رجل في مهمة خاصة!

رغم أنه رأى مَن يعبث بحقيبة يده الصغيرة التي تركها على الكرسي المجاور له، في أحد مطاعم «الوجبات السريعة» إلا أنه لم يهتمَّ. أو تظاهر بذلك، وتركه يُتمُّ مهمتَه، وهو يراقب ملامحه في هدوء.

فهو لا يعرف إن كان لصًّا عاديًّا، أم أنه رجلٌ في مهمة خاصة.

كان الرجل في الأربعين من عمره تقريبًا … هادئ القسمات … رشيقَ الحركات … يبدو من مظهره أنه ليس لصًّا عاديًّا … وعندما اقترب الجرسون يحمل الغداء ﻟ «أحمد»، اعتدل في جلسته، وبدَت على وجهه علاماتُ الارتياح. وبدأ يستعدُّ لمغادرة المطعم، مما يدلُّ على أنه أنهى مهمته بنجاح، رغم أنه لم يأخذ شيئًا من الحقيبة. فهل وضع بها شيئًا؟

وتساءل «أحمد»: هل يعني أنه من جماعة الشياطين، أم أنه من إحدى المنظمات المتعاونة معهم؟ وأراد أن يعرف ذلك بالنظر والتحديق في عينيه. فوجده يهرب بهما بعيدًا، ويغادر المطعم مسرعًا.

ودون أن يتناول طعامه، ترك الحساب ومعه بقشيش كبير بجوار الأطباق … ولَحِق بالرجل يراقبه عن بُعد. وعبرَ خلفه الطريق … وبعد مسافة سير قصيرة … فتح باب سيارته … مما أشعر «أحمد» بحرج الموقف. فقد ترك سيارته أمام المطعم، فهل يعود إليها جريًا، أم يهاجمه ويعرف ما وراءه؟ ورأى أن الفكرة الأولى هي الأصوب، إلا أنها أضاعَته منه … وفي طريق عودته إلى المقرِّ الفرعيِّ بالهرم، أفرغ محتوياتِ الحقيبة، فلم يجد شيئًا قد اختفى منها … إلا أن قلمه الحبر قد تم العبث به؛ فقد وجده مفتوحًا، رغم أنه يحرص دائمًا على إحكام غلقه، حتى لا يسيلَ منه الحبر … وقد كان يحب الكتابة بهذا النوع من الأقلام بالذات.

فتفحص غطاءَه برفق … فوجد أن جسمًا غريبًا يُشبه كبسولة الدواء قد حُشر في آخره … مما جعله يتساءل … هل هي رسالة؟ أم أنها قنبلة صغيرة الحجم، ذات مهمةٍ تفجيرية محدودة، أم أنها تحوي غازًا سامًّا … أو مخدرًا … وعند إغلاق القلم … تتم مهمته، إما بموته … أو بنومه؟ والأخيرة تعني أن هناك مَن يراقبه حتى ينام، فيحصل منه على شيء ما. أو عليه هو … أي اختطافه …

وقد جعلَته الفكرة الأخيرة … يراقب في المرآة … ما يتحرك حوله من سيارات إلا أنه فطن إلى أن هذه الكبسولة لن يكون لها تأثير … إلا إذا قام بإغلاق القلم.

لذا فقد لفَّ الغطاء وحده، وكذا باقي القلم في مجموعة من المناديل الورقية ووضعها برفق في تابلوه السيارة.

وشعر وقتَها بحاجته للاتصال بأحد الشياطين … إلا أنه تذكَّر أنهم بالمقرِّ السريِّ الكبير بالصحراء الغربية … والاتصال بهم سيحتاج لجهاز اتصال ذي ترددات عالية لبُعد المسافة … مما قد يؤثر على القنبلة الكبسولة المجهولة الهوية … فيؤدي إلى انفجارها ورغم ازدحام الأفكار في رأسه، كانت عيناه على الطريق من خلال مرآة السيارة، فلاحظ أن سيارة «مرسيدس» رياضي سوداء، لها فوانيس كعيون «القط البري» تُتابعه عن بُعد، ويحاول قائدها الاحتفاظ بمسافة ثابتة تقريبًا بين السيارتَين … فغمغم قائلًا لنفسه: أخيرًا وجدتُ مَن يسلِّيني.

وعبر أحد الشوارع الجانبية، خرج من شارع «الهرم» إلى شارع «فيصل» وترك مراقبَه يحاول التخلص من زحام السيارات للحاق به.

