الفصل الثامن عشر

موسيقى في الخلاء لجورجونه (من حوالي ١٤٧٨م إلى ١٥١٠م)

figure
«صورة لجورجونه» في الجزء العاشر من مؤلفاته الكاملة، شتوتجارت، ص٢٢٠.
جورجونه (Giorgione) أحد كبار الرسامين من مدرسة البندقية. تتلمذ على يد جوفاني بيلليني (١٤٣٠–١٥١٦م) الذي علَّم جيله والأجيال التالية، وشارك في تأسيس الفن الحديث كله (بجانب تيسيان الذي تتلمذ عليه وعلى ليوناردو ومايكل أنجلو). كان أول من عرض الصور الزيتية الصغيرة في البندقية للاقتناء لا للكنائس، وكانت في الغالب ذات موضوعات غريبة موحية. وقد عجز كثير من معاصريه عن تفسير صور كالعاصفة التي يمكن أن تُوصَف بأنها أول المناظر الطبيعية المعبرة عن حال نفسية ومزاج متوتر في مواجهة العاصفة الرعدية.

يحيط الغموض بحياته، ولا نكاد نعرف عنه إلا أنه شارك الرسام كاتينا (١٤٨٠–١٥٣١م) سنة ١٥٠٦م في مرسم عَمِلا فيه معًا، تدل على هذا كتابة وُجِدت خلف لوحته «لاورا» المحفوظة في فيينا، وأنه قام سنة ١٥٠٨م بالاشتراك مع تيسيان بتنفيذ رسوم جدارية على واجهة مجمع التجار الألمان المقيمين في البندقية. وقد اندثرت هذه الرسوم (أو الفريسكات) ولم تبقَ منها سوى شذرات باهتة. والمهم أنه تعاون مع تيسيان (من حوالي ١٤٩٠م إلى ١٥٧٦م)، وأنه كان في تلك الفترة يفوقه أصالة. ومع ذلك يتعذَّر الحسم في هذه المسائل بسبب الغموض الذي يُحيط بفنه كما أحاط بحياته، وصعوبة توثيق الصور القليلة التي تُنْسَب إليه، ولم يثبت صحة أكثر من ست منها. ويزيد من تعقيد المشكلة أنه مات في شبابه عندما أُصِيب بالطاعون سنة ١٥١٠م، وأن بعض صوره قد أكملها تيسيان وسياستيانو ديل بيومبو اللذان تأثَّرا به تأثرًا عميقًا. ولا يزال الجدل مستمرًّا بين نُقاد الفن ومؤرخيه حول أصالة عدد من الصور المنسوبة إليه، والمتناثرة في كثير من المتاحف الأوروبية والأمريكية …

(١) دانتي جابرييل روسيتي (١٨٢٨–١٨٨٢م)

سبقت ترجمته مع صورة الربيع لبوتيتشيللي. أمَّا هذه القصيدة التي وصف فيها لوحة جورجونه «عزف الموسيقى في الخلاء»، فقد شاهدها أول مرة في خريف سنة ١٨٤٩م في متحف اللوفر، ثم كتب هذه القصيدة التي جعل عنوانها «لمشهد رعوي من البندقية لجورجونه»، وظهرت في الجزء الأول من أعماله الكاملة، لندن، ١٩٠٦م، ص٣٤٥.

«رعوية من البندقية لجورجونه»

أين الماء ليطفئ لهيب عذاب مغيب الشمس؟
لكن غطس إناؤك في الماء ببطء،
لا، بل مِل واسمع شهقة الموجة
المتردِّدة حين تلامس حافة الفراغ.
أنصت، إن وراء جميع الأعماق
يتمدَّد الحر — كالنائم — أخرس في المساء.
اليد تحاول الآن أن تلعب على وتر الكمان
الذي ينشج بالبكاء.
أصحاب الوجوه البنية توقفوا عن الغناء،
بعد أن صاروا من فرط السعادة تعساء.
وإلى أين تسرح نظراتها الآن،
بعد أن ترك الناي فمها الذي لم يزل مقطبًا،
بينما العشب الظليل يرطِّب جنبها العاري؟
دعك الآن! لا تقل لها شيئًا؛
حتى لا تنخرط في البكاء،
ولا تسمِّه أبدًا باسمه.
ليكن الزمن كما كان على الدوام؛
فالحياة — كالعهد بها — تقبل الخلود في هدوء
وسلام.

