الفصل الثامن

خرجت سلمى العجوز هائمة حيرى تعضُّ بنانها غيظًا وحنقًا، ولم يكن غضبها؛ لأن صلتها انقطعت بقوم عاشت في كنفهم عيشة الرغد والنعيم، ولا لأن أواصر رحمة وحنان تشبه أواصر الأمومة كانت بينها وبين نجلاء قد تفكَّكت، ولكنها غضبت واشتد غضبها؛ لأنها لم تحكم المكيدة، ولم تأخذ حيطتها لكل طارئ. وحزنت للفنِّ أكثر من حزنها على نفسها، وخشيت أن يكون لعلوِّ السن يد في اضطراب تفكيرها، وأنها كلما تقدمت بها السنون فقدت هذه المواهب الغالية شيئًا فشيئًا، حتى تصل إلى الخرف،١ ورأت رجليها تسوقانها إلى بيت قرعويه، فلما مثَلت أمامه — وكان فهد واقفًا إلى جانبه — عرف بذكائه أن في الأمر شيئًا فقال: أهلًا بسلمى. هل طار العصفور من القفص؟

– طار يا سيدي لأن القفص كانت به فجوة تسع النسر. والذنب ذنب صانع القفص، وقد جاء إليك اليوم حزينًا معتذرًا.

– هوِّني عليك يا سلمى فمثلك من يستطيع صنع قفص جديد لا تنفذ منه الذبابة. والخيبة أول مراتب الفوز. ماذا حصل؟

فقصت عليه العجوز في خجل واستخذاء جملة الأمر، فلما انتهت من الكلام رفع رأسه في عبوس وصلابة، والتفت إلى فهد وقال: ما كان ينبغي لنا أن ندخل صوفيا في الأمر، فإنها فجوة القفص الواسعة التي فر منها العصفور، ولكن … لا بأس عليك يا سلمى، أقيمي بدارنا فإننا دائمًا إليك في حاجة. وفي هذه اللحظة دخل خادم ومعه بطاقة فناولها لقرعويه فقرأها عابسًا مرة وباسمًا أخرى، وقال: هذه رقعة من محمد الخالدي يدعوني للعشاء عنده الليلة، ولعله يحتفل لعودة الصفاء بين الصديقين! ثم التفت إلى فهد وقال: قل لحامل الرسالة إنني سأجيب الدعوة.

وكانت ليلة مشرقة حقًّا، ضاحكة حقًّا. نُبِذَت فيها الكلفة، وأرسلت النفوس على سجيَّتها، وأعد فيها كل ما يُبهج ويَسُرُّ، وكانت نجلاء في روعة جمالها، وحسن زينتها ولطف حديثها، شرَك القلوب، وملتقى العيون. أما أبو فراس فقد استخفه الطرب، فطار مع اللذات حيث طارت، وقذف بثوب الوقار من النافذة، وكانت نجلاء تكثر من تحية قرعويه، ومن الإقبال عليه كأنه لم يكن منه ما كان، وكأن لم يُخش منه ما يكون. والنساء النساء لا يَلَذُّ لهن تسميم أعدائهن إلا في كوب عسل! وقامت صبح فأتقنت الرقص، وأجادت الحركات.

وكانت دقات صنوجها فنًّا من الفن، وطربًا من الطرب، وغنَّت نشوة من قول أبي فراس:

ولما ثار سيفُ الدين ثُرنا
كما هيجت آسادًا غضابًا
أسنَّتُه إذا لاقى طعانا
صوارمه إذا لاقى ضرابا
دعانا والأسنة مُشْرَعاتٌ
فكنا عند دعوته الجوابا
وكنا كالسهام إذا أصابت
مراميها فرامِيها أصابا

ثم غنت من قوله:

ألزمني ذنبًا بلا ذنبٍ
ولج في الهجران والعَتْبِ
أحاول الصبر على هجره
والصبر محظور على الصبِّ
وأكتم الوجد وقد أصبحتْ
عيناي عينيه على قلبي
وكنتُ ذا صبر وذا سلوةٍ
فاستُشْهدا في طاعة الحبِّ

فاهتز القوم من الطرب وعلت صيحاتهم، وما فَجَعَهم إلا شعاع من الشمس يسطع على الحيطان، فقاموا، ودعت نجلاء أبا فراس فهمس في أذنها: متى تصلني منك رسالة يا نجلاء فضحكت وقالت: لقد أذعتُ سرَّ خطبتنا فليس علينا بعد اليوم من حَرَج، فاحضر متى شئت وكيف شئت.

