مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القديم الأول، الذي لا يزول ملكه ولا يتحول، خالق الخلايق، وعالم الذرات بالحقايق، مُفني الأمم، ومحي الرمم، ومعيد النعم. ومبيد النقم، وكاشف الغمم، وصاحب الجود والكرم، لا إله إلا هو، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله تعالى عمَّا يشركون، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين، المنزَّل عليه نبأ القرون الأولين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ما تعاقبت الليالي والأيام، وتداولت السنين والأعوام.

وبعد: فيقول الفقير عبد الرحمن بن حسن الجبرتي الحنفي. غفر الله له ولوالديه، وأحسن إليهما وإليه: إني كنت سوَّدت أوراقًا في حوادث آخر القرن الثاني عشر وما يليه، وأوايل الثالث عشر الذي نحن فيه. جمعت فيها بعض الوقايع والأمور شاهدناها إجمالية، وأخرى محققة تفصيلية، وغالبها محن أدركناها، وأمور شاهدناها، واستطردت في ضمن ذلك سوابق سمعتها، ومن أفواه الشِّيَخَة تلقيتها، وبعض تراجم الأعيان المشهورين، من الأمراء والعلماء المعتبرين، وذكر لُمع من أخبارهم وأحوالهم، وبعض تواريخ مواليدهم ووفاتهم.

فأحببت جمع شملها، وتقييد شواردها في أوراق متسقة النظام مرتبة على السنين والأعوام؛ ليسهل على الطالب النبيه المراجعة، ويستفيد ما يرومه من المنفعة، ويعتبر المطلع على الخطوب الماضية، فيتأسَّى إذا لحقه مصاب، ويتذكر بحوادث الدهر، إنما يتذكر أولو الألباب، فإنها حوادث غريبة في بابها متنوعة في عجايبها، وسميته «عجايب الآثار في التراجم والأخبار» وإنا لنرجو ممن اطلع عليه، وحل بمحل القبول لديه أن لا ينسانا من صالح دعواته، وأن يغضي عما عثر عليه من هفواته.

اعلم أن التاريخ علم يُبحث فيه عن معرفة أحوال الطوايف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنايعهم وأنسابهم ووفاتهم، وموضوعه: أحوال الأشخاص الماضية من الأنبيا والأوليا والعلما والحكما والشعرا والملوك والسلاطين وغيرهم، والغرض منه: الوقوف على الأحوال الماضية من حيث هي، وكيف كانت؟ وفايدتُه: العبرة بتلك الأحوال، والتنصُّح بها، وحصول ملكة التجارب بالوقوف على تقلبات الزمن؛ ليحترز العاقل عن مثل أحوال الهالكين من الأمم المذكورة السالفين، ويستجلب خيار أفعالهم، ويتجنب سوء أقوالهم، ويزهد في الفاني، ويجتهد في طلب الباقي.

وأول واضع له فى الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك حين كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر: «إنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندري على أيها نعمل، فقد قرأنا صكًّا محله شعبان فما ندري أيّ الشعبانين، أهو الماضي، أم القابل؟»، وقيل: دُفع لعمر صك محله شعبان فقال: «أي شعبان هذا، هو الذي نحن فيه أو الذي هو آت؟». ثم جمع وجوه الصحابة — رضي الله عنهم — وقال: «إن الأموال قد كثرت، وما قسمناه غير مُوقت، فكيف التوصل إلى ما يضبط به ذلك؟». فقال له الهُرمُزان — وهو ملك الأهواز، وقد أُسر عند فتوح فارس وحمل إلى عمر وأسلم على يديه —: (إن للعجم حسابًا يسمونه «ماه روز»، ويسندونه إلى من غلب عليهم من الأكاسرة) فعربوا لفظة «ماه روز» بـ «مورخ»، ومصدره «التاريخ»، واستعملوه في وجوه (التصريف)، ثم شرح لهم الهرمزان كيفية استعمال ذلك، فقال لهم عمر: «صنفوا للناس تاريخًا يتعاملون عليه وتصير أوقاتهم فيما يتعاطونه من المعاملات مضبوطة». فقال له بعض من حضر من مسلمي اليهود: «لنا حسابًا مثله مسند إلى الإسكندر» فما ارتضاه الآخرون لما فيه من الطول، وقال قوم: نكتب على تاريخ الفرس. قيل إن تواريخهم غير مسندة إلى مبدأ معين، بل كلما قام منهم ملك ابتدأ التاريخ من لدن قيامه وطرحوا ما قبله.

فاتفقوا على أن يجعلوا تاريخ دولة الإسلام من لدن هجرة النبي لأن وقت الهجرة لم يختلف فيه أحد بخلاف وقت ولادته ووقت مبعثه .

وكان للعرب في القديم من الزمان بأرض اليمن والحجاز تواريخ يتعارفون بها خلفًا عن سلف إلى زمان الهجرة. فلما هاجر من مكة إلى المدينة، وظهر الإسلام، وعلت كلمة الله تعالى اتخذت هجرته مبدأ لتاريخها، وسُميت كل سنة باسم الحادثة التي وقعت فيها، وتدرج ذلك إلى سنة سبعة عشر من الهجرة في زمن عمر، فكان اسم السنة الأولى: سنة الإذن بالرحيل من مكة إلى المدينة، والثانية: سنة الأمر بالقتال … إلى آخره.

وقال أصحاب التواريخ: «إن العرب في الجاهلية كانت تستعمل شهور الأهلة، وتقصد مكة للحج، وكان حجهم وقت عاشر الحجة، كما رسمه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام». لكن لما كان لا يقع في فصل واحد من فصول السنة، بل يختلف موقعه منها بسبب الفاضل ما بين السنة الشمسية والقمرية، ووقوع أيام الحج في الصيف تارة، وفي الشتا أخرى، وكذا في الفصلين الآخرين، أرادوا أن يقع حجهم في زمان واحد لا يتغير، وهو وقت إدراك الفواكه والغلال، واعتدال الزمن في الحر والبرد، ويسهل عليهم السفر في البر، ويتجروا بما معهم من البضايع والأرزاق مع قضاء مناسكهم، فشكوا ذلك إلى أميرهم وخطيبهم؛ فقام في الموسم عند إقبال العرب من كل مكان فخطب، ثم قال: «أنا أنشأت لكم في هذه السنة شهرًا أزيده، فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا، وكذلك أفعل في كل ثلاث سنين، أو أقل حسبما يقتضيه حساب وضعته ليأتي حجكم وقت إدراك الفواكه والغلال فتقصدوننا بما معكم منها». فوافقته العرب على ذلك ومضت إلى سبيلها، فنسأ المحرم وجعله كبيسًا، وأخَّر المحرم إلى صفر، وصفر إلى ربيع الأول، وهكذا؛ فوقع الحج في السنة الثانية، في عاشر المحرم، وهو ذو الحجة عندهم، وآخر السنة وقع في السنة محرمان: الأول رأس السنة والآخر في النسيء، وعدة الشهور ثلاثة عشر، وبعد انقضاء سنتين أو ثلاثة، وانتهاء نوبة الكبيس، أي الشهر الذي كان يقع فيه الحج، وانتقاله إلى الشهر الذي بعده، قام فيهم خطيبًا وتكلم بما أراد، ثم قال: «إنا جعلنا الشهر الفلاني من السنة الفلانية الداخلة للشهر الذي بعده».

ولهذا فُسر النسيء بالتأخير كما فُسر بالزيادة، وكانوا يديرون النسيء على جميع شهور السنة بالنوبة، حتى يكون لهم مثلًا في سنة محرمان، وفي أخرى صفران، ومثل هذا بقية الشهور. فإذا آلت النوبة إلى حد الشهر المحرم قام لهم خطيبًا فينبيهم أن هذه السنة تكرر فيها اسم الشهر الحرام، فيحرم عليهم واحدًا منها بحسب رأيه على مقتضى مصلحتهم.

فلما انتهت النوبة في أيام النبي في ذي الحجة، وتم دور النسيء على جميع الشهور كانت في تلك السنة حجة الوداع، وهي السنة العاشرة من الهجرة، لموافقة الحج فيها عاشر الحجة، ولهذا لم يحج في السنة التاسعة حين حج أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — بالناس لوقوعه في عاشر ذي القعدة.

فلما حج حجة الوداع خطب وأمر الناس بما يشاء الله تعالى، ومن جملته: «إلا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» يعني رجوع الحج إلى الموضع الأول كما كان في زمن إبراهيم صلوات الله تعالى عليه. ثم تلا قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ومنع العرب من هذا الحساب، وأمر بقطعه والاستمرار بوقوع الحج في أي زمان أتى من فصول السنة الشمسية. فصارت بوقوع الحج بسنينهم دايرة في الفصول الأربع، والحج واقع في كل زمان منها كما كان في زمن إبراهيم عليه السلام.

ثم كونُ حجة الصديق واقعة في القعدة فهو قول طايفة من العلماء، وقال آخرون: بل وقعت حجته أيضًا في ميقاتها من ذي الحجة، وقد رُوي في السُّنَّة ما على ذلك، والله أعلم بالحقايق.

ولما كان علم التاريخ علمًا شريفًا فيه العظة والاعتبار، وبه يقيس العاقل نفسه على من مضى من أمثاله في هذه الدار، وقد قص الله تعالى أخبار الأمم السالفة في أم الكتاب فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ، وجاء في أحاديث سيد المرسلين كثير من أخبار الأمم الماضين، كحديثه عن بني إسراييل، وما غيروه من التوراة والإنجيل، وغير ذلك من أخبار العرب والعجم، مما يفضي لمتأمله العجب، وقال الشافعي — رضي الله عنه: «من عَلِمَ التاريخ زاد عقله»، وقد قيل شعر:

إذا عرف الإنسان أخبار من مضى
توهمته قد عاش من أول العمر
وتحسبه قد عاش آخر دهره
إلى الحشر إن أبقى الجميل من الذكر
فكن عالمًا أخبار من عاش وانقضى
وكن ذا نوال واغتنم آخر الدهر

ولم تزل الأمم الماضية من حين أوجد الله هذا النوع الإنساني، تعتني بتدوينه سلفًا عن سلف، وخلفًا من بعد خلف، إلى أن نبذه أهل عصرنا وأغفلوه، وتركوه وأهملوه، وعدُّوه من شغل البطالين، وقالوا أساطير الأولين، ولعمري إنهم لمعذورون، وبالأهم مشتغلون، فلا يرضون لأقلامهم المتعبة في مثل هذه المنقبة، فإن الزمان قد انعكست أحواله، وتقلصت ظلاله، وانخرمت قواعده في الحساب، فلا تضبط وقايعه في دفتر ولا كتاب، وإشغال الوقت في غير فايدة ضياع، وما مضى وفات ليس له استرجاع، إلا أن يكون مثل الحقير منزويًا في زوايا الخمول والإهمال منجمعًا عما شُغلوا به من الأشغال، فيشغل نفسه في أوقات من خلواته، ويُسلِّي وحدته بعد سيآت الدهر وحسناته. شعر:

لو بال الدهر في قارورة
بان الذي يشكوه للمتطبب

وفن التاريخ علم يندرج فيه علوم كثيرة، لولاه ما ثبتت أصولها، ولا تشعبت فروعها، منها: طبقات المناوي والقراء، والمفسرين والمحدثين، وسير الصحابة والتابعين، وطبقات المجتهدين، وطبقات النحاة والحكماء والأطباء، وأخبار الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — وأخبار المغازي، وحكايات الصالحين، ومسامرة الملوك من القصص والأخبار والمواعظ والعبر والأمثال، وغرايب الأقاليم وعجايب البلدان. ومنه كتب المحاضرات ومفاكهة الخلفاء، وسلوان المطاع، ومحاضرات الراغب.

