مرآة القاضي
كان جيمس باجشو وويلفريد أندرهيل صديقين قديمَيْن، وكانا شغوفَين بالتجوُّل في الشوارع أثناء الليل، حيث كانا يتجاذبان أطرافَ الحديث، بينما يجتازان المنعطف تلوَ الآخر في المتاهة الساكنة التي تبدو وكأنها تخلو من أيِّ حياة للضاحية الكبيرة التي يَعيشان فيها. إن الأول — وهو رجلٌ ضخم الجسم داكن اللون، يتحلَّى بخفة ظلٍّ، وله شارب أسود رفيع — كان محققَ شرطة محترفًا؛ أما الثاني — وهو رجل كريم المَحتِد حادُّ الملامح رقيق الحس وله شعر أشقر — فكان هاوِيًا يُبدي اهتمامًا بمجال التحرِّي. ومما سيصدم قراءَ أفضل قصصِ المغامرات العلمية معرفةُ أن رجل الشرطة هو مَن كان يتحدث، وأن الهاوي هو من كان يستَمع، بل وحتى بشيء من التوقير.
قال باجشو: «إن مهنَتنا هي المهنة الوحيدة التي يُفترض فيها دومًا أن يكون المحترف مُخطئًا؛ ففي النهاية، لا يكتب الناس قصصًا عن مصفِّفي الشعر الذين لا يستطيعون قصَّ الشعر ويكونون في حاجة لمساعدة أحد الزبائن؛ أو قصصًا عن سائق سيارةِ أجرة لا يستطيع أن يقود سيارته الأجرة حتى يُفسِّر له زبونُه فلسفةَ قيادة سيارة الأجرة. وعلى الرغم من ذلك، فلم أكن لأنكر أبدًا أننا أحيانًا ما نميلُ لأن نقع في أسر نمطٍ ما؛ أو بكلمات أخرى، نعاني من عيوب اتِّباع قاعدة ما. إن كُتَّاب قصص المغامرات العلمية يُخطئون في أنهم لا يسمحون لنا حتى بأن نتحلَّى بمزايا هذا الاتباع لقاعدةٍ ما.»
قال أندرهيل: «بكل تأكيد، كان شيرلوك هولمز سيقول بأنه يتبع قواعد المنطق.»
أجابه الآخر: «قد يكون محقًّا، ولكني أقصد القواعد العامة. الأمر أشبه بعمل الأفراد في أحدِ الجيوش. إننا نحن مَن نجمع معلوماتنا.»
سأله صديقه: «وفي رأيك أنَّ القصص البوليسية لا تُراعي ذلك؟»
«حسنًا، لننظر إلى أيٍّ من القصص الخيالية للمحقق شيرلوك هولمز، وليستراد، ذلك المحقق الرسمي. لنقُل بأن شيرلوك هولمز يستطيع أن يخمِّن أن أحد الغرباء الذين يعبرون الطريق هو شخص أجنبي عن المكان؛ وذلك فقط لأنه ينتظر أن تسيرَ السيارات على يمين الطريق بدلًا من يساره. أنا على استعداد لأن أعترف بأن هولمز قد يخمِّن هذا، كما أنني على يقين أنَّ ليستراد لم يكن ليخمن شيئًا من هذا القبيل، ولكن ما يغفلان عنه هي حقيقةُ أن رجل الشرطة الذي لم يستطع التخمين قد يكون على معرفة تامة بأن ذلك الشخص الغريب هو أجنبيٌّ عن المكان. ربما كان السبب في أن ليستراد يعرف أن ذلك الرجل الغريب هو شخصٌ أجنبي هو مجرَّد أن القسم الذي يعمل به يراقب كل الأجانب؛ وقد يذهب البعض للقول بأن قسمَه يراقب كل المواطنين أيضًا. وبصفتي رجل شرطة فإنني سعيد بأن الشرطة تعرف الكثير؛ ذلك أن كلَّ شخص يريد أن يقوم بواجبات وظيفته على أكمل وجه، ولكن بصفتي مواطنًا، فإنني أتساءل أحيانًا إذا ما كانوا لا يعرفون الكثير.»
صاح أندرهيل مشكِّكًا: «أنت لا تقصد حقًّا أنك تعرف أشياء عن الغرباء الذين يمرُّون في أحد الشوارع. هل كنت ستعرف أي شيء عن رجلٍ ما إذا ما خرج من ذلك المنزل هُناك؟»
أجابه باجشو: «سأعرف عنه أشياء إذا ما كان هو مالكَ المنزل. إن هذا المنزل مستأجَر من قِبَل أديب من أصول أنجلو رومانية، وهو يعيش بوجهٍ عام في باريس، ولكنه هنا الآن بشأن إحدى مسرحياته الشعرية. إن اسمه أوزرك أورم، وهو أحد الشعراء الجُدد، وكتاباته رائعة جدًّا، على حد علمي.»
قال رفيقه: «لكنني أقصد كل أولئك الأشخاص الذين يسيرون في الطريق. كنت أفكر في نفسي كيف أن كل شيء يبدو غريبًا وحديثًا ومجهولًا، وكذلك تلك الجدران العالية وتلك المنازل المخبوءة وسط تلك الحدائق الكبيرة. أنت لا يمكنك أن تعرف كل شيء حول ذلك.»
