥٢١.

وما زال الدركزيني يتتبع الأكابر، فمنهم من يقتله جهارًا بإذن من السلطان، ومنهم من يقتله غيلةً بمن يتخذه من أولئك الأعوان. قال: وكان سبب ميل الباطنية إلى الدركزيني أن الأمير شيركير — رحمه الله — كان مشتغِلًا بحصار قلعة ألَمُوت وقد قارب فتحها، وشارفت الآمال في أخذها نجحها، فلما تُوفِّي السلطان محمد وتولى ابنه محمود وتمكَّن الدركزيني من الدولة أعمل الحيلة في استدعاء شيركير ونفَّس عن القلعة، ثم لم يزل يدقق الاحتيال حتى جعل لشيركير عند السلطان ذنوبًا اختلقها، ومساويَ لفَّقها، حتى اعتُقل ذلك الأمير مع ولده شرف الدولة، ولم يزل يطلب غرة السلطان في أمرهما حالتَيْ سكره وصحوه، حتى أخذ رخصة في سفك دمهما الحرام، وأذهب بقتلهما قوة الإسلام، واتخذ بذلك عند ذوي الإلحاد يدًا، واستكثر له من أعوانهم مددًا.

قال: وكان عمي العزيز يحسب أنه إنسان، وأن جزاء الإحسان له منه إحسان، فلمَّا أحسَّ بشرارة شره، وضراوة ضره، فكَّر في طريق الانزواء، والخلوص من تلك الأهوال والأهواء، فاستأذن في الحج فسار في سنة ٥١٧ أو ٥١٨، وكان حاج تلك السنة بأجمعهم في ضيافته وكرامته، وعمَّهم شمول عارفته، حتى قال الرئيس أبو الحارث البغدادي فيه:

يا كعبة الإسلام ما لي أرى
إليك تسعى كعبة الجود
تقصد في العام وهذا الفتى
لم يلفَ يومًا غير مقصود

وهنَّاه عند عودة القاضي أبو بكر الأرجاني بقصيدته النونية المشهورة التي أولها:

ورد الخدود ودونه شوك القنا
فمن المحدث نفسه أن يجتنى
لا تمدد الأيدي إليه فطالما
شبوا الحروب لأن مددنا الأعينا
ما إن جفوت الطيف إلا ليلة
والحي قد نزلوا بأعلى المنحنى
لما ألم وقد شغلت بمدحةٍ
لعزيز دين الله فكري موهنا
في ليلة حسدت مصابيح الدجى
حكمي وقد كانت لها هي أزينا
قلمي بها حتى الصباح وشمعتي
بتنا ثلاثتنا ومدحك شغلنا
حتى هزمنا للظلام جنوده
لمَّا تشاهرنا عليها الألسنا
أفناهما قطي وأفنيت الدُّجَى
سهرًا فأصبحنا وأسعدهم أنا
لله مقدم ماجد أضحى به
عنا لنازلة النوائب مظعنًا
أمنت إساءته عداه لأنه
مذ كان لم يُحسن سوى أن يُحسنا
أتبعت غزوتك الحميدة حجة
فقضيت أيضًا فرضها المتعيِّنا
وجررت أذيال الكتائب موغلًا
في الأرض خلف بني الخبائث مثخنا
حتى غَدَتْ تلك المجاهل منهمُ
وكأنما هُنَّ المناحر من منى

قال: ولما عاد من حجه، استعفى السلطان من شغله، فما أجابه إلى مراده، ولا مكَّنه من انفراده، وأعاده إلى منصبه على العادة، وأشرق به مطلع السعادة، وأصبح الوزير يجول في مكر مكره، ويسر له ما يرجع بشغل سره، وعادت تلك الصداقة عداوةً، والمعرفة نكرة وغباوة، وعبرت على ذلك مدة، فثبت العزيز على الاستعفاء، وترك منصب الاستيفاء. فقال السلطان: «إذا كنت مستعفِيًا، ولا تؤثر أن تكون مستوفيًا، فما لي أعزُّ من الولد والمال، وقد سلمتُ إليك خزائني وأولادي، وبهذا يحصل مرادك ومرادي.» فلما خلا منصبه منه، ورغب العزيز عنه، تولى الصفي أبو القاسم الجنزي ديوانه، وجلس مكانه، فتوازر هو والوزير والجماعة على قصد العزيز، فلم يقدروا له على مضرَّة، ولم يعثروا له على عثرة، ومضت على وزارته ثلاث سنين، وشمل العدل بغير الْتئام، وسلك الملك بلا نظام، والمعاقد غير مُبرمة، والقواعد غير مُحكمة، وتفرَّغ العزيز لإعلام السلطان بالتشويش والتشويه، وحصول كل أمر كريم به في الأمر الكريه؛ فأمر السلطان بقبض الوزير واعتقاله، وسلمه إلى العزيز ليُريح الناس من شره واغتياله، فرأى أن إهلاكه على يده شنيع، وأن ذكره بالفتك وهو ليس من أهله فظيع، ودبَّر في تولية وزير يُسلِّمه إليه، وهو لأجل الخوف على منصبه منه يقضي عليه، فسعى في استدعاء شرف الدين أنوشروان بن خالد بن محمد من بغداد، فلما حضر واستوزر حمل الدركزيني إلى داره على حاله، وصيَّره في اعتقاله.

وكانت في أنوشروان ركاكة ظاهرة، ووضاعة لخُلق الرفعة قاهرة، فلما تسلَّم الدركزيني ضرب له في داره الخركاه، وأذن لكل صاحب له أن يدخل إليه ويلقاه، وكان في كل يوم يدخل إليه ويجلس بين يديه ويخاطبه ﺑ «يا مولانا»، وأنت أولى مِنَّا بالمنصب الذي خصَّنا به السلطان وأولانا، فسقطَت حرمته، وذهبَت هيبته، واتَّضعَت وزارته، وعُرفَت حقارته، وخِيف عود الدركزيني بعد استقرار سلامته، إلى منصب كرامته؛ فشرعوا في إعادته، وجرَوا على إرادته، وهو جالس في دار أنوشروان، والناس متناوبون إليه لتقرير وزارة السلطان، فما شعر أنوشروان حتى أُخرج من داره، ورُدَّ إلى مقره على قراره، وأذن لأنوشروان في العود إلى موضعه، والغيض في منبعه؛ فرأى الغنيمة في الإياب، واغتنم السلامة التي لم تكن له في الحساب. قال: وكانت وزارته سنة واحدة على ما أورده في بابه، والآن أذكر ما ذكره عن نفسه في كتابه.

ذكر وزارة شرف الدين أبي نصر أنوشروان بن خالد

قال أنوشروان: كنتُ قد اتخذتُ بغداد مدينة السلام، دار المقام، وأنا من حفظ الله في أوفى ذمام، فجاءني كتاب السلطان محمود وخاتمه، ووصل رسوله وخادمه، يستحثُّني في الوصول إليه، ويستعجلني في المثول بين يديه، فحين حضرت الخدمة شافهني بالتقليد، وخصَّني بأمره الأكيد، وكمل لي تشريف الوزارة وخلعها، وأدواتها مُحلَّاها ومُرصَّعها، ودواة الذهب والسلاح المُجَوْهَر، فجلستُ في الوزارة سنة وأشهُرًا لا أقدر على الخطاب في مصلحة، ولا على التنفُّس بفائدة مترجحة، وصاحبا يميني ويساري الشهاب أسعد الطغرائي والصفيُّ أبو القاسم المستوفي، والأمير الحاجب الكبير حينئذٍ أرغان، وامرأته خلف الستر قهرمانة السلطان، فلما رأيتُ اتفاقهم على ما هم فيه قلتُ في نفسي لا يظهر لي مع الناقصين فضلٌ، ولا يُقبل منهم صرفٌ ولا عدلٌ؛ فاستعفَيتُ واخترت العزل على التولية، وأُحدِّث نفسي عن الولاية بالتعزية والتسلية، ونفضتُ يدي من صحبتهم، وقلت العفاء على تربتهم ورتبتهم، وعاد الدركزيني إلى الوزارة فإنه أرغب أرغان الحاجب بالرُّشى، ومشَّى به غرضه فمشى، ورجع كالكلب الكلب، والبغل الشغب، وهابه من لم يكن يهابه، وامتلأ القوم باللؤم والشر إهابه.

قال: فعدتُ إلى بغداد مستأنِسًا بالوحشة، آلفًا بالوحدة، فلما وصل الدركزيني إلى بغداد اجتهد أن ينالني شره، فعصمني الله من كيده، لا لإساءةٍ إليه مني سبقَتْ، ولا لضغينةٍ عليَّ بقلبه علقَتْ؛ فإني كنت أسلفته في حال حبسه وعزله إحسانًا، وقلَّدته امتنانًا، ولم أترك في الإنعام إمعانًا، ولمَّا كلأني الله من غائلته مدَّ يده إلى مالي، وأنزل النوازل بأسبابي، وقد كنتُ بنيتُ على دجلة دارًا فادَّعاها لنفسه ملكًا، واستحضر عدولًا شهدوا له بالملكية زورًا وإفكًا، وانتقل إلى الدار بحكم الشرع، وصيَّر باطله حقًّا ببيِّناته الكاذبة في الأصل والفرع.

قال: واجترأ على الاجترام، واجتراح الآثام، وسفك دم الكرام؛ فتارة يظهر التسنن بإراقة دم العلوية، وآونة يدَّعي التشيُّع في قتل الأئمة السُّنِّيَّة، فمن جملة من سفك دمه، ورام عدمه، علاء الدولة رئيس همذان، وكان شابًّا حسنًا شريف النسب، كريم الحسب، وكان بأصفهان قد حضر مجلس الوعظ، فقام إليه رجل من أصحاب الدركزيني فضربه بسكينه، وفرى بمُديته حبل وتينه، وكذلك عين القضاة الميانجي بهمذان، كان من الأكابر الأئمة والأولياء ذوي الكرامات، وقد خلف أبا حامد الغزالي — رحمه الله — في المؤلَّفات الدينية والمصنَّفات؛ فحسده جُهَّال الزمان المتلبسون بزي العلماء، ووضعهم الوزير عليه فقصدوه بالإيذاء، وأفضى الأمر به إلى أن صلبه الوزير بهمذان، ولم يراقب الله فيه ولا الإيمان، وكذلك الملك علاء الدولة بيزد، سعى في دمه وهتك حرمه، وكذلك رئيس ساوه، اعتقله ثم قتله، وتتبَّع البيوت الكبار واقتلعها، والجبال العِظام فزعزعها، ومن جملة أفعاله القبيحة، وأقواله العائدة على الدولة بالفضيحة، أنه حسن للسلطان وقد وصل إلى بغداد في سنة ٥٢٠ أن زحف بعسكره إلى دار الخلافة، وقالوا وفعلوا ما لا يحسن ذكره، واعتمدوا كل ما قبحت سمعته وعظم وزره، وكان حينئذٍ وزير الخليفة المسترشد بالله — رضي الله عنه — جلال الدين أبو علي الحسن بن علي بن صدقة، فتوسط للأمر بكفايته، وكشف تلك الضلالة بهدايته، وكان صديق عمي العزيز — رحمه الله — فتعاونا على الإصلاح وأسَوَا الجراح، وحملا السلطان على مُعاودة طاعة إمامه، والتصرُّف على أوامره وأحكامه، وذلك في أواخر ذي الحجة سنة ٥٢٠ أو أوائل المحرم سنة ٥٢١.

ولمَّا قرب مسير السلطان من بغداد حدث به مرض ضعف منه جسمه وقلبه، فاعتقد أن ذلك من شؤم خلافه الخليفة، فجلس في محفة ووقف على باب الحرم للمواقف الشريفة، وأبدى الإعظام والإجلال، وطلب العفو والاستحلال، فخرج إليه التوقيع الأمامي بأجمل جواب، وألطف خِطاب، وطابت نفسه، وزاد بذلك أمله في البرد وأنسه، ووصل إلى همذان وقد أبل وتوفرت له حصة الصحة، وشكر الله تعالى على رواح المنحة.

قال عماد الدين — رحمه الله: وفي هذه السنة عُزل الدركزيني ووُلِّيَ أنوشروان — كما سبق ذكره — ثم عُزل أنوشروان بعد سنة وأُعيد الدركزيني، وما زال عمي العزيز في عصمةٍ من شر الوزير حتى أخبر السلطان بأن عمه سنجر قد سيَّر في طلب ميراث ابنتيه وجواهرهما رسولًا، فإنه كان قد تزوج بإحداهما فماتت، ثم تزوج بالأخرى فماتت أيضًا، فوضع الدركزيني من قال للسلطان: «إن رسول عمك واصل إليك بسبب تلك الجواهر، وإنه لا يعود عنك بما تقرره من المعاذر، وقد رضي سنجر بشهادة العزيز؛ فإنه أمين قوله صادق، والسلطان سنجر بصحته واثق، ونحن نرى أن تحبس العزيز في بعض المعاقل، محفوظًا من الغوائل، حتى إذا وصل الرسول وأدَّى رسالته، وطلب العزيز وشهادته، قلت له هذا صاحبنا وقد نقمنا منه أمرًا فعزلناه، وقبضنا عليه واعتقلناه، وما بقينا نرجع إليه في الشهادة، وسؤال المحبوس خلاف العادة.» فتلوَّم السلطان محمود وتذمَّم، وتردد فكره وتقسَّم، ففاوضه الدركزيني وهوَّن عليه الأمر، وسهَّل عنده الوعر، وقال له: «إذا كنت معتنيًا فما يضره القعود مصونًا، وما يعيب الدرَّ مكنونًا، والذخر مخزونًا.» قال: «وأنا أطلق لك من مالي ثلاثمائة ألف دينار إذا حبسته، وأقوم بأدائه إذا أجلسته.»

فمال إلى المال، وحال بالمحال، فاستدعى عمي العزيز من داره وعرَّفه بغرضه، ثم أمر بالتوكيل به على أجمل وجه، وكان ذلك والسلطان حينئذٍ ببغداد في أوائل سنة ٥٢٥، ثم قالوا للسلطان الصواب إنفاذه إلى معقل؛ فقد قرب وصول الرسول؛ فسلم العزيز إلى بهروز الخادم شحنة بغداد حتى سيَّره إلى تكريت، فلم يلبث السلطان بعد حبسه إلا قليلًا، وكم تلا: لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، وذلك أنه لم يسمع من رسول عمه عند حضوره ما قيل عن رسالته، واستدلَّ بذلك على كذب الوزير في مقالته، وأرسل إلى الوزير وطالبه بالمال فزاغ عن مطلبه، ومطل به، وسير إلى أصفهان فقبض على والدي صفي الدين وعلى عمي ضياء الدين، واعتقلهما بقلعتها ونهب وسلب، واستولى على أملاكنا وأموالنا واستوعب، وأما العزيز فإن السلطان كتب إليه بتكريت يعده ويأمره بالصبر، ويقول: «إذا أخذت من الوزير ما بذله فأنا لا بد أن أُطلقك وأعتقله.» والوزير في كل مدة يزِن له شيئًا من المال ويُريه أنه من عنده ومن ذهبه، ولا يعلم أنه جباه من مال المصادرات، وجاء به ووعده بالباقي إلى همذان، وفي القدر أن بقاءه قد انتهى وأن حينه قد حان، ورحل السلطان من بغداد ومرض في الطريق واشتدَّ مرضه، ثم فارق جوهره عرضه، وذلك في شوال سنة ٥٢٥، وذُكر أن الوزير سمه في طعامه؛ فإنه لمَّا قصَّر في أداء المال، ونظر في سوء المآل، شرع في اغتيال السلطان على وجه الاحتيال، فتم له تأميله، وحين مضى السلطان لسبيله، وضح في التسلُّط سبيله.

قال: وكان قد اتفق وصول السلطان سنجر إلى الري في سنة ٥٢١ قبل مضي السلطان محمود إلى بغداد، فعاد إلى خراسان واستصحب الملوك معه تأنيسًا لقلب محمود، باستصحاب أخويه طغرل ومسعود، عاد محمود إلى سريره، وتفرَّد الوزير بتدبيره، ومن الاتفاقات العجيبة، والواقعات الغريبة، أنه اجتمع في ذلك العهد في خركاه واحدة للسلطان سنجر والإخوة الأربعة السلطان محمود ومسعود وطغرل وسليمان، والوزير الدركزيني، والنصير محمود بن أبي توبة وزير سنجر، وهناك رجل يُقال له الفلك، وهو من الندماء المطبوعين، فقام وصلى ركعتين، ورفع إلى السماء اليدين، وجعل يدعو الله ويتضرَّع، ويبتهل إليه ويخشع، فاستدعاه سنجر وقال: «ما هذه الصلاة والدعاء؟» فقال: «ناجيتُ الله تعالى وقلت هؤلاء العصبة الذين اجتمعوا في هذه الخركاه هم أصول الفتن، وفروع المحن، فاخسف بهم هذه البقعة، وانفض عنهم هذه الرقعة، حتى يسلم خلقك، ويسلم حقك.» فضحك منه سنجر، واستخفَّ النديم المتمسخر.

فلما عاد محمود سار إلى بغداد، وشرع في إزهاق النفوس فأزهقها، والأخذ بمشورة الوزير لنفاقها عنده مع نفاقها، لا جرم أنه ما تمتع بعمره بعد قطع تلك الأعمار، وانتقل بجوره وجبروته إلى جوار الجبار.

قال: وحكى نجم الدين رشيد الخادم الغياثي أنه حضر السلطان محمودًا وهو يتقلَّب على فراشه في سكرة الموت ويقول: «ادفعوا عني شيركير وولده؛ فقد شهرا سيفين ليقتلاني.» وكان يُكرر هذا القول إلى أن قضى نحبه، ولحق بربه، وما عصبت به هذا الوزر إلا عصبية الوزير؛ فإنه عجل له سوء الإدبار بسوء التدبير، وكان السلطان محمود محمودَ الخليقة، مودود الطريقة، إن تُرك وطبعه، لكنه بُليَ بأنواع من البلاء من أعوانه، ونغَّصوا عليه مشرع سلطانه، وفرَّقوا في ابتداء دولته خزانة أبيه، واستضعفوا جانبه وطمعوا فيه. قال: ووُجد تفصيل بخط عمي العزيز — رحمه الله — أن الخزانة الغياثية المحمدية، كانت تشتمل على ثمانية عشر ألف ألف دينار سوى الصياغات والجواهر الثمينة وأصناف الثياب المعدنية، فآل الأمر إلى أنهم احتاجوا إلى إقامة وظيفة الفقاع، فلم يجدوا ما يصرفون فيها من المتاع، فأخرجوا إلى الفقاعي عدة من صناديق الخزنة التي فرغت، فباعها بما بلغت، وحتى طلب السلطان من شابور الخازن غالية، فاستمهله أيَّامًا وادَّعى إقلالًا، ثم أحضر ثلاثين مثقالًا، فقال السلطان لشابور — وكان خازن أبيه: «حدث لجماعات بما كان في خزانة أبي من الغالية.» فقال شابور: «كان في قلعة أصفهان منها في الأواني الذهبية والفضية، والبلور والصينية، ما يُقارب مائة وثمانين رطلًا، ومعنا في خزانة الصحبة مقدار ثلاثين رطلًا.» فقال السلطان للحاضرين: «اعتبروا بالتفاوُت بين الأمرين، وفصل ما بين العصرين.» قال: وكان محمود قويَّ المعرفة بالعربية، حافظًا للأشعار والأمثال الأدبية، عارفًا بالتواريخ والسير، ناظرًا فيما يوجب الاعتبار من الغير.

ذكر ما حدث بعد وفاة السلطان محمود إلى أن استقرَّ المُلك لطغرل

قال — رحمه الله: كان قد تفرَّس الوزير في السلطان محمود، أنه موءود، وأنه في الأحياء غير معدود، وحين فارق كنفه، ورافق كفنه، استصحب إلى الري مع عساكر العراق، وتظاهروا على الاتفاق، وأمراؤهم بُرْسُق وقِزِل وقرا سنقر وقراطُغان وغيرهم، وأقاموا بها تلك الشتوة، وعقدوا بها على انتظار السلطان سنجر الحبوة، ولبثوا من يوم موت محمود إلى حين وصول سنجر أكثر من خمسة أشهر، فوصل إلى الري في شهر ربيع الآخر سنة ٥٢٦، واستقبله عساكر العراق مع الوزير، وجلس سنجر على السرير، ووصل بعده ليلًا طغرل سحْرةً، ولقي عمه بكْرةً، فترجَّل له الوزير الدركزيني، فما احترمه طغرل ولا الْتفت إليه، ولا قبَّله ولا أقبل عليه، وكان الرسول قد أرسل إلى طغرل بتحفة ونسخة عهد، إبانةً عن نصحٍ وشفقةٍ وبذلِ جهد. قال: وحكى زين الدين المظفر ابن سيدي الزنجاني — وهو الرسول — أنه لقي طغرل بخوار الري، فمثل بين يديه، وأوصل هدية الوزير إليه، فلم يجعل لها وزنًا، وأظهر عند رؤيتها حزنًا، وذكر آتابكه شيركير وشرف الدولة ولده، واغرورَقَتْ عيناه، وأبدى عليهما كمده، وقال: «أين هُما في هذا اليوم؟ ولو عاشا لكانا أنفع لي من هؤلاء القوم.» ولما عُرضت عليه اليمين بان فيه أثر السخط، فشرع فيها مُتلفِّظًا، ومن أن يمين متحفظًا، فلم يتفوَّه بروابطها، ولم يتنبَّه على شرائطها، ولمَّا رجع الرسول إلى الوزير عرَّفه ما جرى وأخبره، فلم يكترث بتلك الحال، اغترارًا بقوة الاحتيال.

قال: وكان وزير السلطان سنجر نصير الدين محمود بن أبي توبة، فأنعم على الدركزيني بفرع الري لتلك السنة، فإن الري كانت من الأعمال السنجرية، وواليها من أصحابها الأجلُّ المقرَّب جوهر، المعروف بالأمير الأجلِّ، فلما فرَّع الوزير الفرع ووزَّعه، منعه الأمير الأجل ووزَعه، فأغلظ الوزير له في المقال، وكان ذلك من أسباب حتفه في المآل. قال: ورحل سنجر إلى همذان، وخيَّم بها ثلاثة أيام، ثم نهد إلى نهاوند، وحثَّ على اتباعه الجند؛ لأن الخبر وصل بأن الملك مسعودًا وصل مستعدًّا للملك ومعه صاحب فارس آتابك قراجة، ولمَّا سمع طغرل بإقبال أخيه مسعود، لم يطمع من السلطنة في مسِّ عود، فعزم على الرحيل، فأحسَّ سنجر بعزمه وسيَّر إليه الوزير والأمير الحاجب، وهو محمود القاشاني، والأمير قماج، وجماعة من أمراء العسكر الخراساني، فأتوه وهو واقف على تلعة حذاء كِنْكِوَر، وبلَّغوه رسالة عمه سنجر، وأنه ولَّاه سلطنة العراق وسلَّطه على ولاياته، وأنه وليُّ عهده ومالك خُراسان من بعده، فهوى إلى الأرض مُقَبِّلًا، وجرى القدر بملكه من السماء فأصبح مقبلًا، وسار سنجر إلى نهاوند بعد ثلاث، ونفذ السلطان طغرل في العسكر العراقي فجاءهم الخبر بأن مسعودًا أمسى عائدًا إلى أذربيجان على سمت دينور، وما في عزمه أن يلقى عمه سنجر، فأخذ الجماعة إليه سائرين، وهجروا تلك الليلة الكَرَى، ووصلوا السير بالسرى، فما أسفر الصبح إلا وليل العجاج جان، والخَطِيُّ يهتزُّ عن يمين الشجاع كأنه جان، والكوسات تذعر، والبوقات تنعر، وصادفوا العسكر المسعودي على موضع من عمل دينور يُقال له بَنْجَنْكُشت مرَّت تلك الجيوش به فامتلأ الملا، وماج المرت، وجاش الموت، وطلعت راية السلطان الأعظم سنجر وهو تحت مظلَّته، كالقمر في هالته، وعلى ميمنته السلطان طغرل والأمير قماج، وعلى ميسرته خوارزمشاه، وعدة أمراء مساعير يسعر ببأسهم الهياج، فحملت ميسرة مسعود على ميمنة سنجر وفيها السلطان طغرل، فصدمتها وهزمتها، وركض طغرل في الهزيمة فرسخين، ثم تحيَّز إلى عمه ووقف في قلبه، وثبت بجنبه، وحملت ميسرة سنجر على ميمنة مسعود ففرَّقت نظامها، والتهمَتْ لهامها، وفرَّ قراجة، ووقف في خواصه، وكانت لسنجر صفوف وراء صفوف، فخرقها إلى القلب، ودارت في الإحاطة بها رحى الحرب، وكان أشجع أهل زمانه، فأثبت في مستنقع الموت رجله، ولم يُرِ في الإقدام بالروح بخله، فلما كُسر أُسر، وقُبض معه من أمرائه على يوسف الجاوش ووزيره تاج الدين بن دارسس.

ثم ركب السلطان بعد ثلاثة أيام ووقف على تلعة، فأحضر بين يديه قراجة ويوسف وهو مطرق لا يضرع له ولا يخاطبه، فضُربَتْ رقبتهما، وطُويَتْ ورقتهما، ثم انصرف السلطان سنجر ذلك اليوم وارتحل من غده، فلما وصل إلى كورشنبه خلع على السلطان طغرل وسايره على انفراده، ووصَّاه ببلاده وتلاده، وأفضى إليه بأسراره وأسرَّ إليه بمفاوضاته، وأمره بأن يكون مع رضاه، ونهاه عن معارضاته، فقبَّل عين الوزير ذاكره لماذا كره عمه، وظنَّ أنه سر يخفر فيه ذمامه ويخفي ذمه، ثم دعاه وودعه، وأودعه من النصيحة ما أودعه، وانصرف إلى الري راجعًا، ولمصالح الممالك جامعًا.

ذكر جلوس السلطان المُعَظَّم ركن الدنيا والدين أبي طالب طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان

قال — رحمه الله: جلس طغرل على سرير الملك بهمذان، بعد انصراف السلطان سنجر إلى خراسان، في جُمادى الآخرة سنة ٥٢٦، ووزيره القوام أبو القاسم ناصر بن علي الدركزيني الأنساباذي استبدَّ بتمشية الأمور، والأمر والنهي على الجمهور، وكان لا يوقع في الأمثلة السلطانية مُظهِرًا أنه وزير سنجر، وإنما خلَّفه بالعراق ليُهَذِّب الممالك ويُدَبِّر، وهو في هذا الكبر نشيط، والسلطان طغرل منه مُستشيط؛ فهو في بث العدل، والوزير في بت الحبل، وذاك يعطي وهذا يأخذ، وهذا يُوَرِّط وذاك يُنقِذ، ووصلت رُسل الإمام المسترشد بالله، فلقيهم الوزير بعبوس وبؤس، وواقعهم بالنَّجْه، وواقحهم بالجَبْه، وضيع للطمع في الرُّشى والرُّشد، وضلَّ عن نهج الضلالة التي تشد، وأفسد ما صلح، وجرى على خلق الفلاحة وما أفلح، وانفصل الرسل ولم يستقر بين الإمام والسلطان قاعدة، وكلما ظُنَّتْ متقاربة، عادت وهي بعادية عادة الوزير متباعدة.

ذكر ما جرى للملك داود بن محمود بعد وفاة أبيه

قال — رحمه الله: كان داود ولي عهد أبيه، وآق سنقر الأحمديلي آتابكه ومربِّيه، وهو بأذربيجان في جمعٍ كثير، وجمٍّ غفير، وقصده خواص والده وتغضَّبوا له وتعصَّبوا، وثابوا إليه ووثبوا، ومعهم الأمير سعد الدولة يرنقش الزكوي، وكان من أجلِّ أمراء الخدم، وأحدهم في إحياء رسوم البأس والكرم، ومعهم ابنا قراجة إيلرمش وأخوه، وعدة من الأمراء هم الأعيان والوجوه، ومن أرباب العمائم الصفي الأوحد أبو القاسم الذي جعل مستوفيًا للسلطان محمد بعد العزيز، فحملهم على التبريز من تبريز، ونهض السلطان داود في سنة ٥٢٦ إلى همذان، ولمَّا قرب من معسكر عمه طغرل انحازت عدة من أمرائه الأتراك إلى خدمة طغرل، منهم بلنكري وأخوه مع عصبة ذات عصبيَّة، وكذلك شيمة الأتراك غير وفيَّة.

وبرز طغرل في جنوده المتفقة، والبنود المختفقة، فلمَّا تصافَّ العسكران، وتضايق العثيران، وقع البيض على البيض، ولم يرَ إلا بحر الدم يجود من الغيظ بالفيض، ومضى الظهر ولا صهور، وقد حمي بالصدور الظهور، وظفر العم وعمَّ الظفر، ونفر ابن الأخ وفرَّ منه النفر، وانهزم آق سنفر بداود، وباء الباقون بأغلالٍ وقيود، وقُتل في المعركة إيلرمش بن قراجة مقدمًا، وبذل روحه في الملتقى مكرمًا، وأُخذ سعد الدولة يرنقش الزكوي، فاعتقل فيهمذان عند الوزير في قصره، وأُمضي على سبعين ألف دينار فصلُ أمره، وتسلَّم منه قلعة قزوين، وخلت منه بلاده وذوين، وأخذ أيضًا الصفي المستوفي المعروف بأوحد بهروز، وحبس عند جاولي جاندار، وسأل الوزير أن ينقله ويعتقله عنده بالدار، فما رخص فيه السلطان، ولا تمكَّن منه ذلك الشيطان؛ فإنه كتب إلى طغرل يقول: «إن سلَّمتني إلى الوزير، أسلمتني إلى المبير، وأنا أعطيك مائة ألف دينار على أن أسلم ولا أُسلم، ويُستصفى مالي لا الدم.»

فلما يئس الوزير من وقوعه في يده، أفكر في حيلة ضعَّف بها مال مصادرته، حتى أدَّى مائتي ألف دينار، وذلك أنه قال للسلطان طغرل: «إن عمك أمرني أن أضرب الدينار الركني في همذان، حتى يتفق نقد العراق وخُراسان.» وتقدم بضرب ألف دينار بذلك العيار، ونادى بالتعامل به في تلك الديار، وطولب الصفي الأوحد بذلك النقد، من غير تضعيف العقد، ثم إنه صادر الأمراء وأمر بالمصادرات، وبيت الأذى ذوي البيوتات، فقرر علي قتلغ الرشيدي، وكان أستاذ دار السلطان محمود، ثمانين ألف دينار، ثم غدر به الوزير فاستخرج من ودائعه ثلاثين ألف دينار أخرى فقرته وافتقرته، وكسرته وخسَّرته، وأخذ من الجمال بن منارة البيع في همذان ثلاثين ألف دينار، وولى فخر الدولة بن أبي هاشم الحسني رئاسة همذان، وأخذ منه عشرين ألف دينار، وقرر على تاج الدين دولتشاه بن علاء الدولة ووالدته ووزيره مائة وخمسين ألف دينار، وصادر الأكابر، وصدر الكبائر، وجرَّ العظائم وعظَّم الجرائر، ووزع على بلاد الممالك بعلة صياغات بيت الشراب والمطبخ الوفا مؤلفة، فاطلع السلطان طغرل على طغيانه وتسلُّطه، فأنفذ إليه: «إنك أسأت سمعتي، وأسمعت مساءتي، وفضحت أمري وأمرتَ بفضيحتي، ألم يكفِك سلخ جلود العظماء، حتى شرعت في استفراغ دماء الضعفاء، واستنزاف دماء الفقراء.» فكفَّ الوزير عن التوزيع بعد جباية الأكثر، والخيانة في الأوفر.

وسمع السلطان طغرل بتحرُّك أخيه مسعود، وخروجه مع آق سنقر في جموع وحشود، فارتحل صوبه إلى أذربيجان، فلما سمع مسعود بقُربه، لم يقف لحربه، وأغذَّ السير إلى بغداد في حزبه، ودخل طغرل إلى مراغة، وكان الوزير في تأخُّر عنه، فانتهز فرصة غيبته، وبسط يد معدلته، فجاءه الوزير فجاءة، وجرَّ عليه جراءة، وبطل الحق وعطل العدل، ووجه على وجوه البلاد البلاء، ومثل بالأماثل وإلى الرؤساء أساء، وصادر زرقان رئيس تبريز، على سبعين ألف دينار من الذهب الإبريز، ودخلت الشتوة وقصرت الخطوة، واختار السلطان طغرل دخول تبريز والمقام في قلعتها إلى حين انحسار شتوتها، انكسار سطوتها، فاجتمع عسف الوزير، وعصف الزمهرير، وإدبار المسيء وسوء التدبير، وكان المستولي على فارس بعد قراجة منكوبرس، وقد اجتمع عليه الترك فكتب إلى السلطان، يطلب ولده ألب أرسلان، ليذعن بالطاعة، والاعتراف بالتباعة، فأوجب ذلك رحيل السلطان والطرق مسدودة، والسبل مصدودة؛ فتضرر الظهر وظهر الضرر، ونفقت الدواب وتضوَّر العسكر، ووصل إلى أصفهان، وأنفذ إلى فارس ولده ألب أرسلان، فوقعت على منكوبرس حينئذٍ على الحقيقة سمة الآتابكية، ودرَّتْ له أخلاف الحرمات البكيَّة.

ذكر حوادث جرت في أثناء ذلك من السلطان مسعود وآتابك آق سنقر الأحمديلي

قال — رحمه الله: لمَّا قصد السلطان مسعود بغداد عبَر على تكريت، وكان واليها الأمير نجم الدين أيوب وعمي عزيز الدين عنده، فقال مسعود: لا يستتبُّ أمري إلا بوزارة العزيز؛ فإن الأمراء يميلون إليه، وإذا استوزرته كنت في حرز حريز. فنفَّذَ إليه خادمه عماد الدين صوابًا، والأمير أبا عبد الله الدووي ومعه مقدمين وحجابا، وطلبوه من الوالي، فأظهر الأمير طاعة الموالي، لكنه أضمر نية اللَّاوي وَليَّ المناوي؛ فإن صاحبه كان مع السلطان طغرل، فحصل في الأمر المشكل، إن سلمه خشي في العاقبة عقوبة صاحبه الغائب، وإن لم يسلم خاف من سخط السلطان الحاضر العاتب، وأخرجه من القلعة إلى المشهد بالمدينة، واشتغل بحمل أسباب التجمُّل والزينة، ولم يزل يُدافع الوقت حتى حان المغرب، وخان المطلب.

فعزم العزيز على الخروج فيمن معه، وتسابقوا إلى الأبواب فوجدوها قد أُغلقَتْ قبل وقت إغلاقها، وعند ذلك عاد وثوق الآمال بالانطلاق بوثاقها، وطلبت المفاتيح وقد حملت إلى القلعة، فباتوا على مضضهم في تلك البقعة، فلما أصبحوا وجدوا صطماز أحد مماليك بهروز، وهو شحنة الحلة على الباب، وقد استتبع جماعة من الأوباش والأوشاب. وقد ساق في ليلة واحدة أربعين فرسخًا، وجاء لمن بالقلعة مصرخًا، ودخل على العزيز وأخذ بيده وردَّه إلى القلعة، وقال للقوم: «انصرفوا بسلام، فلا حاجة بنا إلى التعرُّض من صاحبنا لمعتبةٍ وملام، وهذا السلطان مسعود إن استقرَّتْ له سلطنته فالآفاق له مذعنة، وما دام الملك لأخيه فلا مطمح له فيه.» فعلم القوم أنهم أخطئوا الحزم، وضيَّعوا العزم؛ فرجعوا إلى السلطان وأخبروه بالحكم والعلة، فحلَّ به الشحناء من شحنة الحلة، وطلب بعض إخوة العزيز ليستخدمه، ويتقرَّب به إليه ويقدمه.

وكان العم بهاء الدين أبو طالب وزير آق سنقر الأحمديلي وهو في الخدمة، فرتَّبه في منصب الاستيفاء، وتعوَّض بالصعيد الطيب من الماء، واستوزر أنوشروان، وجمل بمكانته المكان، وأخذ العسكر للملك طالبًا، ولأخيه مناصبًا، وكان السلطان طغرل حينئذٍ بأصفهان، وقد استخلف آتابك قرا سنقر بأذربيجان، فلما نهد آق سنقر مع السلطان مسعود إلى أذربيجان، تزحزح عنه قرا سنقر إلى زنجان، وتحصَّن عين الدولة خوارزمشاه والأميران بيشكتين وبلاق بأردبيل، والأمير الحاجب تتار بأرمية، وتحكَّم السلطان مسعود وآق سنقر في تلك البلاد، وانتظمت أمورهم في سلك السداد، ونزلوا على أردبيل محاصرين، وثبت أهلها صابرين مصابرين، وكتب الدركزيني إلى قرا سنقر يُحَرِّضه ويقول له: «بارز آق سنقر؛ فأنت له مبارٍ بالمبارزة، وأحضره وناجزه الحرب بنفسك، وإلا حضرت بنفسي إلى المناجزة.» فكتب جوابه، ومهَّدَ في تأخير القتال عذرًا، فلم يعذره الوزير، وكتب إليه ثانيًا يأمره بالمناجزة، فاستشاط قرا سنقر من اشتطاط الوزير، وقال لجماعته: «قد بلانا الله بهذا الفلاح، والدولة بوجوده معدومة الفلاح.» فاحتدَّ الأميران الحاجب تتار، وجاولي الجاندار، وقالا: «لا بد من طاعة السلطان في محاربة أهل العصيان، فلا تجبُن فهذا مقام الشجعان.» فاغتاظ وركب وساق نيفًا وعشرين فرسخًا في ليلةٍ واحدة، فوصل بخيول رازحة، وخيول آق سنقر جامة غير جانحة، فتلاقيا وتضاربا، ثم انهزم قرا سنقر وفرَّ، وظفر آق سنقر وقر، وكانت الحرب على باب أردبيل، فشفى آق سنقر منهم الغليل، واحتوى على ما كان معهم، ولم يقم بعدهم وتبعهم، وهجر الكَرَى، ووصل السير بالسرى، حتى وصل إلى همذان، وعنا الملك لمسعود ودان، وخرج السلطان طغرل وتحصَّن بأَرْوَنْد وماوَشان، وكان قد عرض له مرض أقعده عن الحركة، وأعجزه عن حماية المملكة؛ فقدم الأمير الحسن الجاندار على العسكر وهاجه إلى اللقاء، وألقاه في الهيجاء، ثم انهزم طغرل إلى الري قادمًا، وعلى الرأي نادمًا، وعلى وزيره واجدًا، ولله شكرًا على سلامته ساجدًا.

