الفصل الأول

(١) السُّلْطانُ الْهِنْدِيُّ

عاشَ — في قَدِيم الزمانِ — سُلْطانٌ هنْدِيٌ، قويُّ الْبَأْسِ، غليظُ الْقَلْبِ. وكان يَخْضَعُ لهذا الظالِمِ الطَّاغِيَةِ جَماعةٌ مِنَ الوُلاةِ، يَحْكُمونَ كَثيرًا مِنْ مُدُنِ الهنْدِ وبِلادِها الزَّاخِرَةِ (الْمَمْلُوءَةِ) بِالأُلوفِ مِنَ الأهْلِينَ. وكانُوا لا يَسْتطِيعُونَ أَنْ يُخالِفُوا لَهُ قَوْلًا، أوْ يَعْصُوا لَهُ أمْرًا.

وكانَ كلَّما رأَى تِلْكَ الطَّاعَةَ الْعَمْياءَ، أَضَلَّهُ الِاسْتِبدادُ، فأَسْرَف في ظُلْمِهِ. وتَمادى بِهِ الزَّمَنُ عَلَى ذلِكَ، فَخُيِّلَ إليْهِ أنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْخَطَأِ، وأَنَّ مَا يَجُوزُ عَلَى غَيْرِهِ — مِن الْوَهْمِ والنِّسْيانِ والْغَلَطِ — لا يَجُوزُ عَليْهِ.

(٢) الوَزيرُ العادِلُ

ولَوْ كانَ الْأمْرُ مَوْكُولًا إلَى ذلكَ الْمُسْتَبِدِّ الطَّاغِيَةِ، لَزُلْزِلَ حُكْمُه، واضْطَربَ أمْرُهُ — فِي وَقْتٍ قَصير — لِأنّ الْعَدْلَ أساسُ الْمُلْكِ، والْبَغْيَ مَرْتَعُهُ وَخِيمٌ.

عَلَى أَنَّ هذا السُّلْطانَ الظَّالِمَ كانَ لَهُ وزيرٌ عادِلٌ يَثِقُ بهِ؛ يُسَمَّى «سِيلا». وَقَدْ كان هذا الْوَزِيرُ — إلَى عَدْلِهِ — رَحِيمًا، بَصيرًا بِعَواقِبِ الأُمورِ، أصيلَ الرّأيِ، حَسَنَ التَّدْبيرِ، لا يُفَكِّرُ إلِّا في إسْعادِ الشَّعْبِ، وتأمِينِ البِلادِ مِنْ أعدائها. فهُو يُعالِجُ حَماقةَ السُّلطانِ بِبَراعَتِهِ وكِياسَتِهِ، وَيَمْنَعُ طُغْيانَهُ بِذَكائهِ ولُطْفِ حِيلتهِ.

(٣) إخلاصُ الوَزيرِ

وقَدْ عَرَفَ السُّلطانُ فضْلَ وزِيرِه، ورَأى سَدادَ تَدْبيرِهِ، وأصالةَ رَأْيهِ، في حَلِّ مُشْكِلاتِ الدَّوْلةِ، فأَحَبَّهُ حُبًّا شَديدًا، ومَنحهُ ثِقَتَهُ، فَلَمْ يُخالِفْ لهُ مَشُورةً، ولم يَنْقُضْ لهُ رَأْيًا. ووَهَبَهُ الجزيلَ مِنَ الْعَطايا، والنفِيسَ منَ الْهَدايا.

أمَّا الشَّعْبُ فَقَدْ أحَلَّ الْوَزِيرَ — مِنْ نَفْسِهِ — أسْمَى مَكانَةٍ، وَقَدَّرَ إخْلاصَهُ وَعَدْلَهُ وَكَرَمَ خُلُقِه أجْملَ تَقْديرٍ.

(٤) نَصِيحَةُ «سِيلا»

وَفي أواخِر أيَّامِ ذلِكَ السُّلْطانِ، اخْتَبَلَ عَقْلُهُ واشْتَدَّ طُغْيانُهُ. وضَجِرَ بهِ الوَزِيرُ، فلَمْ يَسْتَطِعِ الْبَقاءَ مَعَهُ، لِما رَآهُ مِنْ سُوءِ تَصَرُّفِه، وَشِدَّةِ عَسْفِه.

وَأَدْرَكَ الوَزيرُ — بِثاقِبِ فِكْرِهِ، ونافِذِ بَصِيرَتِه — أنَّ الْقَوانينَ الْجَديدةَ الظَّالِمَةَ الَّتي أمَرَهُ السُّلطانُ بتَنْفيذِها، غَيْرُ مَحْمُودَةِ الْعَواقِبِ. فاضْطُرَّ إلَى تَبْصِيرِ مَوْلاهُ بِما تَجُرُّهُ عَلْيهِ مِنَ الْأذِيَّةِ وسُوءِ الْمَصِيرِ.

(٥) غَضَبُ الطَّاغِيَةِ

ولَمْ يَكَدِ الْوَزِيرُ يُكاشِفُ سَيِّدَهُ بنَصِيَحتِهِ الصَّادِقَةِ، حتَّى ثارَ ثائِرُهُ، وتوَعَّدَهُ بالْوَيْلِ، إذا قَصَّرَ في تَنْفيذِ مَشيئَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَ وَعِيدَهُ قائِلًا: «لا بُدّ أنْ تُنَفِّذَ مَشِيئَتِي، وَتُطِيعَنِي طاعَةً عَمْياءَ، وَإلَّا عَرَّضْتَ نَفْسَكَ لِبَطْشِي وانْتِقامِي.»