وفي شارع «فيصل» كان «أحمد» يسير ببطء. وكأنه ينتظر حضورَ مراقبِه، وقد كان؛ فلم تمضِ عشر دقائق إلا وكان «القط الأسود البري» يراقبه عن بُعد مرةً أخرى.

وهنا تأكد أن الكبسولة المحشورة في غطاء القلم، ما هي إلا جهاز إرسال يقوم بإطلاق إشارات، يتتبَّعُها جهاز استقبال موجود في سيارة الرجل المطارِد، وبذلك يضمن ألَّا يغيبَ عن عينيه.

وبعد اتصال سريع أجراه بالمقرِّ الفرعيِّ، انحرف في أحد الشوارع الجانبية، وحين عاد إلى الطريق، كان قد بدَّل سيارته مع أحد أعضاء المنظمة. وتنفَّس قائد «القط الأسود» الصعداء؛ فقد رأى صيده يعود مرةً أخرى … ولم يعرف أن مَن بالسيارة رجل آخر غير «أحمد» … وأنه يتابعه من الخلف في سيارة «شيروكي»، وأنه أصبح مثل إصبع «السجق» في «السندويتش».

وابتسم «أحمد» حين تخيَّل الرجل وهو ينام وسط الصلصة وشرائح الخضراوات؛ فقد مرَّ برأسه نفسُ الخاطر … وفجأة … ووسط ازدحام الطريق، وبالقرب من ترعة «المريوطية» رأى ذراع رجل المنظمة تُفرد عن آخرها خارج السيارة، مطوحةً في الهواء بغطاء القلم … الذي ما إن استقر على الأرض، إلا وأحدث دويًّا هائلًا لا يتناسب مع حجم الكبسولة المحشورة فيه … ولمح في هذه اللحظة سيارة الرجل المطارِد تحاول الخروج من الزحام إلى أحد الشوارع الجانبية مما أحدث ارتباكًا في حركة المرور، وعلَت أصوات آلات التنبيه واختلطَت بصيحات غضب الكثير من قائدي السيارات، فحوَّل اتجاهه إلى الرصيف الفاصل بين الاتجاهَين، وعبرَه في سهولة ويسر، وأطلق العنان لسيارته في اتجاه الجيزة.

جُنَّ جنون «أحمد»؛ فقد كانت سيارته غارقة وسط الزحام، إلا أنه لمح سيارة رجل المنظمة تنطلق خلف «القط البري» في براعة، في اللحظة التي شعر فيها بوخز في رسغه من ساعة يده، فعرف أنها رسالة، وكانت تقول: سنتصل بك بعد ساعة في المقر … الشياطين.

فلم يجد مفرًّا من التوجه إلى المقر، وترك مطاردة «القط البري» … لرجل المنظمة … واتصل به ليُخبرَه بذلك، فعرف منه أن سيارات الشرطة قد أحاطَت به عند نفق الجيزة … وأنه مقبوضٌ عليه الآن، ويجلس بجواره ضابطٌ شابٌّ … أما عن القط البري … فقد هرب.

كان «أحمد» يعرف أن رجل المنظمة سيُفرَج عنه بمجرد وصوله إلى مديرية الأمن، وليس هذا ما يشغله. بل ما يشغله هو … لماذا وضع ذلك الرجل القنبلة في حقيبته؟ ومَن يكون هو؟ وكيف عرفه، وأين هو الآن؟ وماذا سيفعل بعد أن علم بفشل مهمته … وهل سيُكررها … وهل هو ثأر شخصي أم أنه عميل لمنظمة ما؟

وحده في قاعة الاجتماعات، جلس «أحمد» يتلقَّى رسالة المقر. وقد بدأَت بتقرير يقول: في عملية «ثورة الأخطبوط»، تمَّ تصوير فيلم كامل لما كانت تحتويه الأنبوبة العملاقة، وقد تم نقل هذا الفيلم على ديسك كمبيوتر يحوي أيضًا الكثيرَ من المعلومات.