ذكر ما كان من حديث عمي العزيز وحادثته بعد عوده إلى القلعة

قال: قال الدركزيني لسنجر عند عوده إلى خراسان: «إنك تعود إلى خراسان ويبعد علينا استئذانك في المهام، فأعطِنا علاماتك في دروج بياض، لمقاصد تعرض وأغراض، فإذا عنت مصلحة، واتفقت منفعة للدولة مترجحة، أصدرنا بها مثالًا بعلامتك، فلا يُخالفه القريب والبعيد، ولا ينقاد إلا له الغوي والرشيد.» وكانت علامة سنجر تحت قوس الطغراء وفوق باسم الله (توكلت على الله)؛ فأخذ العلامات في عدة دروج، واتخذها أسبابًا لاستباحة دماءٍ وفروج، فأول مثال زوَّره أنه وقَّع تحت علامة منها بقتل العزيز إلى صاحب تكريت بهروز الخصي، واتفق أنه كان في العسكر معهم، فأرهبه وأرعبه، وأمره بالامتثال، والجري على مُقتضى المثال؛ ففزع الخصي وتمكَّن منه الخوف، وكتب إلى والي تكريت نجم الدين أيوب، وخاطبه في الخطب المخطوب، وقال له: «هذا توقيع السلطان مع صاحب وزيره، يأمر بقتل العزيز وتسليمه إليه وتسييره، فإن أبيت فقد رضيت بسخطي، وخالفت شرطي، وأردت الخطأ في رد خطي».

وكان نجم الدين رجلًا مسلمًا، فما رأى أن يكون لرجلٍ مسلمٍ مسلِّمًا، وعرف أخوه أسد الدين شيركوه الحال، وحجز بينه وبين الوقوف على التوقيع الواصل وحال، فشاركه أخوه شيركوه في ردِّ الوارد، وصرفوه بالخلع والفوائد، وكان شيركوه ملازمًا للعزيز ومتبركًا به، ومتمسكًا بسُننه، قال عماد الدين: سمعته يومًا يقول: «صليتُ ليلةً مع العزيز، فسمعتُ هاتفًا يقول: جعلك الله عزيزًا كما حميتَ العزيز.» فما أطمعني في مصر بعد نيف وثلاثين سنة إلا هذه الدعوة، وأيقنتُ أنني أنال هذه الخطوة. قال: فكان كما قال، فإنه ملك مصر وصار عزيزها، ومن حاز الجنة بما فعله فلا عجب لمملكة مصر أن يحوزها.

قال: فلما عرف الدركزيني تمنُّع ما توقعه، ضاق عليه الفضا وما وسعه، فثقَّل على بهروز وفزَّعه، وقال له: «سِر بنفسك ولا تتنفَّس بسرِّك حتى تأتي تكريت، وبيِّت من بها قبل أن تبيت.» ووكل بالخصي أيامًا، ومزج له الشهد سمامًا، ثم أطلقه على الشرط فلم يشعر نجم الدين أيوب وأخوه أسد الدين شيركوه حتى هجم الخصي عليهما القلعة وقال لهما: «قد دافعتما عن هذا الرجل دفعات، فكيف هذه الدفعة؟» فدفعاه فلم يندفع، وردعاه فلم يرتدِع، فتركاه وشانه، فما ترك ما شانه، وكان بهروز قد استصحب معه من أعوان الدركزيني ملحدًا، مثله مفسدًا، فلما عرف العزيز — رحمه الله — أنه قد أُسلم، وأحسَّ بالأمر وما أُعلم، قام يصلي ركعتين، فصلَّى الأولى بسورة الكهف، وشرع في الأخرى بياسين، وطالت صلاته على الملحد اللعين، فضربه وهو في السجود، فجاد بروحه في مناجاة المعبود، وشهد السعادة، وسعد بالشهادة، وكان مذ حُبس متوفرًا على العبادة؛ يصوم ويقوم، وذلك في سنة ٥٢٧، وعمره ٥٥ سنة، وجرى هذا الأمر، ولم يكن عند السلطان طغرل خبر، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر، فإنه بعد قتله الدركزيني طلب العزيز فأُعلم بحادثته وحديثه، فلعن الوزير على تأثيره، وشؤمه الناري وتأريثه، ولم يكن بين مقتل الشهيد العزيز وبين مقتل المرتد الوزير سوى أربعين يومًا.

ذكر قتل الوزير الدركزيني، وما آل إليه أمر السلطان طغرل

قال — رحمه الله: قد ذكرنا أنه أحجم إلى الري من قدام آق سنقر ومسعود، في عدد مفلول وفل معدود، وخرج الأمراء الذين كانوا بأردبيل في الحصار، ورحلوا على سمت أصفهان، ليلحقوا السلطان، وفارقهم العسكر فوصلوا في خف من الخواص، وعبروا للخلاص، على النهج المُعتاص، وجاءت العساكر إلى مسعود من كل حَدَبٍ تَنْسل، وبكل عسال تعسل، وكان طغرل قد رحل إلى أصفهان، ثم رحل لقصد أخيه مسعود إلى خوزستان، وأيقن أن كل ما تمَّ عليه من الوهن في أموره كان بوِزر وزيره، وإدبار تدبيره؛ فأمر بصلبه، فصُلب بأمره، وانقطع لثقل جسمه حبل خناقه، فوقع إلى الأرض في آخر أرماقه، وفي جملة النظَّارة مملوك من مماليك شيركير واقف، وهو بما جرى منه على مالكه عارف، فشقَّ الحلقة بسيفه المسلول، وضرب رقبة الوزير المغلول، فقُطع في الحال إربًا إربًا، وأُفرغ قحف رأسه وحُمل إلى ابن شيركير، فاتخذه للكلاب شربًا، وأُهديَتْ كل أُنملة له إلى من عنده له ثار، وانتعش بعثاره من كان له عثار، وكان مقتله بشابور خُواست.

وكان السلطان طغرل قد قال له وهو جافل، ومن طلوع أخيه عليه آفل: «أين العسكر؟ أين الجُند؟ أين ما سبق به منك في الكفاية الوعد؟» فقال له: «لا تُبالِ، ولا تخطر خطرًا بالبالِ؛ فإني قد ندبتُ جماعة من الحشيشيَّة لقتل أعدائك، وكأني بهم وقد تعجَّل قمعهم، وتفلَّلَ جمعهم.» فاغتاظ السلطان وقال له: «قد وضحت صحة إلحادك، وبان فساد اعتقادك.» فأمر بتجريده، وإشعال نار الحديد في ماء وريده.

قال: ووصل الخبر بأن الباطنية قد دخلوا على آق سنقر في خيمته بمرج قراتكين، وتناوبوه بالسكاكين، وأن عساكره ارتحلت من همذان، على صوب أذربيجان، فإن السلطان مسعودًا وإن كان في جمعٍ جم، وعسكر دهم، لكن أمره مُدبَّر، إذ عُدم من هو له مدبِّر، فثنى طغرل عنانه، وشرع لنحر الخصم سنانه، ومضى إلى الري، وطوى المنازل إليها أسرع الطي، فلما خيَّم بها اجتمع الذباب على عسله، والذؤبان العاسلة في محفله وجحفله، ورحل السلطان مسعود بعد مقتل آتابكه آق سنقر إلى الري لإضعاف آخية أخيه، ومناجزته قبل انتهاض قوادمه بخوافيه، والعسكر الباقي معه يزيد على ستة آلاف فارس، وطغرل في ثلاثة آلاف، فبرزوا بعدة المبارزة، وأنجزوا عدة المُناجزة، فانهزم طغرل وحماه حُماة خواصه، وخلَّصه ذوو إخلاصه، واستأمن الأميران بلاق وسنقر صاحب ذنجان وجماعة إلى العسكر المسعودي، واستوت سفينة السكينة منهم في بحر جوده على الجودي، وذلك في ثامن عشر رجب سنة ٥٢٧.

وامتدَّ طغرل إلى طبرستان، ونزل على الأصفهبد علي فأكرمه وأعز مقدمه، ووسَّع له ولعساكره الأتراك، وأنفق فيهم الذخائر والأموال، وأقاموا شتوتهم عنده، فلما انحسر الشتاء رحل طغرل عائدًا إلى همذان، واتصل به من الأمراء الأكابر جماعة، لهم على الأنام طاعة، مثل عين الدولة خوارزمشاه، ومحمد بن شاهملك، وحيدر بن شيركير، وسعد الدولة يرنقش، ووصل بزابه من عند آتابك منكوبرس في ألفَي فارسٍ من فارس، فاشتدَّت شوكته، واحتدت شكته، وكان السلطان مسعود بأذربيجان، فاستدعى فخر الدين عبد الرحمن بن طغايرك، واتصل به يرنقش البازدار ونجم الدين رشيد، ونهضوا لصوب قزوين والري، عازمين على حسم الداء بالكي، فرحل السلطان طغرل يتتبع آثارهم، ويشق غبارهم، فنكلوا عن لقائِه، وولَّوه ظهورهم عند ظهور لوائِه، وتفرقوا أيدي سبا، وغنم أصحاب طغرل ما وجدوه من دوابهم وأسلحتهم، وندب قرا سنقر إلى محاربة الملك داود بن محمود بالمراغة فهزمه، وفلَّ غربه وثلمه، وتمكَّن السلطان من سَلطنته، وتسلَّط بمكنته، وفرع سريره، وعرف سروره.

وزارة شرف الدين علي بن رجاء

قال — رحمه الله: سمعتُ والدي صفي الدين يشكره ويُثني عليه ويقول: لمَّا قتل السلطان طغرل وزيره الدركزيني استدعاني من أصفهان، وظن أن العزيز باقٍ، وأنه عن حضرته إذا طلبه غير معتاقٍ. قال: فقربني وأكرمني. قال: «خُذ خطي إلى بهروز بإحضار أخيك، وأسرِع فإني مُنتظر لتوافيك.» قال: فمضيتُ إلى بغداد، وإذا بالقضاء قد قُضي، والحكم قد أُمضي، فلما عرف طغرل بوفاته، طلب رجلًا كافيًا، فوجد علي بن رجاء عليًّا كما رجا، فعوَّل عليه في وزارته وسلَّم إليه المنصب، وشرع في مصادرة الدركزينية وقبض على نُوَّابهم، وضيَّق على أصحابهم. قال: وفي هذه النوبة قتل السلطان مسعود الصفي الأوحد المستوفي، وصادر أهله على مائتي ألف دينار، وكان ذلك برأي سعد الدين أسعد المنشئ الخراساني، وبمواطأة الكمال ثابت القمي، فإنه تولى منصب الاستيفاء، فرأى إتلاف من يترشح لمنصبه حتى يبطش بيد الاستيلاء.

ولمَّا استقرَّت قاعدة طغرل وأمن من معار معارضيه، وعلا على مقار مقارعيه، وجلس على تخته، وتبجَّل بعلوِّ بخته، فاجأه الأجل فانتقل من الثراء إلى الثرى، ومن دار البلاء إلى دار البلى، وذلك في أوائل سنة ٥٢٨، فإنه عرض له قولنج، فشرب دواءً أسهله وأدواه، وأسقط قواه، فتشتت ذلك الجمع، وانطفى ذلك الشمع، وغاض ذلك البحر، وغاب ذلك البدر، وكانت وفاته بهمذان ودفنه بها في مدرسةٍ بناها لبعض خدمه، وأسف بنو الآمال على كرمه، وكانت مدة ولايته سنتين وشهرًا أو شهرين، وكان جامعًا للخِلال التي تفتقر إليها السلطنة من الحزم والتحفُّظ، والعزم والتيقُّظ، إلا أنه كان مستبِدًّا بآرائه، مُعجبًا بأهوائِه، لا يستشير في أموره، ولا يسترشد في تدبيره وكان مصطنعًا لأراذلَ صحبوه في أول عهده، فصاروا مُقدمي جُنده، والمخصوصين برفده؛ فكانت دناءتهم تغضُّ من جليل قدره، وتغمض على ذكره.

ذكر جلوس السلطان المعظم غياث الدنيا والدين أبي الفتح مسعود بن محمد بن ملكشاه، قسيم أمير المؤمنين سنة ٥٢٨

قال — رحمه الله: كانت أم مسعود حظيَّة تُسمى نيست أندر جهان، وزوَّجوها بعد وفاة السلطان محمد بالأمير الأصفهسلار منكوبرس والي العراق، ونقلوا معها برسم جهازها من الخزانة السلطانية أموالًا لا تنفد مع دوام الإنفاق، وكان منكوبرس من أكرم أُمراء الدولة وأعيانها، وكان قد استبدَّ بإقطاعات العراق بعد وفاة السلطان، وتفرَّد بها مدة حياته، وارتفع بوفور ارتفاعاته. وحُكي عن وزيره ولي الدين المخلِّص محمد الميانجي أنه قال: «جمعت له في العراق ألف ألف وثلاثمائة ألف دينار نقدًا مطبوعًا بالسكة الإمامية، سوى ما كان له من الآلات والثياب والدواب والجواهر.» وقد ألممنا بذكر قتله في عهد السلطان محمود، ورجعنا إلى حديث مسعود، وذلك أنه سلَّمه والده في سنة ٥٠٥ إلى الأمير الأصفهسلار مودود صاحب الموصل.

ثم جهَّز مودودًا لحرب الفرنج، ووصل إلى الطبريَّة، وروَّى صدى الإسلام من دم الكفر، وشهر على أيمان الإيمان نصل النصر، وعاد إلى دمشق محبوًّا بالفتح، محبورًا بالنُّجح. وحضر في الجامع في آخر جمعة من ربيع الآخر سنة ٥٠٧، وخرج ويده في يد طغتكين صاحب البلد، وهو محفوف من جُنده بذوي العَدد والعُدد، فجاء إليه رجل وضربه بضربتين، فنفذت إحداهما إلى خاصرته، وحُمل إلى دار طغتكين، وعزَّ فيه عزاء المسلمين، وقيل: إنه خاف منه على دمشق فدسَّ إليه، ولولا ذلك لكان لمَّا أُهريق منه الدم شق عليه، ولما وصل نعي مودود إلى السلطان محمد، سلَّم ولده مسعودًا إلى آق سنقر البرسقي، وأقطعه الموصل والجزيرة، وأجزل له عطاياه الغزيرة، ولما تُوفِّي محمد تولى محمود، فزوَّج أم مسعود بمنكوبرس استمالةً لقلبه، وإظهارًا للتقرُّب إليه ترغيبًا له ورغبةً في قُربه، فلمَّا ظفر به قتله، وحلى بصبغ دمه من سيفه عطله، وجمع جوشبك الجيوش، وسار بمسعود إلى حرب أخيه محمود، فكان ما كان من هزيمته، وقتل أبي إسماعيل الطغرائي وزيره.

ثم استدعى السلطان سنجر بعد ذلك مسعودًا وإخوته، وقرَّرَ على السلطان محمود من مال العراق نفقتهم ونفقته، إلى أن خرج الأمراء على محمود في آخر أيامه، فاستدعوا مسعودًا من جرجان، وحملوه على مُناجزة السلطان، فما تسنَّى له أمر، ولا تهيَّأ له نصر، فاستمال السلطان محمود أخاه مسعودًا وقرَّبه وسيَّره إلى أرَّانية، واستكانت لهيبته عيون أعيانها الرانيَّة، ثم لما تُوفِّي محمود، جرى له ما ذكرناه مع أخيه طغرل حتى مضى لسبيله.

قال: وكان مسعود قد وصل إلى دار الخلافة في حياة أخيه، وخطب الخليفة المسترشد بالله له، وأجلَّه وبجَّله، ووقعت عليه سمة السلطنة بلا سُمُو، وعلا صيته بلا صوت عُلُو، وكان الجُند يجتمع عليه ويفترق، ويُشئِم تارة معه ويُعرِق، فلما نبت غرسه، وثبت عرشه، وقرَّ قراره، وسر أسراره، وكان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد. قال — رحمه الله: وكان المسترشد بالله — رضي الله عنه — قد استوزره مُدة، ولمَّا وصل السلطان مسعود إلى دار الخلافة، وخطب له في آخر المحرم سنة ٥٢٧ سفر أنوشروان، وهو وزير الخليفة في مهامه، فسفر بحُسن سفارته وجه مرامه، وأحضره المسترشد وقال له شِفَاهًا: «تَلَقَّ هذه النعمة بشكرك، واتَّقِ الله في سرك وجهرك.» وخلع عليه وطوَّقه وسوَّره، وجلس على الكرسي المُعَدِّ له فقبَّل الأرض، وقال له أمير المؤمنين: «من لم يُحسن سياسة نفسه، لم يصلُح لسياسة غيره، قال الله تعالى ذِكره: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» فأعاد عليه الوزير بالفارسية، فأكثر من الدعاء والضراعة، ونطق بالإذعان والطاعة، وقلَّده بسيفين، وعقد له بيده لواءين، وسلَّم إليه ابن أخيه داود وآتابكه آق سنقر، وقال له: «انهض وخُذ ما آتيتك وكُن من الشاكرين.» فمضى مسعود، وهي النوبة التي نُصر فيها على طغرل. قال: ثم رأى الخليفة عزل أنوشروان، واستيزار شرف الدين نقيب النُّقباء على ابن طراد الزينبي، وفيه يقول حيص بيص قصيدة أولها:

شكرًا لدهري بالضمير وبالفمِ
لما أعاضَ بمُنعمٍ عن مُنعمِ

فجلس في بيته مُكرمًا، ولزم منزله محترمًا، ثم اجتمع بالسلطان مسعود فاستوزره، وصدَّ رهبة الأطماع حين صدَّره، وكان المستولي على مسعود آق سنقر، فلما استشهد تمكَّن الأمير يرنقش البازدار، فاستولى ولم يلتفت إليه ولا إلى وزيره، وكان آتابك قرا سنقر حينئذٍ قد وصل إلى الخدمة في حُشوده وجنوده وحُماة أذربيجان، وكُماة أرَّان، وعنده استشعار من زوجة السلطان الخاتون زبيدة بنت بركياق، فإنها كانت على السلطان مُتسلطة، فرأى صلحها وإصلاح رأيها، وحمله دهاؤه على حمل النفائس إليها وإهدائها، فلم يُعجِب الأمير يرنقش ذلك فاستوحش، ووافقه الأمراء الأكابر، وهم: بُرسُق، وقِزِل أمير آخر، وسنقر صاحب ذنجان، وجاولي، وحيدر بن شيركير، فخرجوا عن الطاعة، وتدرَّجوا إلى مُفارقة الجماعة، ورحل يرنقش بهم إلى بروجرد، وبقي السلطان ومعه قرا سنقر في جيوشه، واتصل به خوارزمشاه، ووصل الأمير السابق رشيد من خُراسان، فنهض السلطان بهم إلى هؤلاء البُهُم والتقوا، فانهزم يرنقش، وأسر من الأمراء الطغرلية جماعة، وقعت في إطلاقهم من قرا سنقر شفاعة، ولم يزل بهم حتى أصلح حالهم، وقضى أشغالهم.

وأما يرنقش البازدار، فإنه رهب فهرب، ودار بخلافه حتى أتى دار الخلافة، فحطَّ بحرم الأمن رَحْلَ المخافة، واستصحب معه من الأتراك جمعًا كثيرًا، وصار بين الخليفة والسلطان للشرِّ مثيرًا، وأشاع عن السلطان نقض الأيمان، ورفض الإيمان، وزعم أنه قد عزم على صدق القصد، وأنه باغٍ باغَ زَرْعَ الدولة المسترشدية بالحصد، وكان الخليفة قد انقرض من السلطان في تغييرات غيَّرت فيه آراءه، وبدت من شحنة ببغداد ما أبدت شحناءه، فلما سمع قول يرنقش، صار يرى نقشه في الحجر، ونَبَتَ ما شجر من الخلاف والعناد عند الخليفة نَبْتَ الشجر. وكان السلطان قد همَّ باتِّباع يرنقش بعسكر يكفه ويكفيه، ويقف على أثره ويقتفيه، فصدق الخليفة قصده، وتحقَّق حق عناده عنده، فحينئذٍ خطب وخاطب، وطلب وطالب، وخرج بنفسه في هيئةٍ رائعة، وهيبةٍ رائقة، وخرج معه من كلِّ طائفة أعيانُها، وتعاونت على التناصر أنصارُ الدولة وأعوانُها، وسار وقد صحبه حتى الشعراء والأطباء، والصوفية والفقهاء، وفي تلك السفرة يقول أبو القاسم بن الفضل الشاعر قصيدته التي أوَّلها:

في العسكر المنصور نحن عصابة
مرذولة أخسس بنا من معشر
خذ عقلنا من عقدنا فيما ترى
من خفةٍ ورقاعةٍ وتهوُّر

ويقول فيها:

تكريت تعجزنا ونحن بعقلنا
نسعى لنأخذ ترمذًا من سنجر

قال: ولم يقدر على التخلُّف عن الخليفة ذو قدر، ولم يُفسح لذي عذر، وسار في حشدٍ وحشر، وضم ونشر، ونمى إلى السلطان خروجُ الخليفة فشقَّ عليه شقاقُه، وأظلمتْ آفاقُه، فخرج صوبه من همذان، والتقوا بمرج يقال له داي مرك، ولما تراءى الجمعان مال الجنس إلى الجنس، فمال الترك إلى الترك، وأسلموا حُرمة الإسلام المصونة إلى الهتك، وتفرَّد الخليفة مع مفرديه، وبعد من جدى منجديه، ثم أقشع نشاصه، وانفلَّ عنه خواصه، ووقف ولم يُوَلِّ، وثبت ولم يُخلِّ، وهابت الجماعة الإقدام عليه، والتقدُّم إليه، فنزل أمير العلم السلطاني وتقدم، ولم يزلْ يُقبِّل الأرض حتى وصل إليه فأخذ بعنانه، ثم أحدق به الأمراء كما يحدق كلُّ موكب بسلطانه، وأنزلوه في خيمةٍ ومعه وزيره نقيب النُّقباء وابن طلحة صاحب المخزن وسديد الدولة ابن الأنباري كاتب الإنشاء، وبقي هكذا في مخيم مسعود يرحل برحيله، ويحلُّ بحلوله، وهو يعده بإعادته إلى دار الإمامة، حتى كان المعسكر على المراغة، فوصل الأمير يرنقش قرآن خوان من خراسان برسالة سنجرية كتم سرها، وأسبل سترها، وهجم على الخليفة جماعة من الباطنية ففتكوا به في سُرادقه، وفجعوا الزمان بسيد خلائفه وخلائقه، وذلك في يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة سنة ٥٢٩، فعرف بقرائن الأحوال أن سنجر سيَّر الباطنية لقتله، وما أشنع وأفظع ما أقدم عليه من فِعله.

ولاية أمير المؤمنين أبي جعفر منصور الراشد بالله ابن المسترشد بالله رضي الله عنهما

قال: فوصل الخبر إلى بغداد باستشهاد الخليفة — رضوان الله عليه — يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة ٥٢٩، وبويع للراشد بالخلافة، وجلس في منصبها في ذي الحجة، وبقي في دار الإمامية ببغداد قريب تسعة أشهر على إرجاف مزعج للأرجاء، وخوف غالب على الرجاء، حتى تفرغ مسعود إلى شغله، فشمل بيته بيت شمله، وأخرج بدره من بيت شرفه، وأتى على متلده ومطرفه. وسيأتي ذكر ذلك في موضعه.

قال: فأما السلطان مسعود، فإنه بعد حادثة الخليفة بالمراغة، قبحت سمعته، فذكرته الألسن، ونكرته الأعيُن، فصار يفكر في شيء ينفي عنه الظنة، ويستلُّ به من القلوب السخيمة المستكنة، حتى سوَّلَتْ له نفسه قتل الأمير دبيس بن صدقة، وكان في القرب منه بمنزلة إنسانِ عينه الذي بوأه الحدقة، فرأى أنه إذا قتله نسب الناس إليه قتل الخليفة، وأن السلطان لذلك لم يُبق عليه، وكان الأمير دبيس المزيدي حضر باركاه السلطان وهو جالس ينتظر الإذن، فجاءه من ورائه وهو لا يراه بختيار الوشاق، وأبان بسيفه رأسه وأسال على البساط دمه المهراق، وكان بين استشهاد الخليفة وقتْل دبيس شهر واحد، وكانت هذه النوبة أيضًا شنيعة، والفضيحة فظيعة، وشفعت الكبيرة بالكبيرة، وأُتبعت الجريرة بالجريرة، فتقرَّحت القلوب وتحرَّقت، وأسِفَتِ النفوس وأشفَقَتْ، فلم يكترِث السلطان بما كرث، ولم يُحدث غمًّا لِما حدث، وطما عُباب طماعيته، ولفح شرر شرته، وخشيه الأكابر والأماثل، وغشيه الأصاغر والأراذل، فرفع قوانين السلطنة وأبطلها، ومحا سَنَا محاسنها وعطَّلها.

فأول ما بدأ به بعد حادثة الخليفة أنه نهض إلى بلاد سُكمان، فجلب على سكانها البلاء، وأضرى بها الضرَّاء، وخافه ابن سكمان فجفل، ثم بذل له بالذل خدمه حتى قفل، وحينئذٍ توجَّه إلى بغداد مناصبًا للخليفة، ناصبًا له وجه الخِيفة، فنذر وحذر، وقام وقعد، وأحسَّ بقُرب مَن قتل أباه، فأباه وبعد، وكان الأمير زنكي بن آق سنقر صاحب الشام ببغداد، فحمله على السير منها والإغذاذ، وكان داود ابن السلطان محمود قد وصل إلى بغداد وزنكي مؤازره، ومُظاهره وناصره، فلما حضرها مسعود وحصرها، ونازل بعسكره عسكرها، رحل داود عائدًا إلى أذربيجان، وأجفل زنكي راجعًا إلى الشام، وقد خاف السلطان، وأشار على الخليفة باتِّباع أثره، فما أصغى إليه، ولا سهلَ خروجه من بيته عليه، ثم استوحش من مقامه بعد أن أقام مدة على استيحاش، فرحل رحلة آيس، ونفر نفرة خاشٍ. ومضى إقبال خادم أبيه معه، وصحبه وزيره جلال الدين أبو الرضاء بن صدقة، وخيَّم بظاهر الموصل متمسكًا بحبل قاطعه، ومُغترًّا بسلم منازعه، فإن زنكيًّا لمَّا أصلح أمره مع مسعود سيَّبه وخيَّبه، وأخذ إقبالًا خادمه وحبسه ثم قتله، وأزعج الخليفة فانتقل انتقال المرتاب، وتحوَّل تحوُّل المرتاع، وبقي كذلك سنتين لا يستقر به مكان، ولا يُمكن له قرار، حتى اجتمع بالسلطان داود في أذربيجان، وجاء معه إلى محاصرة أصفهان، وختم له بالشهادة عليها سنة ٥٣٢ في ظهر يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان، وكان ذلك في القيظ وقت الهاجرة المتأججة، والقائلة المتوهجة، فهجم عليه قوم من فدائية الباطنية، فأضجعوه على فراش المنيَّة.

قال عماد الدين: وأنا أذكر في صغري هذا الحادث الكبير وحديثه، وتأثيره في القلوب وتأريثه، وكان ذلك بعقب سنوات أسنات، وشتوات شتات، ومجاعات للجماعات مُفرِّقة، ونوائب نوابي للنوائب محرِّقة، وهلك الناس جوعًا، وخرج من أهل أصفهان مَن لم ينوِ إليها رجوعًا، وما كفاهم ذلك حتى نزل عليهم داود، فخربت القرى وألحقت بالوهاد، وأُغلقت أبواب البلد، وَوَهَتْ أسباب الجَلَد، وأعيان أهل أصفهان لما أحسُّوا بالحصار، رغبوا في الأصحار، وانتقلوا إلى ظاهرها، وسكنوا حتى في مقابرها، وهناك بقرب زَنْدَرُوذ عند المصلى قصور عالية، مبنية على قبور أكابرها، وكُنا نحن من جملة المنتقلين إلى بعض قصورنا، وقد عُنينا بأمورنا، فجاء العسكر المُحاصر، في عددٍ كَلَّ عن عده الحاصر، وكان عمي بهاء الدين مع داود في ديوان الاستيفاء، وإليه وزارة خوارزمشاه، ولم يكن مع الراشد وزيره أبو الرضا بن صدقة، فإن زنكيًّا احتبسه عنده ثم استوزره، فنفذ إلى والدي صفي الدين وألزمه بوزارته فأبى، ثم اتفقت حادثة الراشد، فحمدنا الله على ترك خدمته، والعصمة من واقعته، فإن والدي — رحمه الله — حلف ألا يخدم بعد العزيز سلطانًا، ولا يتولى ديوانًا، فوفى بيمينه مدة عمره، وعاش بعد أخيه نيفًا وثلاثين سنة مقبلًا على أمره، ودُفن الراشد في مدينة جي، وأُفردت له تُربة في جامعها، وصار إلى اليوم موضع قبره من أشرف مواضعها.

وحينئذٍ تفرَّق شمل تلك العساكر، ورحل داود آخذًا طريق الري وسار معه والدي، واستصحبني وأخي أبا بكر، وخلانا في المدرسة المحدثة بقاشان، وأقمنا بها سنة نتردد إلى المكتب، ونشتغل بالقرآن والكتب الأدبية، ثم عُدنا إلى أصفهان، وكِلانا لم يبلُغ قمره إلى الإبدار، والوالد سار في ليل الأسفار.

قال: وأما أنوشروان الوزير، فإنه ما لبث في الوزارة، وكان معهد الملك به غير مستتب العمارة، لا لنقص فيه، بل لتغيُّر القواعد، وتكدُّر الموارد، فعُزل واعتزل، وما انتقل عن داره حتى تحوَّل إلى جوار ربه وانتقل، وجلس للوزارة عماد الدين أبو البركات الدركزيني. قال عماد الدين — رحمه الله: وكان نسيبًا للقوام الدركزيني من جهة أخواله، وقد حسنت في أيام دولته حوالي أحواله، ورتبه أيام الوزارة المحمودية عارضًا للجيش، وبقي مستمرًّا في منصبه، مستقيمًا على مذهبه، وهو الذي يقول فيه القاضي الأرجاني:

دام علاء العماد فهو رجاء العباد
دام لنا طالعًا فهو ضياء البلاد
له يدٌ لم تزل تصدر عنها أياد
عيون حُسَّاده مكحولة بالسهاد
كأن أجفانها أهدابها من قتاد

ولمَّا رأى السلطان مسعود في عُنفوان دولته، وريعان سلطنته، الخلل حالًا، والحال مُختلَّة، والعِلل بادية، والمبادي مُعتلَّة، استعجز أنوشروان للين أخلاقه، وقرب قمر عمره من محاقه، فرأى صرفه باحترام، وعزله بإكرام، وظنَّ أنه إذا ولى دركزينيًّا أحيا رسوم الاقتدار، وسطا سطوة الجبار، فولى العماد فما رفع عمادًا، ولا عرف سدادًا، ولا مشى إلا في طريق السلامة، وقنع بالدست والعلامة. وكان في منصب الاستيفاء حينئذٍ كمال الدين ثابت القمي، الثابت الكامل الباسل، وكان في زمان عمي من نواب ديوانه، وصنائع إحسانه، وكان شهمًا ناقدًا، وسهمًا نافذًا، فأنس السلطان بروائه، وركن إلى رأيه واستغنى به عن وزرائه، وهو الذي يقول فيه القاضي أبو بكر الأرجاني قصيدة منها:

سل النجم عني في رفيع سمائِهِ
أَشَاهد مثلي من جليسٍ مُبايتِ
أساهره حتى تكلَّ لحاظه
وينسلُّ في الصبح انسلالَ المفالتِ
سقى عهدهم غيث تقول إذا بدا
تجلَّلَ وجه الأرض ورق الفواخِتِ
معلمة الأمطار عيني على الثرى
إذا ما سما إن لم يكن كف ثابتِ
لهُ قلمٌ إنْ هزَّهُ في كتابةٍ
أبرَّ على سيف الكمي المصالتِ

قال: وهذا ثابت كان من دُهاة الرجال، وكُفاة الأعمال، وبمشورته شُيِّدَتِ القواعد، وشُدَّتِ المعاقد، وولى المقتفي وخلع الراشد، وأما السلطان مسعود فإنه بعد خروج الراشد من مقام الخلافة، استشار الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، وكان قد اعتقله بعد ما جرى على المسترشد، ثم أطلقه واستصحبه، وخاطبه فيمن يخطب له، فأشار بخير الخلائف والخلائق، أبي عبد الله محمد بن المستظهر، فبويع له بالخلافة في ذي القعدة سنة ٥٣٠، ونُعت بالمقتفي لأمر الله، ووزَّر له شرف الدين الزينبي، وأجمع الأنام على بيعته، واجتمعت الآمال الظامئة على شِرعته، وكرَّ السلطان راجعًا إلى الجبل، واثقًا بحصول الأمل، وانتهى إليه أن آتابك منكوبرس للخروج عليه مستعد، وأنه مُستجند مُستنجد لمجاوريه، مُستجيد لعدة الحرب مُستجد، فأنهض آتابك قرا سنقر إلى أصفهان ليكون على طريق دفعه، فسار ومعه يرنقش البازدار، وجاولي الجاندار، وسنقر صاحب زنجان، وهم العظماء الكبار، وهم أعضاد الدولة وأركانها، ومُلَّاك مسكن المملكة وسُكَّانها، ووصلوا إلى أصفهان، وكان القحط في الابتداء، فكانوا سبب الوباء والغلاء، وأكلوا ما وجدوه من الرطب واليابس، وألحقوا الغني بالفقير البائس.

قال: وأنا أذكر، وقد وصل قرا سنقر ووزيره عز الملك أبو العز البروجردي، وكان من الشياطين الذين استتبعهم في عصره الدركزيني، فقبض بقايا أملاكنا التي أسأرتها المصادرات، وعمد إلى شمل جماعتنا ليسرع فيه الشتات، وأقاموا تلك الشتوة بأصفهان، ثم صحَّ الخبر بوصول آتابكه منكوبرس، فعرف قرا سنقر والأمراء أنهم لا يطيقون مُقاومته، فساروا إلى همذان، ولحقوا بالسلطان، وجاء منكوبرس إلى أصفهان، فخلفهم في الظلم والإظلام، ورعى الغلال قبل إدراكها، وأعجل الأرماق عن امتساكها، وأقام مُدة، ولقي الناس منهم شدة، ورحل في أوفر عدة وأوفى عدة، فلما قرب من السلطان مسعود، تحاجز العسكران وباتا على لقاءٍ موعود، والتقيا بالموضع المعروف بكورشنبه، وصدقا الوثبة، وكانت الدبرة في الأول على عسكر فارس، فأصبحت فوارسه فرائس، وأُسر منكوبرس وأمر السلطان بقتله بين يديه، وكان شجاعًا كريمًا فأسِفَتِ القلوب عليه، وكان الأمير بوزابه من أعظم أصحابه، وأفخم أضرابه، فلما رأى العزيمة، أجلت عن الهزيمة، قال: «إذا سلمنا فقد أبنا بالغنيمة.» وحسب أن منكوبرس ناجٍ، ولم يدْرِ أن نعيه له مفاجٍ، فلما نُعي إليه صاحبُه، ضاقت به مذاهبُه، وحلف أنه لا يبرح حتى يأخذ بثاره، ويستقيل من عثاره. فعطف على معسكر السلطان مسعود وقد أمِن، ووفى له النصر بما ضمن، والمضارب قد شيمت، والمضارب قد أُقيمَتْ، والسوابق قد أُريحت، والسوابغ قد أُزيحت، فبينا هُم في أغفل حالة إذ هجمهم بوزابه، واستخرج كل أمير من مضربه، وسدَّ على كل كبير طريق مهربه، وركب السلطان مسعود فأبلى بلاءً حسنًا، ولم يترك في الدفاع عن مُهجته ممكنًا، ثم ولى ومعه قرا سنقر هزيمًا تشلُّهُ الرماح، هشيمًا تذروه الرياح، وحصلَ في قبضة بوزابه اثنا عشر أميرًا، منهم صدقة بن دبيس بن صدقة المزيدي، والأمير عنتر الجاواني، والأمير الحاجب الكبير أرغان، وآتابك سنقر صاحب زنجان، ومحمد بن قرا سنقر وجماعة آخرون، وما منهم إلا من قدمه، وأراق دمه، وشفى وتره، ووفى نذره، وذلك في أواخر سنة ٥٣١.

ثم قفل بوزابه إلى فارس واستولى على مملكتها، واستقرَّ في ولايتها، وعاد السلطان إلى سريره، مسلمًا لقضاء الله وتقديره، وهو الغالب المغلوب، والسالب المسلوب، وقد بددت عقود سلكه، وبادت سعود ملكه، فجلس لِمَا تَمَّ في المأتم، وعاد إلى ما ثَمَّ من عادة المأثم. واتخذ سواهم نُدماء، ورفع غيرهم أمراء.