وعَرَفَ الْوَزِيرُ صِدْقَ وَعيدِ مَوْلاهُ. وأَيْقَنَ أنّهُ لَنْ يَتَرَدَّدَ فِي الْبَطْش به، متَى وقَفَ فِي سَبيلِ طُغْيانِه، وكَبْحَ هَواهُ الجامِحَ، ولكِنَّهُ عَرَفَ — إلَى ذلكَ — أنَّهُ سَيَقْضِي حَياتَهُ كلَّها — إذا شارَكَ سَيِّدَهُ في جَوْرِهِ — مُضْطَرِبَ الْبالِ، وأنّ ضَمِيرَهُ سَيُؤَنِّبُهُ عَلَى ذلكَ طُولَ عُمْرِه، فآثَرَ الْمَوْتَ (اخْتارَهُ) على تَعْذِيبِ الضَّمِيرِ.

(٦) الإِنْذارُ الأخِيرُ

واشْتَدّ غَضَبُ السُّلْطانِ وَهِياجُهُ — منْ عِنادِ وزيرِهِ — فَنادَى حُرَّاسَهُ، فلّبوْا نِداءَهُ مُسْرِعينَ. ثُمّ الْتَفَتَ إلَى وزِيرِهِ مُتَوَعِّدًا، وأنْذَرَهُ قائِلًا: «الآنَ أدَعُ لَكَ آخِرَ فُرْصَةٍ قَبْلَ أنْ أبْطِشَ بِكَ. فإذا أفْلَتَتْ مِنْكَ هذِهِ الفُرْصَةُ، فلَنْ تَظْفَرَ بِمثْلها أبَدًا؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَنْتَظِرُكَ متَى أصْرَرْتَ عَلىَ عِنادِكَ. فَخَبِّرْنِي الآن: هَلْ قَبِلْتَ تنفيذَ مَشِيئَتِي؟»

فَهزّ الْوَزِيرُ «سِيلا» رَأْسَهُ رافِضًا أَمْرَ مَوْلاهُ، في ثَباتٍ وإصرارٍ.

فَصاحَ السُّلْطانُ — في حُرَّاسِهِ — قائِلًا: «هَلُمُّوا، فاقْبِضُوا عَلَى هذا الأَثِيمِ، واسْجُنُوهُ في أَعْلَى بُرْجِ الْهَلاكِ، حَيْثُ يَقْضِي بَقِيَّةَ أَيَّامهِ مُعَرَّضًا لِحَرارَة الشَّمْسِ الحامِيةِ — دونَ طعامٍ أوْ ماءٍ — حتَّى يهْلِكَ جُوعًا وعَطَشًا، جَزاءً لَهُ عَلَى عنادِهِ.»

(٧) حَيْرَةُ الْحَرَس

وتحَيَّرَ الْحُرّاسُ في أَمْرِهِمْ، فَلَمْ يَدْرُوا ما يَصْنَعون. واقْتَرَبوا مِنَ الْوَزِيرِ الْعَظِيمِ مُتَباطِئينَ مُترَدِّدِينَ. فَقَدْ عَرَفوا مَكانَهُ الْخَطيرَ، ولَمْ يَنْسَوْا أنَّهُ أصْدَرَ الْأَحْكامَ — سِنينَ عِدّةً — بِاسْم السُّلْطانِ، وأنّهُ أكبَرُ رَجُلٍ — بَعْدَهُ — في الْمَدِينَةِ. وكَذلكَ عَرَفوا لَهُ عَدْلَهُ في الرّعِيَّةِ، ورَحْمَتَهُ بالضُّعَفاءِ والْمُذْنِبينَ. فلَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ منْهُمْ عَلى مَسِّهِ بِيَدِهِ.

ولكِنَّ الْوَزيرَ أَنْقَذَهُمْ مِنْ حَيْرَتِهِمْ وارْتباكِهِمْ، وسَرَّى عَنْ نُفوسِهِمُ الْمُكْتَئِبَةِ (الْمَحْزُونَةِ)، حينَ قالَ لَهُمْ هادِئًا: «لا تَخافوا ولا تَنزعِجُوا، أيُّها الأُمَناءُ الْكِرامُ، ولا يَقْلَقْ بالُكُمْ، فإنَّني لَنْ أُحْوِجَكُمْ إلى الْقَبْضِ عَلَيّ. وَهأَنَذا أتقَدَّمُكُمْ إِلَى بُرْجِ الْهَلاكِ، تَنْفيذًا لإرادةِ موْلانا السُّلْطانِ.»

•••

ثُمّ خرَجَ الْوَزِيُر مِنْ حُجْرَةِ السُّلْطانِ، وقد اكْتَنَفَهُ الْحُرّاسُ (أحاطُوا بهِ). وما زالَ سائرًا أمامهُمْ، فِي هُدوءٍ وَاطْمِئْنانٍ، وهُوَ مَرْفوعُ الرَّأْسِ، مَوْفورُ الْكَرامَةِ، وقَدِ امْتلأَ قَلْبُه رِضًا، بَعْدَ أنْ أدَّى واجِبَهُ أحْسَنَ أداءٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