وأما الكتب المصنفة فيه فكثيرة جدًّا، ذكر منها في «مفتاح السعادة» ألفًا وثلاثماية كتاب، قال في «ترتيب العلوم» — وهذا بحسب إدراكه واستقصايه — وإلا فهي تزيد على ذلك؛ لأنه ما أُلِّفَ في فن من الفنون مثل ما أُلِّفَ في التواريخ، وذلك لانجذاب الطبع إليها، والتطلع على الأمور والمغيبات، ولكثرة رغبة السلاطين لزيادة اعتنايهم بحب التطلع على سير من تقدمهم من الملوك، مع ما لهم من الأحوال والسياسات … وغير ذلك. فمن الكتب المصنفة فيه «تاريخ ابن كثير» في عدة مجلدات وهو القايل شعرًا:

تمر بنا الأيامُ تترى وإنما
نُساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عايد صفو الشباب الذي مضى
ولا زايلٌ هذا المشيبُ المكَدَّرُ

و«تاريخ الطبري»، هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، مات سنة ثلاثماية وعشر ببغداد، وتاريخ ابن الأثير الجزري المسمى بـ «الكامل» ابتدا فيه من أول الزمان إلى أواخر سنة ثمانٍ وعشرين وستماية.

وله كتاب «أخبار الصحابة» في ستة مجلدات، و«تاريخ ابن الجوزي» وله «المنتظم في تواريخ الأمم»، و«مرآة الزمان» لسبط ابن الجوزي في أربعين مجلدًا، وتاريخ ابن خلكان المسمى: «وفيات الأعيان وأنبا أبناء الزمان» وتواريخ المسعودي، «أخبار الزمان» و«مروج الذهب».

ومِن أَجَلِّ التواريخ: تواريخ الذهبي الكبير والأوسط المسمى: «العبر» والصغير المسمى: «دول الإسلام»، وتواريخ السمعاني، ومنها: «ذيل تاريخ بغداد» لأبي بكر بن الخطيب نحو خمسة عشر مجلدًا، و«تاريخ مرو» يزيد على عشرين مجلدًا، و«الأنساب» في نحو ثماني مجلدات، وتواريخ العلامة ابن حجر العسقلاني، وتاريخ الصفدي، وتواريخ السيوطي، وتاريخ الحافظ ابن عساكر في سبعةٍ وخمسين مجلدًا، وتاريخ اليافعي، وبستان التواريخ ست مجلدات، وتواريخ بغداد، وتواريخ حلب، وتواريخ «أصبهان» للحافظ أبي نعيم، وتاريخ بلخ، وتاريخ الأندلس، والإحاطة في أخبار غرناطة، وتاريخ اليمن، وتاريخ مكة، وتواريخ الشام، وتاريخ المدينة المنورة، وتواريخ الحافظ المقريزي، وهو الكبير المقفى، والسلوك في دول الملوك، والمواعظ والاعتبار في الخطط والآثار … وغير ذلك.

ونقل في مؤلفاته أسماء تواريخ لم أسمع بأسمايها في غير كتبه مثل تاريخ ابن أبي طي، والمسبحي، وابن المامون، وابن زولاق، والقضاعي.

ومن التواريخ: تاريخ العلامة العيني في أربعين مجلدًا، رأيت منه بعض مجلدات بخطه، وهي ضخمة في قالب الكامل، ومنها تاريخ الحافظ السخاوي: «الضوء اللامع في أهل القرن التاسع» رتبه على حروف المعجم عدة مجلدات، وتاريخ العلامة ابن خلدون في ثماني مجلدات ضخام، ومقدمته مجلد على حدته، من اطلع عليه رأى بحرًا متلاطمًا بالعلوم مشحونًا بنفايس جواهر المنطوق والمفهوم، وتاريخ ابن دقماق، وكتب التواريخ أكثر من أن تحصى، وذكر المسعودي جملة كبيرة منها، وتاريخه لغاية سنة ثلاث وثلاثين وثلثماية، فما ظنك بعد ذلك.

قلت: وهذه صارت أسماء من غير مسميات؛ فإنا لم نرَ ذلك كله، إلا بعض أجزاء مُدشتة بقيت في بعض خزاين كتب الأوقاف بالمدارس، مما تداولته أيدي الصَّحافين وباعها القَوَمَة والمباشرون، ونُقلت إلى بلاد المغرب والسودان. ثم ذهبت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم.

ولما عزمت على جمع ما كنتُ سوَّدْتُه أردت أن أوصله بشيء قبله، فلم أجد بعد البحث والتفتيش إلا بعض كراريس سوَّدَها بعض العامة من الأجناد، ركيكة التركيب، مختلة التهذيب والترتيب، وقد اعتراها النقص من مواضع في خلال بعض الوقايع، وكنت ظفرت بتاريخ من تلك الفروع، لكنه على نسق بالجملة مطبوع، لشخص يقال له: أحمد جلبي بن عبد الغني، مبتديًا فيه من وقت تملك بني عثمان للديار المصرية، وينتهي كغيره ممن ذكرنا إلى خمسين وماية وألف هجرية. ثم إن ذلك الكتاب استعاره بعض الأصحاب، وزلت به القدم، ووقع في صندوق العدم، ومن ذلك الوقت إلى وقتنا هذا لم يتقيد أحدٌ بتقييد، ولم يسطر في هذا الشان شيًّا يفيد، فرجعنا إلى النقل من أفواه الشيخة المسنين، وصكوك دفاتر الكتبة والمباشرين، وما انتُقش على أحجار ترب المقبورين، وذلك من أول القرن إلى السبعين، وما بعدها إلى التسعين، أمور شاهدناها، ثم نسيناها وتذكرناها، ومنها إلى وقتنا أمور تعقلناها وسطرناها، إلى أن تم ما قصدنا بأي وجه كان، وانتظم ما أردنا استطراده من وقتنا إلى ذلك الأوان.

وسنورد — إن شاء الله تعالى — ما ندركه من الوقايع بحسب الإمكان، والخلو من الموانع، إلى أن يأتي أمر الله، وإن مردنا إلى الله، ولم أقصد بجمعه خدمة ذي جاه كبير، أو طاعة وزير أو أمير، ولم أداهن فيه دولة بنفاق، أو مدح أو ذم مباين للأخلاق؛ لميل نفساني أو غرض جسماني.

وأنا أستغفر الله من وصفي طريقًا لم أسلكه، وتجارتي براس مال لم أملكه.

شعر:

كَمَنْ يَحْدُو وَلَيْسَ لَهُ بَعِيرُ
وَمَنْ يَرْعَى وَلَيْسَ لَهُ سَوَامُ
وَمَنْ يَسْقِي وَقَهْوَتُهُ سَرَابٌ
وَمَنْ يَدْعُو وَلَيْسَ لَهُ طَعَامُ

هذا مع اعترافي بقصور الباع وفتور الطباع في قوانين المعاني الغريبة، ودواوين المتاني الأدبية.

ما لي وللأمر الذي قلدته
مال الذباب وطعمة العنقاء
أبكي لعجزي، وهو يبكي ذله
شتان بين بكائه وبكائي

اعلم أن الله تعالى لما خلق الأرض ودحاها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، وبث فيها من كل دابة وقدر أقواتها، أحوج بعض الناس إلى بعض في ترتيب معايشهم ومآكلهم، وتحصيل ملابسهم ومساكنهم؛ لأنهم ليسوا كساير الحيوانات التي تُحصِّلُ ما تحتاج إليه بغير صنعة، فإن الله تعالى خلق الإنسان ضعيفًا لا يستقل وحده بأمر معاشه؛ لاحتياجه إلى غذاء ومسكن ولباس وسلاح، فجعلهم الله تعالى يتعاضدون ويتعاونون في تحصيلها وترتيبها، بأن يزرع هذا لذاك، ويخبز ذلك لهذا، وعلى هذا القياس تتم ساير أمورهم ومصالحهم، وركَز في نفوسهم الظلم والعدل.

ثم مست الحاجة بينهم إلى سايس عدل، وملك عالم، يضع بينهم ميزانًا للعدالة وقانونًا للسياسة، توزن به حركاتهم وسكناتهم، وترجع إليه طاعتهم ومعاملاتهم، فأنزل الله كتابه بالحق وميزانًا بالعدل، كما قال تعالى: اللهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ. قال علماء التفسير: المراد بالكتاب والميزان العلم والعدل، وكانت مباشرة هذا الأمر من الله بنفسه من غير واسطة وسبب. على خلاف ترتيب المملكة، وقانون الحكمة، فاستخلف فيها من الآدميين خلايف، ووضع في قلوبهم العلم والعدل؛ ليحكموا بهما بين الناس، حتى يصدر تدبيرهم عن دين مشروع، وتجتمع كلمتهم على رأي متبوع، ولو تنازعوا في وضع الشريعة؛ لفسد نظامهم، واختل معاشهم.

فمعنى الخلافة: هو أن ينوب أحد مناب آخر في التصرف، واقفًا على حدود أوامره ونواهيه، وأما معنى العدالة: فهي خلق في النفس، أو صفة في الذات تقتضي المساواة؛ لأنها أكمل الفضايل، لشمول أثرها وعموم منفعتها كل شيء، وإنما يسمى الإنسان عادلًا لما وهبه الله قسطًا من عدله، وجعله سببًا وواسطة لإيصال فيض فضله، واستخلفه في أرضه بهذه الصفة حتى يحكم بين الناس بالحق والعدل، كما قال تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ، وخلايف الله هم القايمون بالقسط والعدالة في طريق الاستقامة، وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.

والعدالة تابعة للعلم بأوساط الأمور، المعبر عنها في الشريعة بالصراط المستقيم، وقوله تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، إشارة إلى أن العدالة الحقيقية ليست إلا لله تعالى، فهو العادل الحقيقي الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ووضع كل شيء على مقتضى علمه الكامل وعدله الشامل، وقوله : «بالعدل قامت السموات والأرض»، إشارةً إلى عدل الله تعالى الذي جعل لكل شيء قدرًا، لو فرض زايدًا عليه، أو ناقصًا عنه، لم ينتظم الوجود على هذا النظام بهذا التمام والكمال.

تتمة عليها مدار هذا الباب، والله الهادي إلى طريق الصواب

أصناف العدل من الخلايق خمسة، رفع الله بعضهم فوق بعض درجات، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ:
  • الأول: الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — فهم أولياء الأمة وعُمُد الدين، ومعادن حكم الكتاب، وأمناء الله في خلقه، وهم السرُج المنيرة على سبل الهدى، وحملة الأمانة عن الله إلى خلقه بالهداية، بعثهم رسلًا إلى قومهم، وأنزل معهم الكتاب والميزان، ولا يتعدون حدود ما أنزل الله إليهم من الأوامر والزواجر، إرشادًا وهداية لهم، حتى يقوم الناس بالقسط والحق، ويخرجونهم من ظلمات الكفر والطغيان إلى نور اليقظة والإيمان، وهم سبب نجاتهم من دركات جهنم إلى درجات الجِنان، وميزان عدالة الأنبياء — عليهم الصلاة والسلام — الذين وصاهم الله بإقامته في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا.