قال: وفي أثناء هذه الفترة، كان خروج السلطان داود ومعه الراشد، فجرى ما جرى واستُشهد الراشد، وانعكست على داود المقاصد، وتمهَّدَتْ لمسعود القواعد، واتصل بعد ذلك الملك سلجق بأخيه السلطان مسعود، فأقطعه بلاد سكمان من خلاط وأعمالها ومنازكرد وأرزن، وأضاف إليه الأمير غُزْ أُغْلي السلاحي مقطع تبريز، فقصدها واستصفاها، فاستخرج أموالها واستوفاها، وأوسعها سبيًا وتخريبًا، وسامَ أهلها ظُلمًا وتعذيبًا، وما زالت الدولة مُضطربة، والفتنة مُضطرمة، وأيدي الظُّلم عائثة، وألسُن الذم عابثة، حتى استجدَّ السلطان وزيرًا، استجاد لمملكته تدبيرًا، وحكم وأحكم، ونقضَ وأبرم، وهو الوزير كمال الدين محمد بن علي الخازن، من أهل الري. قال: وكان السلطان استعجز العماد أبا البركات، ووجده في تسكين الخطوب عديم الحركات، فصرفه إلى بيته على أجمل وجه، ولزم موطنه على رفق ورفه، ولم يفلت وزير كإفلاته، وكانت الليالي بالسلامة كافلاته، وشغلته العطلة بصومه وصلاته.

وتولَّى الوزارة كمال الدين، وكانت وزارته في سنة ٥٣٣ ببغداد، وفي ديوان الاستيفاء كمال الدين ثابت، وفي منصب الإشرافِ المهذبُ بن أبي البدر الأصفهاني، وفي كتابة الإنشاء وليُّ الدين المعروف بسياه كاسه، وفي منصب الطغراء مؤيد الدين المرزبان بن عبيد الله الأصفهاني، فانشرحت الصدور، وانتظمت الأمور، ورتَّب الوزير لخزانة السلطان أموالًا تُحمَل إليها، وجِهات تُوفر عليها، وأحيا معالم للملك قد دثرتْ، ونظَّمَ عقودًا للمصالح انتثرتْ، وابتدأ بكسر الجبارين، وجبر المنكسرين، وقرَّر مع السلطان سرًّا، أن ينويَ لقرا سنقر شرًّا، وبذل لقرا سنقر في وزيره عز الملك أبي العز البروجردي خمسمائة ألف دينار على أنه يُسلمه إليه، ويُسلط يد الاقتدار عليه، فأعرض عنه، وما قبل البذل منه، وبخل بصاحبه لمحض الكرم، وما أسعدَ من اختار الصاحب على الدينار والدرهم! فلما أَيسَ منه أخاف السلطان من عواقبه وقال له: «لا يُجمَع في غِمدٍ سيفان، ولا يظهر لك مع تسلُّطه قوة السلطان.» وقرَّر معه استدعاء بوزابه من فارس ليفرسه به، ويجر الخلاف إلى مذهبه، فاستوحش سر قرا سنقر فأضمر الكيد، وأعمل الأيد، فاستدعى الملك سلجق ووعده بأن يمضي معه إلى فارس ويستخلصها لأجله، وحمل أيضًا على النهضة معه داود بن محمود وآتابكه أياز، وكان من صنائع قرا سنقر.

ورحل قرا سنقر عن أذربيجان، نحو السلطان مسعود إلى همذان، ومعه الملكان، ومعه من العساكر عشرة آلاف، فلما قرب أنفذ وزيره عز الملك البروجردي إلى السلطان رسولًا، وتحدث معه وقرر سولًا، وحمَّله منه ومن الملكين ومن جماعة الأمراء كُتبًا مضمونها: «إنا لا نأمن جانب الوزير الكمال، وإنا لا نصبر على ما يبدو منه من الأعمال، فإما أن تُعدمَه، وإما أن تُسلمَه، فإن دفعته إلينا فنحن طائعون، وإن دافعت عنه فنحن عن أنفسنا مُدافعون.» فلما سمع السلطان ما قالوه، استقالهم فما أقالوه، فحار في تدبيره، واضطُرَّ إلى تسليم وزيره، فقبض عليه وسلَّمه إلى الحاجب تتار، فأوقع به التبار وضرب عنقه، وذلك في شوال سنة ٥٣٣، فحينئذٍ وصل قرا سنقر ومعه الملكان سلجق وداود إلى الخدمة السلطانية، وحمدوه على اتِّباع تلك الهمة الشيطانية، ورتب قرا سنقر الوزير مجد الدين عز الملك أبا العز البروجردي في وزارة السلطان مسعود، وكان شيخًا ذا بهجةٍ وبهاء، ولهجةٍ ورواء، ولم يزل مذ عهد السلطان محمد متصرفًا مع أكابر الأمراء لم يبطل، ومتحليًا بالولاية لم يعطل، وما زال متدرجًا في الولايات حتى بلغ الوزارة، ووجد بعد النزارة الغزارة، فإنه كان في ريعان عمره يخدم شاكردًا، ويستعذب في كل أوان خدمة وزير وردًا، فتموَّل الأموال، وملك الأملاك، وقيل إنه كان يجري في ملكه أيام وزارته أربعمائة قرية.

قال: فنكب الكمال ثابتًا المستوفيَ وقبضه وأعدمه، وقيل إنه خنقه، وأذهب بذهابه بهجة الملك ورونقه، وتولى منصب الاستيفاء بعده المهذب أبو طالب بن أبي البدر، ولم يلبث في منصب الاستيفاء شهرًا حتى اختفى بدره في السرار، وانتقل من هذه الدار، إلى تلك الدار. وتولى مكانه ديوان الاستيفاء الكمالُ أبو الريان الأصفهاني. قال: وهؤلاء الذين تولَّوا الاستيفاء كلهم كانوا من صنائع العزيز وتلامذته، وكان في ديوان الإنشاء سعد الدين الخراساني، وفي منصب الطغراء مؤيد الدين المرزبان بن عبيد الله الأصفهاني، فأما آتابك قرا سنقر، فإنه لما قتل الوزير كمال الدين محمد الخازن وجلس وزيره في وزارة السلطان، رحل بالملكين سلجق وداود إلى بلاد فارس، فلما عرف بوزابه حضورهم لجأ إلى قلعة كل وكلاب، وهي بين خوزستان وفارس، ودخل الملك سلجق مدينة شيراز، وجلس على سرير الملك بها مسرورًا، ونظَّم من المصالح ما كان منثورًا، وغفل عن القدر فأنس بملكه مغرورًا، وأراد قرا سنقر أن يُخلي عنده عسكرًا يحمي حِماه ويعدي على عداه، فحمل الأمير غز أغلي السلاحي، وهو مقدم عسكر سلجق، حب التفرُّد والتوحُّد على إظهار الغنى عمَّن ينجده، وأنه لا حاجة به إلى من يسعده، فقال لقرا سنقر: «أنا ما أحتاج إلى أحد، ولا أفتقر إلى مدد.» فاستحسن قرا سنقر منه هذا العزم، وترك الحزم، فصار غز أغلي مستقلًّا، وسار قرا سنقر مستقلًّا، ومضى صوب خوزستان، ليعبُر منها إلى همذان، وسرح الملك داود جماعة من العسكرية على طريق سواها، للنية التي نواها، فلما وصل عسكر مكرم لم يوافقه الهواء الخوزي، فوقع في القوم وفي دوابِّهم الموتان، وعجزت القدرة وتعذَّر الإمكان، فأقام على تلك الصورة، بحسب الضرورة.

وأما الملك سلجق فإنه ظن أنه مَلَكَ، وأن خَصمه هَلَكَ، وأن بوزابه على كل حال مملوك لا يُقدم على المالك، وأنه إنما فرَّ لانسداد المسالك، ورجا أيضًا من غُز أُغلي آتابكه أنه لا يخل بالتيقظ، ولا يخلي ما يجب عليه من التحفُّظ، وكان الأمر بالعكس، وسقم حاله على النكس، فإن آتابكه اشتغل بالأكل والشرب، واللهو واللعب، فبيناه كذلك إذ هجم عليه بوزابه وعلى الملك سلجق، فقتل وفتك، وأسر وأوثق، ولم ينجُ من العسكر إلا القليل، ولم يعرج على الخليل الخليل. وقبض على سلجق وحمله إلى قلعة أسفيذدز، وكان ذلك آخرَ العهد به، ولم يشُكَّ أحد في عطبه، فتمكَّن بوزابه من ملكه، وجرى على المراد مدار فلكه، واستشعرت الملوك مهابته، وتجنَّبَتِ الأسود غابته، فلم يركض إلى فارس بعدها فارس، ولم يَنَلِ الفريسة بها غيره فارس. وأما قرا سنقر، فإنه لما انتهى إليه الخبر، وعلم أنه لا قدرة له على دفع ما نواه القدر، مضى على وجهه مولِّيًا، موليًا ألا يكون بعدها متولِّيًا، فلما وصل إلى برُوجرد صادفه الخبر بأن مدينة جنزة وأعمالها قد خُسف بها، وأن الزلزلة قد هدمتها، وأنها خربت حتى كأن الأرض عدمتها، وأن الكفار الأبخازية والكرجية هجمتها، وقد باد من أهلها مقدار ثلاثمائة ألف نفس، فأمرُّوا الباقين إلا من احتمى بقلعتها، وآوى إلى تلعتها، وذلك مع تشعُّث سورها، وتهدُّم دورها، وأن الأموال نُبشت، وأن الخبايا فُتِّشَتْ، فأغذَّ قرا سنقر السَّير إليها، وكان إيواني بن أبي الليث — لعنه الله — مقدم عسكر الأبخاز قد قرن بالزلزلة الزلازل، وبالنازلة النوازل، وكان قد حمل باب مدينة جنزة، وبنى مدينة سمَّاها جنزة، وعلَّق عليها ذلك الباب، واغتنم غيبة قرا سنقر عن البلاد فسماها العذاب، وذلك في سنة ٥٣٣.

فلما وصل قرا سنقر عادتْ دولة الدين، وعادةُ النصر والتمكين، وظهر أهل التوحيد على أهل التثليث، ونعش الطيب بعثار الخبيث، وواقعهم قرا سنقر فهزمهم وثلمهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وخرَّب البلدة المستحدثة، وأعاد باب جنزة إليها، وأعادها في العمارة إلى أحسن حالاتها، وأجمل هيئاتها، وكان من جُملة من هلك بها زوجته بنت الأمير أرغان وأولاده، فاستولى عليه الهم وعلق به السل، وبقي مدة يتداوى ولا يبل، وتُوفِّي سنة ٥٣٥ بأردبيل، فأكثر المسلمون عليه العويل، وعدموا عنه البديل. قال: وكان لما اتصل به أجله، وانقطع عن الحياة أمله، أحضر جاولي الجاندار ونصَّبه مكانه، وسلَّم إليه ابنه وجنوده وسلطانه، ووصَّى إليه بقطع دابر الكفار، ومواصلة برِّ الأبرار، فتولَّى ولايتَه، ووصل بنهايته بدايتَه، وأنفذ إليه السلطان مسعود الخلعة والعهد، وأجزل له العطاء والرفد، وقرَّر عليه جميع أعمال قرا سنقر بأرَّانية وأذربيجان، وولَّاه تلك المعاقل والمدن والبلدان، ونهض الأمير جاولي في السنة الثانية إلى خدمة السلطان، فقبَّل البساط وبُسط له القبول، وعرض هداياه وتُحفه وطرفه والحمول، فضاق الفضاء الواسع بمضارب جنوده، وخفقت القلوب لهيبة خوافق بُنوده، واتصل بالأمير عباس صاحب الري، ونشر من المودة بينهما ما كان في الطي، وتوافقا وتواثقا، ونظمتهما طاعة السلطان في سلك المصافاة.

وكان الأمير عباس من مماليك جوهر خادم السلطان سنجر، والري في أقطاعه، وقد نفذه إليها واليًا، وكان أمره بها عاليًا، فلما قُتل صاحبه بفتك الباطنية به ثار عباس للثأر وجدَّ في طلبه، واستولى على الري وأعمالها، وتفرَّد بحيازة أموالها، وقوي على السلطانين سنجر ومسعود، واستظهر بمن معه من جموعٍ وجنود، وبمن اتصل به من مماليك الأمير الأجلِّ صاحبه، وكانوا زهاء أربعة آلافٍ في عددٍ كثير، وجمعٍ كبير، وقصر عزمه على قصد الباطنية وكبسهم في مواطنهم، وبيَّتهم في أماكنهم، وقتل منهم مدة ولايته أكثر من مائة ألف، حتى بنى من رءوسهم بالري منارًا أذَّن عليه المؤذِّنون، وأخاف القوم فما كانوا في عصرهم يأمنون المنون، وكان ذا همَّةٍ كافلةٍ للرعية بالمعونة، فرضي السلطان بإيالته، وأقرَّه على ولايته.

ولمَّا اتصل جاولي الجاندار بخدمة السلطان وجده حاضرًا، وألفى روض الرضي به ناضرًا، وكان الأمير الحاجب الكبير فخر الدين عبد الرحمن بن طغايرك الحاكم على الدولة، المهيب الصولة، وكان وسيمًا جسيمًا، للسلاطين قسيمًا، لا يُرى إلا برأيه، ولا إجابة إلا لدعائه. وكان الأمير بك أرسلان خاصبك بن بلنكري أخص الناس بالسلطان وأعلقهم بقلبه، قد اختاره منذ شعف به على صحبه، ولما كبر كان أكبر الأمراء، وأعظم الكُبراء، واجتمع هؤلاء الأكابر تلك السنة بالحضرة، والدنيا بالنعيم لهم بادية النضرة، وحمل فخر الدين عبد الرحمن بن طغايرك الأمير عباسًا على مُباينة عز الملك الوزير، ومُعارضته في التدبير، وأطمعه في تولية نائبه الجمال الجاجرمي في الوزارة، وكان شابًّا مقبول الحركة، مأمول البركة، يرجع إلى توسع في المُرُوَّة، وترفُّع في الفُتُوَّة، فاستحكم طمعه في المنصب، وقوي قلبه بمساعدة الأميرين عباس وابن طغايرك، فتحمَّل وتجمَّل، وجدَّ وجاد، واستجدَّ واستجاد، وقرب أن يتم مراده وكاد، فتعصَّب الأمير جاولي للوزير عز الملك، وأعاد نظم جاهه إلى السلك، وساعده خاصبك على مساعدته، فاستقام أمر الوزير وأجمع الجميع على إبقائه، واتفقت الكلمة على أنه لا مضاهي له في مضائه.

ورحل السلطان إلى بغداد رحلة الشتاء، واستصحب جماعة الأمراء، وعاد عباس إلى الري. قال: وأنا أذكر وصولهم إلى بغداد في هيبةٍ عظيمةٍ وهيئةٍ وسيمةٍ في سنة ٥٣٦.

قال: وخطب جاولي بنت عبد الرحمن بن طغايرك، وتمَّت بينهما المصاهرة، وتأكدت ما بينهما المظاهرة، وعاد جاولي إلى بلاد أرَّانية وأذربيجان مُشتد الأمر، قوي الظهر، مستبشرًا بما تأكَّد بينه وبين الأمير الحاجب الكبير عبد الرحمن، من عقدَيِ الوصلة والأُخوَّة، وأقام السلطان ببغداد تلك الشتوة، متوفِّرًا على نيل الطرب وقضاء الشهوة، مُستهامًا بإدناء الدنان، واقتناء القيان، وتقريب المساخر، وإبعاد ذوي المفاخر، مُتَّكِلًا على السعادة في دفع الأعداء، فإنه لم يزل كاسمه مسعودًا، ولم يتصدَّ لعداوته إلا من كفى اللهُ شرَّه فأصبح عنه مصدودًا.

قال: وكان الأمير سعد الدولة يرنقش الزكوي، من أكابر الدولة وقُدمائها، وأكابرها وعُظمائها، ومتولي وزارته يمين الدين المكين أبو علي العارض، وله الفضل المُستفيض والإفضال الفائض، وكان سعد الدولة يرنقش متولي أصفهان، والأمير غلبك نائبه، وسعد الدولة للمعسكر غير مفارق، ولما لا يوافق رضاء السلطان غير راضٍ ولا موافق، فكانت أُبَّهة الملك بمقام أُبَّهته قائمة، ونصرة الإقبال بدوام نظر إقباله دائمة، وكانت الخدام الحبوش، لهم الجيوش، والأسرة والعروش، منهم: نجم الدين رشيد من مشايخهم وأكابرهم، وجمال الدين إقبال الجاندار، وشرف الدين كردبازو، ومسعود البلالي، ودونهم في الرتبة عماد الدين صواب، وشمس الدين كافور، وأمين الدين فرج الدووي، وأمثالهم. وهم عُصبة فيهم عصبية على الشافعية، ويتقرَّبون إلى الله بما يوصلون إليهم من الأذية، ونكبوا أصحاب الشافعي بأنواع البلاء في جميع البلاد، وخصُّوهم بالطراد والإبعاد، وحاولوا إخفاء مذهبه فتعالى ظهورًا، وأرادوا إطفاء نوره فما زاده الله إلا نورًا.

قال: ونكبوا رؤساء المذهب في كل بلد، ولم يُبقوا منهم على أحد، فمنهم أبو الفضائل بن المشاط بالري، ومنهم أبو الفتوح الإسفرايني ببغداد، ومنهم بنو الخجندي بأصفهان، ودخل في مذهب أبي حنيفة جماعة طلبًا للجاه، وخوفًا منهم لا من الله، ومن جملتهم القاضي عمدة الدين الساوي. قال: وكان وزير الخليفة المقتفي لما تولى شرف الدين علي بن طراد الزينبي، وكاتب الإنشاء سديد الدولة بن الأنباري، وصاحب المخزن كمال الدين بن طلحة، وتزوَّج الإمام المقتفي بأخت السلطان مسعود فاطمة خاتون، وعزل شرف الدين الزينبي عن وزارة الخليفة في سنة ٥٣٤، وسببه أنه استشعر، فمضى إلى دار السلطان بها مُعتصمًا، ثم لزم بعد ذلك داره محترمًا، وتولى الوزارة نظام الدين أبو نصر بن جهير، وكان الاستيلاء بالعراق لأصحاب السلطان، وليس لأحد بكفهم يدان.

قال: وفي سنة ٥٣٥ خرج الكافر الخطائي واستولى على ما وراء النهر، وكسر السلطان سنجر أشدَّ الكسرة ووقع عُظماء مملكته في الأسر، وفي سنة ٥٣٨ قُتل السلطان داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه بأيدي الملاحدة بتبريز غيلة، وعاش أيامه من شريد الدهر شريدًا ولم يسترِح ليلة، وكان قد زوَّجه السلطان مسعود بنته، وأقنعه بتبريز ملازمًا لبيته، قاعدًا فوق تخته تحت بخته، ولما خانته في المبدأ السعادة، وَفَتْ له في العاقبة الشهادة. وقِيل: إن الأمير زنكي بن آق سنقر وضع عليه من حشيشية الشام من فتك به، فأمن على بلاده بسببه، وذلك أن السلطان مسعود كان قد عوَّل على أن يسير داود إلى الشام، ويحفظ به ثغور الإسلام، ففزع زنكي وجزع، وسقط في يده من حديث الحادث الذي وقع، وخذله الأيد، ولكن نصره الكيد، ووصل خبره إلى بغداد، فعقد له في دار الخلافة مجلس العزاء ثلاثة أيام بحضور أرباب المناصب، وعُدَّتِ المصيبة بقتله من أفجع المصائب.

وفي سنة ٥٣٩، رحل السلطان مسعود إلى أصفهان، وكانت دار السلطنة قد تشعَّثَتْ فشدَّ منها الأركان، وتغيَّر رأيه في الوزير عز الملك البروجردي فعزله، ولم يستبق العزلة واستصفى ماله، وشغل بوباله سره وباله، واستوزر مؤيد الدين المرزبان بن عبيد الله الأصفهاني، ونقله إلى الوزارة من الطغراء، وكانت له زوجة من جواري مسعود، تركية سليطة مُتسلطة، حاكمة عليه مُتبسطة، فتسلَّم عز الملك وسلَّمه إليها فخنقته، بعدما عذَّبته وعلَّقته، فقُتل مثل القتلة التي قتل بها الكمال ثابتًا، وكُل من كان حاسدًا له على منصبه عاد شامتًا، وكان عز الملك البروجردي شيخًا بهيجًا بهيًّا، قد جاوز الثمانين سنة، ومع شيخوخيته يقطر ماء النضارة من مُحَيَّاه، وكان في السعادة سعيدًا في محياه، وكان في أيام وزارته مرهوب الغرار، مشبوب النار. وكان نائبه في الوزارة نجيب الدين عبد الجليل السهم المُصيب، والشهم المهيب، والسيف الذي يفري ويقصل، ويبري ويفصل، يبتُّ الأصول ويستأصل البيوت، ويستنزل من الجو العُقاب ويستخرج من قعر البحر الحوت، وقد ضربوا على بغداد الضرائب، ومكسوا المكاسب.

قال: وكان رضي الدين أبو سعد مستوفي السلطان، البعيد من الشين البديع الشان، ممن يغشاه والدي بسبب خدمته لأخيه العزيز في أيامه، وكان ربيب إنعامه، وكان من أوسع صدور ذلك العصر صدرًا، وأقلهم شرًّا، وكان نائبه كمال الدين أبو الريان الأصفهاني من تلاميذ عمي العزيز وغلمانه، ولم يكن أَعرَف منه بقانون الاستيفاء في زمانه، لكنه كان خاليًا من الأدب، عاليًا مع نقصه في أكمل الرُّتب، وهو صورة بلا معنى، وحُسن بلا حُسنى، وبرق بلا وابل، وطول بلا طائل، وكان عز الملك الوزير مع جهله وشدة بخله، ربما نسمت له ريح أريحية، وسمنت بغثه روح تحية، ومن جملة ذلك أنه كان بالعراق عميدٌ رازيٌّ تولى سنة، واكتفى ثروة، واستقنى واستغنى، وحبا وجنى وخبى، فلما جاء السلطان قيل له: «اعمل حسابك.» فأحضر المشرف وكان يُعرف بابن الحكيم، من أهل بغداد، وقال: «أُريد أن تدع المكر منك، وتدعو مكرمتك، وتهتم بأمري وتستأمر همتك، وتحسِّن الحسبة، وتحتسب الحَسَنَة، وتكف بكفايتك عني الأيدي والألسنة.» فقال المشرف: «أنا لا أجسُرُ أن أستر، ولكل ما أذكر لا بد أن أذكر، وعليَّ أن أُخفيَ كثيرًا مما خفي من الجنايات والجبايات، والاجتذابات والجعالات، ولا بد أن أجمع ما أخذته من المرافق الوافرة، والفوائد الظاهرة.» واتفقا على إسقاط مبالغ حتى تقرر ذكر خمسين ألف دينار، فبذل له ألفي دينار على أنه يذكرها في الحشو ولا يبرز بها، لعلَّ الوزير يغفل عنها ولا يؤاخذه بسببها، فأبى إلا إيرادها، وتخصيصها بالذكر وإفرادها.

قال عماد الدين: حدَّثني المشرف بن حكيم قال: دخلنا بالحساب إلى الوزير عز الملك، فأول ما وقعت عينه في المجموع، على المبلغ المرفوع، فقال: ما هذا؟ فقيل: الرسوم التي أخذها، والمرافق التي اجتذبها. فضرب عليه بقلمه وقال: «كيف تُجيزون أن تجمعوا عليه ما ارتفق به من رسومه وخدمه؟ هذا بقي على الباب سنتين يتديَّن ويتموَّن، فلما شُفي ألم أمله، ورُفع علم عمله، صار له معلوم، وحصلت له رسوم، فليس من المُرُوَّة أن نستعيدها، وما فُوِّضَ إليه الشغل إلا ليستفيدها.» قال: فخرجنا نسحب أذيالنا، أنا للخجل، والعميد للجذل، وقد رُدَّ إلى العمل، فأخذ بيدي وناولني صُرَّة فيها ستمائة دينار، وقال: «هذا ما جعلته باسمك، وما ضرتني أمانتك، فاجرِ فيها على رسمك.»

قال: ولما جلس مؤيد الدين المرزبان في الوزارة، بدأت الأمور في الاختلال، والعقود في الانحلال، وكان قد قنع من الوزارة باسمها، ومن المرتبة برسمها، وكان يروق الناس ببشر المُحَيَّا، ويروقه الأنس بشرب الحميَّا، لا يُنافر إلا الغواني، ولا يُنافث إلا الأغاني، وكان وزراء الأمراء قد غلبوا على أمره، وبلغوا إلى قدره، فما له قول مسموع، ولا طَول متبوع، ولا هو مشكور ولا مشكوٌّ، ولا مَخشيٌّ ولا مرجوٌّ، وخاصبك بن بلنكري هو الآمر الناهي، وهو داهية من الدواهي، وكان وزيره رئيس الدين أبو تغلب بن حماد السهروردي، العبيق بريا الرياسة، اللبيق برأي السياسة، قد استولى على الأمر واحتوى، وتمكَّن من ورد الملك وارتوى، وكل أمر لا ينفذه لا ينفذ، وكل حق لا يأخذه لا يؤخذ، وكان كصاحبه مسعودًا مصحوبًا بالسعادة، ممدودًا من المال والجاه بالزيادة.

قال: وكانت قد تأكَّدت بين الأمير عباس صاحب الري، وبين الأمير بوزابه صاحب فارس صداقة صادقة، ومودة أحوالها الحوالي مُتناسقة، فطمعا في المملكة، وزعما أن البركة في الحركة، وقال: «إن العرصة خالية، والفرصة بادية، وهذا وقت الارتماء إلى العَرَّة، والامتراء للدَرَّة.» فكتب بوزابه إلى السلطان أني واصل إلى خدمة السرير، وخرج من شيراز بالملكين محمد وملكشاه ابنَيِ السلطان محمود بن ملكشاه، وخرج عباس من الري بالملك سليمان أخي السلطان مسعود، وكتب أيضًا: «إنني واصل إلى جنابك، لملازمة ركابك.» فحمل السلطان قولهما على الظاهر، وخاف ما خفي في الباطن من الباطل، وعرف أن أمره معهما غير مستقيم، وأنه إن رحلا إليه فهو مُقيم، فكتب إلى جاولي الجاندار يستدعيه، فوجده متجنيًا متجبنًا بالقبض على الوزير عز الملك من غير مُشاورته، وقلة اكتراثهم به وترك مراقبته في مُصادرته.

فلما شعر السلطان بتأخُّره استشعر حذره، وورى عن الهزيمة برحلة الشتاء إلى بغداد، وحثَّ السير بالإغذاذ، ومعه من الأكابر عبد الرحمن بن طغايرك، وخاصبك بن بلنكري، ووصل بوزابه وعباس إلى همذان على ظنِّ أنهما يجتمعان بالسلطان، وهُما مُبديان للطاعة مُخفيان للعصيان، فأقاما بها شاتيين، واتصل بهما الأمير ناصر الدين خطلبة البازداري، وكان ليثًا خادرًا، وقَسْوَرًا قاسرًا، وكتبوا إلى الأمير جاولي الجاندار بأذربيجان، وقالوا له: «أنت الكبير، لك التدبير، ونحن أتباعك وأشياعك، فإن قَدِمتَ إلينا، قُدِّمتَ علينا، وكنت صاحب جيوش من ينتصب على سرير الملك، وانخرطنا معك طائعين في السلك.» فردَّ جوابهم بجميل، وأعاد رسولهم بتأميل، واشتغل بحشد الجموع وجمع الحشود، وحشر الجنود ونشر البنود، واتصل به آتابك أياز، وكان آتابك داود في حياته وهو مشكور الغناء في مقاماته، وعضده الأمير شيرين آق سنقر، فأظهر حينئذٍ النهدة إلى همذان، والنهضة إلى الناهضين المتسلطين على السلطان، فوجد الطريق مسدودة بالثلوج، فأقام بعسكره مجمعًا، وللنهوض عند انحساء الثلوج مزمعًا، وتطايرت كتبه إلى بغداد لاستدعاء السلطان إليه، واستقدامه عليه، والسلطان في بغداد ساهٍ بسهوه، لاهٍ بلهوه، زاهٍ بزهوه، فلما تنبَّه من وَسَنِه، ندم على خلع رَسَنِه، ورجع من الحزم إلى سَنَنِه، ولبى نداء جاولي وأجاب دعوته، وعزم على الرحيل إليه، وسار على الدربند القرابلي إلى المراغة في أوعر طريق، وأعسر مضيق، حتى اتَّصل بالأمير جاولي، فكثف من العدد الجمع، وكثر من العدد اللمع.

وأعجب السلطانَ الحالُ وحلَّ به العجب، وانقلب إلى القوة وقوي منه القلب، فحسدت الجماعة جاولي وغبطوه، وتحيَّلوا في أن يقبضوا عليه ويربطوه، فإن ابن طغايرك مع مُصاهرته له كان بإمكانه متبرمًا، وكذلك خاصبك كان من استيلائه متوهمًا، فأجمع الأمراء واحتالوا لاغتياله في سُرادق السلطان، فاطَّلع على السر، ووقع على مكر المكر، فاحترز منهم وتقبَّض عنهم، وأراد أن يبطش بهم كما أرادوا البطش به، ثم جرى في الحلم والكرم على حسب مذهبه، وقال للسلطان: «أنا على مناصحتك، وفي منى صحتك، ولا يجمعني وإياك بعد هذا نادٍ، ولا يسمع تلبيتي فيه منادٍ.» فما اجتمع السلطان وجاولي بعد ذلك إلا راكبين، مُنفردين عن العسكر مُتجانبين، وقال للسلطان: «إن أردت تداني أمني، فتباعد عني، ودعني أنهض بعساكري إلى أعدائك، وأُذكِّرهم بحقوق نعمائِك، فإن أتَوْا قبلتهم، وإن أبَوْا قتلتهم، وإن اتَّبعوا سررتهم، وإن ساروا تبعتهم.» فاعتذر إليه السلطان واستماله، واستعفاه من ذكر ما جرى واستقاله، وحكَّمه في الحَلِّ والعَقْد والإقطاع، وأمر الجند والأمراء بالايتمار لأمره، وسر بسروره سره، وشرع جاولي في مكاتبة الملك سليمان وخدعه، وردَّه عن المقام مع القوم وردعه، وتوثَّق له من السلطان بيمين، وسيَّر نسخة أمان له مع أمين، ففارقهم، وانفصل وانفصم عنهم، ووصل أيضًا خوارزمشاه يوسف وأخوه، فاتَّبعهما للتوجُّه الأعيانُ والوجوه، ولمَّا عرف بوزابه وعباس تعذُّر ما حاولاه وتعسُّر ما زاولاه، وتفرُّق الجند الذي جمعاه، تفارقا على مواعدة في معاودة الجمع، وودَّعا على موادعة مودعة للطاعة والسمع، وعزم كلاهما على الرجوع إلى بلده بنية الرجوع، والغروب في أفقه على استئناف الطلوع.

وكان السلطان عند اتصال أخيه سليمان بجانبه، واستظهاره بكتائبه، علم أن بوزابه وعباسًا يفترقان، وأنهما يعِدان بأنهما يعودان؛ فرحل بالعسكر إلى مدينة سجاس مع جاولي على عزيمة الإسراع والاتِّباع، والسلطان وخواصه على حالةٍ من الارتياب والارتياع، فقال لجاولي: «انهض أنت وراء بوزابه، فالعسكر والشوكة معه، والرأي مسيري إلى الري لألقى عباسًا وأقمعه.» فمضى جاولي إلى همذان، وعمد مسعود نحو الري، فحصل من وردها بالري، وغنى بالسعادة عن استعمال المشرفي والسمهري، وقبض سليمان شاه أخاه وحبسه في قلعة سرجهان، وتلقَّى ما صعب بالاحتمال والاحتماء فهان.

ولمَّا علم بوزابه أن جاولي جاء ولَّى وخلَّى همذان، وترك أثقاله وخزائنه بها وسار، فسار جاولي وراءه جريدةً، وقطع حتى وصل إلى القُرب مراحل بعيدة، فلما دنا منه أبدى البقيا عليه، وأسدى الحُسنى إليه، وقال: «أتخذ اليوم عنده يدًا، ليُنجدني عند الحاجة غدًا؛ فهذا السلطان غير موثوق بمواثيقه، ولا موفَّق في تسديده وتفويقه.» وذكر غدره بأخيه سليمان شاه، فكتب إلى بوزابه وهو على حد الهزيمة كتابًا مضمونه: «إني مُصدقك ومُصادقك، ومُوافقك لا مُفارقك، وخاطب حبِّك، وطالب ودِّك، وقد صرت من حزبك، وما سرتُ لحربك.»

فاعتمد بوزابه على قَولِه، واعتدَّ بطَولِه، وملأ أيديَ الرسل بالأيادي إرسالًا، وقال حسنًا وحسَّن مقالًا، وأعاد ما كتب بما كبت الأعادي، وذكر: «إني أجبتُ الداعي، ولبَّيتُ المنادي، ولم يبقَ الآن إلا التعاهُد على الجد، والتساعُد على العهد، وعلامة صدقك في صداقتك أنني خلَّفتُ خزانتي ثلاثين وقرًا من المال الصامت بهمذان في دار الأثير أبي عيسى، فإن رأيتَ أن تأخذها فخُذها، وإن سمحتَ بإنفاذها فأنفِذها؛ لتعلم أني مستوثقٌ منك بشفيق، مُسترفقٌ لشقيق.» فعاد جاولي إلى همذان، وتسلَّم من الأثير أبي عيسى المال، وسيَّر على جماله تلك الأحمال، وندب معها مائة فارس من عسكره إلى أصفهان، وكتب إلى الأمير غلبك واليها أن يضم لحفظها إلى فرسانه الفرسان. فلما وصلت خزانة بوزابه إليه عقد على الودِّ الخنصر، وزكى في الوفاء والوفاق منه العنصر، وتعاقدا على المعاهدة، وتعاهدا على المعاودة، وابن بوزابه يأتي بالملك محمد بن محمود متى أراد، وأن يجعلا همَّتهما الجمع والاحتشاد، وعاد كل واحد منهما إلى مركزه، واحتمى على السلطان بتعززه، وتأكَّدَتْ بين جاولي وبين السلطان الوحشة، ودبَّتْ إلى أعضاء المملكة بسبب فتور أعضادها الرعشة، واعتلت النقائد، وانحلَّت المعاقد، ولمَّا تمادى الأمر، تبدَّى السِّر ووقعَ الشَّر، فأنفذ جاولي الأمير تتار إلى بوزابه بفارس يستنجزه الوعد، ويستنجح منه القصد، وأقام بميَانِجَ ومعه جميع أكابر الأُمراء، والرسل تترى منهم إلى الأمير تتار لاستحثاث بوزابه بالاستدعاء.

وأقام جاولي مدة ينتظر، وفي تدبير الملك يُفكر، فكان من قضاء الله ما لم يكن في حسابه، ودنا الأجلُ الذي في كتابه، وكان فخر الدين بن طغايرك لما عرف توجُّه الأمير تتار إلى فارس لاستنهاض بوزابه، شخص إليه بنفسه من جانب السلطان ليصده عن الورود، ويرده عن الصدود، وتمادى على جاولي المقام له بظاهر ميانج، واجتمعت عليه العساكر العظام، وازدحف اللفيف والتفَّ الزحام. وكان في اثني عشر ألف دارع، وكانت معه عساكر أرانية وأرمنية، فخيَّم على زنجان، وحتم على عزم همذان، وكان بيد أيده زمام الزمان، وهو أصم عن حديث الحدثان، وكان قد افتصد، لغير مَرَضٍ عَرَض، ثم على تصرَّف عادته بيده فبسط وقبض، ونزع في قمس فتألم عرقه وتورَّم، ودجا أفقه وأظلم، وكان سريان الورم من شريانه، وصَعِدَ فيه الدم بعد جريانه، وتجاوز من عرقه إلى حلقه وصدره، وانتقل إلى بطن الثرى من ظهره، وكانت وفاته بزنجان في جمادى الأولى سنة ٥٤١، وفي ذلك يقول زين الدين المظفر بن سيدي الزنجاني من قصيدة:

عشرونَ ألف مُهندٍ قد أصلتت
فلَّتْ مضاربها نِكاية مبضع

وقيل: إن في الليلة التي تُوفِّي فيها جاولي جاندار قُتل زنكي بن آق سنقر بالشام، وكان كلاهما قطبًا يدور عليه فلك الإسلام.

قال: والصحيح أن زنكي بن آق سنقر قُتل في شهر ربيع الآخر من السنة على قلعة جعبر قبل موت جاولي بأيام، ولكن تدانى مَوْتهما، وتنادى فَوْتهما، ومن قبلهما كانت وفاة سعد الدولة يرنقش، ووفاة قزل أمير آخر، وكان قد قُتل من قبلُ ناصر الدين قتلغ آبه البازداري؛ فتقاربت مناياهم، وتبدَّلَتْ نقودهم بنساياهم، وصاروا أسمارًا، وعادوا أخبارًا، ولما اخترم جاولي انحلَّتْ تلك المعاقد، واختلَّتْ تلك القواعد، وتفرَّقَ ذلك الجمع، وتشوَّشَ ذلك الوضع، وعاد كلُّ طائر إلى وكرِه، وكلُّ صاحٍ إلى سكرِه، وآمن السلطان من أمله، وأقبل إليه من قبله، وعاد الأمير تتار إلى السلطان لبوزابه متوسطًا، ولتمكينه مُشترِطًا، وكان ذلك برأي الأمير الحاجب الكبير فخر الدين عبد الرحمن بن طغايرك، وعملتْ سعادة السلطان عمله، وقدر الله له ما لم يجرِ بخاطره أمله.

قال: وحيثُ أجرينا ذكر زنكي بن آق سنقر وقتله بالشام في التاريخ الذي تُوفِّي فيه جاولي جاندار بزنجان، فإنا نذكر جُملة من أموره، إلى أن قضى الله عليه بمقدوره.