وفي صبيحة يوم دخلت مارينا غرفة نوم رملة ورفعت الستور فرأتها في سريرها عابسة، وقد دلت أساريرها أنها لم تنم ليلتها، فقالت لها مارينا: لقد عرفت كل شيء من سهم.

– ومَن سهم هذا؟

– خادم القصر الذي وهبه سيدي سيف الدولة لأبي فراس.

– وما شأنه؟

– لقد فرَّ المسكين من سيده بعد أن انكشفت الدسيسة التي اشترك فيها هو وسلمى العجوز وفهد خادم قرعويه، وكان الغرض من هذه الدسيسة التفريق بين أبي فراس ونجلاء، فإنه قد جُنَّ بحبها جنونًا. فتنهدت رملة وقالت: علمت ذلك حينما أطللت عليهما من نافذة القصر.

– لقد لبثت طول الليل أفكر في وسيلة لإبعاد نجلاء عنه وتيئيسه من الحصول عليها، ثم في اجتذابه إلى القصر، والاستعانة بنفوذ مولاي سيف الدولة من حيث لا يشعر، حتى يأتي خاضعًا يستجدي رضاك.

– وهل اهتديت إلى شيء؟

– أظن. أتعرفين غالبًا التميميَّ؟

– هو من كبار الجنود في جيش أخي. فضحكت مارينا وقالت: وهو حبيبي المفتون بي، والذي إذا أمرته أن يتسلق الشمس فكَّر في طريقة للوصول إليها.

– وماذا تريدين منه أن يفعل؟

– آه. هنا يقف السرُّ فلا يتقدم خطوة واحدة، فثقي بي يا سيدتي، ولا تتعبي رأسك بالدسائس، فإنها شائكة معقَّدة.

وبعد أيام زارها غالب في هداة من الليل، فانفردت به في حجرة بحديقة القصر، وطال بينهما الحديث والجدل، وخرج غالب بعد ساعتين وجبينه يتصبَّب عرقًا، وهو يهمس في أذنها: إنها مسألة شديدة الخطر يا حبيبتي، وأخشى أن يُقضى عينا جميعًا إذا كشف أمرها.

– كن رجلًا، واعلم أن حبي وزواجي بك في كِفَّة، وقضاء هذا الأمر على ما أريد في كِفة، فاختر أية الكفتين شئت.

– اخترت الكفة التي فيها حبك، ولو سقطت بي إلى الجحيم، وسأعمل بكل ما أمرت ودبَّرت.

وبعد هذه الليلة بسبعة أيام أو ثمانية، ركب أبو فراس للقاء نجلاء في دارها فرأى الدار في اضطراب مائج، وأقبل عليه محمد الخالدي باكيًا، يضرب بكفٍّ على كف، ويقول: فقدنا نجلاء! فقدنا نجلاء، لقد ماتت، لقد ماتت! ولكن أين جثتها؟ لقد بحثنا في كل ركن، وفي كل درب، وفي كل زقاق من المدينة وأرباضها، فلم نجد لها أثرًا. خرجت هذا الصباح لزيارة إحدى صويحباتها فلم تصل إلى دارها، وكأنما غاصت بها الأرض، أو تخطَّفتها السماء. فذهل أبو فراس وكأن عاصفة جرفت به الأرض، فلوى عنان فرسه كالذاهل المجنون، ينظر في وجه كل شخص ويبحث في كل زاوية، ويمرُّ على كل بيت يظن أنها طرقتْه، حتى إذا يئس في أخريات الليل ذهب إلى داره شبحًا محطَّمًا، ولم يبقَ فيه من الحياة إلا زفرات وأنَّات ودموع.