    فكل أمر من أمور الخلايق دنيا وأخرى، عاجلًا وآجلًا، قولًا وفعلًا، حركةً وسكونًا، جارٍ على نهج العدالة ما دام موزونًا بهذا الميزان، ومنحرف عنها بقدر انحرافه عنه، ولا تصح الإقامة بالعدالة إلا بالعلم، وهو اتباع أحكام الكتاب والسنة.

  • الثاني: العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، فهم فهموا مقامات القدوة من الأنبياء، وإن لم يعطوا درجاتهم، واقتدوا بهداهم، واقتفوا آثارهم؛ إذ هم أحباب الله وصفوته من خلقه، ومشرق نور حكمته. فصدقوا بما أتوا به، وساروا على سبيلهم، وأيدوا دعوتهم، ونشروا حكمتهم كشفًا وفهمًا، ذوقًا وتحقيقًا، إيمانًا وعلمًا بكامل المتابعة لهم ظاهرًا وباطنًا، فلا يزالون مواظبين على تمهيد قواعد العدل، وإظهار الحق، برفع منار الشرع، وإقامة أعلام الهدى والإسلام، وإحكام مباني التقوى برعاية الأحوط في الفتوى، تزهدًا للرخص؛ لأنهم أمناء الله في العالم، وخلاصة بني آدم، مخلصون في مقام العبودية، مجتهدون في اتباع أحكام الشريعة، من باب الحبيب لا يبرحون، ومن خشية ربهم مشفقون، مقبلون إلى الله تعالى بطهارة الأسرار، وطايرون إليه بأجنحة العلم والأنوار، هم أبطال ميادين العظمة، وبلابل بساتين العلم والمكالمة، أُولَـٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، وتلذذوا بنعيم المشاهدة، ولهم عند ربهم ما يشتهون.

    وما ظهر في هذا الزمان من الاختلال في حال البعض من حب الجاه والمال والرياسة والمنصب والحسد والحقد، لا يقدح في حال الجميع؛ لأنه لا يخلو الزمان من محقيهم، وإن كثر المبطلون، ولكنهم أخفياء مستورون تحت ثياب الخمول، لا تكشف عن حالهم يد الغيرة الإلهية والحكمة الأزلية، وهم آحاد الأكوان، وأفراد الزمان، وخلفاء الرحمن، وهم مصابيح الغيوب، مفاتيح أقفال القلوب، وهم خلاصة خاصة الله من خلقه، وما برحوا أبدًا في مقعد صدقه، بهم يهتدي كل حيران، ويرتوي كل ظمآن؛ وذلك أن مطلع شمس مشارق أنوارهم مقتبس من مشكاة النبوة المصطفوية، ومعدن شجرة أسرارهم مؤيد بالكتاب والسنة، لا أحصي ثناءً عليهم، أفض اللهم علينا مما لديهم.

  • الثالث: الملوك وولاة الأمور، يراعون العدل والإنصاف بين الناس والرعايا، توصلًا إلى نظام المملكة، وتوسلًا إلى قِوام السلطنة؛ لسلامة الناس في أموالهم وأبدانهم، وعمارة بلدانهم، لولا قهرهم وسطوتهم؛ لتسلط القوي على الضعيف، والدني على الشريف.
    فرأس المملكة وأركانها، وثبات أحوال الأمة وبنيانها: العدل والإنصاف، سواء كانت الدولة إسلامية أو غير إسلامية، فهما أساس كل مملكة، وبنيان كل سعادة ومكرمة. فإن الله تعالى أمر بالعدل، ولم يكتفِ به حتى أضاف إليه الإحسان، فقال تعالى: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ لأن بالعدل ثبات الأشياء ودوامها، وبالجور والظلم خرابها وزوالها، فإن الطباع البشرية مجبولة على حب الانتصاف من الخصوم، وعدم الإنصاف لهم، والظلم والجور كامن في النفوس لا يظهر إلا بالقدرة، كما قيل:
    والظلم من شيم النفوس فإن تجد
    ذا عفة فلعله لا يظلم

    فلولا قانون السياسة وميزان العدالة، لم يقدر مصلٍّ على صلاته، ولا عالم على نشر علمه، ولا تاجر على سفره، ولله در عبد الله بن المبارك حيث قال:

    لولا الخلافة ما قامت لنا سبلُ
    وكان أضعفنا نهبًا لأقوانا

    فإن قيل: فما حد الملك العادل؟ قلنا: هو ما قال العلماء بالله: «من عدل بين العباد، وتحذر عن الجور والفساد» حسبما ذكره رضيُّ الصوفي في كتابه المسمى: «قلادة الأرواح وسعادة الأفراح» عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة قيام ليلها وصيام نهارها»، وفي حديث آخر: «والذي نفس محمد بيده، إنه ليُرفع للملك العادل إلى السماء مثلُ عمل الرعية، وكل صلاة يصليها تعدل سبعين ألف صلاة» وكأن الملك العادل قد عبد الله بعبادة كل عابد، وقام له بشكر كل شاكر، فمن لم يعرف قدر هذه النعمة الكبرى، والسعادة العظمى، واشتغل بظلمه وهواه، يُخاف عليه بأن يجعله الله من جملة أعدايه، وتعرض إلى أشد العذاب، كما روي عن رسول الله أنه قال: «إن أحب الناس إلى الله تعالى يوم القيامة، وأقربهم منه: إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله تعالى وأشدهم عذابًا يوم القيامة: إمام جاير». فمن عدل في حكمه وكف عن ظلمه، نصره الحق وأطاعه الخلق، وصفت له النعماء، وأقبلت عليه الدنيا، فتَهَنَّأ بالعيش، واستغنى عن الجيش، وملك القلوب، وأمن الحروب، وصارت طاعته فرضًا، وظلت رعيته جندًا؛ لأن الله تعالى ما خلق شيًّا أحلى مذاقًا من العدل، ولا أروح إلى القلوب من الإنصاف، ولا أمرَّ من الجور، ولا أشنع من الظلم.

    فالواجب على الملك وعلى ولاة الأمور أن لا يقطع في باب العدل إلا بالكتاب والسنة؛ لأنه يتصرف في مُلك الله، وعباد الله بشريعة نبيه ورسوله، نيابة عن تلك الحضرة، ومُسْتَخْلَفًا عن ذلك الجناب المقدس، ولا يأمن من سطوات ربه وقهره فيما يخالف أمره، فينبغي أن يَحْتَرِزَ عن الجور والمخالفة والظلم والجهل؛ فإنه أحوجُ الناس إلى معرفة العلم، واتباع الكتاب والسنة، وحفظ قانون الشرع والعدالة، فإنه منتصب لمصالح العباد، وإصلاح البلاد، وملتزم فصل خصوماتهم، وقطع النزاع بينهم، وهو حامي الشريعة بالإسلام، فلا بد من معرفة أحكامها، والعلم بحلالها وحرامها؛ ليتوصل بذلك إلى إبراء ذمته، وضبط مملكته وحفظ رعيته، فيجتمع له مصلحة دينه ودنياه، وتمتلئ القلوب بمحبته والدعا له، فيكون ذلك أقوم لعمود ملكه، وأدوم لبقائه، وأبلغُ الأشياء في حفظ المملكة: العدلُ والإنصافُ على الرعية.

    وقيل لحكيم: «أيما أفضل، العدل أم الشجاعة؟» فقال: «من عدل استغنى عن الشجاعة؛ لأن العدل أقوى جيش وأهنأ عيش».

    وقال الفُضيل بن عياض: «النظر إلى وجه الإمام العادل عبادة، وإن المقسطين عند الله على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن».

    قال سفيان الثوري: «صِنفان إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة: الملوك والعلماء»، والملك العادل هو الذي يقضي بكتاب الله — عز وجل — ويشفق على الرعية شفقة الرجل على أهله.

    روى ابن يسار عن أبيه، أنه قال: سمعت رسول الله يقول: «أيما والٍ ولي من أمر أمتي شيئًا، فلم ينصح لهم، ويجتهد كنصيحته وجَهده لنفسه، كبه الله على وجهه يوم القيامة في النار».

  • الرابع: أوساط الناس، يراعون العدل في معاملاتهم، وأُروش جناياتهم بالإنصاف منهم، يكافيؤن الحسنة بالحسنة، والسيئة بمثلها.
  • الخامس: القايمون بسياسة نفوسهم، وتعديل قواهم، وضبط جوارحهم، وانخراطهم في سلك العدول؛ لأن كل فرد من أفراد الإنسان مسئول عن رعاية رعيته، التي هي جوارحه وقواه كما ورد: «كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته» وكما قيل: «صاحب الدار مسئول عن أهل بيته وحاشيته»، ولا تؤثر عدالة الشخص في غيره، ما لم تؤثر أولًا في نفسه؛ إذ التأثير في البعيد قبل القريب بعيد، وقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ دليل على ذلك. والإنسان متصف بالخلافة، لقوله تعالى: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.

    ولا تصح خلافة الله إلا بطهارة النفس، كما أن أشرف العبادات لا تصح إلا بطهارة الجسم، فما أقبح المرء أن يكون حُسن جسمه باعتبار قبح نفسه. كما قال حكيم لجاهل صبيح الوجه: «أما البيت فحسن وأما ساكنه فقبيح».

    وطهارة النفس شرط في صحة الخلافة وكمال العبادة، ولا يصح نجس النفس لخلافة الله تعالى، ولا يكمل لعبادته وعمارة أرضه إلا من كان طاهر النفس، قد أزيل رجسه ونجسه، فللنفس نجاسة، كما أن للبدن نجاسة، فنجاسة البدن يمكن إدراكها بالبصر، ونجاسة النفس لا تُدرك إلا بالبصيرة، كما أشار بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ.

    فإن الخلافة هي الطاعة، والاقتدار على قدر طاقة الإنسان في اكتساب الكمالات النفسية والاجتهاد بالإخلاص في العبودية، والتخلق بأخلاق الربوبية، ومن لم يكن طاهر النفس لم يكن طاهر الفعل. فكل إناء بالذي فيه ينضح، ولهذا قيل: «من طابت نفسه طاب عمله، ومن خبثت نفسه خبث عمله».

    وقيل في قوله : «لا تدخل الملايكة بيتًا فيه كلب» أنه أشار بالبيت إلى القلب، وبالكلب إلى النفس الأمارة بالسوء، وإلى الغضب والحرص والحسد وغيرها، من الصفات الذميمة الراسخة في النفس، ونبه بأن نور الله لا يدخل القلب إذا كان فيه ذلك الكلب، كما قيل:

    ومن يربُط الكلب العقور ببابه
    فَعَقْرُ جميع الناس من رابط الكلب
    وإلى الطهارتين أشار بقوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وأما الذي تطهر به النفس حتى تصلح للخلافة وتستحق به ثوابه، فهو العلم والعبادة الموظفة اللذان هما سبب الحياة.

