الفصل الرابع والعشرون

محاضرة في علم التشريح للدكتور تولب

لوحة للفنان رمبرانت فان رين (Rembrandt) (١٦٠٦–١٦٦٩م) رسمها حوالي سنة ١٦٣٢م، وهي محفوظة في متحف موريتسهويز، الهاج. ورمبرانت واحد من أعظم الفنانين في كل العصور، وأغزرهم إنتاجًا، وأقدرهم على تحليل النفس البشرية والتعبير عن خفاياها وهواجسها وهمومها. وُلد في مدينة ليدن غداة حصول هولندا على الاستقلال، وكان أبوه طحانًا. قضى حوالي العام في جامعة ليدن، وتعلم على يدَي رسام يدعى «سواننبورج»، ثم عامًا آخر على يدَي الرسام بيتر لاستمان (من سنة ١٦٢٤م إلى سنة ١٦٢٥م)، الذي تعرَّف عن طريقه على فن الباروك المبكر، كما تأثر بكلٍّ من كارافاجو (١٥٧٣–١٦١٠م) وإلزهَيمَر (١٥٧٨–١٦١٠م) ويبدو أنه نضج في سن مبكرة بحيث تتلمذ عليه الرسام «دو» (١٦١٣–١٦٧٥م) الذي اشتهر برسم مشاهد الحياة اليومية وأثرى من ورائها (بين سنتَي ١٦٢٨ و١٦٣١م)، عندما انتقل رمبرانت إلى أمستردام واستقرَّ فيها.

ترجع أولى لوحاته المعروفة إلى سنة ١٦٢٦م، وهي تشهد على اهتمامه بالضوء وتعمقه في أسرار الشخصيات التي رسمها، واختار معظمها من العلماء، مثل لوحتَيه عن «نزاع العلماء»، و«عالم في حجرة عالية السقف». وقد لفت إليه الأنظار بعد انتقاله إلى أمستردام بهذه اللوحة عن «درس التشريح للدكتور تولب» (١٦٣٢م)، التي رسمها بتكليف من اتحاد الجراحين، وهي محفوظة في متحف ماوريتزهويز في مدينة الهاج. وذاعت شهرته بعد الانتهاء من هذه اللوحة كرسام دقيق التعبير عن الوجه الإنساني (البورتريه). وبدأت التكليفات تنهال عليه من شخصيات المجتمع المرموقة (مارتن داي وزوجته، جان بيليكورن مع ابنه ومع زوجته وابنته)، بجانب لوحتَيه عن رجل مجهول والمرأة ذات المروحة.

تزوَّج سنة ١٦٣٤م من «ساسكيا فان إيلنبورخ» التي أتاحت له رخاء العيش ووثَّقت علاقته بالطبقة الراقية، فسجل هذه النعم في أكثر من لوحة رسمها لنفسه معها أو لها وحدها. ولكن الزوجة المحبوبة لم تلبث أن ماتت سنة ١٦٤٢م وتركته مع ولده الوحيد منها «تيتوس» الذي خلَّده في أكثر من صورة. وفي السنة نفسها رسم لوحته الشهيرة التي عُرفت باسم «الحراسة الليلية»، التي جمع فيها عددًا من وجوه المتطوعين للدفاع عن أمستردام (كتيبة الكابتن فرانز كوك، متحف ريجكزموس في العاصمة الهولندية).

وقلَّ الطلب عليه ابتداءً من سنة ١٦٤٢م، حتى أحكم الإفلاس قبضته الخانقة عليه سنة ١٦٥٦م، وأنقذته هينريكه ستوفلس — التي وظَّفته عندها، وعاش وابنه معها منذ سنة ١٦٦٠م — من ورطته مع الدائنين. وفي هذه الفترة من حياته اتجه إلى رسم الموضوعات المستوحاة من الكتاب المقدس (مثل لوحته التالية عن داود أمام الملك شئول)، وتصوير المناظر الطبيعية ودراسة وجوه اليهود الذين كان يعيش وسطهم، ومن أهمها روائعه التي تتجلَّى فيها قدرته على سبر أغوار شخصياته مثل التاجر اليهودي (١٦٥٠م)، واليهودي العجوز على كرسي مريح (١٦٥٢م).

أمَّا عن لوحاته الشهيرة التي صوَّر فيها نفسه بين سنتَي ١٦٢٩م وسنة ١٦٦٩م — وهي تبلغ نحو الستين لوحة — فتُسجل كل مراحل حياته ولحظات معاناته بتعمق نفسي لا يجاريه فيه فنان آخر، وراحت العروض تنهال عليه في أواخر عمره من جهات عديدة، فأنجز مجموعةً من أهم صوره مثل «درس التشريح للدكتور دايمان» (١٦٥٦م)، و«مؤامرة الباتافيين» (١٦٦١م لقاعة مجلس المدينة، وهي محفوظة في المتحف الأهلي باستوكهولم)، و«صناع اتحاد النساجين» التي تُعد من أعظم مجموعات (البورتريه) في تاريخ الفن (متحف ريجكس بأمستردام)، و«شمل الأسرة» التي أثَّرت جميعها على معاصره فرانز هالز في شيخوخته البائسة، وعلى أجيال الفنانين من بعده تأثيرًا لن يخمد أو يموت.

(١) مانويل ماتشادو (١٨٧٤–١٩٤٧م)

انظر ترجمته مع لوحة «الربيع» لبوتيتشيللي.

«رمبرانت، محاضرة في علم التشريح»

أعداء النور، الذين يسكنون الأركان والأحشاء،
يظهرون على السطح أول مرة؛
رؤًى عاتية ورؤًى ناصعة
عن الحقيقة المخيفة، وصور من هول المحرقة.
ألوان بلون الورد، والعاج، والحجر،
قرمزية دافئة وصفراء ناصعة صافية،
تركت أضرحة القديسين الذهبية،
لتتحوَّل هنا إلى دم وشحوب جثث وصديد.
هكذا كان رمبرانت، الذي بلغت شهرته العالمين،
ريشة وحشية راجفة من شدة التوتر،
فنان، جُنَّ كثيرًا، لكن جبار.
وهكذا قهر رمبرانت النور والظلام.
الألم تلقَّى أول صوره،
والبؤس تلقَّى رسامه في روعة وكبرياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