ومرت الأيام تتلو الأيام ولا يُعلم لنجلاء مكان، واهتم سيف الدولة ورجال دولته بالبحث عنها فلم يفلحوا، وكاد مرور الزمن، وتراكم اليأس على اليأس يمحو ذكراها من نفوس الناس إلا من نفس واحدة حزينة: هي نفس أبي فراس. واتهم قرعويه أبا فراس بأنه اختطف نجلاء، واتَّهمه أبو فراس بأنه اختطفها، ولكن التُّهم لم تتجاوز شبهات لا تقف على رجلين. فذهب إليه أبو فراس مرة بعد أن طغت عليه وساوسه، فلما تقابلا جعل كل منهما ينظر إلى صاحبه نظرة الثعلب إلى الثعلب، وقال أبو فراس: وهكذا يا صاحبي عجز رجالك عن معرفة مكان نجلاء!

– يظهر أن من دبَّر اختطافها كان في ذكائك وحصافتك فلم يترك وراءه أثرًا يدلُّ عليه.

– لا بد أن تكون له سابقة في الدسائس، ودُرْبة في نصب الحبائل.

– على أنني لا أستبعد مطلقًا أن تكون في حلب، وأن تكون في دار رجل عظيم مثلك.

– وقد يكون مختطفها رجلًا غيورًا، فاختطفها ليروضها على حبه، ويكرهها عليه إكراهًا.

– إني لا أجد من يستطيع ردَّها سواك يا سيدي أبا فراس إن كانت لا تزال بين الأحياء.

– وعليك أن تبحث أنت أيضًا فربما لا تكون بعيدة عنك. سأتركك الآن يا صاحبي وأرجو أن يهديك الله إلى مكانها.

أما رملة فاستبشرت باختفاء نجلاء، ولوَّحت إلى أسماء من بعيد بأمنيتها، وعملت أسماء على استهواء أخيها بالثناء على رملة والإشادة بما يحيط بها من ملك وجاه عريض، ولكن أبا فراس كان عزوفًا يسمع ويُغضي، ويُساق فيأبى المسير. ولكن ماذا جرى لنجلاء حقًّا؟

خرجت في الصباح لزيارة صديقة، فتقدم إليها بالقرب من دارها ثلاثة رجال في زي الحمالين، ومعهم محفَّة،٢ فتقدم أحدهم في أدب وإجلال قائلًا: أتأمر سيدتي أن نحملها في محفتنا إلى ما تريد، فإننا لم نشتغل بدرهم طول نهار أمس؟ فعطفت نجلاء عليهم، وركبت المحفة، وأخبرتهم بمقصدها، فانطلقوا بها يسابقون الريح، حتى إذا بلغوا مكانًا خلا من الناس، أسرع أحدهم فكمّ فمها، وقيَّد يديها ورجليها في سرعة البرق، ثم أمر صاحبيه أن يسرعا، واستمرَّ ثلاثتهم يعدون حتى جاوزوا أرباض المدينة، وأدركهم الليل فلم يستريحوا. ولما ظهرت تباشير الصباح غيَّروا أزياءهم، ولبسوا لباس الجنود، ووقفوا عند قلعة رومانية قديمة، تُسمى «برج الروم» كانت سجنًا سياسيًّا لأعداء سيف الدولة، وقابل كبيرهم صاحب السجن، وقال له: لقد أحضرنا إليك اليوم فتاة هي أشد خطرًا على الدولة من الروم، وهي جاسوسة ماهرة، تستعين بجمالها على استهواء الرجال واستخراج أسرارهم من مكامنها، ثم الإفضاء بها إلى الروم. وقد حيَّرت مولاي سيف الدولة، وأقضَّت مضجعه، وكان كلما طاردها أو حاول القبض عليها فرَّت من بين أصابعه كأنها طيف خيال، والذي نخشاه أن تستبيك هذه المرأة بجمالها، أو تستهويك بفنونها، فاحذر يا خالد! فإن رقبتك لن تكفي سيف الدولة في الانتقام منك. وقد تقول لك: إنها بنت فلان العظيم، أو أخت فلان الكبير، أو إن زمرة من الأشقياء اختطفتها، أو إن أبا فراس أو غير أبي فراس سيبحث عنها، ويعاقب كل من له يد في اختطافها وسجنها. قد تقول لك كلامًا كثيرًا وهذرًا كثيرًا، فلا تتزعزع واثبت، واعلم أنك أمام أخبث امرأة في هذا الوجود، أفهمت؟

– فهمت وسأضعها في غرفة منفردة، وأصمُّ أذني عن سماع حديثها وتوسُّلاتها.