وقد تم تشفير هذا الفيلم … وتشكُّ البقية الباقية من جماعة «سايبرسبيس» في وجود نسخةٍ من الديسك تحمل حلَّ الشفرة، مع المجموعة التي اشتركَت في عملية «ثورة الأخطبوط» وهم لا يعرفون من هذه المجموعة غيرك أنت و«إلهام» … وسيحاولون الوصول للديسك أولًا بأي ثمن …

انتهى التقرير وانتهَت رسالة المقرِّ … ولم يستدعه رقم «صفر» للحضور، ولم يُكلِّفْه بمهامَّ جديدةٍ، فتخلص من آثار اليوم، وتناول عشاءه، واستسلم للنوم في غرفته، غير شاغل نفسه بشيء؛ فقد نصحهم طبيبُ المقرِّ بعدم التفكير أثناء الاستلقاء على السرير استعدادًا للنوم. فالسرير للنوم … وللتفكير أماكن أخرى.

وقُرب الفجر … شعر بحركة غريبة حول المقرِّ، ثم في حديقة الفيلا، فانتفض واقفًا؛ فقد اقتربت هذه الحركة جدًّا، حتى إنه شعر بخطوات داخل مبنى المقر … واتصل بأمن البوابة … فأخبروه بأنهم مجموعة من الشياطين … وبالاتصال بهم، عرَف أنهم يسألون عنه … فوعدهم باللقاء في قاعة المعيشة.

كان «أحمد» في شوق لرؤية الشياطين، فقصَّ عليهم ما حدث، فأخبرته «إلهام» بأن «القط البري» هذا يذكِّرها بعلامة كانت تراها على كفِّ أحد الحراس في نادي «إيجل كلوب» في «سويسرا». وقد كان هذا الإنسان بالذات فظًّا جدًّا معها … وكان رأيُ «أحمد» أنه ليس من المعقول الربط بين نوع سيارة وبين علامة على يد رجل … فقال له «مصباح» ألم تلاحظ هذه العلامة على ملابس ذلك اللص أو جسده؟

«أحمد»: كل ما أذكره … أن جسده رشيقٌ جدًّا، وتكوينه رياضيٌّ، وحركاته مرنةٌ وقراراته سريعةٌ.

«إلهام»: إنها صفات قريبة الشبه من «القط البري» …

«ريما»: ألم تنظر في عينيه؟

«أحمد»: نعم، ولكنه كان يراوغ بهما بعيدًا عني.

«عثمان»: لقد بدأتم تُثيرون فضولي … فقط أطلق «أحمد» دون قصد اسمَ «القط البري» على الرجل، واصفًا سيارته، ليتضحَ في النهاية، أن كلَّ شيء في هذا الرجل يُوحي بأنه قطٌّ بريٌّ.

أحمد: نعم … فعندما شاهد انفجار غطاء القلم، الذي وضعه في حقيبته، وكان الشارع مزدحمًا من حوله، وأراد أن يهرب بالسيارة … صَعِد بها على الرصيف الفاصل بين الاتجاهَين، في جرأة بالغة ليتحول إلى الاتجاه المضاد.

عثمان: من الواضح أن العملية القادمة هي عملية «القط البري».

زبيدة: تقصد أنها جماعة، لها صفاتُ القط البري، وتُطلق على نفسها هذا الاسم … أي تتخذه شعارًا لها؟

أحمد: لِم لا؟

إلهام: وما الهدف الذي تسعى وراءه؟

أحمد: الهدف يتفق مع معرفة على ما تعيش القطط البرية؟

عثمان: على الصيد.

إلهام: إذن هذه الجماعة مهمتها الصيد؟

أحمد: نعم … ولكن ليس الصيد لتأكل.

ريما: ولكن لتقايض.

فقال «فهد» بصوت مزمجر: أفهمكم.

فضحك الشياطين، وقال «عثمان»: طبعًا تفهمنا يا «فهد» … فأنت نوع من الأنواع الكثيرة للقطط. ولكن … هل أنت قريب الشبه بالفهد حقًّا؟

إلهام: نعم … فأنا أعرف أن «فهد» ذو طبيعة جميلة، وهي طبيعة تتسم بها بلده «سوريا» … ﮐ «لبنان» بلدي. وهذه الطبيعة تُكسب صاحبَها صفاتٍ بريةً. وبالذات إذا كان حبُّه للجبل يفوق عشقَه للسهول.

فهد: لقد تأثرتُ في ذلك بوالدي رحمه الله … الذي مات في الجولان وهو يحارب ضد احتلال إسرائيل لها.

مصباح: وما موضوع المقايضة هذا؟

فهد: أي يقومون بعمليات صيد لصالح آخرين، نظير تقديم الآخرين خدمات لهم.