ذكر زنكي بن آق سنقر في آخر عهده

قال: كان جبارًا عسوفًا، بنكباء النكبات عصوفًا، نمريُّ الخلق، أسديُّ الحنق، لا ينكر العُنف، ولا يعرف العُرف، قد استولى على الشام من سنة ٥٢٢ إلى أن قُتل في سنة ٥٤١، وهو مرهوب لسطوِه، مجفوٌّ لجفوِه، عادٍ عاتٍ، حتف عُداةٍ ورُعاةٍ، لكنَّما ختم الله له في آخر عمره بالسعادة وبالشهادة، ووفَّقه للجهاد الذي هو أفضل أركان العبادة، وهو الذي فتح الرُّها عَنوة، واحتلَّ بها من السعادة ذروة، وذلك يوم السبت السادس والعشرين من جمادى الآخرة سنة ٥٣٩، فتسنَّى بفتح الرها للمسلمين، جوس بلاد جوسلين، وعاد جميعها إلى الإسلام في عهد ولد زنكي نور الدين، وصارت عقود الفرنج من ذلك الحين تنفسخ، وأمورها تنتسخ، ومعاقلها تفرع، وعقائلها تفترع. ثم إن زنكي بعد فتح الرها نزل على حصن البيرة، وهي على الفرات، وهو مشحون بالفرنج العُتاة، فجاءه الخبر بأن نائبه بالموصل (وهو نصير الدين جغر) قُتل، فترك الحصار وارتحل.

ذكر مقتل جغر نائب زنكي بالموصل

قال: كان مع زنكي ملكان من أولاد السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه؛ أحدهما يُسمى ألب أرسلان، وهو في معقل من معاقل سنجار، والآخر يُسمى فرُّخشاه، ويُعرف بالملك الخفاجي، وهو بالموصل، وكان هذا الملك مسلمًا إلى الأمير دبيس بن صدقة، فانتزعه منه زنكي في حرب، وأُنزل من إكرامه في منزلٍ رحْب، وكانت الخاتون السكمانية زوجة زنكي تُربيه وتبريه، وتجري به في حلبة تجريبه وتجرِّيه، حتى بلغ وأدرك، وساكنُ فطنتِه تحرَّك، وفهدته المرأة غير مرة وأنهدته، وعاهدته على الوفاق وعلى الوفاء عهدته، وتأسَّد الشبل وضاق به عرينه، وشمخ عرنينه، وكان نصير الدين جغر نائب زنكي بالموصل للدماء سفَّاكًا، وبالنفوس فتَّاكًا، يأخذ البريء بالسقيم، ويُلحق الولود بالعقيم، وقيل إنه لما أحكم سور الموصل، واحترز بالحفظة منه على المخرج والمدخل، وأعجبه كمال إحكامه، وملاك أحكامه، ناداه مجنون نداء عاقل، وقال: «هل تقدر أن تبني على الموصل سورًا يسد طريق القضاء النازل؟» فدار المنجنون بتصديق ما قال المجنون، فإنه لمَّا أحس من الملك نحس الملك صار يقبض عنانه، ويبسط فيه لسانه، ويقول: «إنْ عقل وإلا عقلته، وإنْ نقل طبعه وإلا نقلته.» فسمع الملك ما راعه، وأسرَّهُ في نفسه وما أذاعه، فقدَّر ودبَّر، وفكَّر ومكَّر، وجمع إليه مَن حوله، وقال لهم فكتموا قوله، واتفقوا على أنه إذا جاء إلى سلام خاتون أو سلامه، أُحيط به من خلفه ومن قُدَّامه، فإذا أصابوا منه المقتل، ملكوا الموصل.

فركب نصير الدين بكرة على عادته، وهو يزعم أن إدارة الفلك بإرادته، واخترق المدينة ووصل إلى الدار التي فيها الملك للتسليم، فملكت حشاشته حاشية الملك، وقطعت سلك حياته في طريق الدهليز المنسلك، ومزَّقوه بسيوفهم ومزَّعوه، وضربوه بسكاكينهم وبضَّعوه، ونادَوْا بشعار الملك وأركبوه، وذلك في أواخر سنة ٥٣٩، وتشوَّشَ البلد وخاف أهله العاقبة، وحذَّروا من زنكي سطواته المعاقبة، فخرج القاضي تاج الدين يحيى بن عبد الله الشهرزوري، وجاء إلى الملك وهنَّاه، وسهَّل له الصعب مما جناه، وقال له: «نحن قُدَّامك، وقد صِرنا مماليكك وخُدَّامك، فسِرْ في المدينة واسلكها، وادخل القلعة واملِكها.» فركن إلى قوله، وسكن بحوله، وأحدق به الجند كأنهم في خدمته، وصوَّبوا له سداد عزمته، حتى صَعِدَ إلى القلعة فأجلسوه في المركز، وأحاطوا به إحاطة الدائرة بالمركز، والتقطوا مماليكه من حوالَيْه، وأفردوه واحتاطوا عليه، ولم يُرَ له بعد ذلك أثر، ولم يُسمَع له خبر، ولا شك أنه بعدما احْتِيل عليه اغْتِيل، وبعدما استُنزِل أُزيل.

وولَّى زنكي الموصل بعد جغر زين الدين علي بن بكتكين، المعروف بعلي كوجك، فنظم السلك ونهج المسلك، وتلافى واستدرك، ووصل زنكي بعد ذلك إلى الموصل فاستصفى أموال جغر واستخرج ذخائره، واستنظف أوله وآخره، وصادر أهله وأقاربه، وأحلَّ بنوابه نوائبه، وسلبهم القوة والقوت، ونوَّع عليهم جوره الممقوت، ثم عطف زنكي على الملك الآخر ألب أرسلان، فاستخرجه من معقله، وعُني بتفاصيل أمره وجمله، وضرب له نوبتية ونوبًا، ورتَّب له في حالتي جلوسه وركوبه رُتبًا، وأغرى بتولِّي إكرامه وتوخِّيه، وغرضُه خفاء ما جرى من هلاك أخيه، وقصد حصار قلعة جعبر، وصاحبها عز الدين علي بن مالك بن سالم بن مالك ونازلها، وقابلها وقاتلها، وأحاط بسورها المعصوم إحاطة السوار بالمعصم، وربض على ربضها في مجثم المخيم، ولجَّ في الحصار وهو مستظهر بالأنصار، مستنصر بالاستظهار، ومتكثر بالاستعداد معتد بالاستكثار، مغرور بالدهر، مسرور بالقهر، يظن أن الفضاء بحكمه، وأن القدر خصم خصمه، وأهل الحصن قد أشفوا منه على الدامغ الدامر، وقد بلوا من وبل وباله بالهامل الهامر، فأتاهم الفرج من حيث لم يحتسبوا، ووافاهم الفرح من حيث لم يكتسبوا.

وذلك أن زنكيًّا كان إذا نام ينام حول سريره عدة من خُدَّامه، يُشفقون عليه في حالتَي يقظته ومنامه، يذودون عنه ذود الآساد في ملاحمه، ويزورونه زور الخيال في أحلامه، وهم من الصباح الروق، في حسن الصباح لدى الشروق، وهو يحبهم ويحبُوهم، ولكنه مع الوفاء منهم يجفُوهم، وهُم أبناء الفحول القروم، من الترك والأرمن والروم، وكان من دأبه أنه إذا نقم على كبيرٍ أرداه وأقصاه، واستبقى ولده عنده وخصاه، وإذا استحسن غلامًا استدام مروديته بالخصي والسَّل، وفاجأه ووجأه بقطع النسل، فهُم على أنهم من ذوي الاختصاص، ينتهزون فيه فرصة الاقتصاص، فنام تلك الليلة إليهم مُستنيمًا، وللوثوق بهم مُستديمًا، وهو صريع الراح، نزيف الأقداح، فغلبه نُعاسه وملكه رقاده، وحوله مماليكه مُردُه ومراده، فانتبه وهُم قد شرعوا في اللعب، وأخذوا في الشرب والطرب، فزبرهم وزجرهم، ومنعه السكر من الكلام حين أبصرهم، فحرَّك رأسه يتوعدهم، وهينم بلسانه يتهددهم، ولم يدرِ أن تحريكه للرأس سبب قطعه، وأن نزوله على القلعة بالنازلة خاتمة قلعه، فتولَّى كبيرهم الأمر والباقون ساكتون، وتحرَّك ورُفقاؤه ساكنون، وكان اسمه يرنقش، فخفَّ إليه، وبرك عليه، وفرشه على فراشه، وغشيه في غشاشه، وذبحه في نومه، ولم يُغنِ عنه ذَبُّ قومه، وخرج ومعه خاتمه، وهو لا يرتاب به لأنه خاص زنكي وخادمه، وركب فرص النوبة موهمًا أنه في مهم، وقد ندب لكشف ملم، وأهل القلعة في أضيق شدَّة وأشد ضيق، وكلهم لبأس المطيف بهم غير مُطيق؛ حتى أتاهم الخادم فتحدَّثَ بما أحدث، فأشاعوا قتل زنكي من القلعة، وارتاع الناس لما هالهم من الروعة، وركبوا ولبسوا السلاح، ورقبوا تلك الليلة لأمرهم إلى الصباح، وزحف بعضهم إلى خيمة جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور، فرُميَ بالنشاب، وحصل من أمره في الاضطراب؛ فقصد مَن حماه مِن الأمراء، وشاركه في تصويب الآراء، واتفقوا على أن يُبادر نور الدين محمود بن زنكي إلى الشام، للحوطة على ثغور الإسلام، فسار معه أولياؤه، وكُبراء الشام وأُمراؤه، وكبيرهم صلاح الدين محمد اليغبساني، وسار معه أسد الدين شيركوه، وانحازت إليه الأعيان والوجوه، فملك حلب، وبلغ المراد وغلب، وافتضَّ الفتوحات الأبكار، واستخلص من الكُفَّار الديار.

وأما الوزير جمال الدين محمد بن علي بن أبي منصور، فإنه لما بَعُدَ عنه مَن كان يحذره، وعرف الأمر ممن كان يُنكره، ضمَّ العسكر واستمال الملك ألب أرسلان وأطمعه في المملكة، وحثَّه على الحركة، وكاتب زين الدين علي كوجك بالموصل على أن يستدعي سيف الدين غازيًا، أكبر أولاد زنكي، وكان لا يُفارق خدمة السلطان مسعود بأمر والده، أمنًا به من غوائل القصد ومكايده، فكتبوا إليه بالواقعة، وأشاروا عليه بالمُسارعة، فاتفق وصول الخبر إليه بشهرزور وقد انفصل عن السلطان بدستور، فأغذَّ السير واستعجل الخبر، وسبق إلى الموصل قبل وصول الجماعة، ولمَّا عرف جمال الدين بوصوله سبق أيضًا إلى الموصل، وبقي الملك مُنفردًا فاستوحش، وتشوَّر في رأيه وتشوَّش، وركب صوب الجزيرة مُفارقًا، وإلى حلبة النجاة مُسابقًا، فسيَّروا وراءه من وثق بتوفير أمانته أمانه، وخيلوا له أن قد عاد القوم غلمانه، وأن غازيًا إذا كنت معه أخذ البلاد باسمك، وجعل الممالك برسمك، وما زالوا يُحدثونه بالختر والختل، إلى قَلَتِ القتل، فإنه عاد معهم ودخل الموصل في استقبالٍ ونثار، وإعظامٍ وإكبار، حتى دخل الدار، وخال الاستقرار؛ فما أجلسوه، حتى اختلسوه، وما رسموه، حتى رمسوه، وكتموا أمره، وختموا عمره، وجرى بين جمال الدين الوزير وبين زين الدين علي كوجك وسيف الدين غازي التعاقُد على التعاضُد، والتعاهُد على التساعُد، وتولَّى جمال الدين وزارة الموصل واستولى، وكان باسترعاء ما أولاه الله من نعمه أولى، وإنه عاش بنداه الجود، وعشا إلى ناديه الوفود، وعادت به الموصل قبلة الإقبال، وكعبة الآمال، فأنارت مطالع سعوده، وسارت في الآفاق صنائع جُوده، وعمَر الحرمين الشريفين وشمل بالبر أهلها، وجمع بالأمن شملها.

ذكر حال جمال الدين الجواد أبي جعفر محمد بن علي بن أبي منصور

قال — رحمه الله: كان والده من أصفهان الكامل علي، وهو حاجب الوزير شمس الملك بن نظام الملك، وكان أبوه أبو منصور فهَادا في عهد السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان، وابنه الكامل نجيب، أديب لبيب، وزادت أيامه في السموِّ، وأيامنه في النموِّ، حتى تنافس في استخدامه الملوك والوزراء، واستضاءت برأيه في الحوادث الآراء. وكان قد زوج بنتًا له ببعض أولاد أخوال العم العزيز؛ فاشتمل لذلك العزيز — رحمه الله — على ولده جمال الدين أبي جعفر محمد، وخرَّجه في الأدب، ودرَّجه في الرُّتب، فأول ما رتبه في ديوان العرض السلطاني المحمودي محليًا، فبرز في تلك الحلبة سابقًا ومجليًا، وغلب في تحليته ذكر الأبلج، فنعته الأتراك بالأبلج، واستقام في نجابته على المنهج، واتفق أنه لما تولى زنكي بن آق سنقر الشام تزوج بامرأة الأمير الأسفهسلار كُندُغدي، وولدها خاصبك بن كندغدي من أمراء الدولة وأبناء المملكة، وهو يسير معها، فرتَّبه العزيز جمال الدين لخاصبك وزيرًا، فسارَ في الصُّحبة، وكان مُقبل الوجاهة، مقبول الفُكاهة، شهيَّ الهشاشة، بهيَّ البشاشة، فتوفرت مُنى زنكي على منادمته، وقصُر صباحَه ومساءَه على مساهمته، وعوَّلَ عليه في آخر عمره في إشراف ديوانه، وزاد المال وزان الحال بتمكينه ومكانه، فلم يظهر من جمال الدين في زمان زنكي جُود، ولا عُرف له موجود، فإنه كان يقتنع بأقواته، وتزجية أوقاته، ويرفع جميع ما يحصل له إلى خزانة زنكي استبقاءً لجاهه، واستعلاءً به على أشباهه، فمكَّنه زنكي من أصحاب ديوانه، فمنهم من استضر بإساءته، ومنهم من انتفع بإحسانه. ولمَّا قُتل زنكي صار للدولة الآتابكية ملاذًا، وللبيت الأقسنقري معاذًا، واستوزره الأمير غازي بن زنكي، وآزره علي كوجك على وزارته، وحلف له على مظاهرته ومضافرته، فأجرى بحر السماح، ونادى حيَّ على الفلاح، فصاحت بأفضاله ألفاظ الفصاح، وأتَوا إليه من كل فجٍّ عميق، وقُصد من كل بلدٍ سحيق، وقصده العظماء، ومدحه الشعراء، وممَّن وفد إليه ومدحه: أبو الفوارس سعد بن محمد بن الصيفي، المعروف بحيص بيص. قال: وأنشدني لنفسه من قصيدةٍ أولها:

يا للصوارم والرماح الذُّبَّلِ
نصرًا ومن أنجدتما لم يُخذَلِ
لو شئتُما ومشيَّةٌ بمشيَّةٍ
جادَ الزمان وبالعُلى لم يبخَلِ
أنا فارسُ اليومين يومِ مقالةٍ
ووغًى أصول بصارمي وبمقولي

ومنها يصف بناءه لسور المدينة وعمارة قبر:

وتقرُّ عين محمد بمحمدٍ
مُحيي دريسي علمه والمنزلِ
معمار مرقده وحافظ دينه
ومعين أمته بجود مسبل
خِرْقٌ يُناطُ قميصه ورداؤه
بعباب زخَّارٍ وهَضْبة يذبل

قال: وكنت أنا في ذلك العهد ببغداد مُتفقِّهًا، واتفق حضوري بالموصل في ذي القعدة سنة ٥٤٢، فحضرتُ عند جمال الدين بالجامع في جُمعتين، وتكلمتُ عنده مع الفقهاء في مسألتين، ومما مدحتُهُ به من قصيدةٍ أولها — وذلك من أول نظمي:

أظنهمُ وقد عزموا ارتحالًا
ثنَوا عنَّا جَمالًا لا جِمالًا
سرَوا والصبح مبيضُّ الحواشي
فلمَّا حال عهد الوصل حالا
أخِلَّائي وهل في الناس خلٌّ
به أخلى من الأشجان بالا
لئن لم أشفِ صدري من حسودي
ولم أُذق العدى داءً عضالا
فلا أدركتُ من أدبي مرامًا
ولا صادفتُ من حسبي منالا
ولا وَخَدَتْ إليكم بي جمالٌ
ولا واليتُ مولانا الجمالا
وقائلة أفي الدنيا كريمٌ
سواهُ فقلتُ لا وأبي العلا لا

قال: ولم يقنع بما جاد به للوفود، حتى زمَّ إلى البلاد ركائب الجود، فجعل لكل بلدةٍ من بلاد الإسلام من مواهبه راتبًا، وأصبح جوده في الآفاق إلى المقيمين سائرًا وللطالبين طالبًا.

عاد الحديث إلى ذكر ما جرى للسلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه بعد موت جاولي في سنة ٥٤١

قال — رحمه الله: ولما تُوفِّي جاولي جاندار، طمع الأمير الحاجب الكبير فخر الدين عبد الرحمن بن طغايرك في تولِّي بلاد أرَّانية وأرمنيَّة، وعرف أنه لا يتمشى له ذلك مع تسلُّط خاصبك بن بلنكري، فتوسَّل في استمالة الأمير بوزابه صاحب فارس إلى السلطان ليتم له مراده بتوسُّطه، وأرسل إلى الأمير الحاجب تتار، وهو عند الأمير بوزابه أن هذا أوان قدومه، وزمان هجومه، فقدم المعسكر السلطاني في عسكرٍ ضخم، ومقدمٍ فخم، واتصل به الأمير عباس صاحب الري في عدةٍ وعديد، وبأسٍ شديد، واتفق هؤلاء الثلاثة: ابن طغايرك، وبوزابه، وعباس، على تدبير الدولة وتقرير قوانينها وترتيب دواوينها، وكف عادية المتسلطين عنها، وتوفير حظوظهم بالاستقلال بها منها، فأحوجت السلطان الضرورة إلى النزول على حكمهم، ورأى السلامة في سلمهم، وأقسم على رضاهم ورضي بقسمهم، فأول ما فعلوا أنهم عزلوا وزيره، ونقلوا إلى الوزير الذي ولوه تدبيره.

ذكر وزارة تاج الدين بن دارست الفارسي

قال: كان ابن دارست وزير بوزابه صاحب فارس، فرتَّبه في وزارة السلطان ليصدر الأمور على مراده، ويُورد على وفق إيراده، وكان هذا الوزير رفيع القدر، وسيع الصدر، مُحِبًّا للخير، مُبغِضًا للشر، فما فعل أمرًا ينقم عليه، ولا أحال حالًا يتوجَّه لأجلها اللائمة عليه، ونائبه أمين الدين أبو الحسن الكازروني ذو الدين المتين، والحلم الرزين، والاستهتار بأعمال الشر، والاشتهار بأفعال الخير، وتولى ديوان العرض والد الوزير عضد الدين، وهو جميل مجمل لمذهبه، مهذب لمنصبه، وأقروا ولاية أذربيجان وأرَّانية جميعها على ابن طغايرك عبد الرحمن، وقرروا إبعاد خاصبك بن بلنكري عن السلطان، فسار في خدمة ابن طغايرك أميرًا، وصحبه في مضمار الخُلصاء، ولم يُخلِص في صحبته ضميرًا، وتقرَّرَ أن يكون أحد الثلاثة بالنوبة ملازمًا لخدمة السلطان حتى يسلم لهم جانبه، وتؤمَن نوائبه. وانفصل الأمير بوزابه إلى بلاد فارس، ورحل السلطان إلى بغداد ومعه الأمير عباس صاحب الري في شوكة مانعة، وهيئة رائعة.

قال: ولما قدموا بغداد في خريف هذه السنة، خرجتُ مع الفقهاء لتلقِّيهم، والناس مُشتغِلون على تخوُّفهم منهم وتوقِّيهم، فلمَّا حلُّوا ببغداد نزلوا دورها، وسكنوا للتخريب معمورها، وألهبوا الكروب، وأرهبوا القلوب، وكانت هذه عادتهم إذا وصلوا، وعادتهم إذا نزلوا. فتمكَّن الأتراك لا يتركون ممكنًا من الجهل، وعندهم أن الظلم من العدل، ولكن الوزير نزل في دار الوزارة بالأجمة، متوخيًا بث المكرمة، وأمر بتجديد عمارة المدرسة التاجية التي بناها خاله الوزير تاج الملك أبو الغنائم بن دارست ببغداد، وأوطنها شيخنا شرف الدين يوسف الدمشقي، فأحيا دريسها بدروسه، وأشرق أفقها بنجوم العلم وشموسه، ورتَّب الوزير في داره مجالس للختمات، وحضور أئمة الفرق وفقهائها للمناظرات، ولم يُعارض السلطان في شيء من أوامره وأموره، وابتسمت الدولة بأسفاره وسفوره، لكنه مع تقاصر مدته ما أمرَّ ولا أحلى، ولا شغل ولا أخلى، ولا عزل ولا ولَّى، كل ذلك طلبًا للسلامة، واستقاءً لماء الاستقامة، وعلمًا بوخم العاقبة، وألم المُعاقبة، فلا جرم توفَّرَتِ الدواعي على حبِّه، وفرَّت العوادي من حربه وحزبه.

قال: وفي هذه السنة قدم الأمير العالم قطب الدين أبو منصور المظفر بن أردشير العبادي الواعظ، فأعجز بالفصاحة وأعجب، وشرَق بأنوار البلاغة وغرَب، وأنا أذكر وقد حضرت مجلسه، وقد وُضع له منبر على شاطئ دجلة، والسلطان مُطِلٌّ عليه من أعلى مكان، والأمير عباس صاحب الري جالس في شفَارته بدجلة بحيث يسمعه، والعبادي يفتن الناس بما يُبديه من سحره ويُبدعه، وحضرتُ مُدة مقامي ببغداد جميع مجالسه أكتبها من لفظه، وأقبل عليه الإمام المقتفي وقبله، ورفعه وبجَّله، وأمره بالجلوس في جامع القصر في موضعٍ يقرب من منظرته؛ ليجلس حيث لا يراه وهو بحضرته، وانبثَّت بدائهه وبدائعه، وأشرقَتْ بنجح مطالبه مطالعه.

ذكر ما جرى من الحوادث التي انحلت بها تلك العقود واختلَّتْ تلك العهود

قال — رحمه الله: وصل الخبر بقتل الأمير عبد الرحمن بن طغايرك بأرَّانية، وكان من قدر الله — سبحانه — أنه استصحب معه خاصبك بلنكري ليبعده عن الخدمة السلطانية غير مكترث به. وكان مع خاصبك أمر من السلطان سرًّا في الفتك به إن خلَت عرصة، أو أمكنَت فُرصة، فركب ابن طغايرك يومًا لتجهيز العساكر إلى غزاة الكرج، ووقفَ مُنفرِدًا في ذلك المرج، وهو يسير أميرًا أميرًا، ولا يُمَكِّن من المقام كبيرًا ولا صغيرًا، وابن بلنكري واقف لا يريم، وهو لبرق ما يشيمه من عارض الغمد يشيم. ومعه الأمير زنكي الجاندار، فتقدَّم وأقدم، وضرب رأس ابن طغايرك بسوط حديد شدخه وفشخه، واستصرخ بأعوانه فعدم مُصرخه، وضُرب بعد ذلك بالسيوف، وتفرَّقَتْ عنه جموع تلك الصفوف، وتغلَّب ابن بلنكري على أرانية، فأحسن إلى الذين ساعدوه، وعقد حبي الحب لهم حين عاقدوه، وامتدَّ إلى أردبيل مُحاصِرًا، وبها الأمير آق أرسلان، وأخرجه منها بالأمان، ثم اشتغل بحصار مراغة لينال منها ما أراغ، وحصرها طويلًا ولم يجد فيها المساغ.

ولما نمى إلى السلطان ببغداد خبر قتل ابن طغايرك أحضر الأمير عباسًا في داره ليخلو به ويستشيره، فلما خلا به أمر بضرب رقبته، ورمي جثته، وذلك بُكرة خميس من ذي القعدة سنة ٥٤١، فركب عسكر عباس يقدمهم الأمير آق سنقر الفيروز كوهي، وشقوا مدينة بغداد وساروا، ونهض الأوباش لنهب دار الوزير وثاروا، فأركب السلطان جماعة منعوا من الوصول إلى داره، وبقي موقرًا موفرًا على حرمته وقراره، ثم أُذن له في الانصراف إلى فارس مصحوبًا بالصيانة مصونًا بالصُّحبة، مرتب الأحوال حالي الرتبة، فجاء إليه وودَّع ودعا، ورعى له السلطان حق ما رعى، وتلا: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى.

ذكر وزارة شمس الدين بن النجيب الأصم الدركزيني

قال: وحفظ السلطان حرمة الوزير تاج الدين، فلم يتسمَّ شمس الدين الوزير بوزارته، حتى انصرف الوزير بجاهه وماله وحُرمته وحشمته ونعمته، ولم يُرَ وزير للسلجقية صُرف، ولم يُنكب في نفسه أو في ماله سواه؛ ولأنه كان يرجو منه استمالة الأمير بوزابه وتحصيل رضاه؛ فإنه لم يشُك في حركته، والابتلاء بمعركته، فضمن له تاج الدين بن دارست أن يكفيه أمره، ويكف شره، وكان هذا من دهائه لينجو من الداهية، ويستفيد الإحكام لقواعده الواهية، فرحل فرِحًا للسلامة، ظاعنًا من وطنه إلى دار المقامة، فاستقلَّ بالوزارة حينئذٍ شمس الدين أبو النجيب، وكان من قبل يخدم ابن بلنكري، فلما سار، أقام يخدم الأمير الحاجب تتار، مستديمًا لعود مخدومه الانتظار، فرغب السلطان فيه لأجل اختصاصه بخاصبك، ولم يكن فيه من أدوات الوزارة إلا كونه للقوام الدركزيني نسيبًا، فحاز من منصبه نصيبًا، وكان بزمانه شبيهًا، وفي مكانه نبيهًا، لائقًا بالقوم، موافقًا للسوم. يطلب مرافقهم في مرافقهم، والتخلُّق بخلائقهم، والسلطان لاهٍ بالملاهي، متناهٍ في المناهي، لا يسأل عما يفعل، ولا يفعل ما يسأل. ولا يقبل ما يُقال، ولا يقول ما يُقبل، وعنَّ للسلطان أن يحرك ساكن الموصل بإبداء عزمه إليها، وإظهار عوجه عليها، فبادر متولوها بحمول، وتحف وهدايا وخيول، فقبلها منهم، ورضي عنهم، وأقام ببغداد باقي تلك الشتوة، فلما رحل ضيف الشتاء، حل السلطان حبوة مقامه، وأمر خبر خروج بوزابه صاحب فارس ما أحلاه من أحلامه، فخفقت القلوب والبنود، وقلقت الجنوب والجنود، ثم أغذَّ السلطان مسعود إلى همذان سيره ليسبقه إليها قبل إطلاله عليها، فإنها مقام ملكه، ونظام سلكه، وطيَّر الكتب إلى خاصبك بن بلنكري وهو على حصار مراغة، ليقدم تلك العساكر، ويقدم إقدام الليث الخادر.

وأما بوزابه، فإنه لما نُعي إليه عباس وعبد الرحمن قامت قيامته، وغامت عمامته، وكدر عيشه، وكثر طيشه، وجاش جأشه وجيشه، ونهد بالملكين محمد وملكشاه ابني محمود، وأقبل بهما كالنيرين، من جترهما في فلكين، فلما قرب من أصفهان تلقَّاه صدر الدين بن الخجندي وفتح له أبوابها، وحمل على الأصحاب له أصحابها، فدخل دار مملكتها، ومقر سلطنتها، وأجلس الملكين على السرير الألب أرسلاني، والتخت الخسرواني، ثم خرج بهما على سمت همذان، وهو لا يشك أنه إذا بلغ غلب، وإذا بسل سلب، فوصل إلى مرج قراتكين، وهي من همذان على مرحلة، واتصل به ابن عباس صاحب الري، فلما عرف السلطان مسعود قربه، حزَّب حزبه، وقوَّى قلبه، وطيَّر إلى ابن بلنكري كتبه، وضيَّق في التأخير عذره، ووسَّع عتبه، فوصل وقد حمَّ اللقاء، وحقَّ البلاء، فقوي السلطان وتسلَّطَتْ قوته، واحتبى بالشدة واشتدَّتْ حبوته، ولمَّا تقارب الفريقان باتا ليلتهما يعبيان، وبحرهما يعب، وجمرهما يشب، وريحهما تهب، فلما بدا الصباح خلف من العجاج الليل ليل، وانجر على المجرة من مجرى المجرين ذَيل، وطما بما سل من الجفون سَيل، وطلع في كل أفق من لمع اليماني سُهيل، والتقى الصفان، وتلاطم البحران، وصال العديد على العديد، وصلَّ الحديد في الحديد، وكادت الكسرة تصح على مسعود، وبقي قلبه ثابتًا بين طاردٍ ومطرود، وبوزابه قد تهوَّر وتهجَّم، وحمل على القلب ليقلبه بحملته، ويُميز تفصيله بجملته، فكبا به الفرس ففُرس، واختلسه القدر فقُدر عليه واختلس، وحُمل إلى السلطان أسيرًا، فخاطبه وعاتبه كثيرًا، فلم ينبس ببنت شفة، وأراد السلطان الإبقاء عليه لشهامته، فأبى ابن بلنكري إلا فش هامته، فأمر السلطان بالإضراب عن رِقْبته وضرب رَقَبته، وأمر بحمل رأسه إلى العراق، وأن يُطاف به في جميع الآفاق. وانجلى الغبار عن ابن عباس قتيلًا، وانهزم عسكر فارس والملكان موليان لا يلويان، وموليان لا يليان، وجلس مسعود للهناء، وخصَّ خاصبك بالاصطناع والاصطفاء، وعظَّمه على الأمراء، وأمَّره على العظماء. وذلك في سنة ٥٤٢.

ذكر ما جرى بأصفهان من الفتنة بعد مصرع بوزابه

قال — رحمه الله: كان نجم الدين رشيد الغياثي والي أصفهان من قبل السلطان، وهو متعصب على الشافعية، فلما تمَّ من صدر الدين محمد بن عبد اللطيف الخجندي إلى بوزابه الميل، بادر بالإرسال إلى أصفهان للإيقاع بمن خرج على السلطان، وعلم ابن الخجندي فخرج منها، وزحف العوام إلى المدرسة فنهبوها وأحرقوا دار كتبها، وتشتت بنو الخجندي، فقصد صدر الدين محمد وأخوه جمال الدين محمود الموصل، وأوردهما جمال الدين الوزير من إنعامه وإكرامه المهل المنهل، ومضى جمال الدين إلى الحج، وأقام صدر الدين وبحر جود الوزير له متلاطم اللج، ثم انصرف عنه مملوء الحقائب، محبوًّا بالمواهب، وعمل في جمال الدين أبياتًا من جملتها:

جئتُ إلى بابك فردًا وقد
خرجتُ من نعماك في قافله

ووصل إلى أصفهان، فتوفَّر أهلها على خدمته، وافترضوا إقامة حرمته، وأما جمال الدين أخوه، فإني لما عُدتُ إلى بغداد لقيته وقد عاد من الحج في صفر سنة ٥٤٣، وكان قد عزم والدي على العود إلى أصفهان، فصحبناه، وجمعتنا الطريق، ووجدناه نعم الرفيق، ثم تفارقنا، وسار هو مع قافلة همذان، وسِرنا مع قافلة أصفهان، ثم وصل الخبر بأن السلطان رضي عنه وعن أخيه وخلع عليهما، وأعاد الرئاسة إليهما، ثم وصلا، وعلى أضعاف ما كان لهما من الحشمة حصلا.

ذكر بعض الحوادث

قال: في سنة ٥٤١ حجَّ ابن جهير وزير الخليفة المقتفي، فرتَّب صاحب المخزن قوام الدين بن صدقة وزيرًا، وكان بيته أثيلًا أثيرًا، ورتَّب في المخزن عوضه زعيم الدين يحيى بن جعفر، ورتب بعد ذلك يحيى بن محمد بن هبيرة صاحب الديوان، وفي سنة ٥٤٣ مات قاضي القُضاة ببغداد يوم النحر، وهو فخر الدين علي بن الحسين الزينبي، ورتب بعد ذلك عوضه عماد الدين بن الدامغاني.

قال: وأما السلطان مسعود فإنه أرسل إلى ابن أخيه الملك محمد بن محمود بعد قتل بوزابه فاستدعاه، ومنَّ عليه ومنَّاه، وزوَّجه بنته، وعهدَ إليه في الولاية وولاه عهده، ثم ملَّكه خوزستان، ولما أمن ابن بلنكري من الجوانب عمد إلى الأمير الحاجب تتار، وقبضه وأوثقه، وأنفذه إلى قلعة سرجهان واعتقله بها ثم خنقه، وصفا له الجو فباض وصفر، وضفا عليه الضوء فاجتلى الظفر.

قال: وفي شهر ربيع الأول سنة ٥٤٣ وصلت شعبةٌ من أكابر الأمراء، ومعهم الملك محمد إلى بغداد مُحاصرين، وعلى خذلان السلطان مسعود لشقوتهم مُتناصرين، منهم: شمس الدين إيلدكز، والأمير قيصر، وملك العرب علي بن دبيس وغيرهم، فحضروها وحصروها، فخرج أهل بغداد لردهم، فأفرجوا عنهم، حتى أصحروا، فكرُّوا عليهم كرَّة أَرْدَتْهُم، وما أبقت عليهم بل أفنتهم، وكانت بالقرب منهم حُفَر الغسالين، وتنانير الآجريين، وأتاتين الجصَّاصين. فما نجا إلا من آوى إليها، وقتلوا زُهاء خمسمائة نفس، وجلَّ رُزْء بغداد بأهلها، وأمضَّها ما دهاها من شغلها، ثم طلبوا من الديوان العزيز ثلاثين ألف دينار ليرحلوا، وفصَّلوا الأمر على المبلغ لينفصلوا. فاستشار الخليفة الوزير وأرباب المناصب في أنه هل يبذل لهم الذهب؟ وهل يحتمل للراحة منهم التعب؟ فما فيهم إلا مَن عجَّل بالعذل؛ للتأني في البذل، فأُخرجت العين، فأشار ابن هبيرة — وهو يومئذٍ صاحب الديوان — بضد ما أشاروا، وصار من الرأي إلى غير ما صاروا، وقال للإمام: «هؤلاء خرجوا عليك وعلى السلطان، وجاهروكما بالعصيان، فاجعل بالله الاستجارة، وقدم منه الاستخارة، وأنفِق ما عزمت على بذله لهم، في عسكرٍ يُقاومهم ويدفع شرهم، فإنك إن دفعتهم بالعطاء لم تسلَم من عتب السلطان مسعود، وإن هزمتهم باللقاء، قلتَ له: إني فللتُ جنود عصيانك من أهل طاعتك بجنود. وأنت لا تُحمد على ما تحمل، ولا تُشكر على ما تعمل.»

فقبل الخليفة رأيه ولم يرَ خلافه، وجمع حينئذٍ وجنَّد، وحشر وحشد، واستخدم من البطالين أبطالًا من المقاتلة المبطلين، وفرَّق المال ومال إليه الفريق، وأنفق فنفق في سوق تفويقه التوفيق، وصار من ذلك اليوم للخليفة جُند مهيب، ونار لها في أفئدة العِدَى لهيب، فردَّ هؤلاء الأردياء بالحدِّ الحديد، والجدِّ الجديد، وقال: «إني أرى المشورة الهُبَيريَّة أريًا مشورًا، وصوب صوابه لريِّ الرأي مشكورًا.» فجاء به وزَّر عليه جيب الوزارة، ولم يزل عنده مودود الشارة، مقبول الإشارة، وذلك يوم الأربعاء الرابع أو رابع عشر ربيع الأول سنة ٥٤٤، فشرع في نصر أمر الشرع، رحيب الصدر والباع والذرع، وأكرمَ الفُضلاء، وفضَّل الكرماء، وعاش في وزارتي المقتفي والمستنجد ست عشرة سنة وشهرين، قرير العين، أيد اليدين، وكان به عَمَش، وبوزير السلطان طَرَش، وأمرُ الدين والدولة بهما منتظم، وشعبُ الخلافة والسلطنة بكفايتهما مُلتئم.

ذكر وصول السلطان سنجر بن ملكشاه إلى الري في أواخر شعبان سنة ٥٤٤

قال — رحمه الله: لمَّا عرف سنجر ما تمَّ بالعراق من اغتيال النفوس، واقتطاف الرءوس، واستيلاء خاصبك على خواص الأولياء، وإغضاء السلطان في مهد الإغفال، وخدعه بالألطاف خدع الأطفال، قال: «لا بد من الإدراك والاستدراك، والإمساك والاستمساك، وتهذيب المستعلي، وتعذيب المستولي، وإخفاء الشر اللائح، وإطفاء الشرر اللافح.» فنهض على كبر سنه، ووصل إلى الري في صميم الشتاء، وقرها في قره، فأجفل مسعود من همذان راحلًا على سمت بغداد، فثنى عنانه شرف الدين الموفق كردبازو وقال له: «أنت لسنجر مقام الولد، والأولاد ببرِّ الآباء فازوا، وما أسعدهم إذا حصلوا رضاهم وحازوا.» فسار إلى الري معه، وأبى ابن بلنكري أن يتبعه، وأقام هو والوزير الأصم بهمذان، فلما بصر سنجر بمسعود قدَّمه وأكرمه، وقرَّ عينًا به وقرَّبه، وتحدَّث معه بما أعجبه، ورضي عنه وما عتبه، ونسي كل ما ذكره، وأدبر عن كل ما دفعه، وشفع السلطان في خاصبك فأجابه، وذكر له فعله فاستصابه، فما أمر بمعروف ولا نهى عن نكر، ولا أبدل شكوى بشكر، ولا كشف ظلامة، ولا كفَّ قلامة، لكنه ودَّع ابن أخيه وعاد، وأغذ إلى خراسان التأويب والآساد، ورجع السلطان واستصحب خاصبك والوزير الأصم معه إلى بغداد، وأقام تلك الشتوة في رفاعة وفراغ، وصَباح صِباح ومساء مساغ، وكان مع سنجر كبراء أمرائه، مثل المؤيد يرنقش هِريوه، والفلك علي البحتري، وسنقر العزيزي، وغيرهم من عُظماء عسكره، وخواص معشره.