(٢) أدولف فريدريش فون شاك (Adolf Friedrich Von Schake) (١٨١٥–١٨٩٤م)

أديب ألماني وعالم في الآداب الشرقية والغربية. وُلد في بروسيفتس بالقرب من شقيرين ومات في روما. قام برحلات عديدة زار فيها مراكز الحضارة والفن الأوروبي في إيطاليا وإسبانيا وبلاد اليونان، واستقرَّ منذ سنة ١٨٥٥م في مدينة ميونيخ، ولا يزال المتحف الذي يحمل اسمه ويضم مجموعة الصور واللوحات التي جمعها في حياته من أجمل معالم هذه المدينة. له مؤلفات عن الآداب الفارسية والهندية والإسبانية، وترجمات شعرية عن هذه الآداب. نُشرت قصيدته التالية:

«صورة لجورجونه»

هو الذي رسمها! وهل يقدر على هذا
سوى جورجونه؟
عناقيد العنب المتدلية على أسوار الكَرْمة،
وأسراب الحصادين في حقل القمح
تعلن أن الربيع الأبدي يجاور الثلج الأبدي.

•••

في ظل الشجر الملتف الأخضر تحت الشرفة
يجلس الفارسان بعباءاتهما القطيفية الحمراء.
الأنسام الناعمة على إيقاع الأوتار،
تيَّمتهما حبًّا في أغانيهما العذبة الألحان.

•••

هل ترى الحسناوَين هنا بغير غطاء؟
لا تسألوا إن كان ما رسمه ابن كاستيلفرانكو العظيم١
في هذه اللوحة هو حب الأرض أم حب السماء!

•••

واقنعوا بنصيبكم من هذا الجمال البديع،
الذي ما برح يشع هنا منذ قرون على الجميع،
ويغمر زحام هذا العالم المقفر بالنور والصفاء.

(٣) بآت بريشبول (Beate Brechbühl)

وُلد الشاعر السويسري في «أوبلتجن» التابعة لاتحاد بيرن. تعلَّم في صباه جمع الحروف المطبعية، وقام بأسفار عديدة إلى تركيا وإيطاليا وبلاد اليونان، ونشر أكثر من مجموعة شعرية من بينها مجموعة تأثر فيها بالشاعر الإسباني الشهير رافائيل ألبرتي، وجعل عنوانها «الصور وأنا»، وخصَّصها لقصائد الصور. وقد ظهرت هذه المجموعة سنة ١٩٦٨م في مدينة زيوريخ، وتجد فيها هذه القصيدة التي لم يستوحِها من الأصل الذي لم يشاهده، بل من بطاقة مصوَّرة ظلَّ يحملها سنوات في جيبه وكأنه متحف متجوِّل!

«حفل موسيقي في الريف لجورجونه»

في حفل رائع
وضع جورجيو بارباريللي الناس في الطبيعة،
طلب منهم — عراةً ولابسين —
أن يعزفوا الموسيقى في حدائق الله،
تكلؤهم عينه التي تُفيض عليهم الصفاء والانسجام.
أنا لا أكاد أفكِّر في هذا عندما أسافر
من المدينة إلى قريتي،
وأقطع الشارع — وأنا أتوثب فرحًا —
في حوالي الساعة الحادية عشرة ليلًا،
إلى حيث يعيش أهلي وأتنفَّس رائحة بيتي.
تتناثر أفكاري، لا أتحكَّم فيها،
وتمتلئ عيناي بالبهجة والعطش.
هنالك أعبر القرية الهاجعة.
أشم رائحة الخنافس،
يحتد الهواء بالعشب الطازج،
والعيون الودودة في الليل،
وبعيدًا تبدو الغابة كدجاجة نائمة.
هنا تكون النجوم والسحب حلمًا،
وهنا تنطلق إلى الآفاق الرحبة،
وتضم الكلمات في لغة
لا تحتاج إلى تفسير.
وهنا لا يوجد ثَم مكان
لشعراء ينظِّمون قصائد مصابة بالربو،
ولا مكان لمن يلوون الأفكار،
ولا للأدباء الذين يقولون:
هنا يزدهر مجدي، وإلى هنا نجيء.
لا، هذا مكان المتواضعين
الذين يضعون آمالهم في الحياة وفي أنفسهم،٢
والذين يعزفون موسيقاهم هم
في مثل هذه الليالي.
أمشي في طرقات القرية الهاجعة في الليل،
لا أحد يعلم أني جئت،
لكن الأشجار، الهواء، الأصوات المعروفة
تسأل: «هل جئت؟»
وأقول: «جئت،
وها أنا ذا أملأ رئتي ودمي منكم.»
ويمينًا، وكأنها بالقرب مني،
تقف سلاسل جبال القرن
أشبه بعابر ليل يحمل نبوءة،
من خلفها جبال الألب السويسرية،
وبعيدًا تفوح من حولها رائحة النجوم،
وأخيرًا أذهب وأنام،
في بيتي.
١  نسبةً إلى بلدة كاستيلفرانكو التي وُلد بها الفنان بالقرب من مدينة تريفيزو.
٢  يلاحَظ أن الشاعر كتب هذَين السطرَين بالحروف المائلة تأكيدًا لمضمونها الحافل بالنقد الاجتماعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