– احذر يا خالد واثبت، فإنها ساحرة فاتنة.

– لم يُبق مني الهرم شيئًا يستجيب للسحر والفتنة.

ثم انطلقوا راجعين في أزياء الجنود وما بلغوا حلب حتى قابلوا غالبًا التميمي، فمنح كل واحد منهم ثلاثمائة دينار.

انفردت نجلاء بحجرتها، وحينما دخل عليها خالد الشمَّاخ يحمل بعض الطعام سألته: أين أنا؟ فضحك ساخرًا وقال: في جنة عالية، قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية.

– أأنت زعيم عصابة اللصوص الذين اختطفوني؟

– حقًّا لقد سرقوا كنزًا من كنوز الدولة ثمينًا.

– أتعرف من أنا؟

– أعرف أنك هنا وهذا يكفيني.

– أنا نجلاء بنت الخالدي، أخت محمد وسعيد كاتبي سيف الدولة وشاعريه.

– يظهر أن في المسألة شعرًا وخيالًا.

– أنا صديقة الحارث أبي فراس قائد جيوش سيف الدولة.

– وقد عرفت منه كل أسرار الجيش.

– أين يُذهب بك يا شيخ؟ انظر إليَّ.

– أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق!

– إن سيف الدولة يبحث عني، ولو عرف أني في حوزتك لقتلك.

– أعرف أنه كان يبحث عنك كثيرًا.

– بالله لا تراوغني، واستمع لحديثي بعقل ورويَّة، لقد اختطفني لصوص أدنياء، وأدخلوا عليك الغفلة في أمري، فأسرع واذهب بي إلى حلب لتنال أعظم جائزة، وضاق صدر خالد، ونظر إليها مغضبًا وقال: اسمعي يا فتاة، إنني رجل من صخر لا يؤثر فيه مال، ولا يستهويه جمال، وقد خلقني الله آلة جامدة تعمل ما طُلب إليها عمله، فلا تُتعبي نفسك في الباطل، ودعي مكرك ومحالك٣ وادعاءك أنك بنت فلان، أو أخت فلان، وسيصل إليك الطعام مع أحد جنودي؛ لأنني عزمت على ألا أراك مرة أخرى. ثم انصرف مقطِّبًا، واستسلمت نجلاء لأحزانها بعد أن يئست من وسائل النجاة، وتوالت الأيام والليالي وهي لا تجد إلى الأمل منفذًا.

وكان أبو فراس قد برَّح به الحزن لا يجد بعض الراحة إلا عند زيارة صوفيا، التي كانت كثيرة العطف عليه، شديدة الألم لما حلَّ به، وبينما هو في قصره ذات صباح إذا خادمه يعلمه بقدوم صوفيا، فدهش؛ لأن صوفيا كانت شديدة التحرُّج، مبالغة في التصوُّن. فأسرع يحيِّيها ويرحِّب بها، ولكنه لحظ في وجهها آثار الاضطراب فأدنى منها كرسيًّا فجلست، وهي تلهث متعبة مكدودة، ثم همست في أذنه تقول: علمت السرَّ، فوثب أبو فراس صائحًا: أي سر يا صوفيا؟

– سر الجريمة، سر اختطاف نجلاء.

فانكبَّ على يديها يقبِّلها وهو يقول: أنت مَلَك كريم يا صوفيا، أنت مَلَك كريم. بحقك أسرعي ونبئيني: ألا تزال بين الأحياء؟

– إني كنت واثقة بكرم الله ولطفه في قضائه.

– قولي يا صوفيا قولي.