ذكر حوادث في تلك السنين

قال — رحمه الله: وفي السادس من شهر ربيع الأول سنة ٥٤٣ نزل ملك الألمان بجمعٍ عظيم من الإفرنج على دمشق وحاصرها، وأشرف المسلمون فيها على اليأس، ثم منعها الله تعالى، ورحلوا عنها بعد أربعة أيام خائبين هائبين، خاسئين خاسرين، وفي أوائل جُمادى الأولى من سنة ٥٤٤ تُوفي الأمير غازي بن زنكي صاحب الموصل، وتولى أخوه قطب الدين مودود، وجمال الدين الجواد وزير على حاله، وزين الدين علي كوجك متولي العسكر ورجاله. وتُوفي الحافظ متولي مصر في خامس جمادى الأولى من هذه السنة، وتولى بعده ولده الظافر، وفي موسم سنة ٥٤٤ وقعت زعب ومَن تابعها من العرب على قافلة الحج عند قفولها من مكة إلى المدينة، فأهلكت الناس، وأحلَّتْ بهم البؤس والبأس، وعظم مصاب المسلمين في الآفاق، ونجا من الآلاف آحاد بآخر الأرماق، وفي الحادي والعشرين من صفر سنة ٥٤٤ كسر نور الدين محمود بن زنكي على أنب من الشأم إبرنس أنطاكية وقتله وحزَّ رأسه، وشدَّ بتلك النصرة للإسلام قواعده وأساسه، وفي سنة ٥٤٥ أسر التركمان جوسلين، وسلَّموه إلى نور الدين، ونزل الملك مسعود بن قلج أرسلان على تل باشر، وهي مع جوسلين، ونزل نور الدين بعد أسر جوسلين على قلعة عزاز وفتحها بالأمان، وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ٥٤٦ تسلم الأمير حسان المنبجي تل باشر بالأمان. وفي سنة ٥٤٦ أغار عز الدين علي بن مالك صاحب قلعة جعبر على أطراف الرقة، ففزعوا إليه وأدركوه وقتلوه، وجلس مكانه في القلعة شهاب الدين مالك ولد عز الدين.

ذكر ما تجدد من الملك ملكشاه بن محمود ووفاة السلطان مسعود

قال: أغار في ربيع الأول سنة ٥٤٥ ملكشاه بن محمود على أصفهان، وساق بعض مواشيها، وصار يُغاديها بالإخافة ويُعاشيها. وكان فيها نجم الدين رشيد واليها، فأنهض السلطان إليها شرف الدين كردبازو، وضم إليه جماعة من الأمراء، فلما وصلوا إلى أصفهان، راسلوا الملك ملكشاه وقبَّحوا له ما استحسنه، وتحرَّكوا إليه بما سكَّنه، وتحمل له رشيد بمال حمله، وسيَّره إليه ورحله، ونزلت السكينة وسكنت النازلة، وأُسبل الأمن وأمنت السابلة، وشتى السلطان مسعود سنة ٥٤٥ ببغداد غائصًا مع لِداته في لذَّاته، قانصًا من العيش فرصاته، ثم رحل عنها رحيل مودِّع، فلم يعُد بعدها إلى العراق، وترافق السلطان وخاصبك ولم يتفارقا، وتوافدا على الترافد وتوافقا، وكان خاصبك فرحًا باختصاصه، ومنذ كان ما أخلى صاحبه من حبه وإخلاصه، فوصلا إلى همذان، وانقضت سنة ٥٤٦ صافية عن القذى، كافية للأذى، ماضية مع الغنى، مضيَة السناء، ولم يعلما أن سنة سبع، بسنها كالسبع عضوض، وأن كل ما أبرمه اليوم الزمان غدًا منقوض، وأن الحياة مختومة، وأن الوفاة محتومة، وأن عمران العمر مهدوم، وأن سر القضاء مكتوم، فلم يزل مسعود مسعودًا حتى عاجله القدر، وما أجله الأجل، وأصابته عِلة الغثيان والقيء، فما سلمت حتى أسلمت نشره إلى الطي، وشمسه إلى الفيء، وجمد في آخر جمادى الآخرة ذوبه، وخمد ضرامه وأقلع صوبه، وكان مسعود ضخم الدسيعة، جم الصنيعة، لكنه يصطنع الأراذل، ويرفع الأسافل، وكان كثير الاتكال على استمرار الإقبال، قليل الاحتفال بمكايد الرجال، دائم الإغضاء عن ذميم الفعال، لا يضمر لعدو سخيمة، ولا يقبل في وليٍّ نميمة، واتفق قبل وفاته أن أخاه سليمان شاه كان بقلعة قزوين معتقلًا، وكان عليه بالحوط مثقلًا، فواطأه مستحفظها موفَّق الخادم على الخروج بعد موت أخيه لطلب السلطنة، واتصاله بذوي الأيدي المتمكنة، وكان الملك ملكشاه بن محمود، قد اتصل بعمه مسعود إليه لاجيًا، ولآلائه راجيًا، وقد أجمل إليه، واشتمل عليه وهو حاضر حين حضره الحين، وغارت وغاضت العين والعين، ولا بد أن يقطع بين المتواصلين البين، ودُفن بهمذان في مدرسة بناها جمال الدين إقبال الخادم الجاندار.

ذكر جلوس السلطان ملكشاه بن محمود

قال: لما تُوفي عمه اجتمع العسكر على نصبه، وعقد حبي الاعتقاد لحبه، وأجلسوه على السرير، وأطاعه الأمراء وأْتمروا بطاعته، وتيمَّنوا بيومه، وسعدوا بطلعته، وتفرد ابن بلنكري على عادته، ومُساعدة سعادته، بالأمر والنهي، والحل والعقد، والقصر والمد، والقبول والرد، والميل إلى جمع المال، وجباية الأعمال، وإلحاق ذوي الإثراء بذوي الإقلال، واشتغل ملكشاه بالانهماك في القصف والانهتاك بالعزف، وفوَّض الأمور كلها إلى ابن بلنكري، وكان من فلك ملكها في أوج المشتري، واعتلق بنجحه، ووثق بنصحه، وما درى أنه يخسر من ربحه، ويظلم يومه بطلوع صبحه؛ فإن ابن بلنكري طرب فبطر، وخطر بضميره أن يضمر الخطر، وجمع الأمراء — وكبيرهم الحسن الجاندار — وقال لهم: «هذا سلطان لا يُفلح، وللملك لا يصلُح، فإنه غرٌّ ذو غرور، وغمرٌ جاهلٌ بالأمور، قد شغلته الخمر عن الأمر، وأغناه الحشف عن التمر، وأنا أرى من الصواب أن نُخَلِّيه، ونستدعي أخاه محمدًا ونُولِّيه.» فعلم الأمراء أن خاصبك كالباحث عن حتفه بظلفه، والجالب النكر إلى عرفه، وكانوا قد كرهوا استيلاءه، وسئموا استعلاءه، فوافقوه على الرأي الرائب، وعدُّوه من المواهب، وقالوا: لعل الملك إذا تولاه حازم جازم، وعاقل بمصالحه عالم، انتحى له من هذا العادي، وشفى بصداه غليل الملك الصادي، فقالوا لخاصبك: «عجِّل هذا الأمر قبل أن يفطن به، فنأيس من نجح مطلبه.» فقبض ابن بلنكري ملكشاه في دار الحسن الجاندار وهو في ضيافته، فقراه بآفته، واعتقله بمرج همذان، وكان قد أنفذ إلى الملك محمد بن محمود جمال الدين إيلفقشت بن قايماز الحرامي، ونفذ ابن بلنكري لاستحلافه الأمير مشيد الدين بن شاهملك ومعه وزيره الكمال أبو شجاع الزنجاني المعروف بالتعجيلي، فخانوه في الرسالة، وحسَّنوا للسلطان محمد ضد ما أراده ابن بلنكري من الحالة، وقرروا معه قتله يوم الوصول، وقالوا له: لا تقبل غير هذا الرأي لتحظى بالقبول، وعادوا وقالوا لابن بلنكري: «إنا قد حلَّفناه واستوثقنا منه بالأيمان، وأكدنا إقسام القسَم، بحيث يكون حنثه ارتدادًا عن الإيمان.» فوثق بأمانتهم، وأمن للوثوق بهم، وأرسل واسترسل، وعجَّل واستعجل. وأما ملكشاه، فإنه تخلَّص من اعتقاله، وخرج نجمه من بيت وباله، وكأنهم توانوا في حفظه، ووكلوه إلى حظه، وكما أغفلوا الإحسان إليه، أحسنوا بالغفلة عنه، ولم يكن لهم عنده ثأر فيحملهم على الانتقام منه، وصرَّحوا بهربه، ولم يعرضوا بطلبه، ولم يلبث في سلطنته إلا شهرين أو ثلاثة، ثم تقلبت به الأحوال إلى أن استقر بخوزستان ملكًا، وفي سلك السلوك نهج السلامة متسلكًا.

ذكر جلوس السلطان غياث الدنيا والدين أبي شجاع محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه في أواخر سنة ٥٤٧

قال: وقدم السلطان محمد همذان في عُدَّة يسيرة، وعِدة غير كثيرة. فتلقَّاه خاصبك بلقائه مستبشرًا، وبوفائه مستظهرًا، وبصفاء وده مُوقنًا، وبصفات مجده مؤمنًا، وإلى دينه راكنًا، وإلى يمينه ساكنًا، وحمل إليه ما تجمل به من آلات الملك وأدواته، ومخبيات المال ومدخراته، وخيمه وسرادقاته، والخيل العراب، والعروض والثياب، فعلقت بالنفوس نفائس أعلاقه، وسكن المسكين إلى وفاء السلطان ووفاقه، وخرج له من قشره، وأرج منه بنشره، ولقيه السلطان بوجه له باشر، ولسان لحمده ناشر، لكن ضميره للشر مُضمِر، وفكره للفتك به مُفَكِّر، ثم إنه في اليوم الثالث من قدومه، جلس في أعلى القصر، واستدعى ابن بلنكري لمسارته في التفويض ومفاوضته في السر، فجاء ومعه الأمير زنكي الجاندار، والأمير كشطغان المعروف بشمله، فلما حصلوا على سلم القصر عرف شملة العملة، ورأى أمارات لا توافق المراد، فعاد وجذب ذيل ابن بلنكري ليعود فما عاد، ونزل وقد رهب، فركب وهرب، وأما ابن بلنكري وزنكي، فإنهما صعدا، فأمر فحز رأس ابن بلنكري ورمى بجثته إلى الميدان، وضُربت أيضًا رقبة زنكي الجاندار، وكان كبير الشان، وارتاعت القلوب وارتابت النفوس، وذرفت العيون وأطرقت الرءوس.

ومما يعتبر به المستبصر، ويستبصر به المعتبر أن خاصبك خلَّف أموالًا لا تأكلها النيران، ولا تحويها الحسبان، ومن جُملة ما وجد له: ألف ثوب، وسبعمائة ثوب أطلس عتابي، فكيف غيره من الألوان. وطُلب له كفن في ذلك اليوم فلم يوجد، وبقي على حاله ولم يُلحَد، وما أُلقي عليه رداء، ولم يُبذل له فداء، حتى جُبي له من سوق العسكر الكفن والقطن، وتهيأ لمن تولى أمره حسبةً لله الغسل والدفن، فيا بُعدًا للدنيا ما أكدر صفاءها، وأغدر وفاءها! تُخيف مَن آمنها، وتُزعج مَن سكنها، وتقتُل مَن أحياها، ولا ترعى مَن رعاها.

وأما السلطان محمد، فإنه ظن بعد قتله أن الموانع قد ارتفعت، والمنافع قد اتسعت، وأن الأمراء النافرين منه، بسببه يجتمعون، وعلى نصره يُجمعون، وإلي جنابه يفزعون، وكان وزيره في خوزستان الوزير جلال الدين بن القوام أبي القسم الدركزيني، وقد أبقاه على وزارته، وجرى ما جرى بمشورته وإشارته، فأشار عليه بأن يسير رأس خاصبك إلى الأميرين الكبيرين: شمس الدين آتابك إيلدكز، ونصرة الدين خاصبك بن آق سنقر صاحب مراغة، وظن أنه يُعجبهما إتلافه، ولا يسعهما عصيان السلطان وخلافه، فلما وصل إليهما الرأس هالتهما حالته، وأعيتهما في هذه العشرة إقالته، وقالا: «لقد أقدم على فتك عظيم بعظيم، ولقد ألام الكريم بظفر لئيم، أما كان استوثق منه باليمين؟ أما استمسك من وعده بالحبل المتين؟ وإذا كان هذا الملك الأكرم ابن الملوك الأكرمين مجترئًا على مثل هذه الجرائم، ومُستصغِرًا لأمثال هذه العظائم، فقد عز العزاء، وخاب الرجاء، وجلَّ المصاب، وعظُمَ البلاء.» فمالا عنه، ونالا باللوم منه، وأرسلا إليه: «إنك أخطأت، وزعمت أنك أصبت، وما يثق قلب إليك، وإن وثقتنا فإنك باليمين التي حلفت بها له تحلف، ولمثل الوعد الذي أخلفته معه تُخْلِفُ، فليس لنا بك إلمام، ولا لك معنا كلام.»

ذكر ما جرى للسلطان سليمان بن محمد بن ملكشاه وجلوسه على سرير السلطنة

قال — رحمه الله: كان لما خرج من مجلسه بقزوين، ووجد التمكن والتمكين، خرج به مظفر الدين ألب أرغو بن يرنقش البازدار إلى زنجان، وكاتب فيه الأميرين شمس الدين إيلدكز ونصرة الدين صاحب مراغة، وهما في أمره مترويان، فلما نفرا من محمد، وتزمما وتذمرا، سارا بعساكرهما إلى زنجان، طالبين لخدمة السلطان سليمان، وحملاه إلى همذان، وأجفل السلطان محمد في شرذمة يسيرة إلى أصفهان، فاستقر سليمان على سرير الملك، وكان معه ينالتكين خوارزمشاه، وأخوه يوسف، وأختهما زوجة السلطان سليمان، وهي لأمره مُتولية، وعليه مُستولية، وكان سليمان وزيرًا شريبًا خميرًا، إذا سكر وقع صريعًا، ونام أسبوعًا، كلما رفع رأسه لاذ بالعقار، ثم لاث خمارًا لخمار، وكان يقلي لأنه لا يلقى، ويشق عليهم أنهم لا يسعدون به وهو يشقى، وكذلك وزيره فخر الدين أبو طاهر، ابن الوزير المعين أبي نصر أحمد بن الفضل بن محمود القاشاني، لا يصحو ساعة، ولا يمحو عنه شناعة، وهو أشبه بسلطانه، وكلاهما أليَقُ بزمانه، فضجر الأمراء الأكابر من المقام، وشرعوا في الانفصال والانفصام، وعاد شمس الدين إيلدكز إلى أذربيجان لقصد أرَّانية وانتزاعها من يد روادي ابن عم ابن بلنكري، وعزم نصرة الدين آق سنقر على العود إلى ولايته، ثم إن الأمراء الباقين بعد رواح شمس الدين إيلدكز، قرروا مع نصرة الدين، وانتقلوا إلى مرج قراتكين، وخلوا السلطان مع خواصه بقصر همذان، واجتمعت آراؤهم على قبض الوزير، وأردوا اتباع ذلك بقبض خوارزمشاه ينالتكين، والسلطان سليمان كان حينئذٍ قد نكح زوجة أخيه بنت ملك الكرج، ودخل بها وهو في عرس وأنس، فجاءت إليه أخت خوارزمشاه زوجته، وقالت له: «إن لم تأخذ لنفسك أخذت نفسك، وطال حبسك، ومضى غدًا يومك، ورجع في التطبق عليك أمسك.» فهرب ليلًا معها ومع أخوَيها، وترك خاتون الأبخازية وقد بنى عليها، وأصبح الأمراء وقد فقدوه، ونشدوه وما وجدوه، فتولَّتِ العساكر إلى ولاياتها، وغابت تلك الأسود إلى غاباتها.

ذكر رجوع السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه إلى مقر ملكه بهمذان بعد غيبة سليمان

قال: لما وصل السلطان محمد إلى أصفهان مُنحازًا عن عمه سليمان، كاتب الجوانب، وراقب الأجانب، واتصل به الأمير إيناج صاحب الري، فقويَتْ يده، وعرف أن العساكر الغريبة لا تقيم مع عمه، وأنهم إذا انفصلوا عنه كان عزمه مليًّا بهزمه، فوصلته البشرى بأن عمه عام في بحر الليل سابحًا، وساح لعرض الفلاة بالإفلات ماسحًا، فسُرَّ بما وعى، وسار وسعى، وتلقاه أمراء الدولة مُهنئين، وبحدة جده مُتهنئين، وعاد إلى قصره، وعادة نصره، وذلك في سنة ٥٤٨.

ذكر ما اعتمده الإمام المقتفي لأمر الله بعد موت السلطان مسعود محمد بن ملكشاه

قال — رحمه الله: كانت السدة الشريفة الإمامية قد مُنيت بجور الأعاجم، ولم يزل عودها من عداوتهم تحت سن العاجم، وكان أهون ما عندهم خلاف الخليفة وعناده، وتمردهم عليه بأن يحصل مرادهم لا مراده، ولم تزل بغداد مُظلمة، مشحونة منهم بالشحن الظلمة، ولهم من الديوان العزيز مطالب لا يفي بها خواصه، ومغارم تلحقه منهم يتعسر منها خلاصه، والحرم من جناياتهم خائف، والشرف لمهاباتهم عائف، وشريعة الشريعة مكدرة، والدماء والفروج مُستباحة مُهدرة، والخليفة يغضي ويغضب، ويعتب ولا يُعتب، ويُقدر عليه ولا يَقدر، ويُغدر به وهو على العهد لا يغدُر. فلما تُوفي السلطان مسعود قال: «لا صبر على الضيم بعد اليوم، ولا قوام مع هول هؤلاء القوم.» وآزره وزيره عون الدين بن هبيرة وأعانه، وثبت جنانه، وكان مسعود البلالي الخادم والي بغداد، فقامت عليه قيامة، وتعذرت عليه الإقامة، فرحل إلى الحلة، ومضى متحملًا في تدبير الأمور المضمحلة، وأقام يحشد ويحشر، ويطوي وينشر، وكان بالحلة السلار الكردي، من أكابر أمراء السلطان، فلم يكترث بالخادم واسترسل إليه، وقصده ليسلم عليه، فأخذه الخادم وقتله وغرقه في الفرات، وجمع العساكر وأقطع تلك الولايات، وفرَّق على فريقه الإقطاعات، فسار إليه ابن هبيرة وهزمه وكسره، ولحق البلالي بهمذان مستصرخًا، وغدا عقد جمعه منفسخًا، وملك الخليفة العراق من أقصى الكوفة إلى حلوان، ومن حدِّ تكريت إلى عبادان، وأقطع واسط وأعمالها، والبصرة وأنهارها، ومعاقلها وولاياتها، والحلة والكوفة، ونهر الملك، ونهر عيسى ودجيل والراذان، وطريق خراسان إلى نواحي حلوان، وأقطع الوزير عون الدين بن هبيرة جميع ما كان لوزير السلطان وأرباب مناصبه في جميع هذه البلاد، وأعانه على الاستعداد وإضعاف الأعداد بتضعيف الأعداء، ونعته بتاج الملوك فلك الجيوش.

وكان الإمام لما استخلف استحلف على أنه لا يشتري مملوكًا تركيًّا، وكان يقتني مدة خلافته إما أرمنيًّا أو روميًّا، ولم يكن له من الأتراك إلا ترشك، ملكه قبل الإمامة، فولَّاه الإمارة على الأمراء، واختصَّ من مماليكه الروم والأرمن عدة من النُّجباء، سماهم الخيلية، وولَّاهم الرتب العلية، وأحكم أسوار بغداد، وحفر خندقها، ورتَّب الولاة في الولايات، وبثَّ العيون وأصحاب الأخبار، وبعث الجواسيس إلى جميع الأمصار، واشتغل السلاطين بعضهم ببعض في تلك السنين، وأعطى الله الخليفة التأييد والتمكين، وكان الخليفة قد سيَّر قطب الدين العبادي في سنة ٥٤٦ أو ٥٤٧ رسولًا إلى محمد بن محمود بخوزستان، فتُوفي هناك، وخُتمت به الفصاحة الوعظية، وأظلمت مطالع العلم المضيَّة.

ولما عاد السلطان بعد هرب عمه سليمان إلى همذان، راسل الخليفة وخاطبه في الخطبة له فما أجابه، وتجنى عليه بقتل ابن بلنكري وعابه، وآيسه من ملك بغداد وخيَّب رجاءه، فحينئذٍ اجتمع عند السلطان الأمراء الذين حلَّت إقطاعاتهم ببغداد وقالوا: «أرزاقنا قد أُقطعت، وأعراقنا قد قُلعت، ودورنا قد أُنزلت، وولاتنا عُزلت، ولا بد من مداواة هذا الداء قبل إعضاله، وتداركه قبل استفحاله.» وكان السلطان محمد يرجع إلى عقل ودين، وحلم ركين، ورأي رزين، فقال: «لا تعجلوا؛ فإن مخالفة الخليفة شؤم، ومواليه محمود، ومعاديه مذموم، وأنا أستقبح أن أستفتح سلطنتي بمعاداته، ونية مناواته.» فقالوا له: «نحن نمضي ونقضي هذا الشغل، ونخفف عنك هذا الثقل، ونلقي بجمعنا الجمع، ونحصد بسيوفنا الزرع.» فقال لهم: «كان رأيي ما ذكرته، وعرفتكم ما أنكرته، والآن فافعلوا ما رأيتموه، واعملوا ما نويتموه.» فودَّعوه وركبوا، وجاء إليهم من وافقهم وذهبوا، وتجمعوا في جحافل حافلة، وعساكر في ذلاذل السوابغ رافلة، وساقوا بين أيديهم التركمان ببيوتهم ومواشيهم، وأهاليهم وحواشيهم، وكان حصن تكريت قد بقي في يد مسعود البلالي، وبه نائبه أسبه، وحصره الخليفة مرارًا فتمنَّع، ولم يفتح مغالقه المتصعبة، وفي هذه القلعة ملكان من السلجقية مُعتقلان، وهما: ملكشاه بن سلجق بن محمد بن ملكشاه، وأرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، فقالوا لمسعود البلالي: «أحضر لنا الملك أرسلان بن طغرل ابن عم السلطان؛ ليثق بحضوره جموع الأجناد وحشود التركمان.» فأقطع عليهم بدره ورفع جتره، ثم وصلوا إلى نواحي العراق.

ولما عرف الإمام ذلك، أمر فأصحرت أُسده الخوادر من عريسها، وتبدلت خيش الوشيج من خيسها، وبرز في مظلَّته، كأنه البدر في هالته، ونور النبوة يشرق من جبينه، والقضيب النبوي يُورق بالنصر في يمينه، والبُردة الموروثة فوق ردائه، والقدر بالقدرة على أعدائه، ملبي ندائه، فسار في موكبه الشريف، وعلى مقدمته وزيره عون الدين بن هُبيرة، في أُسود استلأمت من الدروع بأهب أساود، وفي سحائب قساطل، من المناصل والصواهل، بوارق ورواعد، وفي الميمنة والميسرة أمراء ومقدمون من عظماء العسكر: كناصر الدين منكوبرس، وأمير واسط مظفر الدين قتلغ برس، وكلاهما من المسترشدية، وحاميًا لحوزة المقتفية، وفخر الدين قويدان، ومنكلبه العباسي، وبهاء الدين صندل. والأمراء المصطفون المصطنعون، والحماة والكماة المدرعون المقنعون. وخيم الخليفة على مرحلتين من بغداد في موضع يُعرف ببجمزا، وأقام دون شهر ينتظر منهم البداية، ويستبعد من غوايتهم الهداية.

ولما تزاحم المجرَّان، وتراجم الجمران، تجرَّأ العدى ببغيهم وغيهم على الاقتحام، وحسروا عن أقدام الإقدام، وقالوا: لو أن للقوم بنا طاقة، ما تحملوا من توسيع مدة الإقامة إضاقة؛ فقد عزَّت الأقوات وعدم العلف، ووجد التلف، وجهلوا أن الإمام مُتبع حكم الشرع، في قتال أهل البغي عند صيالهم بالدفع، فركبوا وما رقبوا، وبرزوا وجلبوا. فركب أمير المؤمنين في مهاجريه وأنصاره، ووقف في القلب منهم بين أسماعه وأبصاره، وقدم وزيره ابن هبيرة أمامه، وسيَّر معه أعلامه، وأمر الأمراء أن يكونوا معه قُدَّامه، فأقمرت ليالي الرايات السود، بوجوه رافعيها البيض، وأشرقت أيامن الأيام الإمامية بنوره المستفيض، وشرع برق الحديد اللامع على حواشي بوارق البوار في الوميض، وأولئك قد ساقوا دوابَّ التركمان ومواشيها وأغنامها، وقدموها بين يدي صفوفها قدامها، وكانت آلافًا كثيرة الأعداد، كثيفة السواد، ومن ورائها الوقاة الكماة، ذوو الحمية الحُماة، وقد أخذت هذه المواشي طول الأرض وعرضها، ومنعت بتراصها تقويض صفوفها ونقضها.

فنزل الأمير فخر الدين قويدان قائد الجنود، وقبَّل الأرض للخليفة، وطلب بلاد الحلة، واقتدى به ناصر الدين منكوبرس في طلب البصرة، فأنعم بهما عليهما، فتأهبا للقاء، وتلهَّبا على الهيجاء، وحمل الوزير ومن معه، فلم يجدوا في تلك النقاد للآساد طريقًا، وصادفوا في ذلك الفضاء الواسع للأنعام المحشورة إليه مضيقًا، وكان ترشك مملوك الخليفة للمخالفين مخالفًا، وفي الميمنة واقفًا، فحملت ميمنتهم على ميسرة الخليفة، وفيها مهلهل بن أبي عسكر والأكراد، فهلهلت نسجها، وحلحلت برجها، وعادت صفوة صفوف الأكراد أكدارًا، وأجفلوا كالظلمان هزيمةً وفرارًا، ودخل ترشك بين أطناب السرادق الشريفة، فطعن برمحه ظهير الدين بن الفقيه المرتب في المخزن فقتله، وركضت ميمنتهم خلف المنهزمين فلم يعرجوا، ومروا وراءهم ومرجوا، وأما الميمنة الميمونة الإمامية، فإنها حملت، وفيها ناصر الدين منكوبرس وفخر الدين قويدان، ونفذت إلى القوم، وقوضت ما قابله من البنيان المرصوص، وحكمت بنصر الحق المنصوص عليه، على الباطل المنقوص، فلم يُر غير رأس سائر، ورأس طائر، ورمح يتشظَّى، وصارم يتلظَّى، وتبدد شمل آمال الأعادي، وتفرقوا عباديد، وأخلفهم الشيطان ما كان منَّاهم من مواعيد، وطاروا على خيولهم كأنما استعارت من قوائمها قوادم، وتركوا بتلك المغاني من أغنام التركمان مغانم، وخبَّت البشرى إلى بغداد بالنصر، بعقب إرجاف الأجلاف المنهزمين بالكسر.

ووقف بعد الهزيمة مسعود البلالي في قلبه ثابتًا قلبه، راجيًا أن يثوب إليه حزبه، فهبَّ إليه ابن هبيرة فهبره، وبري أجزاء صفه وجزَّ وبره. وانتهز الفرصة الأمير سنقر الهمذاني، فانفرد بالملك أرسلان بن طغرل وسار به، وأخفى مسيره في مضايق كل وادي ومساربه، حتى وصل به إلى شمس الدين إيلدكز زوج أمه، وكأنما أنزل به الغنى بعد عدمه. وأما الخليفة فإنه سجد لله شكرًا، وانشرح بالنصر صدرًا، ودخل إلى بغداد منصور اللواء، مصحوبًا بأملاك السماء، ولما تمت على أولئك القوم في أملهم الخيبة، تملَّكتهم من جانب أمير المؤمنين الهيبة، ونكصوا على أعقابهم عاثرين بذيل الخجل، عابرين على سبيل الوجل. فلما رجعوا إلى السلطان محمد بن محمود ندَّمهم، وعاتبهم على الملك الذي ندَّ منهم، وقال: «كسرتم ناموسكم، وأتلفتم نفوسكم، وأهلكتم التركمان وعرَّضتم للسبي الذراري منهم والنسوان، ثم أخرجتم الملك أرسلان وغفلتم عن حفظه، وهو الآن عند إيلدكز، وستبصرون ما يفضي إليه الأمر، ولا بد أن يتوجه إليَّ من جانبه الشر، وقد صار الخليفة خصمًا، فلا يخلص بعد هذا ورد دولتنا معه من الشوب، ولا يقبل على قبول التوبة ولا يرتضي صوابًا إرضاء هذا الصوب.» وكان كما حسب؛ فإن الخليفة لم يغفر للسلجقية بعدها ذنبًا، ولا فرغ لهم من جهته قلبًا، وكانت الوقعة ببجمزا في أواخر سنة ٥٤٩.

ذكر وصول السلطان سليمان بن محمد بن ملكشاه إلى بغداد، وقبول الخليفة له وتجهيز الجيش معه وذلك في سنة ٥٥٠

قال — رحمه الله: كان سليمان قد تخلَّى عن الملك وأخلى سريره، ووافق إدباره تدبيره، يدور في البلاد ويبلي بالدوائر، وينجد مع المنجد ويغور مع الغائر، لا يستقر به قرار، ولا تُئويه دار، ولا يجيره جار. فلم يرَ لأمره وأمنه حاميًا غير حِمى أمير المؤمنين، فقصد أن يعلق من عصمته الحبل المتين، قال: وكنت حينئذٍ ببغداد، فوصل الخبر بأن سليمان قد دنا ودان، فقابلوا بوفور القبول وفوده وأكرموا وروده، ولو وفَّوه حق السلطنة لتلقَّاه الوزير ومعه قاضي القضاة والنقيبان، وأجِلَّاء الخدم كما جرت عادة السلطان، لكنهم اقتصروا في تلقِّيه على موكب شريف يَقدُمُه عز الدين محمد ابن الوزير، ومعه مخلص الدين بن إلكيا الهراسي وخادمان، ووقف الموقف خارج البلد، حتى قرب، ثم لقيه ابن الوزير وخاطبه بكل ما أطربه وأعجبه، وقال: «أمير المؤمنين — صلوات الله عليه — يسلم عليك، ويُهدي تحيته إليك.» وترجم ابن إلكيا الهراسي له هذا السلام بالفارسية، فنزل سليمان عن فرسه، وقبَّل الأرض، ثم ركب ودخل البلد، وخرق الأسواق من باب سور الحلبة، إلى أن جاوز فرضه الرحبة، وحين وصل إلى باب النوبي أنزلوه، وألزموه بتقبيل العتبة وقد أكرموه، وهناك حجر إذا وصل الرُّسل ومقدمو الحاج، نزلوا عنده ولثموه وعظَّموه، وما قبَّل تلك العتبة قبل سليمان سلطان سلجقي، ولا ملك ديلمي، وكان منهم شقي وسعيد.

ثم أركبوه وخرقوا به السوق، حتى عبروا به باب سور السلطان وأنزلوه بدار السلطنة، ووظفوا له الرواتب، ورتبوا له الوظائف، وشرفوه وسوروه وطوقوه، وخطبوا له على المنابر في الجُمَع والجوامع. وخصوه بالعوارف والصنائع النصائع، لكنهم لم ينعتوه إلا بالمُعظَّم، ولم يسموه بالسلطنة ولم يسموه، وكانوا يقتصرون به على المعظم، وذلك غاية أن يعظموه، لكنه كان في قد عقلة من غفلته، وعي لهجة من غيِّ جهلته، وفي كسرة من سكرته، وفي ذلة من لذته، فما زال مدة مقامه مستحلًّا لمحارم شهواته، مستحليًا مذاق اللهو في لهواته، مُترنمًا بنغماته، متبغمًا بخرافاته، والخليفة مع ذلك في ولائه معتقد وللوائه عاقد، مُتيقظ لتدبير مصالحه وهو عنها راقد، وقد أوعز إلى عساكره بالتأهب للمسير في خدمته، وإعادته إلى عادته في سلطنته، واستوزر له شرف الدين الخراساني، وكان رجلًا كبيرًا يرجع إلى سؤدد وكرم محتد. وكان قد وصل إلى بغداد في عهد السلطان سنجر رسولًا، وأعاد البردة والقضيب النبويين معه إلى دار الخلافة، وكانا قد أُخذا في النوبة المسترشدية.

وأقام شرف الدين هذا في الظل الأمامي، وهو مخصوص بالاحترام، فرأى المقتفي أن يجعله وزير سليمان، وسيرَّه إلى أذربيجان، وجهَّز معه عساكر وافية العدد، وافرة العدد، فمضوا به إلى أرَّانية ثقة بآتابك إيلدكز فما رفع بهم رأسًا، ولا قراهم إيناسًا، ووصل السلطان محمد بن محمود وجرى المصاف، ووقع بين الفريقين الانتصاف، ثم انهزم سليمان موليًا، وعن عسكر الخليفة متخليًا، فعادت العساكر إلى بغداد عادمة للظفر، نادمة على السفر، ورجع سليمان عائدًا إلى بغداد في طريق الدربند القرابلي، فصبَّحه زين الدين علي كوجك من الموصل، وقبضه في المضيق، وحمله إلى قلعة الموصل، واعتقله وأراحه من التعب، وأباحه ما كان يؤثره من اللعب، وكان ذلك في شعبان سنة ٥٥١.

ذكر اتصال الملك جغري شاه بن محمود بأخيه السلطان محمد

قال — رحمه الله: كان الملك جغري شاه مع آتابك أياز في أذربيجان، فشغل خواطر الأميرين إيلدكز وأرسلان آبه، صاحبي أذربيجان، عند اتصالهما بالسلطان سليمان، بعد انهزام محمد إلى أصفهان، فلما عاد محمد إلى السلطنة، سيَّر شرف الدين كردبازو لإصلاحهم والصلح بينهم، فوصل والحرب قائمة على ساقها، آخذة من الأرواح بأطواقها، فأصلح ذات البَيْن، وعاد قرير العين، وقد تسلم جغري شاه، وملأ بحمده ومدحه القلوب والأفواه، وجمع شمل السلطان بأخيه، وعاد آتابك أياز إلى ولايته، وكانت رعيته آمنة في كنف عنايته، واقتسم شمس الدين إيلدكز، ونصرة الدين أرسلان آبه بلاد أذربيجان، وأفرجا عن أردبيل للأمير آغوش، وأعادوا من رسوم العدل النقوش، واجتمع السلطان محمد بأخيه جغري، والأخوة تحمله على الشفقة والملك به يغري.

قال: وكنت في ذلك العهد سنة ٥٤٩ بهمذان، وقد عُدت من الحج صحبة جمال الدين محمود بن عبد اللطيف الخجندي، فشاهدت السلطان قد أنس بأخيه وسُرَّ به، وامتزج به في مطعمه ومشربه، ولاطفه بعطفه، وعطف عليه بلطفه، ثم أمر باعتقاله، ووكَّل به الأمير عز الدين ستماز بن قايماز الحرامي يرصده ليلًا ونهارًا، ويرعاه سرًّا وجِهارًا، وما زال الأمر على ذلك حتى فارقنا العسكر، فما أدري أين أقبل به القضاء بعد ما أدبر، ومن حين نقل ما سُمع له خبر، ولا رُئي له أثر، فكأنما سل طين السلاطين من جفن الجفاء، وجبلت جبلَّتهم على الإغفال والإغفاء، فالرحم عندهم مقطوعة، والرحمة ممنوعة، والعزة في خدمتهم بالذل مشفوعة، والاغترار بهم غَرر وصفوهم كدر، يقسمون ويحنثون، ويُبرمون وينكثون.

ذكر حوادث جرت في تلك السنين

قال: في سنة ٥٤٨ استولى الغز على السلطان سنجر، وكانت حادثة هائلة، وسنذكر أيام سنجر عند وفاته، وفي هذه السنة استولى الفرنج على عسقلان، وفي هذه السنة قُتل العادل ابن السلار سلطان مصر، قتله ابن امرأته، وفي هذه السنة تُوفي ابن منير الشاعر بحلب، في جمادى الآخرة، وتُوفي ابن القيسراني الشاعر بدمشق، في الحادي والعشرين من شعبان، وتُوفي أبو الفتوح بن الصلاح الفيلسوف البغدادي بدمشق، في الخامس والعشرين منه، وفي سنة ٥٤٩ تُوفي تمرتاش صاحب ماردين في أول المحرم، وفتح نور الدين محمود بن زنكي دمشق يوم الأحد ثالث صفر سنة ٥٤٩، وقُتل الظافر متولي مصر ليلة الخميس لانسلاخ صفر.