اعلم أن الإنسان من حيث الصورة التخطيطية كصورة في جدران، وإنما فضيلته بالنطق والعلم.

لهذا قيل: «ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مهملة، أو صورة ممثلة». فبقوة العلم والنطق والفهم يُضارع المَلَكَ، وبقوة الأكل والشرب والشهوة والنكاح والغضب يُشبه الحيوان. فمن صرف همته كُلَّهَا إلى تربية القوة الفكرية بالعلم والعمل، فقد لحق بأفق المَلَك، فيسمى: ملكًا وربانيًّا، كما قال تعالى: إِنْ هَـٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ، ومن صرف همته كلها إلى تربية القوة الشهوانية باتباع اللذات البدنية، يأكل كما تأكل الأنعام، فحقيق أن يُلحق بالبهايم، إمَّا غمرًا كثور، أو شرهًا كخنزير، أو عقورًا ككلب، أو حقودًا كجمل، أو متكبرًا كنمر، أو ذا حيلة ومكر كثعلب، أو يجمع ذلك كله فيصير كشيطان مريد، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ، وقد يكون كثير من الناس مَن صورته صورة إنسان، وليس في الحقيقة إلا كبعض الحيوان؛ قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ.

شعر:

مثل البهايم جَهْلًا جَلَّ خالقُهم
لهُم تَصاويرُ لم يُقْرنْ بهنَّ حِجَا

وصل: من نصائح الرشاد لصالح العباد

اعلم أن سبب هلاك الملوك: اطِّراح ذوي الفضايل، واصطناع ذوي الرذايل، والاستخفاف بعظة الناصح، والاعتزاز بتزكية المادح، من نظر في العواقب سلم من النوايب، وزوال الدول باصطناع السِّفَل، ومن استغنى بعقله ضل، ومن اكتفى برأيه زَلَّ، ومن استشار ذوي الألباب سلك سبيل الصواب، ومن استعان بذوي العقول فازَ بدرك المأمول، من عدل في سلطانه استغنى عن أعوانه، عدل السلطان أنفع للرعية من خصب الزمان، المُلكُ يَبقى على الكفر والعدل، ولا يبقى على الجور والإيمان، ويُقال: حقٌّ على من مَلَّكَهُ الله على عباده، وحكَّمه في بلاده أن يكون لنفسه مالكًا، وللهوى تاركًا، وللغيظ كاظمًا، وللظلم هاضمًا، وللعدل في حالتي الرضا والغضب مظهرًا، وللحق في السر والعلانية مُؤثِرًا، وإذا كان كذلك ألزم النفوس طاعته، والقلوب محبته، وأشرق بنور عدله زمانه، وكثر على عدوه أنصاره وأعوانه، ولقد صَدَق من قال:

يا أيها الملكُ الذي
بصلاحه صلُح الجميع
أنت الزمان فإن عدلـ
ـت فكله أبدًا ربيع

وقال عمرو بن العاص: «ملك عادل خير من مطر وابل، من كثر ظلمه واعتداؤه قرب هلاكه وفناؤه».

موعظة: كل محنة إلى زوال، وكل نعمة إلى انتقال. شعر.

رأيت الدهر مختلفًا يدور
فلا حزن يدوم ولا سرور
وشيدت الملوكُ به قصورًا
فما بقي الملوك ولا القصور

وقال المأمون:

يبقى الثناء وتَنْفَذُ الأموالُ
ولكل وقت دولةٌ ورجالُ

من كبرت همته كثرت قيمته. لا تثق بالدولة فإنها ظل زايل، ولا تعتمد على النعمة فإنها ضيف راحل. فإن الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تفي لصاحب.

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري: انصحني. فكتب إليه: «إن الذي يصحبك لا ينصحك، والذي ينصحك لا يصحبك»، وسأل معاوية الأحنف بن قيس وقال له: «كيف الزمان؟» فقال: «أنت الزمان، إن صلحت صلح الزمان، وإن فسدت فسد الزمان». آفة الملوك سوء السيرة، وآفة الوزراء خبث السريرة، وآفة الجند مخالفة القادة، وآفة الرعية مخالفة السادة، وآفة الرؤساء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة، وآفة القضاة شدة الطمع، وآفة العدول قلة الورع، وآفة القوي استضعاف الخصم، وآفة الجريء إضاعة الحزم، وآفة المنعم قبح المنِّ، وآفة المذنب حسن الظن، والخلافة لا يصلحها إلا التقوى، والرعية لا يصلحها إلا العدل. فمن جارت قضيته ضاعت رعيته، ومن ضعفت سياسته بطلت رياسته، ويُقال: شيئان إذا صلح أحدهما صلح الآخر: السلطان والرعية، ومن كلام بعض البلغاء: «خير الملوك من كَفَى وكَفَّ، وعَفَا وعَفَّ».

وقال الشاعر في بعض ولاة بني مروان:

إذا ما قضيتم ليلكم بمنامكم
وأفنيتمُو أيامكم بمُدامِ
فمن ذا الذي يغشاكم في مُلمةٍ
ومن ذا الذي يلقاكم بسلام
رضيتم من الدنيا بأيسر بُلْغَةٍ
بلثْم غلام، أو بشرب مُدام
ألم تعلموا أن اللسانَ موَكَّل
بمدح كرام، أو بذم لئام

قال وهب بن مُنبه: «إذا هَمَّ الوالي بالجور، أو عمل به، أدخل الله النقص في أهل مملكته، حتى في التجارات والزراعات، وفي كل شيء، وإذا هَمَّ بالخير، أو عمل به، أدخل الله البركة على أهل مملكته حتى في التجارات والزراعات، وفي كل شيء، ويعم البلاد والعباد».

ولنقبض عنان العبادات النقلية في أرض الإشارات العقلية المقتطفة من نظم السلوك في مسامرة الملوك، وغرر الخصايص وعرر النقايص، وهو باب واسع كثير المنافع، وملاك الأمر في ذلك حسن القابلية، وأن تكون مرآة القلب غير صدية، كما قيل:

إذا كان الطباعُ طباعَ سوء
فليس بنافع أدب الأديب

وقيل: الأخلاق وإن كانت عزيزة، فإنه يمكن تطبعها بالرياضة والتدريب والعادة، والفرق بين الطبع والتطبع: أن الطبع جاذب منفعل، والتطبع مجذوب مفتعل، وتتفق نتايجهما مع التكلف، ويُفترق تأثيرهما مع الاسترسال، وقد يكون في الناس من لا يقبل طبعه العادة الحسنة، ولا الأخلاق الجميلة، ونفسه مع ذلك تتشوق إلى المنقبة، وتتآنف من المثلبة. لكن سلطان طبعه يابى عليه، ويستعصي عن تكليف ما ندب إليه، يختار العطل منها على التحلي، ويستبدل الحزن على فواتها بالتسلي، فلا ينفعه التأنيب، ولا يردعه التأديب، وسبب ذلك ما قرره المتكلمون في الأخلاق من أن الطبع المطبوع أملك للنفس التي هي محله، لاستيطانه إياها وكثرة إعانته لها، والذي يطرأ على المحل غريب عنه. قال الشاعر:

ومن يبتدِعْ ما ليس من خِيم نفسه
يَدَعْهُ، ويَغْلِبْه على النفس خِيمها

وأما الذي يجمع الفضايل والرذايل، فهو الذي تكون نفسه الناطقة متوسطة الحال بين اللؤم والكرم، وقد تُكتسب الأخلاق من معاشرة الأخلاء، إما بالصلاح أو بالفساد، فرب طبعٍ كريم أفسدته معاشرة الأشرار، وطبعٍ لئيم أصلحته مصاحبة الأخيار، وقد ورد عن النبي أنه قال: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل»، وقال علي رضي الله عنه لولده الحسن: «الأخ رقعة في ثوبك، فانظر بم ترقعه»، وقال بعض الحكما في وصية لولده: «احذر مقارنة ذوي الطباع المرذولة، لئلا تسرق طباعُك طباعهم وأنت لا تشعر»، وأنشده:

واصحب الأخيار، وارغب فيهم
ربَّ من صاحبته مثل الجرب

وأما إذا كان الخليل كريم الأخلاق، شريف الأعراق، حسن السيرة، طاهر السريرة، فبه في محاسن الشيم يُقتدى، وبنجم رشده في طريق المكارم يُهتدى، وإذا كان سيئ الأخلاق والأعمال، خبيث الأقوال كان المغتبط به كذلك، ومع هذا فواجب على العاقل اللبيب والفطن الأريب أن يجهد نفسه حتى يحوزَ الكمال بتهذيب خلايقه، ويكتسي حلل الجمال بدماثة شمايله وحميد طرايقه.

وقال عمرو بن العاص: «المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت وإن وضعها اتوضعت»، وقال بعض الحكما: «النفس عَرُوفٌ عَزُوفٌ وَنَفُورٌ أَلُوفٌ، متى ردعتها ارتدعت، ومتى حملتها حملت، وإن أصلحتها صلحت، وإن أفسدتها فسدت».

وقال الشاعر:

وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
فإن طمحت تاقت وإلا تَسَلَّتِ

وقالوا: من فاته حسبُ نفسه، لم ينفعه حسب أبيه.

والمنهج القويم الموصل إلى الثناء الجميل أن يستعمل الإنسان فكره وتمييزه فيما ينتج عن الأخلاق المحمودة والمذمومة منه ومن غيره، فيأخذ نفسه بما استحسن منها واستُملح، ويصرفها عما استهجن منها واستُقبح. فقد قيل: «كفاك تأديبًا تركُ ما كرهه الناس من غيرك»، وقال الشاعر:

كفى أدبًا لنفسك ما تراه
لغيرك شائنًا بين الأنام

وقال أيضًا:

إذا أعجبتك خلالُ امرئٍ
فكُنْهُ تكُن مثل من يُعجبكْ
فليس على المجد والمكْرُمات
إذا جئتها حاجبٌ يحجُبك

وقالوا: من نظر في عيوب الناس فأنكرها، ثم رضيها لنفسه، فذلك هو الأحمق بعينه.

قال الشاعر:

لا تلم المرء على فعله
وأنت منسوب إلى مثلهِ
من ذّمَّ شيئًا وأتى مثله
فإنما دَلَّ على جهله

اللهم بحرمة سيد الأنام، يسر لنا حسن الختام، واصرف عنا سوء القضاء، وانظر لنا بعين الرضا.

وهذا أوان انشقاق كمايم طلع الشماريخ، عن زهر مجمل التاريخ فتقول:

أول خليفة جُعل في الأرض آدم عليه الصلاة والسلام بمصداق قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ثم توالت الرسل بعده، ولكنها لم تكن عامة الرسالة، بل كل رسول أرسل إلى فرقة. فهؤلاء الرسل — عليهم السلام — مقررون شرايع الله بين عباده، وملزمون بتوحيده، وامتثال أوامره ونواهيه؛ ليترتب على ذلك انتظام أمور معاشهم في الدنيا، وفوزهم بالنعيم السرمدي إذا امتثلوا في الأخرى، إلى أن جاء ختامهم الرسول الكريم سيدنا محمد أرسله الله بالهدي ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وأمره بالصدع والإعلان والتطهير من عبادة الأوثان، وآمن به من آمن من الصحابة — رضوان الله عليهم — وعزروه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، أوليك هم المفلحون.