انقطع الحديثُ فجأة؛ فقد شعر الجميع بوخز في رسغهم وعرفوا أنها رسالة، فضغط «أحمد» زرَّ ساعته، وقرأ على شاشتها: افتح جهاز الاستقبال. فأشار ﻟ «عثمان» الذي قام بإدارته … في اللحظة التي ردَّ فيها على الرسالة بكلمة: عمل اللازم. فملأت الشاشة رأس سوداء، غزيرة الشعر، يتوسطها عينان فضيتان لامعتان … تعاطفَت «إلهام» معها قائلةً: يا لَه من قطٍّ جميلٍ!

إلا أنه كشَّر عن نابَين طويلين برزَا خارج فمه لأسفل.

فصاحَت «ريما» قائلة: إنه يفعل كأسد شركة «مترو» للسينما!

وهنا ردَّ «صفر» قائلًا: نعم. ولكنها ليست هذه المرة شركة إنتاج، بل جماعة من الجماعات المعادية للعرب وللإسلام، وهي منتشرة في أنحاء العالم الغربي، وفي «أمريكا». وقد اتفقت هذه الجماعة في الهدف مع جماعة «سايبرسبيس»، فاستخدمتها الأخيرة للانتقام منَّا، فأصبح لها مهمةٌ مزدوجة.

أحمد: وما هي؟

صفر: الأولى ومهمتها الرئيسية هي إنتاج أو المساعدة في إنتاج أعمال فنية تساعد على تشويه صورتنا، والبُعد عن مبادئنا وديننا وأخلاقنا.

إلهام: ثم!

صفر: ثم نصير شعوبًا بلا هوية … أي تابعة، ويسهل وقتَها قيادتنا من أصحاب المصلحة. وتُحقق بذلك إسرائيل حلمَها القديم، في دولة من النيل إلى الفرات، وهم في سبيل ذلك يُقدِمون على فعلِ أيِّ شيء، كالقتل.

أحمد: والخطوة القادمة؟

صفر: هم الآن في حالة إثارة، بعد الضربة التي قمنا بها في «أنماس بسويسرا»؛ لذا سيبادرون هم بالحركة المستمرة والدائمة. وذلك له أكثر من فائدة.

الأولى: أن ذلك يؤدي بهم للوقوع في أخطاء، سنجعلها نحن مداخلنا إليهم.

الثانية: أننا سنقف على طريقة عملهم، وأساليبهم الدفاعية والهجومية.

الثالثة: أن نُرهقهم بكثرة الحركة ونصطادهم نحن وهم متعبون.

إلهام: إنها طريقة «القطط» في اصطياد «الفئران».

صفر: هذه المرة … ومعنا نحن، سيكونون هم الفئران.

كان حديث «صفر» الواثق النبرات … يُثير حنَق «أحمد»، وقد لاحظَت «إلهام» ذلك. فسألَته قائلة: ماذا بك يا «أحمد» … ألستَ راضيًا عمَّا يقوله الزعيم؟

أحمد: بصراحة لا …

فقالت «إلهام» في دهشة: لماذا لم تناقشه إذن، وهذا حقُّنا كما تعلَّمنا … ألَا تذكر؟

أحمد: نعم … من حقك ألَّا ترضى، ولكن من حقنا أن نعرف لماذا؟

إلهام: نعم؛ فليس من حقك أن تُخفيَ عدمَ رضائك، وإلا سيكون خطرًا على المجموعة.

ابتسم «أحمد» وهو يقول: ليس الأمر بهذه الخطورة.

إلهام: كيف؟

أحمد: الموضوع أن الزعيم قلَّل من خطورة مواجهة القط البري … إلى الحدِّ الذي ضيَّع عليَّ الشعور بمتعة المنافسة ففقدتُ حماستي للتعامل معها، وهنا تدخَّل «مصباح» قائلًا: لست معك في هذا؛ فلم يقلل «صفر» من خطورة «القط البري» ولكن كشف لنا عن أسلوب مواجهته.

ريما: لا لا … لقد فهمت. ﻓ «أحمد» كان يريد تحديدَ أسلوب العمل بنفسه وفقًا لما تقتضيه الظروف.

أحمد: ولكن في حدود الخطة الكلية العامة التي يضعها المقر.

إلهام: ألَا يكفي أننا لم نُكلَّف بمهمة محددة حتى الآن … أي أنهم يتركون لنا تحديد المدخل لمواجهتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