قال: وفي هذه السنة تُوفيت حليلة السلطان محمد بن محمود بنت السلطان مسعود، فجلس للعزاء، وامترى در البكاء، وكنت حاضرًا في زُمرة العلماء، ووصل إلى خدمته آتابك إيلدكز في عساكر أذربيجان، والأمير شير بن آق سنقر بعسكر أخيه، وأقاما عنده على همذان، ثم استأذنوا في العود وعادوا، وزادهم السلطان حُرمة وقوة فزادوا، ووصل رسول ملك كرمان فأُكرم، وأحضر حملًا فقدم، وسيَّر جمال الدين بن الخجندي مع الرسول رسولًا إلى كرمان؛ ليخطب بنت الملك للسلطان.

قال: فعُدت معه إلى أصفهان، فسامني السفر معه في تلك السفارة، فرأيتُ الربح فيه عين الخسارة، فتأخرت وتقدم، وأحجمت فأقدم، وأقمت فظعن، وأسهلت فأحزن، فإنني عند مسيره إلى كرمان سرت على طريق خوزستان إلى بغداد، وجثت إلى عسكر مكرم في شوال سنة ٥٤٩، والملك ملكشاه بن محمود مالكها، وقد أمِنَتْ به ممالكها ومسالكها، ولقيت رئيس الدين محمد بن القاضي أبي بكر الأرجاني، وهو في نيابة القضاء، موفور الحرمة في العلماء، فذكر لي أن والده تُوفي سنة ٥٤٤، وأعطاني مسودات من أشعار والده، فتنزهتُ في رياض فوائده، ثم ارتحلت إلى بغداد بعد وصول الخبر بنصرة الخليفة في حرب بجمزا وظفره، وكنت مع والدي فحرَّضته البشرى على سفره.

قال: وشتى السلطان محمد بن محمود في هذه السنة بساوة، واستعجز جلال الدين بن القوام وزيره، واستقصر تدبيره، واستقصى من فارس تاج الدين الدارستي ليستوزره، فوصل تاج الدين إلى أصفهان، وأقام مدة فبرد أمره، وخمد جمره، واستبطأ السلطان سيره، واستوزر غيره.

ذكر وزارة شمس الدين أبي النجيب الدركزيني

قال: قيل للسلطان: إنه وزير عمك، وظهير عزمك، وقد سبقت له خدم، وثبت له في القدم قدم، فنصبه في المنصب، ورتبه في أعلى الرتب، واستند وتصدر، وأورد وأصدر، وخاطب الأمراء الذين استأثروا بالبلاد أن ينزل كل منهم عن شيء مما في يده؛ ليكثر الخواص السلطانية، واستضاف بلادًا عامرة إلى النواحي الديوانية، فتوفر الاستظهار وظهر التوفير، وأثمر الرجاء ورُجي التثمير، وقال للسلطان: قد اتسقت الأحوال، واتسعت الأموال، وقد فرغ البال لشغل بغداد، فاسترجع حقك المغصوب، ولا تترك نجحك المطلوب، فإنها دار ملكك، ومقر أبيك وجدك، وأنت إذا مضيت بنفسك، فما يقف قدامك أحد، ولا يكون معك لأحد يد، فلما حضر الربيع مائدته، ووفر فائدته، وأحسن عائدته، عاد السلطان إلى همذان، وذلك في سنة ٥٥٠، ورحل على سمت بغداد، ورحل عدة مراحل، ونزل في قصدها منازل، ثم بدا له فعاد؛ لأن الأمراء الذين سبقت منهم المواعدة على المعاودة أخلفوا العدات، ولم يطاوعه العسكر على مفارقة البيوت والإقطاعات، عند إدراك الغلات، فانصرف راجعًا وتوجه إلى أذربيجان، وتم المصاف الذي نُصر فيه على عمه سليمان، ثم عاد إلى مقر ملكه، وفي قلبه من أمر بغداد همٌّ شاغل، في صميم روحه واغل. وعلم أن الجند لا يفارق بلاده في الصيف؛ فإنه لا يجمع بين حر بغداد وحر السيف، فواعدهم في الخريف، وأمنهم من الغرر المخيف. واشتغل بالاستعداء والاستعداد، والاجتهاد في الاحتشاد، وتجهيز الكتب إلى مجهزي الكتائب وتبريز المضارب، وتمييز الطلائع والمقانب، فارتحل لما انقضى المصيف وأقبل الخريف.

ذكر وصول السلطان محمد إلى محاصرة بغداد وما اعتمده أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله من حسن الصبر المعقب حميد الظفر والنصر

قال — رحمه الله: وصل الخبر إلى بغداد في ذي القعدة سنة ٥٥١، بأن السلطان محمد قد قرب في عسكر هائل، وعرمرم صائل، وهو بمنزل «قصر قضاعة»، فصدق اهتمام الخليفة بالاحتراز والاحتراس، وأجد لباس الجد للباس، وبالغ في تحصيل العدد، وتحصين البلد، وأدار بالمنجنيقات سورًا على السور، وملأ أبراجه بالحماة المساعير، وخرج الوزير ابن هبيرة وخيم تحت التاج الشريف، عند المثمنة على شاطئ دجلة، بحيث يطل الخليفة من المثمنة على خيمة وزيره، ويقرب الاستثمار في دقيق الأمر وجليله، وقليله وكثيره، وفتح باب الكرم المرتجى المرتج، وثبت قلب الإسلام الخافق المرتج، وأعد العدد الخاصة والخرجية، واستخدم المنجنيقية والجرخية، وكان من حزم الخليفة، أنه منذ تُوفي السلطان مسعود، ونُفي مسعود الخادم البلالي من بغداد، أوعز بإعداد الذخائر وادِّخار العدد، والاستظهار بشغل صناع السلاح، وكانت حجارة المنجنيق معوزة، فأحضر منها في السفن ألوفًا صارت محرزة، وأمر ببناء المراكب المقاتلة والسفن، فرعن في دجلة راسيات كالرَّعن، وعبر محمد شاه دجلة إلى الجانب الغربي من أعلى بغداد على بعد منها بجموعه، وراع كل قلب بصدوعه. وكان قد واعد زين الدين علي كوجك فوصل بعسكر الموصل يوم الميعاد، في وفور من العدد والأعداد، وأطلُّوا من الجانب الغربي على بغداد، وكدروا المشارب، ووفروا المصائب، ثم بكروا وأشرفوا، وبالغوا في العتو وأسرفوا، ووقفوا بإزاء التاج الشريف وشرعوا في السبع، جارين على سوء الطَّبع، ونبعت من معاجس قسيهم غروب النبع، وجرحوا من النظارة جماعة أحسنوا بهم الظنون، وأمنوا منهم المنون، وقابلوا الفرض بالرفض، وقاتلوا الله تعالى بقتال خليفته في الأرض، ونزلوا على بُعد من بغداد حتى تألفت ألوفهم، والتفَّ لفيفهم، وسيروا إلى الحلة والكوفة وواسط والبصرة وُلاة ومقطعين، وشحنًا ومتصرفين، وفي كل يوم يسيِّر الخليفة في دجلة مراكب، مملوءة بمقانب فيها المجانيق الخفاف، والعرادات اللطاف، والرماة الكماة، والجرخية الكفاة، فيحاذون المعسكر المحمدي في دجلة ويرمونهم، ويشوونهم ويصمونهم، حتى رأى السلطان محمد التنقل إلى حوالي سور بغداد، فجاء ونزل على الصراة بدار يرنقش الزكوي، وعبر أمراؤه الكبار إلى الجانب الشرقي مثل آتابك أياز، وعز الدين ستماز، ومَن يجري مجراهما من ذوي الاعتزاز، وبقي علي كوجك بالعسكر الموصلي في الجانب الغربي، والسلطان معه، وهو يعبر في دجلة إلى دار السلطنة في جانب بغداد كل وقت ويعود، والبِيض قد هجرتها الغمود، والعقول قد انحلَّت منها العقود، وتبرز خيل بغداد في كل يوم منها مَن يأتي سور السلطان والظفرية، ويقفون خلف الباشورة المبنية للحملة على مَن يكون منهم في الجاليشية فهم يخرجون، ويُجرحون ويُحرجون، فيأمر لهم الخليفة بالعطاء، على قدر البلاء، وكان لكل جراحة على مقدارها عطاء، ولكل عمل مبرور جزاء، فتوفرت دواعي العوام على التهافت في نار الحرب تهافت الفراش في النار، للفوز عند العود بالدين والدينار، فقامت الحرب على بغداد بالمساء والصباح، والغدو والرواح، وطالت مدة الحصار، ولم يؤثر في الأسعار، وما عز غير اللحم، ولا عز الملح، والأمل مقترب النجح، وخُسران الخصم دليل الربح، وكانوا قد نصبوا من الجانب الذي من دجلة على مسناة دار العميد، وبقرب القمرية منجنيقين عظيمين، وهمُّوا بنصب منجنيق آخر على الخان الذي بناه سرخك مقابل التاج، ولو تم ذلك لأعضل داء الإزعاج، فعين الخليفة ليلًا رجالًا أتوا بنيانه من القواعد، وكان لوقوعه سَحرًا رجفات كأصوات الرواعد، وكانت السفن المترددة في دجلة برماة الجروح والنشاب والقوارير المحرقة، والنفاطات المزرقة، وقد آذتهم وآذنتهم بعجزهم، وعزَّت بإزهاقهم فأزهقت روح عزهم، وما كانت لهم مراكب إلا عدة يسيرة يسخرون ملاحيها، ويخسرون مالكيها، ثم لا يثقون بالركوب معهم فيها، فحاروا وخاروا، وتشاوروا واستشاروا، فقال لهم بدر بن المظفر بن حماد صاحب الغراف، وكان قد جاهر الخليفة بالخلاف: أنا أكفيكم بسفن مقاتلة، وأغنيكم بمراكب حاملة، وجوارٍ منشآت، وزوارق وشفارات من بلد واسط والبطائح، من الداني والنازح، فحمدوه وشكروه، ومضى وأقاموا ينتظرونه حتى وصل بالسفن الخفاف والثقال، والملاحين والرجال، فامتنع عليهم عبورها في البلد إليهم، ورتب الخليفة الرجال في المراكب للقائها، وإحراقها بالنار وإردائها، ولما شق عليهم ذلك ردوها إلى نهر عيسى، بعد أن مدوها إلى الفرات، وأخرجوها فوق بغداد في الصراة، وتكاملت مدة شهرين في ذلك، ثم بدءوا بعقد جسر على دجلة فوق دار السلطان من تلك الزواريق، واتسعت طريقهم في العبور بالتغريب والتشريق، وضايقوا في الحصر من الجانبين، وشددوا في منع الميرة وقطع الأقوات بجدع الأنوف وقطع اليدين، ووصل إليهم من الحلة أمراء بني أسد ورجالها، وفتاكها وأبطالها، وقالوا: هذه بغداد من جانب دجلة ما عليها سور، وتوانيكم في هجمها قصور وفتور، فسلموا إلينا المراكب لنهجمها، وما أسهل علينا أن نقتحمها، وأذن لهم السلطان في الزحف، فركبوا المركب مستلئمين معلمين، وعبروا إلى المدينة، على الموت مقدمين. ولما وصلوا إلى قرب السور، خرجوا من السفن شاكين، فخرج إليهم من الباب من مماليك الخليفة مَن طاردهم وجالدهم، وهم مع ذلك يبعدون من الشاطئ، ويوسعون إلى الموت خطوة المصيب غير الخاطئ. ثم كثر عليهم رجال بغداد كثرة حصلوا منها تحت العسر، وفي قبض الأسر، وتظافروا إلى السفن فغرق أكثرها، وانخسف بهم موقرها. وقُبض الأمير حسن المضطرب وأخوه ماضي، وعدة وافرة من معروفي بني أسد، وعدم كثير ممن غرق أو قُتل أو فُقد، وأمر الخليفة تلك الليلة بصلب حسن وأخيه على دقل زورق، وأصبح الباقون على السور ما بين مصلوب مشنق، ومقتول معلق، ففتح الله لخليفته من المهابة لأوليائه والمهانة لأعدائه كل باب مغلق، وسقط في أيديهم بعد ما بسط من تعديهم، ولما طال الحصار، وتمادى الانتصار، خاف الخليفة الغلاء، ففتح الأهراء، واقتصر للأجناد في الأعطيات على تفريق التمور فيهم والغلات، وأخذوها، واحتاجوا إلى أثمانها في النفقات، فرموها في الأسواق وباعوها بالدينار، فخمد بذلك استعار نار الأسعار، وما زاد سعر في الأقوات ولا غلا مطعوم في وقت من الأوقات.

وفي صفر سنة ٥٥٢ وصلت قافلة الحج، فوجدوا دار الخليفة محصورة، والهمم من الخارجين على خلاف تعظيمها مقصورة، ونزلوا في المعسكر السلطاني، ثم تفرقوا إلى بلادهم، ورحلوا طالبي أغوارهم وأنجادهم، ومَن كان من بغداد تحيَّل في الدخول إلى منزله، والوصول إلى منهله، وببغداد حينئذٍ خلق من التجار، يريدون — بل يؤثرون — مرافقة الحاج، ويقولون: متى أخذوا البلد نهبوا بضائعنا، واستخرجوا ودائعنا، فحضروا التاج، وأكثروا الضِّجاج، وحاولوا من ضيقهم الإفراج، فقال لهم الوزير: «أمير المؤمنين يقول لكم: أنتم في حرم إحساني، وفي ضمان أماني، ولكم بي أسوة، وهذه النوبة، مالكها نبوة، وأموالكم في البلد مصونة، وبأسباب الرعاية منا مضمونة، وإذا خرجتم، وضعتموها على طرق الطوارق، وتعرضت لكم دون السفر عوائد الحدثان في البوائق، فاصبروا، فإن الصبر محمود العواقب، والله لنا كفيل بفل ناب النوائب. فضجوا حتى أضجروا، وزجروا فما انزجروا، فوكلوا إلى آرائهم الفائلة، وآرابهم الحائلة، فاستبقوا الباب، وما استبقوا الألباب، فخرجوا وأحرزوا تلك البضائع في الدار السلطانية، ولم يقدموا مع تلك الفتن على السفرة الهمذانية، فما مضت عليهم إلا أيام قلائل، حتى غالتهم غوائل، فنُهبوا وسُلبوا وأصبحوا فقراء، وهذه سُنَّة الله في الأغنياء؛ إذ كانوا أغبياء، وسنذكر سبب ذلك — إن شاء الله.

قال: وأما العسكر النازل، فإن السلطان رأى مراسلة الخليفة بالاستعطاف والاستعطاء، والاستغفار والاستعفاء. وكان في صحبته من العلماء صدر الدين محمد بن عبد اللطيف الخجندي، وشمس الدين أحمد شاذ الغزنوي، فأرسل كلًّا منهما على حِدة، فلم يُمَكَّنا من الوصول، وقيل: لا مطمع في نجح السؤال بالرسول، فإنكم لو أردتم الإجمال، لقدمتم الأرسال، والآن إن استرجعتم ورجعتم، ورأى الورى منكم الندم على ما فعلتم، فهنالك نسمع الرسائل، ونقبل الوسائل، فقنط القوم من قبول الرسالة، وشرعوا في الشر، وعادوا إلى العدوان، ولجُّوا في العصيان والطغيان، وتخريب العمران، وانخرقت مهابتهم عند أهل بغداد، فطلبوا بكل نوع عليهم الاستحواذ، فصاروا يكبسونهم في الضياع، ويغافصونهم١ بالقراع، ويقطعون الطرق على علاقتهم، ويوجدون السبل إلى تكثير مخافتهم، وكانت الأكلاك واصلة من الموصل إليهم بالميرة، والأقوات الكثيرة، فتلقوها في دجلة فأخذوها، وعبروا بها عليهم وعجزوا أن ينقذوها، وامتنع أهل الموصل بعد ذلك عن تسيير الأكلاك فما أنفذوها.

وكان وزير الخليفة منذ وصل محمد للمحاصرة واصل مكاتبة آتابك شمس الدين إيلدكز، وحثه على الحركة مع أحد الملكين: ملكشاه، أو أرسلان شاه إلى همذان، فوصلهم الخبر بأن ملكشاه هجم على البلاد، واستولى على الطراف والتلاد، واقتطع الإقطاعات وحوى الغلات، ورفع الارتفاعات، ففتَّ ذلك في عضد العسكر وتضعضع ثباتهم بهذا الخبر، وحمي أيضًا عليهم الحر، واشتعل البر والبحر، فاجتمع عند السلطان الخواجكية والأمراء، والأماثل والكبراء، وكان الوزير شمس الدين أبو النجيب الأصم الدركزيني، والمستوفي رضي الدين أبو سعد الخوافي، ونائب الاستيفاء، كمال الدين أبو الريان، ومن الأمراء آتابك أياز، وعز الدين ستماز، وشرف الدين كردبازو، ومسعود البلالي، وظاهرهم على الرأي زين الدين علي كوجك الموصلي، وقالوا: نعبر بأجمعنا إلى الجانب الشرقي ونصدقهم القتال، ونديم عليهم النزال، فإن تيسر الفتح فقد سفر النجح، وإن تعذَّر وتعسَّر تفرقنا على مواعدة المعاودة من قابل، وحصلنا من إدراك الطوائل على طائل، ثم عمدوا إلى الجسر الذي لهم فأحكموه، وتجاسروا على الحكم الذي اعتمدوه.

وأصبح العسكر في يوم الأربعاء من شهر ربيع الأول وقد أخذ عدته، ولبس شكته، وركب خيله، وسحب من السوابغ على السوابق ذيله، وشرعوا في العبور على الجسر مُزدحمين، وعلى العثور بالمنية مُقتحمين، واتفق في ذلك اليوم هبوب ريح عاصف، وتموُّج بحر من الهواء قاصف، وتلاطمت الأمواج، وتزاحمت الأفواج، وثقل الجسر وانقطع، وهمَّ العسكر أن يرجع فلم يجد طريقًا للرجوع، وخاف مَن على الجسر من الوقوع، فمدُّوا أيديهم إلى الدبابيس فاضطربوا، واضطروا إلى التنكيس والتعكيس، ولم يشعر مَن ورائهم بالأمر، ولم يَطَّلِعُوا على انكسار الجسر، وانخرعوا لما هالهم، وحسبوا أن خطبًا غالهم، فهاموا وما فهموا، وهموُّا بما وهموا، وركب السلطان عند اشتباه الخطب، واتجاه الخبط، وشطَّ نازلًا ونزل إلى الشط، فقيل لزين الدين علي كوجك: إن السلطان قد ركب، وإن العسكر قد اضطرب، وإنه قد عبر إلى الدار، وحصل على الاستشعار، فركب أيضًا في العسكر الموصلي على سبيل الاستظهار.

ولما شاهد أهل بغداد اختلافهم واختلالهم، واختلاطهم واختباطهم، فتحوا أبواب البلد، وهتفوا بأرباب الجلد، ونادوا بشعار أمير المؤمنين ونصره، وزحف العالم في بره وبحره، وجذفت السفن الخفاف بمن خف من الرجال، وهجم الحق على الباطل بالأبطال، والقوم مشغولون بأنفسهم، حائرون لما عراهم من تعكسهم، ومن حصل منهم في الجانب الشرقي، لا طريق له إلا الجانب الغربي، فتقحَّم البغداديون على الدار السلطانية وأجلوهم عنها، وأبعدوهم منها، ودخلوها ونهبوا ما فيها من الأموال المودعة، والأثقال المجمعة، وعاثوا في بضائع التَّجر وودائع السفر، ولما لم يبقَ في الدار شيء قُلعت أبوابها، وقُطعت أسبابها، وانصرف القوم هائبين، خائبين سادمين نادمين، وشُغلوا عن أثقالهم، وثُقلوا بأشغالهم. ووقفوا على صهوات الخيل إلى دخول الليل، ثم سرُوا وأدلجوا، وعرجوا إلى تلك المسالك ولم يعرجوا، وسار من الجانب الغربي من عساكر همذان وأذربيجان مع عسكر الموصل للضرورة، ودفعوا إلى ما لم يقدروه ولم يخطر لهم من الأخطار المقدورة، وأصبحت بغداد وقد أتاها الله بالفرج، وقرن بهاءها بالبهج، وأحكم حكم نصرها من ألطافه بالحجج، وأنجى أهلها في سفينة السكينة من طوفان الفتن المتلاطمة اللجج، وغيض الماء وقضي الأمر ونُصر الحق وحقَّ النصر، وكفَّ المقتفي عن اكتفاء المنكفين، وستر على المستترين منهم في المحال والمختفين، وانتشرت عساكر أمير المؤمنين في البلاد، واستبشرت بالنصر المعتاد، وعرف الأعاجم أنه لا مطمع بعدها في بغداد. قال: وكنت حينئذٍ ببغداد، وحبرت قصائد في هناء الإمام، واستخدمني الوزير عون الدين تلك السنة في النيابة عنه بواسط، فنقلني عن المدرسة إلى العمل، وعطَّلني عن الاشتغال بالعلم، وظنَّ أنه حلاني بشغله من العطل.

ذكر وفاة السلطان سنجر بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجق وشرح نبذ من أحواله من ابتداء عمره إلى خاتمة أمره

قال — رحمه الله: تُوفي سنجر يوم الاثنين رابع عشر شهر ربيع الأول سنة ٥٥٢ بعد خلاصه من أيدي الغُز، وكان مولده بظاهر سنجار، يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة ٤٧١، وولاه أخوه بركيارق بلاد خراسان سنة ٤٩٠.

ذكر السبب في ذلك

قال: كانت بلاد خراسان في أيام ملكشاه ساكنة الممالك، آمنة المسالك، مشحونة الأطراف بالشحن، مسكونة الأكناف بالسكن، موطنة الديار بالأبرار، دارة المواطن بالمبار، ونظام الملك بنظام الملك مستتب مستَدِفٌّ، ونائله لذوي الفضل مستَكفٍ، ولذوي الجهل مستَكِفٌّ، وما بخراسان رأسان، وما تسلط بها سلطانان، فلما استشهد النظام، وأباح حمى ملك ملكشاه الحِمام انفسخت تلك العقود، وانتسخت تلك العهود، واستشرى الشر، واستضرى الضر، واستولى كل صغير على كبير، وكل مأمور على أمير، وكان للسلطان ملكشاه أخ يُقال له: أرسلان أرغون، وكان مقطعًا بمبلغ سبعة آلاف دينار في نواحي همذان وساوة، فقيل له: إلى كم تلزم مرارة العطلة والقناعة؟ وتهجر حلية الملك والحلاوة؟ وحركوا ساكنه، وبعثوه على شغل أخلى عنه مساكنه، فنزل عن قراء القرار، وركب مطا المطار، واشتد بطل الطلب، وشد لبب الخبب، وجاء إلى نيسابور فما تمكَّن منها، ودفعه أهلها عنها فصدع مروة مرو، وقال أملكها ولا غرو، فانقاد لأمره الأمير قودن شحنتها، وجعلت تحت مكنته أمكنتها، فقوى أرسلان أرغون بقودن، فإنه وجد الجواد وعدم الكودن، واستولى على بلخ وترمذ، وصفت له خراسان، وحيزت بلدانه البلدان، وكتب إلى ابن أخيه السلطان بركيارق: «إني قد ملكت موضع جغري بك داود جدي، يجدي وجدي، وقد رضيت به رضاء قانع، وأنا فيما سواه غير طامع ولا مُنازع، وأنا باذل لما تطلبون، وحامل لما فيه ترغبون.» فرأى بركيارق أنه بالعراق في شغل شاغل، وهم زائد غير زائل، فأمسك عنه، وأظهر أنه قبِلَ منه، ثم بدا له وآثر قتاله، وكان عنده عمه الآخر بوري برس بن ألب أرسلان فأنهضه لقتال أخيه، وضم إليه مسعود بن ماجر، وأمير آخر التونتاش، واجتمعت عليه عساكر خراسان، فطار من النشاط وطاش، وحث العزم البطاش، فأما مسعود، فإن التونتاش توهَّم منه بما قيل له ففتك به وبولده، وصار الأمر كله في يده، ووزَّر للملك بوري برس عماد الملك أبو القاسم بن نظام الملك، فوضع ورفع، وفرَّق وجمع، وخرق ورقع، وضيق وأوسع، وصاف بوري برس أخاه أرسلان أرغون وصدمه وحط عليه وحطمه، وهز طوده وهزمه، فعاد أرسلان أرغون إلى بلخ مكسورًا مخسورًا، وأقام بوري برس بمكانه منصورًا مسرورًا، ثم أرسل أرسلان أرغون إلى الأطراف والأوساط، وحشد وحشر، ونهض إلى مرو وفرض مروتها، وحطَّ ذروتها، وفتحها عُنوة وهدم سورها وقتل جمهورها، وبرز بوري برس من هراة لقصد لقائه، وحفظ البلاد من بلائه، فزحف العسكر إلى العسكر، وطن الذباب في المغفر، وضبح الثعلب في لبة الغضنفر، وجنى ثمر النصر من ورق الحديد الأخضر، وطارت فراخ الجعاب إلى أوكار المقل، وأدمت لواحظ السهام من الخدود مواضع القُبل، وبرز البوار لبوري برس وكُسر، وأدرك وأُسر، وحُمل إلى أخيه أرسلان أرغون، فما رقَّ له ولا رفق، فاعتقله في ترمذ ثم خنقه، وأخذ وزيره عماد الملك بن نظام الملك وصادره على ثلاثمائة ألف دينار ثم قتله، ولم يترك سوءًا إلا عمله، لا جرم أخذه الله وأقدر عليه قدره، وسلَّط على صفوه كدره، فإنه عاد إلى مرو وظن أنه مَلَك، وأن خصمه هلك فقال له منجمه: «أرى عليك قطعًا، وأنت لا تملك لما قُدِر دفعًا، والحزم تحرزُك وتحرسك، إلى أن تؤمن المخافة ولا تخشى الآفة.» فاحتجب عن أصحابه، وأغلق رتاج أبوابه، ولم يدع إلا مملوكًا صغيرًا كان به يأنس فانتظره، وأنكر تأخره، فلما حضر عاتبه كيف أبطأ، وعاقبه حيث أخطأ، فضربه الغلام بسكين معه وصرعه، فقضى موضعه، فلما قيل للمملوك: لِمَ فعلت ما فعلته؟ وعلامَ قتلته؟ قال: «أردت أن أُريح الخلق من ظلمه، وكان هذا بقضاء الله وسابقًا في عِلمه.» وقُتل أرسلان أرغون في سنة ٤٩٠، وسنه ٢٦ سنة.

وكان السلطان بركيارق، لما عرف استيلاء عمه على خراسان، قلَّدها أخاه أبا الحارث سنجر، ورتَّب معه العسكر، فوصل الخبر بمقتل عمه فكُفي قتاله، واستصوب إنفاذ أخيه وإرساله، وسار ومعه سنجر، فلما وصل إلى دامغان وصله الخبر أن أصحاب عمه قد أجلسوا مكانه ولدًا صغيرًا له، فلما علموا بمقدم سنجر، نهضوا بالصبي وهو ابن سبع سنين، وطلبوا من السلطان بركيارق — لما عرفوا قربه منهم له الأمان — وأظهروا له الإذعان، وأحضروه عنده فأكرمه، واحترمه وقدمه، وكان وصول الصبي في خمسة عشر ألف فارس، وقد استصغروه، ونهبوا خزانته وأفقروه، وأقطعه السلطان بركيارق في نواحي الري وهمذان، ودخل بركيارق إلى خراسان، وبلغ إلى ترمذ واستولى على جميع بلاد خراسان ونفذ في سمرقند أمره، وولاها للخان سليمان تكين ثم لمحمود تكين بعده، ثم أقرَّها على هارون تكين وحده. وأطاعه إبراهيم صاحب غزنة، وأعطاه الله في البسيطة المُكنة، وبقي سنجر معه لا متوليًا متحليًا، ولا موليًا متخليًا، بل عليه اسم الولاية، وعقد الرأي والراية، حتى سمع السلطان بركيارق عن العراق بما تمَّ من الفتوق، وما وهي به من عقد الوثوق.

ومضى مؤيد الملك بن نظام الملك إلى جنزة لبعث السلطان محمد بن ملكشاه على طلب المملكة، وحثه على الحركة، فسار محمد إلى الري وبركيارق بها، فلما وصل محمد إليها فارقها، وأخذت أمه زبيدة خاتون فحبسها السلطان محمد وخنقها، ومضى بركيارق إلى بغداد على طريق خوزستان وواسط، واتصل به سيف الدولة صدقة بن منصور، وعاد إلى بلده بوفر ووفور، وحباء وحبور، وعاد إليه كوهرائين وكربوقا، فخرج على طريق شهرزور، واجتمع عليه من التركمان خلق كثير، وحارب أخاه محمدًا بموضع يُقال له: كورشنبه فانهزم، وانفلَّ حده وانثلم، وسار في خمسين فارسًا إلى إسفرائين، ثم تم إلى نيسابور واستنجد الأمراء واستجدَّ الأمور، وقبض على وجوه البلد وأماثله، وأخنى على أعيانه وأفاضله، ومات فخر الإسلام أبو القاسم بن الإمام أبي المعالي الجويني في اعتقاله، وكان السلطان سنجر حينئذٍ ببلخ مع رجاله، ومعه الأميران كندكز وأرغش، وكان قد استولى على معظم بلاد خراسان رجل يُقال له حبشي بن التونتاق، وقد شق العصا بالعصيان والشقاق وهو مقيم بالدامغان، وتحت استيلائه أكثر بلاد خراسان وطبرستان وجرجان، ومعه قلعة كردكوه، وقد تطرق منه المكروه، فنهض سنجر في أرغش وكندكز إلى قتاله، وهو في عشرين ألف من رجاله، ومعه خمسة آلاف فارس من الباطنية أصحاب إسماعيل الكلكي صاحب طبس، وقويت قلوب السنجرية بوصول السلطان بركيارق، فأقدموا إقدام الليوث واستلوا استهلال الغيوث. وصدموا الأطواد بالأطواد، وأنكحوا الهام بنات الأغماد، وكانت الكرَّة عليهم ثم صارت لهم، واستحلوا قتالهم وقتلهم، ووقع حبشي في الهزيمة إلى بعض القرى، فأخذ وأثخن، وحُمل إلى الأميرين أرغش وكندكز فاعتقلاه، وبذل عن نفسه مائة ألف دينار فلم يقبلاه وقتلاه.

وعاد السلطان بركيارق إلى العراق، واتصل به جاولي سقاوو، وأيتكين النظامي، وأصبهبد صباوه، ثم جاء الأمير أياز في خمسة آلاف فارس مدرع مقنع، وقصد همذان وهو في خمسة عشر ألفًا، وأخوه السلطان محمد بها في سبعة آلاف، فاصطدما والتقيا، واحتدما واصطليا، وتجلت الوقعة عن هزيمة السلطان محمد، وأفلت منها بجمع مشرَّد، وأُسر مؤيد الملك وقتله بركيارق بيده تشفيًا منه بقتله لِما سبق إليه من سيئات فعله، وانتزح السلطان محمد إلى جرجان، واتصل الخبر بأخيه سنجر فاغتم له واهتم، وساء ما تم، وأنفذ إليه مالًا كثيرًا من نيسابور، ثم سار للُقياه ولقيه بجرجان، وصحبه إلى بغداد وجعلا دار الخلافة المعاذ والمعاد، وجلس الإمام المستظهر لهما، وأُفيضت الخُلع عليهما، وعقد الخليفة لهما اللواء بيده، واستقام كلاهما من الملك على جدده، ورحل سنجر على سمت خراسان عائدًا، وتأهب محمد لقتال بركيارق عامدًا، وتصافَّا بقرب روذ راوَر ثم افترقا من غير قتال، واتفقا بعد ذلك على صلح وإصلاح حال، ثم انفسخ بينهما عقد السلم، وجرى كلاهما من قصد أخيه على الرسم، ووقعت بينهما بالري وقعة أخرى، واتصلت بين العسكرين رسل المنايا تترى. وحُوصر السلطان محمد بأصفهان، فراسله الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي بن ميكائيل، يعده بالاتصال به، وإسعافه في تصرفه بمطالبه، فخرج السلطان محمد من الحصار، ومضى صوب أرانية، واخترم مودود قبل اجتماعه به، وقوى محمد بعسكره، فسار بركيارق لحربه والتقيا على باب خوى في جمادى الآخرة سنة ٤٩٦، وانهزم محمد إلى بلد آني، ثم توسط بين الأخوين الأقاصي والأداني، وقسَّم الملك بينهما قسمين، واستقر أن يكون للسلطان محمد ما وراء النهر الأبيض المعروف بأسفيذروذ مع الموصل والشام، وعاد الملك بهذه القسمة إلى النظام، وخُطب لبركيارق ببغداد وأصفهان وجميع العراق، وسائر الأقطار والآفاق، فلما سكن إلى قدرته حرَّكه القدر، ودنا من ورد عمره الصدر، وتُوفي ببروجرد في شهر ربيع الآخر سنة ٤٩٨.

عود إلى حديث سنجر

قال: واستمر أمره بخراسان وقويت سلطنته، وتسلَّطت قوته، فقدر قدر خان صاحب ما وراء النهر، أنه إن عبر إلى بلاد خراسان، ملكها بيد القهر، وطمع في سنجر لصغر سنه، ودار تسويل هذا السؤال في ظنه، وكان الأمير كندكز يكاتبه، وعلى التأخر يُعاتبه، فعبر النهر في مائة ألف يُضيقون الفضاء الواسع، ويحققون القضاء الواقع، وهو لقصد سنجر مصمم وللقائه مقدر، فاتفق أن قدر خان خرج عن عسكره متجردًا، وبخواصه متفردًا، وبعُد عن مخيمه في ثلاثمائة فارس متصيدًا، فعرف سنجر الفرصة فيه فأدركها وانتهزها، واعتدَّ انفراده غنيمة فملكها وأحرزها، وأنهض إليه يرغش أسفهسلار عسكره في عدة منتخبة، فتصيَّده من متصيده ووقع في يده، وقد سقط في يده. وسهل على سنجر من أمره ما عده عسيرًا، وحُمل قدر خان وأُحضر بين يديه أسيرًا، ثم أمر به فضُرب عنقه، وتفرق جمعه، وانطفأ شمعه. وعاد السلطان سنجر إلى مقره، وطلع فيلقه بفلقه، وذلك في حياة أخيه بركيارق قُبيل أيام وفاته، وساعده السعد من جميع جهاته.

ثم استمرت سعادته وسعدت أموره، وأنارت مطالعه وطلع نوره. وقصده بهرامشاه من أولاد السلطان محمود بن سبكتكين إليه لاجيًا، ولإنجاده راجيًا، ولشقيقه المستقر على سرير ملك غزنة مشاققًا مداجيًا، فرعى وفادته، ورأى إفادته، وآثر إيثاره في إجارته وإجابته، واختار اختياره في إغاثته وإعانته، فجعل غزنة مغزاه، وبلغ الخبر إلى السلطان محمد فلم يحمده، وكتب إليه أن: «هذا بيت كبير فلا نقصده.» فردَّ نصح الأخ، واستعدَّ لإصراخ المستصرخ، وذلك في سنة ٥١٠، وخرج صاحب غزنة وجرَّ ذيوله، وأجرى سيوله، وصفَّ خيوله، وزفَّ فيوله، وجاء سنجر والجتر على رأسه خافق، والنصر ليمينه مُصافق، وكان لصاحب غزنة خمسون فيلًا قد صفَّها بين يدي صفوفه، وألَّفها قُدَّام ألوفه، وعليها الكماة والحماة، وذوو الحمية الرُّماة، وكادت تصح على سنجر الكسرة؛ فإن الخيول نفرت من الفيول حين أقبلت كالسيول، فترجَّل الأمير أبو الفضل صاحب سجستان، وتهوَّر في الإقدام، ودخل بين قوائم الفيل الأعظم فشقَّ بخنجره بطنه، فصاح الفيل وولَّى ظهره، واتبعت الفيلَة أثره، فانهزم العسكر الغزنوي، وانتصر الحرب السنجري، واحتوى على أموال غزنة وخزائنها، وحصل على ظواهرها وبواطنها، وكان مُلك آل محمود من أول عهده بكرًا لم يفتض، وختمًا لم يُفض حتى أتى سنجر وكسر سكره، وهتك ستره.

فلما استصفى أموال غزنة وفرَّغ خزائنها المملوَّة، ونفض كنوزها المحشوَّة، نصب بهرام شاه على سريرها وأمَّره، وقد خرَّبها بتعميرها وشغل ذمته بما يؤديه إليه كل سنة من قرار، وهو مائتان وخمسون ألف دينار، وكتب إلى أخيه السلطان محمد ببشرى الفتح، ويُسرى النَّجح؛ فوجم لذلك، وكان في مرضه الذي شغله، وسقمه الذي نهكه وأنحله، وتُوفي بعد ذلك بسنة، وقوي سنجر، واجتمع عليه العسكر، وقصد بعد ذلك بسنتين سمرقند، وأجنى جناها الجند، وذلك بعد تطويل حصر وتضييق عصر، وكان صاحبها أحمد خان، الكبير الشأن، الأثير السلطان، وهو الذي كان له اثنا عشر ألف مملوك تركي، وكان لا يترك غزو الترك، يتوغل في بلادهم مسيرة شهرين، وينثني ظافر اليد قرير العين، ثم أصابته علة الفالج، وأعيى طبَّه على المعالج، وبقي سنجر ستة أشهر يحاصره، ويُضايقه ويصابره، إلى أن أخرج إليه أحمد خان، في محفة يحملها الغلمان، فأجلس بين يديه ساعة، وهو لا يجد للكلام استطاعة، ولعابه سائل، وشدقه مائل، ثم حُمل إلى دار الحرم للقرابة التي بينه وبين تركان خاتون زوجة سنجر، ووُلِّي نصر خان مكانه، وأحيا به سلطانه.