ولم يزل هذا الدين القويم من حين بعث النبي يزيد وينمو ويتعالى ويسمو، حتى تم ميقاته، وقربت من النبي وفاته، وأنزل الله عليه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.

ولما قبض قام بالأمر بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر رضي الله عنه ثم عثمان رضي الله عنه ثم علي — كرم الله وجهه — ولم تصفُ له الخلافة بمغالبة معاوية — رضوان الله عليهم أجمعين — في الأمر.

وبموت علي رضي الله عنه تمت مدة الخلافة التي نصّ عليها النبي بقوله: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا عضوضًا».

وبخلافة معاوية كان ابتداء دولة الأمويين، وانقرضت بظهور أبي مسلم الخراساني، وإظهار دولة بني العباس: فكان أولهم «السفاح» وظهرت دولتهم الظهور التام، وبلغت القوة الزايدة، والضخامة العظيمة، ثم أخذت في الانحطاط بتغلب الأتراك والديلم.

ولم تزل منحطة، وليس للخلفاء في آخر الأمر إلا الاسم فقط، حتى ظهرت فتنة التاتار التي أبادت العالم، وخرج هولاكخان وملك بغداد وقتل الخليفة المعتصم، وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد.

وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه افتتحت الديار المصرية، والبلاد الشامية على يد عمرو بن العاص، ولم تزل في النيابة أيام الخلفاء الراشدين، ودولة بني أمية، وبني العباس، إلى أن ضعفت الخلافة العباسية بعد مقتل المتوكل بن المعتصم بن الرشيد سنة سبع وأربعين ومايتين، تغلب على النواحي كل متملك لها، فانفرد أحمد بن طولون بمملكة مصر والشام، وكذلك أولاده من بعده، ثم دولة الإخشيد، وبعده كافور أبو المسك ممدوح المتنبي، ولما مات قدم جوهر القائد من قبل المعز الفاطمي من المغرب فملكها من غير مانع، وأسس القاهرة، وذلك في سنة إحدى وستين وثلاثماية، وقدم المعز إلى مصر بجنوده وأمواله، ومعه رمم آبائه وأجداده محمولة في توابيت، وسكن بالقصرين، وادَّعى الخلافة لنفسه دون العباسيين.

وأول ظهور أمرهم في سنة سبعين ومايتين، فظهر عبد الله بن عبيد الملقب بالمهدي، وهو جد بني عبيد الخلفاء المصريين العبيديين الروافض باليمن، وأقام على ذلك إلى سنة ثمانٍ وسبعين، فحج تلك السنة، واجتمع بقبيلة من كتامة فأعجبهم حاله فصحبهم إلى مصر، ورأى منهم طاعة وقوة فصحبهم إلى المغرب، فنما شأنه وشأن أولاده من بعده، إلى أن حضر المعز لدين الله أبو التميم معد بن إسماعيل بن القاسم بن المهدي إلى مصر، وهو أولهم، فملكوا نيفًا ومايتين من السنين، إلى أن ضعف أمرهم في أيام العاضد، وسوء سياسة وزيره شاور، فتملكت الإفرنج بلاد السواحل الشامية.

وظهر بالشام نور الدين محمود بن زنكي، فاجتهد في قتال الإفرنج، واستخلاص ما استولوا عليه من بلاد الشام، وجهز أسد الدين شيركوه بعساكر لأخذ مصر، فحاصرها (نحو) شهرين، فاستنجد العاضد بالإفرنج، فحضروا من دمياط، فرحل أسد الدين إلى الصعيد، فجنى خراجه ورجع إلى الشام، وقصد الإفرنج الديار المصرية في جيش عظيم وملكوا بلبيس، وكانت إذ ذاك مدينة حصينة، ووقعت الحروب بين الفريقين، فكانت الغلبة فيها على المصريين، وأحاطوا بالإقليم برًّا وبحرًا، وضربوا على أهله الضرائب. ثم إن الوزير شاور أشار بحرق الفسطاط، فأمر الناس بالجلاء عنها، وأرسل عبيده بالشعل والنفوط، فأوقدوا فيها النار فاحترقت عن آخرها، واستمرت النار بها أربعة وخمسين يومًا، وأرسل الخليفة العاضد يستنجد نور الدين، وبعث إليه بشعور نسايه، فأرسل إليه جندًا كثيفًا، وعليهم أسد الدين شيركوه وابني أخيه صلاح الدين يوسف، فارتحل الإفرنج عن البلاد.

وقبض أسد الدين على الوزير شاور الذي أشار بحرق المدينة وصلَبه، وخلع العاضد على أسد الدين الوزارة، فلم يلبث أن مات بعد خمسة وستين يومًا، فولى العاضد مكانه ابن أخيه صلاح الدين، وقلده الأمور، ولقبه الملك الناصر، فبذل له همته وأعمل حيلته، وأخذ في إظهار السُّنَّة وإخفاء البدعة.

فثقل أمره على الخليفة العاضد، فأبطن له فتنة أثارها في جنده؛ ليتوصل بها إلى هزيمة الأكراد، وإخراجهم من بلاده، فتفاقم الأمر وانشقت العصا، ووقعت حروب بين الفريقين أبلى فيها الناصر يوسف وأخوه شمس الدولة بلاءً حسنًا، وانجلت الحروب عن نصرتهما، فعند ذلك ملك الناصر القصر وضيق على الخليفة وحبس أقاربه، وقتل أعيان دولته واحتوى كل ما في القصور من الذخاير والأموال والنفايس، بحيث استمر البيع فيه عشر سنين، غير ما اصطفاه صلاح الدين لنفسه.

وخطب المستضيء العباسي بمصر، وسير البشارة بذلك إلى بغداد، ومات العاضد قهرًا، وأظهر الناصر يوسف الشريعة المحمدية، وطهر الإقليم من البدع والتشيع والعقائد الفاسدة، وأظهر عقايد أهل السنة والجماعة، وهي عقايد الأشاعرة والماتريدية، وبعث إليه أبو حامد الغزالي بكتاب ألفه له في العقايد، فحمل الناس على العمل بما فيه، ومحا من الإقليم مستنكرات الشرع، وأظهر الهدى، ولما تُوُفِّي نور الدين الشهيد انضم إليه مُلك الشام، وواصل الجهاد، وأخذ في استخلاص ما تغلب عليه الكفار من السواحل وبيت المقدس، بعدما أقام بيد الإفرنج نيفًا وإحدى وتسعين سنة، وأزال ما أحدثه الإفرنج من الآثار والكنايس.

ولم يهدم القمامة اقتداء بعمر رضي الله عنه عندما افتتح الفتوحات الكثيرة. ثم اتسع ملكه، ولم يزل على ذلك إلى أن توفي سنة تسع وثمانين وخمسماية، ولم يترك إلا أربعين درهمًا.

وهو الذي أنشأ قلعة الجبل، وسور القاهرة العظيم، وكان المشد على عمايره بهاء الدين قراقوش، ثم استمر الأمر في أولاده، وأولاد أخيه الملك العادل.

وحضر الإفرنج أيضًا إلى مصر في أيام الملك الكامل بن العادل، وملكوا دمياط وهدموها، فحاربهم شهورًا حتى أجلاهم، وعمرت بعد ذلك دمياط هذه الموجودة في غير مكانها، وكانت تسمى بالمنشية، والكامل هذا هو الذي أنشأ قبة الشافعي رضي الله عنه عندما دَفن بجواره موتاهم، وأنشأ المدرسة الكاملية بين القصرين المعروفة بدار الحديث.

وفي أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل حضر الإفرنج وملكوا دمياط، وزحفوا إلى فارسكور، واستمر الملك الصالح يحاربهم أربعة عشر شهرًا وهو مريض، وانحصر جهة الشرق، وأنشأ المدينة المعروفة بالمنصورة، ومات بها سنة سبع وأربعين وستماية والحرب قايم، وأخفت زوجته شجرة الدر موته، ودبرت الأمور حتى حضر ابنه توران شاه من حصن كيفا، وانهزمت الإفرنج وأسر ملكهم ريدا، وكانوا طائفة الفرنسيس.

والملك الصالح هذا هو أول من اشترى المماليك، واتخذ منهم جندًا كثيفًا، وبنى لهم قلعة الروضة وأسكنهم بها، وسماهم البحرية، ومقدمهم الفارس إقطاي، والملك الصالح هو الذي بنى المدارس الصالحية بين القصرين، ودفن بقبة بُنيت له بجانب المدرستين.

ولما انهزم الإفرنج، ومات الصالح، وتملك ابنه توران شاه، واستوحش من مماليك أبيه، واستوحشوا منه، فتعصبوا عليه وقتلوه بفارسكور، وقلدوا في السلطنة شجرة الدر ثلاثة أشهر، ثم خُلعت، وهي آخر الدولة الأيوبية، ومدة ولايتهم إحدى وثمانون سنة.

ثم تولى سلطنة مصر عز الدين أيبك التركماني الصالحي سنة ثمان وأربعين وستماية، وهو أول الدولة التركية بمصر.

ولما قُتل وَلَّوا ابنه المظفر علي، فلما وقعت حادثة التتار العظمى خُلع المظفر لصغره، وتولى الملك المظفر قطز، وخرج بالعساكر المصرية لمحاربة التتار، فظهر عليهم وهوشهم، ولم تقم لهم قايمة بعد ذلك، بعد أن كانوا ملكوا أغلب المعمور من الأرض، وقهروا الملوك وقتلوا العباد وأخربوا البلاد … ففي سنة أربع وخمسين وستماية ملكوا (التتار) سائر بلاد الروم بالسيف. فلما فرغوا من ذلك جميعه نزل هولاكو خان بن طيلون بن جنكيز خان على بغداد وذلك سنة ست وخمسين وستماية، وهي إذ ذاك كرسي مملكة الإسلام ودار الخلافة، فملكها وقتلوا ونهبوا وأسروا مَنْ بها مِنْ جمهور المسلمين والفقهاء والعلماء، والأيمة والقراء والمحدثين، وأكابر الأولياء والصالحين، وفيهم خليفة رب العالمين وإمام المسلمين، وابن عم سيد المرسلين، فقتلوه وأهله وأكابر دولته، وجرى في بغداد ما لم يسمع بمثله في الآفاق. ثم إن هولاكوخان أمر بِعَدِّ القتلى فبلغوا ألف ألف وثمانماية ألف وزيادة.

ثم إن التتار تقدم إلى بلاد الجزيرة واستولوا عليها وعلى حران والرها وديار بكر في سنة سبع وخمسين وستماية، ثم جازوا الفرات، ونزلوا على حلب في سنة ثمان وخمسين وستماية واستولوا عليها، وأحرقوا المساجد، وجرت الدماء في الأزقة، وفعلوا ما لم يتقدم مثله.

ثم وصلوا إلى دمشق، وسلطانها الناصر يوسف بن أيوب، فخرج هاربًا وخرج معه أهل القدرة، ودخل التتار إلى دمشق، وتسلموها بالأمان، ثم غدروا بهم وتعدَّوها فوصلوا إلى نابلس، ثم إلى الكرك وبيت المقدس، فخرج سلطان مصر بجيش الترك الذين تهابهم الأسود، وتقلُّ في أعينهم أعداد الجيوش، فالتقاهم عند عين جالوت، فكسرهم وشردهم وولوا الأدبار، وطمع الناس فيهم يتخطفونهم، ووصلت البشاير بالنصر، فطار الناس فرحًا.