– في هذا الصباح حضر جندي إلى مصنع أبي ليشتري سيفًا، فعرض عليه سيفًا رخيص الثمن، فأبى في كِبْر واعتزاز، وأصرَّ على أن يشتري سيفًا بثلاثين دينارًا، فعجبت للأمر وأردت أن أعرف خبيئة هذا الجندي البائس، فقلت له: إن هذا السيف غالٍ على مثلك، إنه لا يشتريه إلا كبار القوَّاد، وتماديتُ في السخرية منه، والازدراء عليه، فاشتدَّ غضبه وقال: أتظنين «بشرًا الخزامي» فقيرًا يا فتاة؟ ثم مدَّ يده إلى جيبه فأخرج منه ما يزيد عن مائة دينار، فتأجَّج فيَّ الميل إلى معرفة مصدر هذا المال. وحينئذٍ عدت إلى غريزة النساء، فضحكت ثم قلت: حقًّا إن هذا السيف الجميل لا يحمله إلا الفارس الجميل! فتيقَّظ غروره، وظنَّ أن المال اجتذبني إليه، فقرُب مني، وهمس في أذني بكلمات الحب الوضيع، فلم أغضب، وأشرت إليه أن يتبعني. ودَهِش أبي وبُهر، ولكني غمزت له بعيني فسكت وأطرق. وذهبنا إلى الغرفة لنتحدث فقال: إني أضع كل مالي تحت قدميك، فأظهرت الفرح وقلت: هذا مال كثير، من أين أتيت به؟ فسكت مطرقًا، فقلت له: لا بد أن تخبرني يا حبيبي. إننا سنكون زوجين، فكيف تخفي عني سريرة نفسك؟ ألا تعلم أنني سأعترف لك قبل زواجنا بكل شيء؟ سأقول لك: إني كنت أحب ابن عمي، وسأقول لك: إن هذا العقد الذي أزين به جيدي لم أشتره ولكني سرقته في ليلة عرس لأحد الأمراء، وسأقول لك كثيرًا وكثيرًا. واعلم أني رومية أبيح لزوجي أن يكون لصًّا، وأبيح له أن يكون قاتلًا، ولكني لا أبيح له أن يكذب عليَّ، فإن طمعت في زواجي فاكشف لي عمَّا في نفسك كأني أقرؤه في كتاب. قل يا بشر: من أين هذه الدنانير؟ فقال: هذا المال له قصة يا حبيبتي. فقلت: لا بد أن تكون قصة بطولة وإقدام. فتردد طويلًا ثم زفر وقال: طلب إلينا غالب التميمي يومًا أن نخطف فتاة من بنات أثرياء المدينة، فاختطفناها، وأعطى كلَّ واحد منا ثلاثمائة دينار. فصحت: مرحى بزوجي البطل! ورميت نفسي عليه أملأ وجهه تقبيلًا، ثم قلت وقلبي يرتجف: وأين وضعتم الفتاة؟ فقال: وضعناها في برج الروم، فقلت في شماتة: لا بد أن تكون ماتت وذهبت إلى الجحيم. ثم سألته: مَن كان معك؟ فقال: جنديان هما: حسان بن علي، وعقيل الحارث.

– وأين الرجل؟

– مصفد بالقيود في المصنع، فقد دعوت أبي وصنَّاع المصنع فتكاثروا عليه وأحكموا وثاقه. فوثب أبو فراس وحمل صوفيا بين ذراعيه، وقد ذهب بعقله الفرح، وأخذ يدلِّلها كما يدلل الطفل ويقول: أنت الرحمة في جسم، والحنان في شخص! هذه هي المرة الثانية يا صوفيا، التي تنقذين فيها حياتي وحياة نجلاء. ثم خرج مسرعًا من الدار.

أسرع أبو فراس إلى سيف الدولة، وأخبره بكل ما سمعه، وأرسلت الجنود فقبضوا على بشر الخزاميِّ وحسان بن علي وعقيل الحارث. أما غالب التميمي فلم يقفوا له على أثر؛ لأن مارينا أسرعت إلى داره فأخبرته بظهور الجريمة، وحثته على الهرب.

١  الخرف: فساد العقل من الكبر، وبابه طرب.
٢  المحفة: مركب للنساء كالهودج والسرير يحمل عليه المسافر.
٣  المحال: المكر والحذق، من الحول والحيلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