ثم غدر صاحب غزنة الملك بهرامشاه بعهد سنجر، ونكل عن ضمانه، فعزم على التوجه إلى غزنة ثانيًا، ولأعنَّة جيوشه وجنوده إليها ثانيًا، ونهض إليها ولما بلغ إلى بست عسر عليه الوصول، وحالت الوحول، وتعذرت العلوفات، وكان التبن أعز من التبر، والشدة جاوزت حد الصبر، فما اكترث بذلك وتهور، وأقدم فبهر بهرامشاه رعبة، وأبعده إلى لهاوور قربة، ووصل سنجر إلى غزنة مغيرًا، ولكأس الدوائر عليها مُديرًا، وسلبت أموال وأرماق ونُهبت محال وأسواق. ولما انحسر الشتاء ورتب أمور غزنة، عاد إلى خُراسان، ولما تُوفي أخوه السلطان محمد بالعراق في سنة ٥١١ وتولى ابنه محمود السلطنة، وحدثت تلك الحوادث، احتاج سنجر إلى الإمام بالعراق، فجرت الوقعة التي قدَّمنا ذكرها، وأوضحنا عرفها ونكرها، وما عاد سنجر إلا وقد خُطب له بالعراقين وبالشام والموصل وديار بكر وديار ربيعة والحرمين، وضُربت الدنانير باسمه في الخافقين، ويُلقب بالسلطان الأعظم معز الدنيا والدين، وولي ابن أخيه محمود بن محمد عهده بالعراق، ونعته بمغيث الدنيا والدين، وقد ذُكر وصول سنجر إلى العراق في أيام محمود نوبتين، وفي عهد طغرل وفي عهد مسعود دفعتين، ولكنه في زمان مسعود لم يتجاوز الري.

ذكر وزراء السلطان سنجر بخراسان

قال — رحمه الله: كان من كتابه المخصوصين به في صغره العميد أبو الفتح بن أبي الليث، وصل معه إلى بغداد في ثامن شوال سنة ٤٨٩، ومع سنجر آتابكه كج كُلَاه، وذلك في عهد أخيه بركيارق، وابتداء خلافة الإمام المستظهر، واستوزر عند مضيه إلى خراسان فخر الملك المظفر بن نظام الملك، وكان مبر المبرَّة، سري الأسرة، منصور الصحبة، مصحوب النصرة، ورُزق التأييد والتمكين، ومشَّى الأمور عشر سنين، وقُتل يوم عاشوراء من سنة ٥٠٠، واستوزر بعده ولده صدر الدين محمد بن فخر الملك، فكفى المهم، وشفى الملم، ونظم المنثور، وضمَّ المنشور، وقُتل ببلخ غداة الأربعاء لسبع بقين من ذي الحجة سنة ٥١١.

ذكر السبب في ذلك

قال: كان للسلطان سنجر مملوك يُقال له: قايماز قد استحسنه واستخصه، واشتهر بحبه واستخلصه وقد أصبح به صبًّا، وشغفه حبًّا. وتسحَّب على السلطان بدلاله وإدلاله، وما صار يُبالي لعمله باشتغال باله به بشغل باله، وكان هذا المملوك يعرف بكج كُلَاه؛ أي مائل القلنسوة، وكان الوزير أبدًا ينهاه، ويرده إلى نهاه، وقال له يومًا: «إن عقلت وإلا دبرت في تسويتك، وقوَّمت ميل قلنسيتك.» فقال له غير مكترث بوعيده، وقابل تهديده بتهديده: «إما أن تسوي قلنسوتي وإما أن أُسوي عمامتك.» فاتفق أن السلطان كان في ضيافة الوزير، واصطبح واغتبق عنده ثلاث ليالٍ، فلما كان في اليوم الثالث والسلطان في سورة راحه، وسكر اصطباحه، وقد ذهب ذهنه وضعفت قوة تمييزه، وعينه في عين المملوك ويده في يده وقد ملكه بغمزته وتغميزه، فغافله ونزع خاتمه وساتره أمره وكاتمه، وقام ومضى وهو حاقد والوزير في حجرته راقد، وقال: «استأذنوا لي عليه، فقد جئتُ من عند السلطان بمهم إليه.» ولجَّ حتى وَلَج، وكل من كان حاضرًا بدخوله خرج، فلما استخلى المجلس، وأصغى الوزير له واستأنس، حزَّ رأسه وعلقه من يده، ودخل على السلطان ووضعه بين يديه، فصحا سنجر، وهاله ما جرى من اجترائه واجتراحه، وأخافه ما تمَّ من اقتحامه واتقاحه، واستدعى الأمير قماجا، وهو أوضح أصحابه في الرأي منهاجًا، وقال له سِرًّا: «انظر إلى ما صنعه هذا المؤاجر بوزيري، وقد نغَّص عليَّ سروري وسريري، فأخْرِجه من عندي على وجهه سحبًا، وقطِّعه إربًا إربًا.» فقال له: «هذا أمر فظيع، وصنع شنيع، وحفظ الناموس يوجب ألا يعرف أحد من رعية بلدانك أن مثل هذا الأمر يتم في سلطانك بغير استئذانك فأظهِر أنه جرى بإذنك، وصُن جاهك واحذر من وهنك، واركب الآن إلى دارك، وارجع إلى قرارك.» فقبل النصيحة، وكتم الفضيحة، ثم أمر بعد مدة بقتل ذلك المملوك أسوأ قتلة، ومثَّل به أقبح مُثلة.

واستوزر بعده ابن أخي نظام الملك، وهو شهاب الإسلام، عبد الدوام ابن الفقيه عبد الله بن علي بن إسحاق، وكان ذا فضل وإفضال، وقبول وإقبال، وبأس ونوال، متبحرًا في علم الشرع، مُتكلمًا في الأصل والفرع، وصارت للفقهاء في زمانه سوق، وظهرت بهم حقائق وحُقوق، ولم يزل مقصدًا للفُضلاء، ومفضلًا على القصَّاد، سديد الأمر آمرًا بالسداد، وتحلى الملك بحلاه، وتجلَّى بسناه إلى أن تُوفي بسرخس يوم الخميس السابع عشر من المحرم سنة ٥١٥.

وتولى الوزارة بعده أبو طاهر سعد بن علي بن عيسى القمي، وكان وجيه القدر، نبيه الذكر، وكانت وفاته يوم الأربعاء الخامس والعشرين من المحرم سنة ٥١٦.

وتقلَّد الوزارة بعده الكاشغري، وصُرف عنها في صفر سنة ٥١٨. وتقلَّد الوزارة بعده معين الدين، مختص الملك، أبو نصر أحمد بن الفضل بن محمود، وقد تقدَّم ذكر فضله، وشكر نُبله، ولقد كان أمجد الأجواد، وأجود الأمجاد، هو الذي حسب أيام عمره، وردَّ كل مظلمة جرت على ذكره، واستدعاه السلطان سنجر لافتقار ملكه إليه، وعوَّل في وزارته عليه، وفتكت به الباطنية يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من صفر سنة ٥٢١.

وقُلِّد الوزارة بعده نصير الدين أبو القاسم محمود بن أبي توبة المروزي، وكان أوزر الفضلاء، وأفضل الوزراء، ولم يزل للأفاضل جامعًا، وللأراذل قامعًا. وقصده أهل الفضل، وآواهم بالإحسان الوافر إلى وارف الظل، وخدمه العلماء بمصنَّفاتهم، وخصوه بمضافاتهم، وصنَّف له عمر بن سهلان كتاب «البصائر النصرية»، وهو الكتاب الذي لم يُصنَّف مثله في فنه، ولم يُسبق إلى إحسانه فيه وحُسنه، قال: وأنشدني بأصفهان شيخنا جمال الدين عبد الرحيم بن الأخوة الشيباني البغدادي من مدائحه فيه عند سفره إلى خراسان، واجتدائه منه الإحسان، قوله من قصيدة مدحه بها بنيسابور ليلة عيد الفطر سنة ٥٢٥:

خَل الظلام لأيدي الضُّمَّرِ القُودِ
يهتِكْنَ ما انبثَّ من أثوابِهِ السودِ
الليلُ والناجياتُ الضمر أخلَقُ بي
إذا تصاريف أزماني حَنَتْ عُودي

ومنها:

وللقواضِبِ مني هبَةٌ وسَمَتْ
بِهِنَّ ما ازوَرَّ مِنْ هَامِ الصناديدِ
قَرعُ الظبى بالظبى أشهى لسامِعَتي
مِن مُسمِع خَنِث الأعطافِ غريدِ
والأعجبان وأحوالُ الوَرَى عَجَبٌ
غُمْرٌ معَنى وحُرٌّ غير مكدُودِ
ومُنتَشِينَ على الأكوارِ رنَّحَهُم
سَكْرُ الكَرَى لا مجاجاتُ العناقيدِ
إذا اطمأَنَّتْ بهم أرض نَبَتْ بهم
حاجٌ تُلاعِبُ بالمهِرِيَّة القُودِ
شامُوا بُرُوقَ الغِنَى وأشتَف أنفسهم
تَطَلُّعٌ نحو لا بأسٍ ولا جُودِ
حتى أطَّبَاهُم وقد كَلَّتْ عزائمهم
نَدَى الوزير نصير الدين محمودِ
لين السجايا وفي أثنائها شرسٌ
والماء والنار يكتنَّان في عودِ
والمرء والسيف ما لم يُبديا أثرًا
حي كميتٍ ومسلولٍ كمغمودِ
فذاكَ والأفق مغبر هياد به
أروى لعافيك من وطفِ المراعيدِ
كما يراعك والهيجاء كالحةٌ
يغني عن السمهريات الأماليدِ
إذ اعتلى صهوة القرطاس ضاحكة
آثارك البيض في آثاره السودِ
فدُم بما يُكمد الأعداء مُغتبِطًا
يُفضي بك السعد من عيدٍ إلى عيدِ

قال: وصُرف عن الوزارة في سنة ٥٢٦ عند وصول سنجر إلى العراق بعد وفاة ابن أخيه السلطان محمود بن محمد، وترتيب السلطنة لأخيه طغرل بن محمد مكانه، وكان القوام أبو القاسم الدركزيني مستوليًا على الدولة، وسأل السلطان سنجر أن تكون وزارته باسمه، وتجري رسومها برسمه، ويكون هو بالعراق لشغل طغرل مدبرًا، وعلى توفر ماله وجاهه متوفِّرًا، ويستنيب في الحضرة السنجرية مَن يكفل بأمورها ويكفي، ويكلف بمصالحها ويشفي، فأُجيب سؤله وأُصيب سؤله، وعُزل العالم وولي جهوله، وصُرف ذلك الفاضل بهذا الناقص، وراج المغشوش بكساد الخالص، وتقلَّد نيابة الوزارة عن الدركزيني ظهير الدين عبد العزيز الحامدي، وكان عبد العزيز هذا يسكن إليه سنجر لأمانته وديانته، وهو المعول عليه في خزانته، وهو يُناظر الوزراء في قُرب مكانه ومكانته، وإنما فوض إليه الدركزيني نيابته؛ لأنه علم أن الأمر بغيره لا يتمشَّى، وأن ثوب المُلك بدون طرازه لا يتوشَّى، ولما صُلب الدركزيني وضُربت رقبته بالعراق، تقلَّد الوزارة السنجرية ناصر الدين طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك في جمادى الأولى سنة ٥٢٨، واستمرت وزارته إلى آخر العهد، وكان في تقويم ما تأوَّد وإصلاح ما فسد باذلًا للجهد، وتُوفي بعد مجيء الغز في ذي الحجة سنة ٥٤٨.

ذكر جماعة من خواص سنجر ومماليكه أحبهم ثم سلاهم ووضعهم بعد أن أعلاهم

قال — رحمه الله: كان من عادة سنجر أن يشتري غلامًا اختاره ثم يتعشَّقه ويشتهر بحبه، ويستهتر بقربه، ويبذل له ماله وروحه، ويجعل معه غبوقه وصبوحه، ويُملكه حكمه، ويُوَلِّيه سلطانه. فإذا نسخ الليل نهاره، وسيَّج البنفسج جُلناره، سلاه وقلاه، وتخلَّى عنه وخلَّاه، وانتهى في مقته إلى ألا يرضى بهجره بعد وصله، ورأى الراحة منه في قتله، ومن جملة أولئك: مملوك كان لصيرفي اسمه سنقر، فعشقه سنجر قبل رؤيته، فاشتراه بألف ومائتي دينار ركنية، بعد تشريف لمالكه وعطية سنية، وحكى عن ظهير الدين عبد العزيز خازنه، أنه قال: استدعاني سنجر يومًا وقال: إني آمرك بما هو أوفق خدماتك، وأوثق لحرماتك، فانهض فيه بثباتك، وأتِ فيه الممكن يأتِك، فأجبته بالسمع والطاعة، وبذل الوسع والاستطاعة، فقال: «هذا مملوكي سنقر الخاص قُرة عيني وثمرة فؤادي، وريحانة روحي ونتيجة مُرادي، وهذه خزانتي تحت ختمك، ومالي بحكمك، وحمول غزنة وخوارزم قد وصلت فاقبضها، وبذول الممالك قد عرضت فاستعرضها، وهذه خدمتي التي آمرك بها في حقه لا ترفضها وافترضها، ولا تستأذني في شيء ولا تستأمر، وقدم هذا المهم واستخر الله فيه ولا تستأخر، أريد أن تضرب له سرادق كسرادقي، وتجري له سوابق كسوابقي، وتشتري له ألف مملوك يمشون في ركابه، ويعشون إلى جنابه، وتحل إقطاع مَن رأيت حل إقطاعه وتعقده عليه، وتأخذ بلد مَن شئت وتفوِّضه إليه، وتجعل له خزانة كخزانتي بالمال مملوَّة، وبأجناس الصياغات الذهبية والفضية مجلوَّة، وتجعل له ديوانًا مجملًا بأماثل الكُتَّاب، وأفاضل النُّوَّاب، بحيث يكون بعد أسبوعين صاحب عشرة آلاف فارس.» قال: فاستمهلته ثلاثة أشهر فما أمهل، وأمر بترك الريث واستعجل، فما زلت به حتى فسح لي في مهلة شهر ونصف، وشرعت في الأمر وأنفقت على ما قدره في عشرين يومًا سبعمائة ألف دينار ركنية، وذلك سوى ما نقلته إليه من الخزانة من الآلات الخسروية، والثياب المعدنية، وذلك سوى الإقطاعات، والولايات والتقريرات، ثم أخبرته — ولم يمضِ الشهر — بأنه قد استمر الأمر، فركب السلطان سنجر، فرأى العساكر صفوفًا، والخيل صفونًا حول سرادق سنقر الخاص، فرأى رواءً ظاهرًا، وبهاءً باهرًا. قال: فعانقني وشكرني، ونوَّه بي وذكرني، وفوَّض إليَّ أمر خزانته، وأمرني بتحصيل مطالبه، ووصَّى كلًّا منَّا بصاحبه. قال: فلم يمضِ سنتان حتى اشتعلت نار خده في الدخان، فشنف وأنف، وعاف وعزف، وسنقر يزيد في التسحُّب عليه والتبسُّط، ويستديم مع عادة التسلِّي عنه عادية التسلُّط، وزاد في غيظ الأمراء، واستحقار العظماء، واستصغار الكبراء، وهو لا يبالي بسنجر إذا توعده، ولا يلتفت إليه إذا تهدده، فاستدعى السلطان يومًا جميع أمرائه إلى حُجرة مفردة مفردين، ومن جميع أصحابهم سوى سلاحي واحد مجردين، وقال لهم: وإذا دخل سنقر الخاص إليكم ضعوا فيه بأجمعكم السكاكين، فبادروا إلى ما أُمروا به وامتثلوا، ووثبوا إليه ومثَّلوا، وعاد ذلك الضياء ديجورًا، وذلك البهاء هباءً منثورًا.

قال: ومنهم: قايماز كج كلاه قاتل وزيره، وقد آل تعظيمه إلى تصغيره، ومن جملة مَن حباه بحبه، واختصه بقربه، الأمير المقرب الأجل: اختيار الدين جوهر التاجي، وكان مملوك أمه ومن خواص خدمها، وكانت تُوفيت أم سنجر في شوال سنة ٥١٧، فانتقل هذا الخادم إلى خدمة سريره، ثم غلب حبه على ضميره، فغلب بذلك على تدبيره، ورقَّاه إلى ذروة لم يتسنمها أحد قبله، وأسماه إلى رتبة لم تر فيها عين مثله، وبلغ عسكره ثلاثين ألفًا، ثم ملَّ السلطان طول مدَّته ودبَّر في أخلاق جدته، وضاق مجال احتياله، فدسَّ الباطنية لاغتياله. ونما إلى جوهر تعرض جوهره لأن يصير عرضًا، وعلم أن غرض السلطان أن يصير لسهم الحتف غرضًا، فأخفى التي علِمها، وأسرَّها في نفسه وكتمها، فقال السلطان له يومًا: «يا جوهر، إني أخشى عليك هؤلاء الملاعين، فتحرَّز منهم وتحفَّظ، وتحزَّم لأمرك وتيقَّظ.» فقال له: «لو أمَّنتني من نفسك ما خِفتُ أحدًا، وما أردت في دفع غائلة القوم مددًا.» فاحتمل السلطان مقاله، ورأى احتماله، وركب جوهر ضحوة من داره، وخرج خروج القمر من سراره، وفي ركابه ألف سيف مسلول، فلما نزل في دهليز دار السلطان وكُماته حواليه، وحُماته من ورائه وبين يديه قفز إليه نفر من الباطنية، وضربوه بالسكاكين، وأزاروه قادم المنية، ولمَّا ارتفع الصياح قال سنجر وهو في دار حرمه: «هذا جوهر قد قُتل.» فعلم أن ذلك بإذنه عُمل.

قال: وكان عاقلًا متأتيًا، أريبًا مُتهدِّيًا، ومن نُكته المستحسنة: أن السلطان كان أمره ببناء قبة عالية في مرو يكون فيها ضريحه، وينضد عليه بها صفيحه، فوصل إلى مرو ورآها غير مفروغ منها، فقال: «يا جوهر، متى تتم هذه القبة؟» فقال: «لا أتمها الله.» فأبكى الجماعة بما ذكره، ولطف موقع قوله عند السلطان وعذره.

ذكر علو همة السلطان سنجر وكرمه وإسهام أصحابه وأمرائه من نعمه

قال: كان حليمًا حييًّا مليًّا، بالعرف وفيًّا، كبير النفس أريحيًّا، معديًا للملهوف، مُسديًا للمعروف، مفرقًا بالأقلام ما جمعه بالسيوف، ذُكر عنه أنه اصطبح خمسة أيام متواليات، ذهب بها في الجود كل مذهب، وأتى على معظم ما في الخزائن من عرض وذهب، فبلغ ما أعطاه من العين سبعمائة ألف دينار أحمر، وجاء ما وهبه من الخيل والخلع أكثر، وعُوتب على إسرافه فقال: «أما رأيتموني أفتح إقليمًا يشتمل على أضعاف ما وهبته من المال، وأهبه بكلمة واحدة لمن أراه قبل السؤال؟! فهذا بالإضافة إلى ذلك الكثير قليل، وما للملام إليَّ في نهج هذه السبيل سبيل.»

ذُكر عن ظهير الدين عبد العزيز، صاحب خزانته، أنه قال: أحببت أن يشاهد السلطان سنجر ما اشتملت عليه خزانته؛ لتظهر كفاية متوليها وأمانته، فقلت له: أخدمك بألف ثوب أطلس حتى تبصره، وتستعرض صامته وناطقه؟ فسكت، وظننت أنه رضي بما ذكرته، فجئت إلى الخزانة وأبرزت ما فيها وأظهرته، وكان فيها ما لم يجتمع قط في خزانة سلطان قبله من طرائف يعزُّ وجودها، وجواهر تجلُّ عقودها، وصُرر أكياس قد ملأت الفضاء نقودها، وأعلاق لا يُعرف لها قيمة، وصناديق لآلئ كلها يتيمة، فلما نضدته وأبرزته، ولفقت كل جنس ونوعته وميزته، جئت وقلت له: «أما تُبصر مالك، وتُشاهد حالك، وتشكر الله الذي خصَّك به وأنالك؟» فقال: «يقبُح بمثلي أن يُقال عنه إنه مال إلى المال، أو نظر إليه أو أخطره بالبال، ففرِّق ما جعلته لي من الثياب الطلس على الأمراء، واعرِض عليهم ما في الخزانة من تلك الأشياء، وقُل لهم يقول لكم سنجر: قد ادَّخرتُ هذا لكم، وجمعته لأفَرِّقه في قمع عدوكم وجمع شملكم.» قال: ففعلت ذلك ففرحوا واستبشروا، وحمدوا وشكروا، وكان سنجر لا يدخل خزانته ولا يُعيرها نظره، ولا يوجد بخاطره منها خطرة، وكان لكرمه يحسن الظن بنوابه، ويسلم حكم القلم إلى كتابه، مفضلًا على أصحابه، ويقول: «إن الدنيا فانية، فندعهم يرتعون معنا، ويسعهم من النعم ما وسعنا.» وكانت جواهره في طبول مختومة بختمه، محفوظة باسمه، فإذا أراد منها شيئًا استحضرها، وفضَّ خواتيم أقفالها وأخذ منها، ثم أعادها بختمها إلى حالها.

ذكر سبب اختلال ملكه وانحلال سلكه

قال: لما امتدت مدة حياته، وأمدَّت بالطول مادة عمره، تسلَّط الأمراء على سُلطان أمره، وتسحَّبوا على قدره، وحقر الصغير حق الكبير، وتأخر الكبير لتقدم الصغير، واستخفَّ الوقور ووقر الخفيف، وصرف القوي وصرف الضعيف، ووقع التحاسد بينهم والتحاقد، وارتفع وانحلَّ التساعد والتعاقد، وكان أكابر الدولة في ذلك العهد، سنقر العزيزي، ويرنقش هريوه، وقزل، وأضرابهم، وأقدم منهم قماج، وعلي الجتري، وقد اختلفت آراؤهم وآرابهم، وركب كل منهم أم رأسه، وعضَّ على الأضرار بأضراسه، فأول خطأ أصاب سنجر كسر الكافر الخطائي له ولعسكره، ورد صفو ملكه إلى كدره.

ذكر السبب في ذلك وانكسار سنجر في حربه مع الخطائية

قال: كانت خيول قرلق في نواحي سمرقند، وقد وفرت أموالهم وانتشرت مواشيهم، وانتشئت غواشيهم وحواشيهم، وخيفت مضرتهم، وخشيت معرتهم، فأشار الأمراء على السلطان سنجر بأن يتوجه لدفعهم، ويتنبَّه لردعهم، والقوم مستمرون على الصلاح لو خلوا، مستقرون من الفلاح على ما إليه دلوا، فمضوا إليهم وضايقوهم في مراعيهم، وقايضوهم عن محاسنهم بمساويهم، وأسرفوا في سرقة نسائهم وذراريهم، فأنفذوا إلى السلطان سنجر، وبذلوا له الخدمة بخمسة آلاف جمل، وخمسة آلاف فرس، وخمسين ألف رأس غنم؛ ليتمسكوا منه بأقوى ذمم وأوفى عصم؛ وليأمنوا على أهاليهم ونسائهم وذراريهم، فلما لم يقبل خدمتهم، ولم تحصل عصمتهم، حملتهم الحمية على الاحتماء بالتحمل، وآل بكبارهم الترحم والحنو على صغارهم إلى الترحُّل، ودخلوا إلى بلاد الترك قاصدين حضرة أوزخان صاحب خطا وختن ونعما، ولم يكن في الكفار الخطائية أوسع منه ملكًا، وأنظم سلكًا، وأوفر عُددًا، وأكثر عَددًا، وكان أمره ينفذ إلى حدود الصين، فلما وصلت القرلقية إليهم أقلقتهم، وشوفتهم إلى الملك وشوَّقتهم، وأطمعت الكفر في الإيمان، واستصرخت على أهل العدل بأهل العدوان، وقالوا له: «إن الممالك بخراسان وما وراء النهر مشمرة، وإن السعادة من سلاطينها متنمِّرة، وإن سنجر قد تخالف عسكره، وكسف معروفه منكره.» فوسع الخطائي خطى وُسعه، ودبت عقارب كتائبه لسلب الدين ولسعه، وأقبل في سبعمائة ألف مقاتل، ووصل في قطع من ليل الكفر المعتكر، ووقع من سيل البؤس المنحدر، والسلطان سنجر في سبعين ألف فارس، لكن التوفيق عليه ساخط، والتأييد من حزبه ساقط، فشهد المشركون وحملوا بكراديسهم، واستشهد المسلمون وحملوا إلى فراديسهم، وبقي سنجر في عدد قليل، ومدد كليل، فقال له الأمير أبو الفضل صاحب سجستان: «قد أحدقت بنا العساكر ودارت علينا الدوائر، فانجُ بنفسك لأقف مكانك تحت الجتر.» فوقف ووقع في الأسر، وأُسرت خاتون زوجة السلطان وبقيت في الإسار إلى أن فُديت بخمسمائة ألف دينار.

وأُسر الأمير قماج وبلي بكل عسف، ولقي كل عنف، حتى فُديَ بمائة ألف دينار، وأما الأمير أبو الفضل، فإنه علم الكافر استيلاء أولاده على بلاده، والاحتواء على طرافه وتلاده، فحقق اقتراحه، وأطلق سراحه، وقال: «مثل هذا البطل الهمام، والشجاع المقدام يجب الإبقاء عليه، والإحسان إليه.» وهذه الوقعة كانت في سنة ٥٣٢.

قال: واستولى هذا الخطائي على بلاد ما وراء النهر، وحصل المسلمون معه تحت القهر، واستشهد على يده الإمام حسام الدين بن البرهان بن مازه — رضي الله عنه — ببُخارى، ولقد كان في علم الشرع لا يُبارى ولا يُجارى، وهلك أوزخان وتولت أخته بعده، وتولى تخته وبخته، واستمرت مملكة الخطائية فيما وراء النهر إلى هذا العصر، والولاة مسلمون من قبل ولاية الكفر، قال الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني مُختصر الكتاب: وتمادت مدتهم في تلك البلاد، واستيلاؤهم بها على العباد، إلى أن قيَّض الله تعالى استئصالهم على يد السلطان السعيد علاء الدنيا والدين، محمد خوارزمشاه ابن السلطان تكش، بن أيل أرسلان بن أتسز بن محمد، فإنه جرد عزيمته لقطع شأفتهم وقلع أرومتهم، واعتنى بشن الغارات عليهم، وتوالي الركضات إليهم، حتى أخرجهم من بلاد ما وراء النهر، وصبَّ عليهم سياط القسر والقهر، ثم توغل ديارهم، وجاس بلادهم، حتى قلعهم أجمعين، ولم يبقَ من الخطائية نافخ ضرمة في الأرضين، وذلك بعد سنة ٦٠٠.

ثم أخذ في قهر جنس آخر من كفار الترك وهم: التتارية، وممالكهم تنتهي إلى آخر بلاد الصين، فلم يزل عليهم ظافر الجند، منصور الجد، متوغلًا مسيرة خمسة أشهر من خوارزم إلى بلادهم، باسطًا يد السبي والنهب في ذراريهم ونسائهم وطرافهم وتلادهم، إلى أن اجتمعوا واحتشدوا، وخرجوا فأحجم عنهم السلطان، فأخذوا بجميع بلاد ما وراء النهر، ثم دخلوا إلى بلاد خراسان فخربوا أرباعها، وأحذوا قلاعها وسبَوا نساءها، وقتلوا رجالها، وانتهبوا ذخائرها وأموالها، وانحاز السلطان عنهم إلى بلاد الجبل فتتبعوا أثره إلى حدود أصفهان وأخذوا الري وقزوين وهمذان، وقتلوا جميع مَن كان في هذه البلاد، وما تاخمها من الأغوار والأنجاد، وكان ابتداء دخولهم إلى بلاد خراسان في أوائل سنة ٦١٧، وجرى منهم على المسلمين من القتل والأسر والقهر، ما لم يُعهد مثله ولم يرِد ذكره أبد الدهر، وطالت مدتهم في بلاد الإسلام وأقاموا فيها على وتيرة واحدة، لا يفيقون من سفك الدماء، وشن الغارات ثلاث سنين، إلى أن خرجوا من طريق أذربيجان مخربين للبلاد، سافكين دماء العباد، وتوغلوا منها إلى بلاد اللَّان، ومنها إلى أرض قفجاق، ثم عادوا من تلك الطريق إلى بلادهم، والله تعالى يكفي المسلمين شر معادهم، ولا يمكن استيفاء شرح معرتهم، وذكر ما جرى على الإسلام من مضرتهم، إلا في مجلداتٍ طوال، لكنا ألممنا بذكرها ها هنا على إجمال، والحمد لله على كل حال.

عاد الحديث.

ذكر انتعاش سنجر بعد أن عثر وانتقاشه وانجباره بعد أن شيك وانكسر

قال: وكان عند اتجاه سنجر لجهاد الكافر وقتاله، انتهز خوارزمشاه أتسز بن محمد نوشتكين فرصة اشتغاله، فمرَّ إلى مرو ودخلها عُنوة، وقتل وجوه أهلها، وحرق بالجور مجاوري حزنها وسهَّلها، وجلس على سرير سنجر، ومد الطغراء ووقَّع ونهى وأمر، ونقل من الخزانة السنجرية صناديق جواهره، ولمَّا عاد السلطان عن وجهته، عرف خوارزمشاه أن القدر غيَّر مظاهره، فرجع إلى خوارزم، واستوبل ذلك العزم، ووصل سنجر إلى دار ملكه، فاستجد الجد، وجمع الجنود، ونهد إلى خوارزم، ووصل إلى قلعة هزارسف فحصرها، ورمى بالحجر حجرها، وكان له خندق عريض عميق فجعله همه، وكان الماء قد طما به فطمه، وقسم السور على أمرائه فحسروا لثامه، وحققوا انثلامه، وفُتحت القلعة عُنوة، وأضحت لما يُرام فتحه من القلاع أُسوة، وذلك بعد أن قتل عليها وفيها ألوف، وجُدعت أنوف، وتصرفت نوب ونابت صروف، ثم وقع الصلح، وأسفر بعد تلك الظلمة الصبح، ورد خوارزمشاه على سنجر صناديق جواهره التي أخذها من الخزانة بمرو بختمها، وحقق سلامة نفسه بحق سلمها، وركب ووقف بإزاء سنجر من شرقي جيحون، وقد سير في البر والبحر عسكره المجرور وفلكه المشحون، ونزل بحيث يُرى، وقبَّل الأرض، وتقبَّل الفرض، وعاد سنجر إلى خراسان وهو عنه راضٍ، والقدر بنصر قاضٍ، ولم يزل أمره يتمشَّى وبرد ملكه بالحسن يتوشَّى، إلى أن أراد الله شت الشمل، وبت الحبل، فسلب العز، وسلط الغز، وتحللت عقود الدولة، وتفلَّلَتْ حدود الصولة، وانقضى الدهر، وقُضي الأمر.

ذكر نوبة الغز وذلك في سنة ٥٤٨

قال — رحمه الله: الغز من التركمان طائفة، للضيم عائفة، وكانت في اهتمام الأمير قماج، وهي تحمل إليه ما عليها من الخراج. وأميراها قرغود وطوطي بك يخدمان الحضرة، ويحضران الخدمة، وما زالت شوافعهم مقبولة وذرائعهم موصولة، حتى تجنَّى عليهم الأمير قماج ذنبًا تنصَّلوا منه فلم يقبل، وتحيَّلوا في تحليل عقد سخطه فلم يتحلَّل، وأرضوه بكل طريق وطريف فلم يرضَ، وضيَّق عليهم من واسع البسيطة الطول والعرض، واضطرهم إلى مضرته، ودفعهم إلى الشر لدفع معرته، فأوحشوه وناوشوه، وهارشوه وهاوشوه، ولم يتركوا في جلاده جلدًا، وقتلوا له في تلك الوقعة ولدًا، فازدادت ضراوته، وثار ثاره، والتهب ناره، وأبرق وأرعد، وأرغى وأزبد، وغضَّ غضبه من حلمه، وسدَّ جهله سبيل علمه، وحضر صُلحاء القوم في إصلاحه، وانتهوا في البذل إلى غاية اقتراحه، وبذلوا له إحضار قتلة ولده، وإيقاعهم في يده، فأبى إلا قتلهم وقتالهم، وقلعهم واستئصالهم. وماج قماج في بحره الزاخر، وصرف إلى قصدهم أعنة العساكر، فركبوا إليه وأكربوه، والتهبوا به وألهبوه، وهزموه وهشَّموه، فجاء إلى سنجر وهو قلق حنق، وكأنه بالغيظ مُختنق، وقال له: «قد اختل الملك، وانحلَّ السلك، فإن قعدت عنهم أقاموك، وإن لم ترمِهم ولم ترمهم رموك وراموك، فانهض إليهم بجنودك، ورُد نحوسهم بسعودك.»

فلم يرَ أحد من أولئك الأمراء إثارة أحد لذلك الأمر، وما شاروا بالشر، وقالوا لسنجر: «إن هذا قماجًا قد شاخ وباخ، وخشي وخاب، وأخطأ الصواب، فإن أنجدته خُذلت، وإن هويت هواه لُذِعت وعذلت.» فأنف قماج، وشنف وعنف، ولم يزل بسنجر حتى صغى صغوه، ونحا نحوه، وأمر أمراءه بالتأهُّب، وأضرى ضرمه بالتلهُّب، وسار في جمع كالخضم زاخر، وسواد كليل المحب بلا آخر، فلما عرف الغُز أنهم غزوا، وإلى الشر عزوا، وصلوا وتوصلوا، وقالوا: نخدم السلطان بخمسين ألف رأس، من جِمال وأفراس، وبمائتي ألف دينار ركنية، وبمائتي ألف رأس غنم تركية، ونحضر قتلة ولد قماج، ونلتزم كل سنة بخرج وخراج، وخشعوا ولانوا، وخضعوا واستكانوا، فأغلق سنجر باب القبول في وجوه هؤلاء الوجوه، وأبى أن يعاملهم بغير المكروه، فتوهَّلوا وتوجَّلوا، وتعزَّلوا واستقتلوا، ولجئوا إلى أرض لا يُسلك إليها إلا في وادٍ لا يسع عرضه أكثر من مائة فارس، وأعدوا في الطرقات الطوقان، على رسم قتال التركمان، ونشروا المصاحف يطلبون أمان أهل الإيمان، ثم اشتدوا وشدوا، وأعدوا واستعدوا. وجعلوا الخركاهات كالأسوار مُحدقة، ونيران النصال من ورائها للحدق مُحرقة، وصبروا حتى لابسهم العسكر، وفي قلبه سنجر، وامتلأ الوادي بسيل الخيل، واجتاب النهار لباس الليل، وكانت في المقدمة أُمراء خاروا وخاموا، وهمُّوا بما وهمُوا وهاموا، واغتنم الغُز إضعافهم، وركبوا أكتافهم، يقتلون ويأسرون، ويصدمون ويكسرون، وعزَّ المُخلِّص من المضيق، وفُرشت جثث القتلى على الطريق، وقتلوا الأمير قماجًا وولده، وأتوا على العسكر وأفنوا عدده وعدده، وخلصوا إلى السلطان سنجر وهو في خف من خواصه، وجواده قد بخل بخلاصه، فأحدقوا به إحداق الأهداب بالحدقة، وحصل في وسط تلك الحلقة المحدقة، وبقي كالمركز في الدائرة، ووقع في الأيدي الجائرة. ونزل أميرهم وقبَّل الأرض، وأمسك بعناده عنانه، وأطلق بدعائه لسانه، وقال: «إن قومك فتحوا بالأذية، ولم يُحسنوا رعاية الرعيَّة، ونحن خولك حولك، نقول بقبولك ونسمع قولك.» وأفردوه عن أصحابه، وعوَّضوه عن عز جماحه بذل أصحابه، ومكث معهم ثلاث سنين كالأسير، وقد أرضوه من طعامه وشرابه باليسير، لكنهم يجلسونه على السرير، ويقفون ماثلين بخدمته سوى قرغود وطوطي بك الأمير، وانتشروا في البلاد انتشار الجراد، ودبَّ دبابهم بالفساد، وأذهبوا الأموال والنفوس، وأعدموا النعم وأوجدوا البؤس، وخربوا مدينة نيسابور وقتلوا أهلها تحت العذاب، وسفكوا دماء العلماء والأئمة في المحراب، وكانوا يستصحبون سنجر معهم، وهو لا يقدر أن يردعهم، وربما خشن عليهم في القول ونهاهم ونهرهم، وسبهم وسبعهم، وهم لا يجيبونه إذا نجههم بالمكروه وأسمعهم.

ولما يئس الباقون من عسكر سنجر من خلاصه، ورأوا مضيقًا عليه في قفص اقتناصه، فرَّقوا وتفرَّقوا، وخفقوا وأخفقوا، فهرب منهم في آخر عمره ووقع إلى ترمذ، وأرهف حد العزم وشحذ، فأصابه سهم الأجل ونفذ، فأحضر عسكره سليمان شاه ابن أخيه محمد ليتولى مكانه، ويجد سلطانه، فلم يُفلح ولم ينجح، ولم يُصلح ولم يصلُح، فبعد إلى الري، ومنها إلى بغداد، ولم يجد أمره للنفاذ النفاذ، وأجمع العسكر على الاتفاق في تولية محمود خان ابن أخت سنجر، وأقام بنيسابور متمكنًا، حسنًا في هيبته مُحسنًا، وذلك في أيام السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه، فكتب له العهد من همذان وولَّاه، ثم استولى الأمير المؤيد آي آبه بنيسابور، وأخذ محمود خان وأعدمه وتولى الأمور، وبقي الغز بمرو وبلخ وسائر البلاد، ضالين عن نهج الرشاد، عابدين للجُور جائرين على العباد.