ودخل المظفر إلى دمشق مؤيَّدًا منصورًا، وأحبه الخلق محبة عظيمة، وساق بيبرس خلف التتار إلى بلاد حلب وطردهم، وكان السلطان وعده بحلب، ثم رجع عن ذلك، فتأثر بيبرس وأضمر له الغدر، وكذلك السلطان أسرَّ ذلك إلى بعض خواصه، فأطلع بيبرس، فساروا إلى مصر وكل منهم محترس من صاحبه، فاتفق بيبرس مع جماعة من الأمرا على قتل المظفر، فقتلوه في الطريق.

وتسلطن بيبرس ودخل مصر سلطانًا، وتلقب بالملك الظاهر، وذلك سنة ثمان وخمسين وستماية، وهو السلطان ركن الدين أبو الفتح بيبرس البندقداري الصالحي النجمي، أحد المماليك البحرية، وعندما استقر بالقلعة أبطل المظالم والمكوس وجميع المنكرات، وجهز الحاج بعد انقطاعه اثنتي عشرة سنة بسبب فتنة التتار وقتل الخليفة ومنافقة أمير مكة مع التتار.

فلما وصل إلى مكة منعوهم من دخول المحمل ومن كسوة الكعبة، فقال أمير الحاج لأمير مكة: «أما تخاف من الملك الظاهر بيبرس؟» فقال: «دعه يأتيني على الخيل البلق». فلما رجع أمير المحمل وأخبر السلطان بما قاله أمير مكة، جمع له في السنة الثانية أربعة عشر ألف فرس أبلق، وجهزهم لصحبة الأمير الحاج، وخرج بعدهم على ثلاث نوق عُشاريات فوافاهم عند دخولهم مكة وقد منعهم التتار وأمير مكة، فحاربوهم فنصرهم الله عليهم، وقُتل ملك التتار، وأمير مكة طعنه السلطان بالرمح وقال له: «أنا الملك الظاهر جيتك على الخيل البلق». فوقع إلى الأرض، وركب السلطان فرسه ودخل مكة، وكسى البيت، وعاد إلى مصر، واستقر ملكه حتى مات بدمشق سابع عشرين المحرم سنة ست وسبعين وستماية، ومدته سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يومًا، وحج سنة سبع وستين وستماية، ولذلك خبر طويل ذكره العلامة المقريزي في تواريخه، وفي «الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك».

وكان من أعظم الملوك شهامة وصرامة، وانقيادًا للشرع، وله فتوحات وعمارات مشهورة ومآثر حميدة، ومنها رد الخلافة لبني العباس، وذلك أنه لما جرى ما جرى على بغداد، وقُتل الخليفة، وبقيت ممالك الإسلام بلا خلافة ثلاث سنوات، فحضر شخص من أولاد الخلفا الفارين في الواقعة إلى عرب العراق، ومعه عشرة من بني مهاريش، فركب الظاهر للقائه ومعه القضاة وأهل الدولة، فأثبت نسبه على يد قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، ثم بويع بالخلافة فبايعه السلطان وقاضي القضاة والشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الكبار على مراتبهم، ولُقب بالمستنصر، وركب يوم الجمعة وعليه السواد إلى جامع القلعة، وخطب خطبة بليغة ذكر فيها شرف بني العباس، ودعا فيها للسلطان وللمسلمين، ثم صلى بالناس، ورسم بعمل خلعة إلى السلطان، وكتب له تقليدًا قرئ بظاهر القاهرة بحضرة الجميع، وألبس الخليفة السلطان الخلعة بيده، وفوَّض إليه الأمور، وركب السلطان بالخلعة والتقليد محمولًا على رأسه، ودخل من باب النصر، وزينت القاهرة، والأمراء مشاة بين يديه ورتب له أتابكيًّا، وأستا دارًا، وخازندارًا، وحاجبًا، وشرابيًّا، وكاتبًا، وعين له خزانة، وجملة مماليك، وماية فرس، وثلاثين بغلًا، وعشر قطارات جمال … إلى أمثال ذلك.

ثم إنه عزم على التوجه إلى العراق فخرج معه السلطان وشيعه إلى دمشق، وجهز معه ملوك الشرق: صاحب الموصل وصاحب سنجار والجزيرة، وعزم عليه وعليهم ألف ألف دينار وستين ألف دينار، وسافروا حتى تجاوزت هيت. فلاقاهم التتار فحاربوهم، فعُدم الخليفة، ولم يعلم له خبر.

وبعد أيام حضر شخص آخر من بني العباس، وكان أيضًا مختفيًا عند بني خفاجة، فتوصل مع العرب إلى دمشق، وأقام عند الأمير عيسى بن مهنا، فأخبر به صاحب دمشق فطلبه، وكاتب السلطان في شأنه، فأرسل يستدعيه، فأرسله مع جماعة من أمراء العرب، فلما وصل إلى القاهرة وجد المستنصر قد سبقه بثلاثة أيام، فلم يرَ أن يدخل إليها، فرجع إلى حلب فبايعه صاحبها وروساها، ومنهم عبد الحليم بن تيمية، وجمع خلقًا كثيرًا، وقصد عانة ولُقب بالحاكم.

فلما خرج المستنصر وافاه بعانة، فانقاد له هذا ودخل تحت طاعته وخاصته، فلما عدم المستنصر قصد الحاكم الرحبة، وجاء إلى عيسى بن مهنا، فكاتب الملك الظاهر فيه فطلبه، فقدم إلى القاهرة ومعه ولده وجماعته، فأكرمه الملك الظاهر وبايعوه بالخلافة كما سبق للمستنصر، وأنزله بالبرج الكبير بالقلعة، واستمرت الخلافة بمصر، وأقام الحاكم فيها نيفًا وأربعين سنة، وهذه من مناقب الملك الظاهر.

ولما مات الملك الظاهر تولى بعده ابنه الملك السعيد، ثم أخوه الملك العادل، وكان صغيرًا، والأمر لقلاوون؛ فخلعه واستبد بالملك، ولُقب بالملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي النجمي جد الملوك القلوونية، وهو صاحب الخيرات والبيمارستان المنصوري، والمدرسة، والقبة التي دُفن بها، وله فتوحات بسواحل البحر الرومي، ومصافات مع التتار وغير ذلك. تولى سنة ثمان وسبعين وستماية، ومات أواخر سنة تسع وثمانين وستماية، وكانت مدته إحدى عشرة سنة.

وتولى بعده ابنه الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وكان بطلًا شجاعًا ذا همة علية، ورياسة مرضية، خانه أمراؤه وغدروه وقتلوه بتروجة جهة البحيرة، سنة ثلاث وتسعين وستماية، ونُقل لتربته التي أنشأها بالقرب من المشهد النفيسي بجانب مدرسة أخيه الصالح علي بن قلاوون. مات في حياة أبيه، وكان هو أكبر أولاده، ومرشحًا للسلطنة.

ولما مات الأشرف تولى بعده أخوه الملك الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي النجمي. أقيم في السلطنة وعمره تسع سنين، فأقام سنة وخلع بمملوك أبيه زين الدين كتبغا الملك العادل، فثار الأمير حسام الدين لاچين المنصوري نايب السلطنة على العادل، وتسلطن عوضه، ثم ثار عليه (طغجي) وكيرجي فقتلوه وقتلا أيضًا. واستدعي الناصر من الكرك فقدم، وأعيد إلى السلطنة مرة ثانية، فأقام عشر سنين وخمسة أشهر محجورًا عليه، والقايم بتدبير الدولة الأميران؛ بيبرس الجاشينكير، وسلار نايب السلطنة. فدبر لنفسه في سنة ثمان وسبعماية، وأظهر أنه يريد الحج بعياله، فوافقه الأميران على ذلك، وشرعوا في تجهيزه، وكتب إلى دمشق والكرك برمي الإقامات، وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير، فلما تهيأ لذلك أحضر الأمراء تقاديمهم من الخيل والجمال، ثم ركب إلى بركة الحاج، وتعين معه للسفر جماعة من الأمرا.

وعاد بيبرس وسلار، من غير أن يترجلا له عند نزوله بالبركة؛ فرحل من ليلته، وخرج إلى الصالحية، وعيَّد بها، وتوجه إلى الكرك فقدمها في عاشر شوال، ونزل بقلعتها، وصرح بأنه قد ثَنَى عزمه عن الحج، واختار الإقامة بالكرك، وترك السلطنة ليستريح، وكتب إلى الأمرا بذلك، وسأل أن ينعم عليه بالكرك والشوبك، وأعاد من كان معه من الأمرا، وسلمهم الهُجن وعدتهم خمسماية هجين، والمال والجمال وجميع التقادم، وأمر نائب الكرك بالمسير عنه.

وتسلطن بيبرس الجاشنكير، وتلقب بالملك المظفر، وكتب للناصر تقليدًا بنيابة الكرك. فعندما وصله التقليد أظهر البشر، وخطب باسم المظفر على منبر الكرك، وأنعم على البريد وأعاده، فلم يتركه المظفر، وأخذ يناكده، ويطلب منه من كان معه من المماليك الذين اختارهم للإقامة عنده، والخيول التي أخذها من القلعة، والمال الذي أخذه من الكرك، وهدده فحنق لذلك وكتب إلى نواب الشام يشكو ما هو فيه، فحثوه على القيام لأخذ ملكه، ووعدوه بالنصرة.

فتحرك لذلك وسار إلى دمشق، وأتت النواب إليه، وقدم إلى مصر، وفرَّ بيبرس، وطلع الناصر إلى القلعة يوم عيد الفطر سنة تسع وسبعماية، فأقام في الملك اثنتين وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، ومات في ليلة الخميس حادي عشرين ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعماية، وعمره سبع وخمسون سنة وكسور، ومدة سلطنته ثلاث وأربعون سنة، وكان ملكًا عظيمًا جليلًا كفئًا للسلطنة ذا دهاء، محبًّا للعدل والعمارة، وطالت مدته وشاع ذكره، وطار صيته في الآفاق، وهابته الأسود، وخطب له في بلاد بعيدة.

ومن محاسنه: أنه لما استبد بالملك أسقط جميع المكوس من أعمال الممالك المصرية والشامية وراك البلاد، وهو الرُّوك الناصري المشهور، وأبطل الرشوة وعاقب عليها، فلا يتقلد المناصب إلا مستحقها بعد التروي والامتحان واتفاق الرأي، ولا يقضي إلا بالحق. فكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة، وفي أيامه كثرت العماير حتى يقال إن مصر والقاهرة زادا في أيامه أكثر من النصف، وكذلك القرى بحيث صارت كل بلدة من القرى القبلية والبحرية مدينة على انفرادها، وله ولأمرائه مساجد ومدارس وتكايا مشهورة، وحضر في أوايل دولته ألقان غازان بجنوده التتار، فخرج إليهم بعساكر مصر وهزمهم مرتين.

وبعض مناقبه تحتاج إلى طول، ونحن لا نذكر إلا لُمعًا، فمن أراد الإطلاع عليها فعليه بالمطولات، وفي السيرة الناصرية مؤلف مخصوص مجلدان ضخمان، ينقل عنه المؤرخون، ولم نره، ومما قيل فيه شعر قصيدة طويلة للصفي الحلي:

الناصر السلطان من خضعت له
كل الملوك مشارقًا ومغاربا
ملك يرى تعب المكارم راحة
وبعد راحات الفراغ متاعبا
بمكارم تذر السباسب أبحرا
وعزايم تذر البحار سباسبا
لم تخلُ أرض من سناه وإن خلت
من ذكره مليت قنًا وقواضبا
ترجى مكارمه، ويخشى بطشه
مثل الزمان مسالمًا ومحاربًا
فإذا سطا ملأ القلوب مهابة
وإذا سخا ملأ العيون مواهبا
كالغيث يبعث من عطاه وابلًا
سبطًا ويُرسل من سطاه حاصبا
كالليث يحمي غابه بزئيره
طورًا، وينشب في القنيص مخالبا
كالسيف يبدي للنواظر منظرًا
طلقًا ويمضي في الهياج مضاربا
كالسيل تحمد منه عذبًا واصلًا
ويعدُّه قومٌ عذابًا واصبا
كالبحر يهدي للنفوس نفايسا
منه، ويبدي للعيون عجايبا
فإذا نظرت ندى يديه ورأيه
لم تُلْفِ إلا صيِّبًا أو صايبا
أبقى قلاوون الفخار لولده
إرثًا، وفاز بالثناء مكاسبًا
قوم إذا سئموا الصوافن سيروا
للمجد أخطار الأمور مراكبا
عشقوا الحروب تتيُّمًا بلقا العدا
فكأنهم حسبوا العداة حبايبا
وكأنما ظنوا السيوف سوالفا
واللُّدْن قدًّا، والقِسِيَّ حواجبا
يا أيها الملك العزيز ومن له
شرف يجر على النجوم ذوايبا
أصلحت بين المسلمين بهمة
نذر الأجانب بالوداد أقاربا
ووهبتهم زمن الأمان فمن رأى
ملكًا يكون له الزمان مواهبا

إلى آخرها، وهذا ما حضرني منها.

ومن أحسن ما قيل في مراثيه هذان البيتان:

قلتُ لبدر الأفق لما بدا
ووجهه منكف باسر
ما لك لا تسفر عن بهجة
فقال مات الملك الناصر

وللصفي الحلي فيه مرثية بليغة نحو ستين بيتًا، ولما مات دُفن مع والده بالقبة المنصورية بين القصرين وتولى من أولاده وأولاد أولاده اثنا عشر سلطانًا؛ منهم السلطان حسن صاحب الجامع بسوق الخيل بالرميلة، ومن شاهده عرف علو همته بين الملوك، وهو الذي ألف باسمه الشيخ بن أبي حجلة التلمساني كتبه العشرة التي منها «ديوان الصبابة» و«السكردان» و«طوق الحمامة» و«حاطب ليل» و«قرع سن ديك الجن» وغير ذلك.

ومنهم الملك الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر محمد، وهو الذي أمر الأشراف بوضع العلامة الخضراء في عمايمهم، وفي ذلك يقول بعضهم:

جعلوا لأبناء النبي علامة
إن العلامة شأنُ من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوههم
يُغني الشريف عن الطراز الأخضر

وفي أيام الأشرف هذا قدمت الإفرنج إلى الإسكندرية على حين غفلة، ونهبوا أموالها وأسروا نساءها، ووصل الخبر إلى مصر، فتجهز الأشرف وسار بعساكره، فوجدهم قد ارتحلوا عنها وتركوها، ولهذه الواقعة تاريخ اطلعتُ عليه في مجلدين، ويُقال: إن الفرنساوي الذي يكون في أذنه قرط أمُّه أصلها من النساء المأسورات في تلك الواقعة.

وفي أيامه كثر عبث المماليك الأجلاب، فأمر بإخراجهم من مصر، فتجمعوا وعصوا؛ فحاربهم وقاتلهم فانهزموا، وقبض على كثير منهم فقتل منهم طايفة، وغرق منهم طايفة ونفى منهم طايفة، وبقي بمصر منهم طايفة التجوا إلى بعض الأمراء، وهؤلاء المماليك كانوا من مماليك يلبغا العمري مملوك السلطان حسن، وصرغتمش وأيدُمُرالجاي اليوسفي، وهم كثيرون مختلفي الأجناس، ومنهم من جنس الجركس، فلم يزالوا في اختلاف ومقت وهياج وحقد للدولة، إلى أن تحيلوا وتراجعوا وتداخلوا في الدولة، فاستقر أمرهم على أن طايفة منهم سكنوا بالطباق، ودخلوا في مماليك الأسياد، أي: أولاد السلطان، ومنهم من بقي أمير عشرة لا غير، ومنهم من انضم إلى المماليك السلطانية ومماليك الأمرا، وكانوا أرذل مذكور في الإقليم المصري.

فلما عزم الأشرف على الحج، وأخذ في أسباب ذلك، انتهزوا عند ذلك الفرصة، وكتموا أمرهم ومكروا مكرهم، وتواعدوا مع أصحابهم الذين بصحبة السلطان أنهم يثيرون الفتنة مع السلطان في العقبة، وكذلك المقيمون بمصر يفعلون فعلهم حتى ينقضوا نظام الدولة، ويزيلوا السلطان والأمراء.

ولما خرج السلطان من مصر خرج في أبهة عظيمة وتجمُّلٍ زايد، بعد أن رتب الأمور، واستخلف بمصر وثغورها من يثق به، وأخذ بصحبته من لا يظن فيه الخيانة، ومنهم جملة من الجلبان، وأبقى منهم ومن غيرهم بمصر كذلك، ولا ينفع الحذر من القدر.

فلما خرج السلطان وبَعُدَ عن مصر أثاروا الفتنة بعد أن استمالوا طايفة من المماليك السلطانية، وفعلوا ما فعلوه، ونادوا بموت السلطان وولوا ابنه، ووقفوا مستعدين منتظرين فعل أصحابهم الغائبين مع السلطان، وثار أيضًا أصحابهم على السلطان في العقبة، فانهزم بعد أمور طالبًا المجيء إلى مصر، وصحبته الأمراء الكبار وبعض مماليكه، ونهبت الخزينة والحج، وذهب البعض إلى الشام، والبعض إلى الحجاز، والبعض إلى مصر صحبته حريم السلطان.

وجرى ما هو مسطر في التواريخ من ذبح الأمراء، واختفاء السلطان وخنقه، وتمكن هؤلاء الأجلاب من الدولة، ونهبوا بيوت الأموال وذخاير السلطان، واقتسموا محاظيه، وكذلك الأمرا، ووصل كل صعلوك منهم لمواقع الملوك، وأزالوا عز الدولة القلاوونية وأخذوا لأنفسهم الإمارات والمناصب، وأصبح الذين كانوا بالأمس أسفل الناس ملوك الأرض، يُجبى إليهم ثمرات كل شيء.

ثم وقعت فيهم حوادث وحروب أسفرت عن ظهور برقوق الجركسي، أحد مماليك يلبغا العمري، واستقراره أميرًا كبيرًا، وكان غاية في الدهاء والمكر، فلم يزل يدبر لنفسه حتى عزل ابن الأشرف، وأخذ السلطنة لنفسه، وهو أول ملوك الجراكسة بمصر، وبالأشرف شعبان هذا وأولاده زالت دولة القلاوونية، وظهرت دولة الجراكسة.

أولهم: برقوق، وبعده ابنه فرج، واستمر المُلك فيهم، وفي أولادهم إلى الأشرف قانصوه الغوري، وابتداء دولتهم سنة أربع وثمانين وسبعماية، وانقضاؤها ثلاث وعشرين وتسعماية، فتكون مدة دولتهم ماية سنة وتسعة وثلاثين سنة.

وسبب انقضايها: فتنة السلطان سليم شاه بن عثمان، وقدومه إلى الديار المصرية، فخرج إليه سلطان مصر قانصوه الغوري، فلاقاه عند مرج دابق بحلب، وخامد عليه أمراءه خير بك والغزالي، فخذلوه وفقدوه، ولم يزل حتى تملك السلطان سليم الديار المصرية والبلاد الشامية، وأقام خير بك نايبًا بها كما هو مسطر ومفصل في تواريخ المتقدمين مثل: مرج الزهور لابن إياس، وتاريخ القرماني، وابن زنبل … وغيرهم.

وعادت مصر إلى النيابة كما كانت في صدر الإسلام.

ولما خلص له أي السلطان سليم أمر مصر عفا عن من بقي من الجراكسة وأبنائهم، ولم يتعرض لأوقاف السلاطين المصرية، بل قرر مرتبات الأوقاف والخيرات والعلوفات، وغلال الحرمين والأنبار، ورتب للأيتام والمشايخ والمتقاعدين، ومصارف القلاع والمرابطين، وأبطل المظالم والمكوس والمغارم، ثم رجع إلى بلاده، وأخذ معه الخليفة العباسي، وانقطعت الخلافة والمبايعة، وأخذ معه ما انتقاه من أرباب الصنايع التي لم توجد في بلاده، بحيث إنه فُقد من مصر نيفٌ وخمسون صنعة.

ولما توفي تولى بعده المغازي سليمان — عليه الرحمة والرضوان — فأسس القواعد، وتمم المقاصد، ونظم الممالك، وأنار الحوالك، ورفع منار الدين، وأخمد نيران الكافرين، وسيرته الجميلة أغنت عن التعريف، وتراجمه مشحونة بها التصانيف، ولم تزل البلاد منتظمة في سلكهم، ومنقادة تحت حكمهم من ذلك الأوان الذي استولوا علينا فيه إلى هذا الوقت الذي نحن فيه، وولاة مصر نوَّابهم، وحكامها أمراؤهم.

وكانوا العثمانيون في صدر دولتهم من خير من تقلَّد أمور الأمة بعد الخلفاء المهديين، وأشد من ذَبَّ عن الدين، وأعظم من جاهد في المشركين؛ فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتح الله على أيديهم، وأيدي نوابهم، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الممالك في الطول والعرض. هذا مع عدم إغفالهم الأمور، وحفظ النواحي والثغور، وإقامة الشعاير الإسلامية والسنن المحمدية، وتعظيم العلما وأهل الدين، وخدمة الحرمين الشريفين، والتمسك في الأحكام والوقايع بالقوانين والشرايع؛ فتحصنت دولتهم، وطالت مدتهم، وهابتهم الملوك، وانقاد لهم المالك والمملوك.