ذكر الحوادث بالعراق بعد انفصال السلطان محمد بن محمود عن بغداد بعد حصارها في سنة ٥٥٢

قال — رحمه الله: قد سبق شرح الحصار، وما قوى الله به أمير المؤمنين المقتفي من الانتصاب والانتصار، وكان من أقوى الأسباب في دفعهم، أن الخليفة راسل آتابك شمس الدين إيلدكز أن ينهض بعسكره إلى همذان، حتى إذا عرف السلطان محمد أن سريره قد فرغ، وأن سروره قد رُفع، ارتحل عن بغداد، فسار آتابك إيلدكز بالسلطان ملكشاه بن محمود إلى همذان ودخلها، واستولى على ذخائر الملك بها ونقلها، وأجلس ملكشاه على السرير، وقام بين يديه بالتدبير، فلما عرفت العساكر المنازلة لبغداد أن منازلها بهمذان نُزلت، وأن وُلاتها في ولاياتها عُزلت، تشوَّشت خواطرها، واستوحشت ضمائرها، واتفق عن بغداد انفلاتهم وانفلالهم، وقُدر انفصامهم وانفصالهم، وعادوا إلى همذان، ولما أحسَّ ملكشاه بقُرب أخيه محمد انصرف وانحرف، وقفاه آتابك إيلدكز وما توقَّف، وكان قد استوزر المظفر بن سيدي من زنجان، وكان كبير الأصل، كثير الفضل، وله نظمٌ رائق، ونثرٌ فائق، فمن ذلك قوله في شمس الدين أبي النجيب وزير السلطان محمد:

أبا النجيب وما في الحق مَغْضَبَةٌ
أأنت مثلي فأين العلمُ والحسبُ
وأنت أنت وهذا الوفر منتقلٌ
إلى سواك وهذا الأمر مُنقلِبُ

وقوله:

إني وتيجان أسلافي وتلك لنا
أليَّةٌ بَرَّةٌ لا نمتري فيها
لألحظ الملِكَ الطَّاغي بِصَوْلتِه
شزرًا وأُعرضُ عن غشيانه تِيهًا
يبغي الوزارةَ قومٌ يكثرونَ بها
وقد تصاغرَ قدري في تَوَلِّيها
فلِدتها مُكرهًا والقومُ في قلقٍ
يُراوغون سُمُوًّا في مَرَاقِيها
وعِفْتُها طائعًا والدولة اضطربت
من بعدِ من هو بعد الله يحميها
ورَدَّ نفسي إلى التقوى تيقُّنُها
أنَّ التقى هي مِن أجدى مراميها
وأسأل الختم بالحسنى إذا انقلبت
نفسي إلى الله مولاها ومُوليها

قال: وبقي السلطان بعد ذلك سقيم الأمل، قسيم الألم عديم الشبه في سيرته لكنه شبيه العدم، مُتوجِّع الجسم، مُتعوِّج الرسم، معضوض النشاط، مقبوض الانبساط، وكان في عصره أكابر الدولة من الفحول، وذوي الهمم والعقول: عز الدين ستماز، وناصر الدين آقش، وأمين الدين أبو عبد الله أمير الدولة، ومن الخدم: شرف الدين كردبازو، ونجم الدين رشيد، وهؤلاء ما زالوا أكابر في الدول، مُقدمين ذوي العديد والجيوش والخيول، يُلازمونه في السفر والحضر، ويثبتون معه في سبيل السلامة، ووادع أخاه ملكشاه وعقد له على خوزستان، فما تمكن منها منهاجه، ولا تمَّ بها ابتهاجه؛ لاستيلاء الأمير أيدُغدي بن كشطغان المعروف بشمله عليها وتغلُّبه، وتبطل أمره بتطلبه، فبقي في البلاد دائرًا حائرًا، صابرًا بالبلاء وإلى الضيق صائرًا. وأما السلطان محمد، فإنه مع تكسُّره وامتزاج صحة مزاجه بسقمه، ووقوف رصد المنون على لقمه، رغب في التزوُّج بابنة ملك كرمان، فخطبها مع ما هو فيه من خَطْبِه، وبذل وحمل، وأتحف واحتفل. ووردت الخاتون الكرمانية، فزُيِّنَتْ لقدومها القصور، ووفر لحضورها الحبور، وهم إذًا بهمذان، واستقبلها السلطان لمرضه في المحفة، وأحلَّها في كنفِه، وتركها لا يقدر منها على متعة، ولا يطيق الإلمام من روضها برتعة، فما اقتضت باقتضاضها قدرته، ولا افترت بافتراعها مسرَّته، بل عجز عن البناء عليها، وقصرت يد صحبته عن الامتداد إليها، وبقيَتْ في جنابه مُخيمة، وفي حياته مُتأيِّمة، وعرضت للوزير شمس الدين أبي النجيب هيضة غربت بها شمسه، وفاضت نفسه، وغاض بفيض رمسه، وانقطع غده ونسي بيومه أمسه، ولقد كان أقوم قومه سيرة، وأمثل أمثاله وتيرة، وكان بالتواضع حاليًا، ومن التكبُّر خاليًا، وقلَّد السلطان وزارته ضياء الدين بن مجد الدين بن علجة الأصفهاني، فنقله إلى الوزارة من منصب الطغراء، وزفَّ عروس تلك المرتبة منه أمثل الأكفاء. ولقد كان في السيادة عريقًا، وبالرئاسة لبيقًا، لكنه جاءته الوزارة وهو مشارف الوجل، ومشار الأجل، فما قرب من الوسادة حتى قُبِر ووُسِّد، وما قام خطه بقدره وحتى قاومه القدر وأقعد، فحزن السلطان موته، وحزَّ به فوته، وكان قد طالت له صحبته، وأدالت منه لذته صحته، وهو يعده بالوزارة ويعرضها المطل، وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل.

ومكث السلطان بعد ذلك لا حيًّا فيُرجَّى، ولا ميتًا فيُسجَّى، ثم إنه تُوفي يوم السبت لانسلاخ ذي القعدة سنة ٥٥٤، وكثر عليه الترحُّم، وزاد بمصابه التألُّم، فإنه كان أوقر السلجقية حلمًا، وأوفرهم علمًا، وأحبهم للعدل، وأحباهم للفضل، واختلف من بعده الأمراء، فاجتمعت آراؤهم على استدعاء الأمير إيناج صاحب الري، ونشروا من الأمر المستور بممالأته ما كان في الطي، ثم تعارضت آراؤهم وتناقضت أهواؤهم، فمنهم من مال إلى ملكشاه أخي المتوفى، ومنهم من رأى الإرسال إلى الملك أرسلان لمكان آتابك إيلدكز زوج أمه. ومنهم من أشار بتمليك سليمان عمه، وكان الأمير إيناج يومئذٍ أكثر جندًا، وأكثف جمعًا وأرهف حدًّا، ومال إلى سليمان وقال هو أسلم جانبًا وأوطأه، وأثبت عن الأذية رأيًا وأبطأه، والخليفة كان قد ولاه، ووالى إليه الجميل وأولاه، فإذا أجلسناه قام الخليفة بتربيته، ورضي بتوليته، قال: وكان سليمان بالموصل في اعتقال علي كوجك، فاتفق الأمير إيناج، وناصر الدين آقش، وشرف الدين كردبازو على إرسال الأمير مظفر الدين ألب أرغون صاحب قزوين إلى الموصل للوصول به، وكُوتب صاحبها في طلبه، وكان زين الدين علي كوجك أطلقه عند علمه بوفاة السلطان محمد، وجهزه بعد التوثقة منه بالإيمان، فقدم واستقر بهمذان على سرير الملك، ودخل في طاعته سُراة الترك، وانتظم أمره، واضطرم جمره، ووافقه مخالفوه، ووفَّاه محالفوه، وأصبح بالأمير إيناج حل الدولة وعقدها، وبيده حبلها، وبأيده وصلها، وصار مظفر الدين ألب أرغون بن يرنقش صاحب قزوين الأمير الحاجب الأمين، وقلد وزارته شهاب الدين محمود بن الثقة عبد العزيز النيسابوري، وكان وزير إيناج فنذت الأقاليم أقلامه، ومضت بالأحكام أحكامه، وأعاد إلى وجه الوزارة ماءها الذهاب، وأوضح في إنارة آفاقها المذاهب، ولما رأى أنه ليس في الأكابر أعظم من آتابك شمس الدين إيلدكز وأن الملك أرسلان بن طغرك معه، وأنه ربما قصد سليمان ليدفعه، سيَّر إليه بولاية أرَّانية منشورًا، ونظم وضم ما كان هناك منثورًا منشورًا، وجعل ولاية العهد للملك أرسلان بعد سليمان، وتذلَّل الصعب وهان، وحسبوا أن السلطان بعد غموضه ينبه ولكأسه يريق، ومن سكره يفيق، فبقي على الشرب مُكِبًّا وللعب مُحِبًّا، وللعقل هاجرًا، وللحم زاجرًا، فلا جرم حالت حاله وساء مآله، وسنذكر ذلك بعد ذكر بعض الحوادث في أيامه، ونصل افتتاحه بافتتاحه.

ذكر وفاة الإمام المقتفي لأمر الله وجلوس ولده الإمام المستنجد بالله أبي المظفر يوسف أمير المؤمنين

قال — رحمه الله: كان الإمام المقتفي لأمر الله بعد الحصر آثر أن يخرج إلى البلاد ليراها، ويثري ببركة حركته ثراها، فما حضر طرفًا إلا خَضَّره، وما نظر كنفًا إلا نضَّره، وكانت في إقامته عسكره، طال أم قصر سفره، الأخباز والأغنام والحوائج والعلائق تُفرق على عدد الناس والدواب، وعساكره مجرون من جراياتهم ونفاقاتهم وأعطياتهم على المبار والمحاب، فما ينفق لأحد فرس إلا أخلفه عليه، ولا يلتمس صاحب معونة ولا مغوثة إلا عجَّل بها إليه، وأجناده يتمنون أن تطول أسفاره، ليدوم لصبح سعادتهم بعطاياه أسفاره. ووصل إلى واسط في أواخر صفر سنة ٥٥٤، وأنا نائب الوزير ابن هبيرة بها، وخرجتُ في أصحابي للتلقي، وكنتُ من زحمة اللقاء على غاية التوقِّي، فبصرت بموكب الخليفة وقد أقبل في أفواجه، كأنه البحر في أمواجه، فنزلت وتقدمت إليه، وقبَّلت الأرض بين يديه، فوقف لأركب إشفاقًا علي من الزحمة، وكانت فطرته مجبولة على الرأفة والرحمة، وقال له مخلص الدين ابن إلكيا الهراسي: هذا الذي يقول في أمير المؤمنين من قصيدته، كأنه يصف هذه الحالة:

لمَّا شفعت العزم وهو مؤيدٌ
بالحزم أسفر بالمُنى منك السفر
وبرزتَ مثل الشمس تشرق للورى
وسناكَ يحجب عنك ناظر مَن نظر
بمظلةٍ سوداء تحكي هالةً
وجه الإمام يُضيء فيها كالقمر

وقال الوزير: هذا صاحبي وقد ولَّيته، وأصحبته وأوليته، وبهج بخدمتي ونجح، وبذخ بنيابتي ورجح، فوصَّى الإمام وزيره بي، وأعجبه سمتي وأسلوبي، وسار على رسله ودخل إلى دار الديوان، وجلس ساعة في الإيوان، ثم قام وجلس الوزير في الدست، وكتب ووقَّع، وقال وأسمع، والناظر حينئذٍ في واسط الأمير شمس الدين أبو الفضائل فاتن، وهو من أكابر الخدم الذين لهم المزايا والمزاين، ثم انتقل الخليفة إلى سُرادقه، والوزير إلى مضاربه، ونزل أرباب الدولة كل منهم على مراتبه.

قال: وحضرتُ بميدان واسط، والمقتفي — رضي الله عنه — حاضر، ومعه أولاده: ولي العهد المستنجد يوسف، وأبو علي، وأبو أحمد، وولده المستنجد أبو محمد، وهو المستضيء الذي تولى بعده، ولعبوا بالكرة، ولم يلبث بواسط ثلاثة أيام، حتى عاد إلى بغداد سريعًا، وكان وصوله للانحدار إلى الغراف، فزاد الماء زيادة منعت العبور، فرجع على نية الرجوع، وعند عودته غرقت بغداد، وذلك في شهر ربيع الأول سنة ٥٥٤؛ وذلك لأن الماء زاد في تلك السنة على خلاف عادته، وتهور به بثق القورج وتقور، وغلب وبلغ السور من صوب الظفرية وتسوَّر، وطاف بتلك النواحي طوفان نوح، وراح شبح كل بناء بغير روح، وكان ذلك منظرًا هائلًا، وقدرًا نازلًا، وطارقًا كثرت طرقه، وفتقًا عسر رتقه، وركب الوزير وأرباب الدولة فصدُّوه وسدُّوه، وردعوه وردُّوه، واتفق أنه نقص ووقف، وغرق معظم ما من ذلك الماء العظيم غرف، ولما انصرم الصيف وانكسر الحر، وصل المقتفي إلى واسط مرة أخرى، وانحدر إلى ناحية الغراف، وعزل عن ولايتها ظفرًا خادمه، وولَّاها أبا جعفر بن البلدي، وقبض على ابن أفلح وزير ظفر وعاقبه، وألزمه بما استخرجه من دفائن ابن حماد وطالبه، وكبا به الفرس في بعض تلك السواقي فوقع وتألم، واعتذر بصحته إليه القدر مما تجرم، وذلك في شهر رمضان من السنة.

ولما دخلت سنة ٥٥٥ خرج الخليفة إلى هيت، وكان مقطعها نور الدولة ابن الأمير العميد، فحل عنه الإقطاع، وألزمه شحه المطاع. وأقبل من سفره سافر الإقبال، ظافر الآمال، فما عاد حتى عاده سقم، وألمَّ به ألم، فتُوفي في يوم الأحد ثاني شهر ربيع الأول سنة ٥٥٥، وانتقل إلى جوار الرب، طاهر الذيل نقي الجيب، أمين الغيب، بريًّا من العيب، ولما عرف ولده وولي عهده الإمام المستنجد بالله أبو المظفر يوسف، أن والده قد وقع اليأس عنه أشفق من إتمام الأمر لأخيه أبي علي، وأنه للعهد غير ولي، وهجم الدار، وقبض الكبار والصغار، وعقل واعتقل، ونقل وانتقل، وبُويع له بالخلافة يوم وفاة والده، واحتوى على طارفه وتالده، وقبض عدة من الأمراء الخيلية مماليك الخليفة المقتفي وأعدمهم، وانتخب جماعة من مماليكه وأمرهم وقدَّمهم، وأخذ القاضي سديد الدين بن المرخم أخذًا شديدًا، وردَّدَ العذاب عليه ترديدًا، إلى أن فاضت نفسه وغاض به رمسه، وحبس المخلص ابن إلكيا الهراسي مدة أيام خلافته، وحرمه حظ عاطفته ورأفته، وأقرَّ عضد الدين ابن رئيس الرؤساء على أُستاذية الدار، ورفع قدره على الأقدار، وأقرَّ عون الدين بن هبيرة على وزارته، وبقي ماء الدولة به على غزارته، واستولى على دولته مملوكه قايماز، وعز بالاستظهار وظهر بالإعزاز.

ذكر مراسلة الخليفة للسلطان

قال: وأرسل الخليفة إلى السلطان سليمان، يسأله الطاعة والإذعان، ويطلب منه أن يخطب له في جميع البلاد، ويقوِّي رجاءه منه في نيل المراد، ويذكره بإحسان المقتفي إليه، وأفضاله عليه، فبادر السلطان إلى التثام الأرض، وامتثال الفرض، وقبَّل كتابه وقبله، وكتب إلى البلاد ليخطب له، وظن أن بغداد قد وصلت إلى بغيته، وحصلت في قبضته، وأنها في انتظار نهضته، فرتَّب القاضي نبيه الدين أبا هريرة الهمذاني رسولًا، وكان مقبلًا في سَمْته وسِمَته مقبولًا، وهو من أعيان المملكة وأماثلها، وعلماء الأمة وأفاضلها، وندب معه الأمير ابن طغايرك ليكون ببغداد واليًا، ويعيد ما رخص ونزل من قدم السلجقية غاليًا عاليًا، فعزم في عدة، وزعم أنه على عدة، وسار القاضي والأمير ومن معهما مع رسول الخليفة، وهو الحاجب سونج النظامي ذو النطق واللسن، والرأي الحسن، والعلم والفصاحة، والحلم والحصافة. فاستصحب القاضي والأمير ووصل، على ظن أنه بالمراد حصل، فلما قربا قُرِّبا، وبالرغائب رُغِّبَا، وأُقيمت الوظائف، ووُضعت اللطائف. وأقاما مدة للتقرب والترقُّب، ثم قاما للتطلُّب والتغلُّب، وقالا: إنما حضرنا للتعرف والتصرف، لا للتوقي والتوقف، فقال لهما الوزير: ما بالكما؟ وما حالكما؟ وبم إرسالكما؟ وفيمَ سؤالكما؟ فقالا: ما جئنا لنذهب، وإنما جئنا لنخاطب ونخطب، فقيل لهما: ما أنتما إلا سفيرا اهتداء وإهداء، وخفيرا ولاية لولاء، والتعرض للخطبة تعرض للخطوب، ولا ترغبا في الخطبة إن رغبتما في الولاء المخطوب، فقال: رسولكم بها وعد، ففيم إخلاف العدة، وإتلاف الجدة، وإثارة الثائرة الموجدة للموجدة؟ فقيل لهما: ما كان لرسولنا أن يقول ما لم نُشِر به، وفيم رضانا عن مرسلكما أمن شربه وسربه، وغدًا يوافقكم رسولنا على أنه لم يقل ما قلتماه، ولم يعقد ولم يحل فيما به عقدتماه، فافترقوا للاجتماع في غدٍ، والمعاودة لموعد.

فاتفق أن رسول الخليفة — وهو الحاجب سونج النظامي — في تلك الليلة تُوفي، وأُخمد سراج حياته وأُطفي، وكُتم سره تحت التراب وأُخفي، وكان هذا من أعجب الغرائب، وأغرب العجائب، حتى تحدَّث الناس بذلك الحادث، وانبعثوا لذكر ما تجدد عليه من المباعث، وقيل: إنه خُير بين أن يُقتل صبرًا، أو يشرب سمًّا وما فيهما حظ لمختار، وقيل: بل بقضاء من الله جار، وأجل موقوت بمقدار، فلم يجرِ بعد وفاته لتلك المواعدة معاودة ولا موافاة، ووقعت من الرسولين منافرة ومنافاة، فاتفق أن القاضي أبا هريرة أحد الرسولين تُوفي بعد أسبوع من وفاة سونج، ولم يكن دينه أيضًا من القدر بمُنج، فرجف الناس وأُرجفوا، وتحدثوا بما عرفوا وبما لم يعرفوا، واستشعر الرفيق الآخر وقال: ما في الإقامة خلاص، وأفلت راحلًا وله خصاص، فإنه غلب على ظنه أنه إن أقام قضى، ولحق بمن مضى، فتلاشت تلك الرسالة لعدم رسلها، ولروعة مثل ذلك الحادث لم يرجعوا إلى مثلها. ووقعت في أنفسهم من بغداد الهيبة، ومن حصولها الخيبة، فلم يقدم ملك إليها، ولم يُقدم سلطان عليها.

قال: وفي هذه السنة (وهي سنة ٥٥٥) تُوفي ملكشاه بن محمود بن محمد، وذلك أنه لما عرف ملكشاه أن عمه مَلَك، وأن حسان الممالك به تفذلك، وأنه يتعوَّد خلوته، ولا يخلي عادته، ويريد هواه ولا يهوى إرادته، نهض وافر العدد، وافي العدد، وجاء إلى جي بلالي، ووفر حبور أهل أصفهان بحضوره، وأذعنوا لأوامره إذ عنوا بأموره، واستبشروا وأنسوا ببشره، ونشروا الطيب وطابوا بنشره، وقالوا: عاودتنا الألطاف الإلهية، وعادت علينا الأيام الملكشاهية، وأقام وسير الكتب إلى الأطراف، بالاستمالة والاستعطاف، وخطب اللهو ولها عن الخطب، وغفل عن إسراع الذوي إلى عوده الرطب، وكان مغرورًا بالشباب مشبوب الغرار، مقدرًا للأمن آمنًا من الأقدار، فلم ينقضِ عليه شهر حتى اشتهر أنه قضى ومضى، وأن برقه ويومه مضى، وذلك في يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الأول من غير مرض سبق، ولا عرض عرض، بل كانت له مغنية قد استهوته واستغوته، وخبلت خلبه، وسلبت لُبَّه، فصار يأكل من يدها ويشرب، ويجيء بحبها ويذهب، وقيل: إنها بغت موته فمات بغتة، وقيل: بل أصابه سكتة، وأنها قد رغبت حتى سقته سمًّا، وكان قدرًا حتمًا، قد أحاط الله به علمًا.

ذكر ما آل إليه أمر السلطان سليمان، وكيف جفاه زمانه وخان، وكيف قُبض من مجلس ملكه ونُقل إلى منزل هلكه

قال: لما اتسع ملكه، واتسق سلكه، ظن الأمراء أنه قد لاحف الفلاح، وصالح الصلاح، فلم يضنوا بالإحسان إليه لحُسن ظنهم فيه، وما زالوا في تقرير أسبابه وتسبيب قرار مساعدته ومساعفته، حتى بدا لهم إبداله؛ فإن الأمير إيناج عاد إلى ربه، والسلطان سليمان انهمك في غيِّه، وأخل مظفر الدين صاحب قزوين بموضع الحجبة، وثبت الباقون من الأمراء على الفتك بالسلطان، فإنه اشتغل بلهوه ولها عن شغله، وجدَّ حبل جده بخبله، وقالوا: الصواب ضبطه وربطه، وقبضه لا بسطه، ومكثوا مدة يتشاورون في خلعه، ويتوامرون في وضعه، ويُكاتبون شمس الدين إيلدكز ليقدم بابن زوجته الملك أرسلان بن طغرل، وأنهم لا يقطعون أمرًا حتى يصل، وأحكموا العهد وأبرموا العقد، واتفق أنه حدث بالسلطان سليمان مصرع لصرعة من فرسه، فقضت بضيق نفسه ونفسه، فعادوه لألمه وعادوه في أمله، واعتقلوه في قصر من الدار السلطانية، ووكل كل أمير به من ثقاته جماعة، وأعقدوا على إضاعته عهدًا واعتقدوا لعهده إضاعة، وذلك في شوال سنة ٥٥٥، ثم إنهم نقلوه إلى قلعة همذان، وجرَّعوه كأسًا مسمومة، وأزاروه ميتة مذمومة، وكانت وفاته في ثالث عشر شهر ربيع الأول سنة ٥٥٦ بعد جلوس ابن أخيه في السلطنة.

ذكر جلوس السلطان ركن الدنيا والدين أبي المظفر أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان

قال: وصل أرسلان إلى همذان بعد اعتقال عمه في ذي القعدة من السنة، وجلس على سرير سروره، واجتاب حبر حبوره، ونعت شمس الدين إيلدكز بآتابك الأعظم، فتقدم وأقدم، وأهان وأكرم، وكان السلطان تحت سلطانه، يرتوي من إحساء إحسانه، ويأكل من خوانه مع إخوانه، فإن أولاد آتابك إيلدكز بنو أمه، وصار واسطة عقدهم ورابطة عقدهم بنظمه إليهم وضمه، وسعى سعد آتابك إيلدكز بقدم التقدم، وجد جده في التوسع والتوسم، وتصاغر له الكبراء وأتمر له الأمراء، وتقررت الوزارة على شهاب الدين محمود ابن الثقة عبد العزيز، والحجبة على طغرلتكين أياز، وأقاموا بهمذان شهرين، ثم توجه السلطان إلى أصفهان، وجعل ساوه مسلكه، واستصحب معه إيلدكز آتابكه، ووصل إليه في ساوه الأمير إيناج بك سنقر صاحب الري، فابتهج بلقيته ولقي منه بهجة، وأقام بإيضاح محجة خلوصه على حكم طاعته حجة، وصار بينه وبين آتابك إيلدكز مصاهرة، وتمت بذلك للسلطان معهما مظاهرة، وزوجت ابنة إيناج بابن إيلدكز الأكبر، وهو نصرة الدين بهلوان محمد، وهو أخو السلطان لأمه، وأقوم أهل الدولة بمهمه، ثم أكرموا إيناج وردوه إلى ولايته غير أنه باقٍ على عتوه، راقٍ في غلوه، متكره بتكثر إيلدكز متكرث، متأثر قلبه من تقدمه متأرث، لكنه أبدى الرضا بما بدى، وأظهر أنه مع الأولياء، وأسرَّ كونه مع العدى.

ووصل السلطان والجماعة واثقين بالمذكور، معتدين بعمله المشكور إلى أصفهان، ودخل السلطان إلى دار السلطنة فاحتل سريرها، وقرَّ بها سامي العين قريرها، ومدوا بأصفهان أيديهم وأجدُّوا تعديهم، وأخذوا البريء بالسقيم، والكريم باللئيم، والحميد بالذميم. وساقوا الناس بقلم التوزيع إلى لقم التفزيغ، واستثمروا أصول المصادرات بالتقريع، وسدوا الأنهار على البساتين، حتى أخذوا أثمان المياه، وشفهوا الموارد وصدوا عن الصادي ورد الشفاه، وأقام السلطان كذلك برهة، ولما عزم على الرحيل، تلوى عليه الأمير عز الدين ستماز، وتخلى عنه وتخلف، وتوقى منه وتوقف، كان قد كاتب الأمير إيناج لمناوأة السلطان، وشقَّ العصا بالعصيان، واستدعاء أخيه الملك محمد بن طغرل من فارس، وأحس السلطان بالتدبير، فوقع في التشويش والتشوير، فإن آتابك إيلدكز وأولاده كانوا بهمذان، وهم لا يظنون من أولئك بالإيذاء الإيذان، فأغذَّ في السير، واستعار في القدوم عليهم قادمة الطير، فلما اتصل بهم أفرخ روعه وأفرق، وأشرف ضوءُه وأشرق، وامتدَّ إيناج من الري متوجهًا مسارعًا إلى لقاء السلطان ومناجزته، قبل التقاء آتابك إيلدكز به ومحاجزته، فاتصل بإيناج عز الدين ستماز، وصاحب قزوين ألب أرغو في جموعٍ حاشدة، وحشودٍ جامعة، والملك محمد بن طغرل معهم وقلوبهم معه، وقد ضاق الفضاء بالعسكر فما وسعه، والسلطان في عرمرمه العرم، وجحفله الحفل.

فزحف الجيشان، ورجف الجاشان، وتحرك المجران، وتحرق الجمران، وكان اجتماعهما بنواحي الكرج، وكرب الحرب معوز الفرج، وكان السلطان قد اتهم الوزير بمداجاته، ومكاتبة إيناج ومناجاته، وكانوا حملوا السلطان على قتله، وحذروه من مكره وختله، فما سمع فيه مقالًا ولا رأى له اعتقالًا، بل وكل له في السر جماعة يُظهِرون أنهم في خدمته، ويظاهرون في حفظ حرمته، وكان في اهتمام نصرة الدين بهلوان، فقرر أمره على هدايا يهديها، وأربعين ألف دينار يؤديها، فأخذوا منه في المآل المال، وتركَّدوا فيه القيل والقال، فصرفوا المال في مصالح العسكر، وعاد الوزير إلى سعده الأزهر، وجده الأبهر، وقدم الحركة، يوم المعركة، ولما تواقف الجمعان، واجتمع الموقفان، حملت ميمنة إيناج على ميسرة السلطان وكسرتها، فوجد السلطان ووجم، وهجم عليه الهم بما هجم، لكنه ثبت في قلبه، وانتحى إيلدكز فحمل بأولاده وصحبه، وخفقوا على قلب إيناج وقلبه خافق، وهمه لوهمه مصافح مصافق، والطرد من ورائه، ورأيه في الطراد، وغاب في الغبار، وأضمرته دياجي الضمر الجياد، وأصابت وجه الوزير في هذه الوقعة ضربة سيف أذهبت عينه اليمنى، ولم يدرِ أنه بعد ذهاب ذهبه وعين نضاره بذهاب ناظر عينه يمنى، وحُمل إلى همذان في محفة ليتداوى، وشمت به عداته وعادت ضواريها عليه تتعاوى، فولى إيناج مدبرًا وأدبر موليًا، وخلى رحله ورحل متخليًا. وعاد السلطان إلى عادته في السلطنة واتسع ملكه، واتسق سلكه ودار فلكه، ودر فلكه، وتفرد زوج أمه آتابك إيلدكز بالأمر والنهي، والنشر والطي، والحسم والكي، والإثبات والنفي، فأدنى وأبعد، وأشقى وأسعد، وراقب الإضراب، وضرب الرقاب، وحابى الأعداء وعادى الأحباب.

ولما وضعت الحرب أوزارها، وجه السلطان إلى الري براياته، ووصل سراياه إلى إيناج لقطع سراياته، فقدموها وجبوا أعمالها، وجنوا أموالها، وجمعوا ذخائرها، وفرقوا أخايرها، وكان إيناج منهم بنجوة، وقد قنع من العيش بفجوة، وهو في حدود الدامغان، وما زال بها يستعطف ويستسعف، ويتوصل ويتوسل، إلى أن صلحت أسبابه واستتب صلحه، ونجحت آرابه وأربى نجحه، وقصروا رأيه على القناعة بالري، وتعوض برشده عن الغي، وحلَّت عنه جرباذقان وساوه، وعاودت معيشته وعيشته الطلاوة والحلاوة، ورحلوا إلى قزوين، فتحصن صاحبها في قلعة سرجهان، وعاين وعانى الامتحان والامتهان، ففرقوا العمال، وجمعوا الأموال، وأقاموا إلى أن دهم الشتاء بشتات الدهماء، ورحل البلاء بنزول البلاء، فإنهم لم يقيموا بالمكان ولم يتمكنوا من المقام، وفكوا عن البلدة عروة الازدحام، وسار السلطان نحو همذان، وآتابك إيلدكز إلى أذربيجان، ثم استقرت سلطنة أرسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، وعدم في عزه ونفاذ أمره الأشباه. وحكم عليه وعلى البلاد جميعها شمس الدين إيلدكز زوج أمه، وجرى في إقامة ناموس سلطانه على رسمه.

وكانت الوزارة مستمرة بشهاب الدين الثقة، وله من الناس لكرمه وعلو هممه المقة، إلى أن تُوفي بأصفهان، واستوزر بعده الوزير فخر الدين ابن الوزير المعين المختص، ولما تُوفي بهمذان بعد سنين استوزر جلال الدين بن القوام الدركزيني، وامتدت وزارته في الأيام الأرسلانية، ووفى بإحكام الأحكام السلطانية.

ذكر وفاة السلطان أرسلان في سنة ٥٧١ ووفاة آتابك إيلدكز قبله

قال — رحمه الله: كان السلطان قد تزوج بأخت فخر الدين رئيس همذان، فاتفق وفاة شمس الدين إيلدكز بنخجوان، وتمكن ابنه محمد المنعوت ببهلوان وهو أخو أرسلان من أمه، فأراد الاستبداد دونه بحكمه، وكان أرسلان مريضًا، فنُقل إلى دار زوجته بهمذان، وتُوفي بها، وقيل: إن أخاه بهلوان سقاه، وللحزم في بقائه ما أبقاه. وأجلس ولده طغرل الصغير، وشغل به السرير، ونفذت أوامره في الممالك، واضحة المسالك، واسعة المبارك، وما زال أمره مستقيمًا واستقامته مستمرة، وثنايا دولته عن مباسم السعود مفترة، إلى أن تُوفي بهلوان في أوائل سنة ٥٨٢، وتولى أخوه مظفر الدين قزل أرسلان بن إيلدكز المُلك، ونهج المسلك ونسق السلك، وطغرل قد شب وأرب، فوجد أمره مهجورًا، وعزه محجوبًا محجورًا، فأحب الانفراد، وأراد الاستبداد، فهرب ليلًا وانضم إليه جماعة من الأمراء البهلوانية، وبعثوه على التوحد بالعزة السلطانية، وكان سيئ التدبير، يُعاقب على التهم بالقتل والتدمير، وكانت البلهوانية قد أنجدوه، وساعدوه وأسعدوه. وأقام قزل أرسلان مرارًا فأقعدوه، فاتهمهم يومًا على ظنة أضرمت نار اشتطاطه، فقتلهم غيلة على بساطه، فنفرت منه القلوب، وتمكن قزل أرسلان، وتضعضع السلطان، واتهم وزيره عزيز الدين بن رضي الدين يومًا فقتله وأخاه صبرًا، وزاد في فتكه بخواصه كلما انكسر ولم يلفَ خيرًا، واغتال فخر الدين رئيس همذان وسمَّه، وسلَّط على كل مَن تقرب منه وهمَّه وهمه، وكلما تمكن أزعجه عمه قزل أرسلان، حتى وصل في سنة ٥٨٥ إلى الأمير حسن بن قفجاق، وتزوج بأخته، وجرى معه على حكم وقته، فنهض معه لينصره، ويُعَضِّده ويوزره. ووصل إلى مدينة أرمية فأغلقوا بابها دونه، والقفجاقية معه يسعدونه، فدخلوا المدينة واستباحوها ونهبوها، واجتاحوها وخربوها، وسير السلطان صلاح الدين من الشام رسله في الإصلاح بينه وبين قزل أرسلان، فدان له ولان، وكاد الصلح يتم، والخبر ينم، فأبى سوء الآراء استواء الآراب، وتستر الصواب بالحجاب، فعنَّ للسلطان أن يقصد قزل أرسلان بهمذان، إخمادًا لنيران الافتتان، فقبضه يوم قدومه واعتقله في بعض المعاقل، فتعفت آثار تلك الطوائل، وسكن الدهر، وقُضي الأمر، وضرب قزل أرسلان النواب الخمس، ووطن على الاستبداد بالسلطنة النفس، ولهى بالصفاء عن الكدر، وغفل عن القضاء والقدر، فوُجد ليلة من الليالي بهمذان مذبوحًا على فراشه، وقد يئس عاثر الملك به من انتعاشه، وكان بين حفاظه وحراسه، ولم يعلم من الذي أقدم على قطع رأسه، وذلك في شعبان سنة ٥٨٧.

وسار ابن أخيه نصرة الدين أبو بكر بن بهلوان إلى أذربيجان فملكها، وسار أخوه قتلغ إينانج بن بهلوان إلى طريق الري فسلكها وأدركها، وسعى بعض الأمراء في إخراج طغرل من محبسه، وأعاده من السلطنة إلى مجلسه، ومضى إلى دار الملك همذان، واستأنف الإمكان، واستجد العدل والإحسان، فجاء السلطان خوارزمشاه في سنة ٥٨٩ للتغلب على المملكة، فلقيه السلطان طغرل في المعركة، وخرق بفئة قليلة الصف الخوارزمي، وأظهر البأس الرستمي، فأحدقوا به ورموه، وأخذوا رأسه، وما ذب عنه أصحابه ولا حموه، وسيَّر رأسه إلى بغداد، واستولى السلطان خوارزمشاه على البلاد، وختمت الدولة السلجقية بطغرل، وكان افتتاحها بطغرل، وكانت مدة ملكها منذ وصل طغرل بك إلى بغداد إلى هذه الغاية ١٤٠ سنة، وكأنها أشبهت سنة، فسبحان الذي ملكه لا يزول، وحكمه لا يحول.

ذكر الوزراء المتولين

قال — رحمه الله: كانت الوزارة لجلال الدين بن القوام، فلما تُوفي وزَّر أخوه قوام الدين، ثم عزل واستوزر كمال الدين الزنجاني، المعروف بالتعجيلي، وبقي سنين وعُزل، ثم استوزر صدر الدين قاضي مراغة، ثم استقرت الوزارة بعد عزله على عزيز الدين بن الرضي، ذي الخلق والكرم المرضي، ثم جرى ما جرى من قتله، وآذن الملك بشتات شمله.

قال: وفي شهور سنة ٥٦٥ وُجد إيناج صاحب الري مقتولًا على سريره، ولم يُعلم كيف كان سبب تدميره، وأُضيف الفتك به إلى مماليكه، بتدبير الوزير وتشريكه، وكان وزير إيناج سعد الدين أسعد الأمثل، فاستوزره شمس الدين إيلدكز واستقل، وكان وزير إيلدكز من قبله مختار الدين.

قال: وتولى السلطان طغرل في الدولة الإمامية المستضية، وكانت ولاية المستضيء بأمر الله في ربيع الآخر سنة ٥٦٦، وانتقل إلى رحمه الله تعالى في آخر شوال ٥٧٥، وتولى الإمام الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بن المقتفي —رضي الله عنهم أجمعين.

قلت: وامتدت ولايته إلى آخر شهر رمضان سنة ٦٢٢، وتُوفي في هذا التاريخ، وتولى ولده الإمام الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد وتُوفي — رضي الله عنه — في رجب سنة ٦٢٣، وتولى ولده الإمام المستنصر بالله أبو جعفر منصور أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره.

قال الإمام عماد الدين — رحمه الله: وقد كنت أوثر أن أنهي هذا الكتاب إلى آخره بشرح حادثة كل عام، والانتهاء فيه إلى كل مرام، لكنه بغيبتي إلى الشام، وتباعدي عن معرفة صروف تلك الأيام، اقتصرتُ على ما عرفته من المُجمل، واستغنيت بها عن ذكر المُفَصَّل؛ ولأن السلطنة في تلك الأيام وهنت وهانت، وبانت أسباب اختلالها وظهرت أسرار وهائها وهانت، وما تمكن وزير من سيرة سارَّة، ومبرَّة بارَّة، حتى أُنَوِّه بذكره وأُنَبِّه، وفيما أنشأته من محاسن الأيام الناصرية كفاية، ولكل موفق إلى هداه هداية.

١  غافصه: أي: فاجأه وأخذه على غِرَّة. ا.ﻫ. (محيط للفيروزآبادي).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