ومما يحسن إيراده هنا ما حكاه الإسحاقي في تاريخه: أنه لما تولى السلطان سليم ابن السلطان سليمان المذكور كان لوالده مصاحب يُدعى شمسي باشا العجمي، ولا يخفى ما بين آل عثمان والعجم من العداوة المحكمة الأساس. فأقر السلطان سليم شمسي باشا العجمي مصاحبًا على ما كان عليه أيام والده، وكان شمسي باشا المذكور له مداخل عجيبة، وحيل غريبة، يلقيها في قالب مرضي، ومصاحبة يسحر بها العقول، فقصد أن يدخل شيئًا منكرًا يكون سببًا لخلخلة دولة آل عثمان وهو قبول الرُّشا من أرباب الولاة والعمال، فلما تمكن من مصاحبة السلطان، قال له على سبيل العرض أي المصادفة: عبدكم فلان المعزول من منصب كذا، وليس بيده منصب الآن، وقصده من فيض فضلكم إنعامكم عليه بالمنصب الفلاني، ويدفع إلى الخزينة كذا وكذا. فلما سمع السلطان سليم ما أبداه شمسي باشا، علم أنها مكيدة منه، وقصده إدخال السو بيت آل عثمان، فتغير مزاجه وقال له: يا رافضي، تريد أن تُدخل الرشوة بيت السلطنة حتى يكون ذلك سببًا لإزالتها، وأمر بقتله، فتلطف به وقال له: يا باد شاه، لا تعجل هذه وصية والدك لي. فإنه قال لي إن السلطان سليم صغير السن، وربما يكون عنده ميل للدنيا، فاعرض عليه هذا الأمر، فإن جنح إليه فامنعه بلطف، فإن امتنع فقل له هذه وصية والدك فدُم عليها، ودعا له بالثبات، وخلص من القتل.

فانظر يا أخي، وتأمل فيما تضمنته هذه الحكاية من المعاني، وأقول بعد ذلك يضيق صدري ولا ينطلق لساني، وليس الحال بمجهول حتى يفصح عنه اللسان، بالقول شعر:

وقد أخرسني العجز أن أفتح فما
أفغير الله أبتغي حكما
وكانوا قديمًا على صحة
فقد داخلتهم حروف العلل

وفي أثناء الدولة العثمانية ونوابهم وأمرايهم المصرية، ظهر في عسكر مصر سُنَة جاهلية وبدعة شيطانية، زرعت فيهم النفاق، وأسست فيما بينهم الشقاق، ووافقوا فيها أهل الحوف اليام في قولهم سعد وحرام، وهو أن الجند بأجمعهم اقتسموا قسمين، واحتزبوا بأسرهم حزبين: فرقة يُقال لها فقارية، وفرقة يقال لها قاسمية، ولذلك أصل مذكور، وفي بعض سير المتأخرين مسطور، لا باس بإيراده في المسامرة، تتميمًا للغرض في مناسبة المذاكرة.

وهو أن السلطان سليم شاه لما بلغ من ملك الديار المصرية مُناه، وقتل من قتل من الجراكسة، وسامهم في سوق المواكسة، قال يومًا لبعض جلسايه وخاصته وأصدقائه: يا هل ترى هل بقي أحد من الجراكسة لم نره؟ وسؤال من جنس ذلك ومعناه. فقال له خير بك: نعم أيها الملك العظيم، هنا رجل منَّا قديم يسمى بسودون الأمير، طاعن في السن كبير، رزقه الله تعالى بولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد في الميدان، ولا يناظرهما فارس من الفرسان، فلما حصلت هذه القضية تنحى عن المقارشة بالكلية، وحبس ولديه بالدار وسدَّ أبوابه بالأحجار، وخالف العادة، واعتكف على العبادة، وهو إلى الآن مستمر على حالته، مقيم في بيته وراحته. فقال السلطان: هذا واللهِ رجل عاقل، خبير كامل ينبغي لنا أن نذهب لزيارته، ونقتبس من بركته وإشارته. قوموا بنا جملة نذهب إليه على غفلة لكي نحقق المقال، ونشاهده على أي حال هو من الأحوال. ثم ركب في الحال ببعض الرجال إلى أن توصل إليه ودخل عليه فوجده جالسا على مسطبة الإيوان، وبين يديه المصحف، وهو يقرأ القرآن، وعنده خدم وأتباع، وعبيد ومماليك أنواع. فعندما عرف أنه السلطان بادر لمقابلته بغير توانِ، وسلم عليه، ومثل بين يديه، فأمره بالجلوس، ولاطفه بالكلام المأنوس، إلى أن اطمأن خاطره، وسكنت ضمايره. فسأله عن سبب عزلته، وعدم اجتماعه بخلطته وعشيرته. فأجابه: أنه لما رأى في دولتهم انحلال الأمور وترادف الظلم والجور، وأن سلطانهم مستقل برأيه، فلم يصغِ إلى وزير، ولا عاقل مشير، وأقصى كبار دولته، وقتل أكثرهم بما أمكنه من حيلته، وقلد مماليكه الصغار مناصب الأمرا الكبار، ورخص لهم بما يفعلون، وتركهم وما يفترون؛ فسعوا بالفساد، وظلموا العباد، وتعدوا على الرعية حتى في المواريث الشرعية. فانحرفت عنه القلوب، وابتهلوا إلى علام الغيوب. فعلمت أن أمره في إدبار، ولا بد لدولته من الدمار. فتنحيت عن حال الغرور، وتباعدت عن نار الشرور، ومنعت ولديّ من التداخل في الأهوال، وحبستهما عن مباشرة القتال خوفًا عليهما، بما أعلمه فيهما من الإقدام، فيصيبهما كغيرهم من البلاء العام. فإن عموم البلاء منصوص، واتقاء الفتن بالرحمة مخصوص.

ثم أحضر ولديه المشار إليهما، وأخرجهما من محبسهما، فنظر إليهما السلطان، فرأى فيهما مخايل الفرسان الشجعان، وخاطبهما فأجاباه بعبارة رقيقة وألفاظ رشيقة، ولم يخطيا في كل ما سألهما فيه، ولم يتعديا في الجواب فضل التشبيه والتنبيه، ثم أحضروا ما يناسب المقام من موايد الطعام؛ فأكل وشرب، ولذَّ وطرب، وحصل له مزيد الانشراح، وكمال الارتياح.

وقدَّم الأمير سودون إلى السلطان تقادم وهدايا، وتفضّل عليه الخان أيضًا بالإنعام والعطايا، وأمر بالتوقيع لهم حسب مطالبهم، ورفع درجة منازلهم ومراتبهم، ولما فرغ من تكرُّمه وإحسانه، ركب عايدًا إلى مكانه، وأصبح ثاني يوم ركب السلطان مع القوم، وخرج إلى الخلا، بجمع من الملا، وجلس ببعض القصور، ونبَّه على جميع أصناف العساكر بالحضور، فلم يتأخر منهم أميرٌ ولا كبير ولا صغير، وطلب الأمير سودون وولديه، فحضروا بين يديه، فقال لهم: أتدرون لمَ طلبتكم، وفي هذا المكان جمعتكم؟ فقالوا: لا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب. فقال: أريد أن يركب قاسم وأخوه ذو الفقار، ويترامحا ويتسابقا بالخيل في هذا النهار. فامتثلا أمره المطاع؛ لأنهما صارا من الجند والأتباع، فنزلا وركبا ورمحا ولعبا، وأظهرا من أنواع الفروسية الفنون، حتى شخصت فيهما العيون، وتعجب منهما الأتراك؛ لأنهم ليس لهم في ذلك الوقت إدراك، ثم أشار إليهما فنزلا عن فرسيهما، وصعدا إلى أعلى المكان، فخلع عليهما السلطان وقلدهما إمارتين، ونوَّه بذكرهما بين الأقران، وتقيدا بالركاب، ولازماه في الذهاب والإياب.

ثم خرج في اليوم الثاني، وحضر الأمراء والعسكر المتواني، فأمرهم أن ينقسموا بأجمعهم قسمين، وينحازوا بأسرهم فريقين؛ قسم يكون رئيسهم ذو الفقار، والثاني: قاسم الكرار، وأضاف إلى الفقار أكثر العثمانيين، وإلى قاسم أكثر الشجعان المصريين، وميَّز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب، وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر في الملبس والركاب، وأمرهم أن يركبوا في الميدان على هيئة المتحاربين، وصورة المتنابذين المتخاصمين، فأذعنوا بالانقياد، وعلوا على ظهور الجياد، وانحدروا كالسيل، وانعطفوا متسابقين، ورمحوا متلاحقين، وتناوبوا في النزال، واندفعوا كالجبال، وساقوا في الفجاج، وأثاروا العجاج، ولعبوا بالرماح، وتقابلوا بالصفاح، وارتفعت الأصوات، وكثرت الصيحات، وزادت الهيازع، وكثرت الزعازع، وكاد الخرق يتسع على الراقع، وقرب أن يقع القتل والقتال، فنودي فيهم عند ذلك بالانفصال.

فمن ذلك اليوم افترقوا أمرا مصر وعساكرها فرقتين، واقتسموا بهذه الملعبة حزبين، واستمر كل منهم على محبة اللون الذي ظهروا فيه، وكره اللون الآخر في كل ما يتقلبون فيه، حتى أواني المتناولات والمأكولات والمشروبات، والفقارية يميلون إلى نصف سعد والعثمانيين، والقاسمية لا يألفون إلا نصف حرام والمصريين، وصار فيهم قاعدة لا يتطرقها اختلال، ولا يمكن الانحراف عنها بحال من الأحوال، ولم يزل الأمر يفشو ويزيد، ويتوارثه السادة والعبيد، حتى تجسم ونما، وأهرقت فيه الدما. فكم خرِّبت بلاد، وقُتلت أمجاد، وهُدمت دور، وأُحرقت قصور، وسُبيت أحرار، وقُهرت أخيار.

ولَرُبَّ لذةِ ساعة
قد أورثت حزنًا طويلا

وقيل غير ذلك، وإن أصل القاسمية ينسبون إلى قاسم بك الفتردار تابع مصطفى بك، والفقارية نسبةً إلى ذي الفقار بك الكبير، وأول ظهور ذلك من سنة خمسين وألف، والله أعلم بالحقايق، فقد اتفق أن قاسم بك المذكور أنشأ في بيته قاعة جلوس، وتأنق في تحسينها، وعمل فيها ضيافة لذي الفقار بك أمير الحاج المذكور، فأتى إليه وتغدى عنده بطايفة قليلة، ثم قال له ذو الفقار بيك: وأنت أيضًا تضيفني في غد، وجمع ذو الفقار مماليكه في ذلك اليوم؛ صناجق وأمراء واختيارية في الوجاقات، وحضر قاسم بك بعشرة من طايفته واثنين خواسك خلفه، والسعاة والسراج، فدخل عنده في البيت، وأوصى ذو الفقار أن لا أحد يدخل عليهما إلا بطلب. إلى أن فرشوا السماط، وجلس صحبته على السماط، فقال قاسم بك: حتى يقعدوا الصناجق والاختيارية. فقال ذو الفقار: إنهم يأكلون بعدنا، هؤلاء جميعهم مماليكي عندما أموت يترحمون عليَّ ويدعون لي، وأنت قاعتك تدعو لك بالرحمة؛ لكونك ضيعت المال في الماء والطين. فعند ذلك تنبه قاسم بك، وشرع ينشئ إشراقات كذلك.

وكانت الفقارية موصوفة بالكثرة والكرم، والقاسمية بكثرة المال والبخل، وكان الذي يتميز به أحد الفريقين من الآخر إذا ركبوا في المواكب أن يكون بيرق الفقاري أبيض، ومزاريقه برمانة، وبيرق القاسمية أحمر، ومزاريقه بجلبة، ولم يزل الحال على ذلك. حتى استهل القرن الثاني عشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