أجابه باجشو: «أعرف القليل؛ فجدار الحديقة هذا الذي نسير بمحاذاته يمثل نهاية أملاك السير هامفري جوين، المشهور أكثر باسم السيد القاضي جوين، وهو القاضي العجوز الذي أحدث ضجةً كبيرة حيال قضايا التجسس أثناء الحرب. والمنزلُ المجاور له ملك لأحد تجار السيجار الأثرياء. وقد جاء من أمريكا الإسبانية وهو ذو بشرة داكنة وملامح إسبانية جدًّا، لكنه يحمل اسم بولر وهو اسم إنجليزي خالص. أما المنزل الذي يليهما … هل سمعت هذه الضوضاء؟»
قال أندرهيل: «سمعت شيئًا، لكني لا أعلم حقًّا ماذا كان ذلك.»
أجابه المحقق: «أنا أعلم ماذا كان؛ كان صوتَ مسدسٍ دوارٍ ثقيلٍ نوعًا ما، وقد أُطلقت النار منه مرتين، تبِعَ ذلك صرخةُ استغاثة. ومصدره الحديقة الخلفية لمنزل السيد القاضي جوين، جنة السلام والعدالة.»
رمق الشارعَ عن يمينه وشماله بنظرةٍ حادة وأضاف:
«والباب الوحيد المؤدِّي إلى الحديقة الخلفية تلك يبعُد مسافةَ نصف ميل من الجهة الخلفية من الشارع. ليت أن ذلك السور كان أقلَّ ارتفاعًا، أو ليتني كنت أخفَّ وزنًا، ولكن لا بد من أن أحاول.»
قال أندرهيل: «يقل ارتفاع السور نحو الأمام قليلًا، كما توجد هناك شجرةٌ قد تكون ذات عونٍ لنا.»
تحرَّكَا سريعًا نحو الأمام حتى وصَلَا إلى نقطةٍ بدا عندها السورُ منخفضًا قليلًا، كما لو أنه قد غاص قليلًا في الأرض، ووجَدَا شجرة مزيَّنة بأزهار مُبهجة تبرُز من الظلام المحيط بها، وتلمع تحت ضوء أحد مصابيح الشارع. أمسك باجشو بأحد فُروعِها الملتوية وألقَى بإحدَى ساقيه على السُّور المنخفض، وفي لحظة كان الرجلان يقِفانِ وسط النباتات الشائكة التي تحدُّ الحديقة والتي يصل ارتفاعها إلى ركبتَيْهما.
كانت حديقة السيد القاضي جوين في الليل تبدو جميلةً بصورة استثنائية. كانت حديقة كبيرة وتمتد حتى الحافة الجرداء من الضاحية، تحت ظلِّ منزلٍ مرتفع داكن اللون كان هو الأخيرَ في صف المنازل التي تسبقه. كان المنزل مظلمًا بالمعنى الحرفيِّ للكلمة؛ فنوافذُه كانت مقفلة وغير مضاءة، على الأقل في جانبه الذي يطلُّ على الحديقة، لكن الحديقة نفسها — والتي كانت تمتدُّ تحت ظل المنزل وينبغي أن تكون قطعة من الظلام الدامس — قد ظهرت وامضةً بعض الشيء، كما لو كان هناك ألعابٌ نارية يخبو وميضها، أو كما لو كان هناك صاروخ ضخم قد سقط مُشتعلًا بين الأشجار. وبينما كانا يتقدمان استطاعا تحديدَ موقع هذا الوميض الذي كان ضوء عدة مصابيح ملوَّنة، معلقة على الأشجار كأنها الجواهر التي وجدها علاءُ الدين تنمو فوق الأشجار في الكهف، وكان هناك بركة أو بحيرة صغيرة مستديرة مضاءة بإضاءة استثنائية باهتة، كما لو كان هناك مصباحٌ يُضيء مياهَها من تحتها.
تساءل أندرهيل: «هل هو يقيم حفلةً ما؟ تبدو الحديقة مزخرفة بالإضاءة.»
أجابه باجشو: «لا. إنها إحدى هواياته، وأعتقد أنه يفضِّل فعلَ ذلك حين يكون وحيدًا. إنه يحب إضاءة الحديقة بهذه الأضواء التي يكون مصدرُها ذلك الكوخ هناك، حيث يقوم بعمله فيه ويحتفظ بأوراقه. ويقول بولر الذي يعرفه حقَّ المعرفة: «إن إضاءة المصابيح الملونة هي في الغالب إشارة منه مفادها أنه يجب ألَّا يُزعَج».»
أشار الآخر قائلًا: «كنوعٍ من إشارات الخطر الحمراء.»
قال باجشو: «يا إلهي! أخشى أنها إشاراتٌ على وجود خطر فعلًا!» وبدأ يهرول فجأةً.
وفي غضون لحظة، رأى أندرهيل ما رآه رفيقُه؛ كانت دائرة الضوء البراقة التي تشبه هالةَ القمر وتحيط بجوانب البركة المنحدرة يقطعها خطَّان أسودان، سرعان ما اتَّضح أنهما الساقان الطويلتان السوداوان لجُثة مُلقاة على وجهِها في الأرض المحيطة، مع سقوط رأسه في البركة.
صاح المحقق بنبرة حادة: «أسرع، يبدو لي أن …»
اختفى صوته بينما كان يركض فوق المرج الرَّحب، الذي بدا مضاءً بشكل خافت بفعل الأضواء الاصطناعيَّة، وقد اتخذ مسارًا مستقيمًا عبر الحديقة الكبيرة باتجاه البركة والجثة الملقاة على الأرض. كان أندرهيل يتبع ذلك المسار المستقيم في خُطواتٍ ثابتة، حين حدث شيءٌ تسبب في دهشته. كان باجشو الذي كان ينطلق كالطلقة في خطواتٍ ثابتة نحو الجثة السوداء عند البركة المضيئة قد استدارَ فجأة بزاوية حادة، وبدأ يجري بسرعة أكبر نحو ظل المنزل. لم يفهم أندرهيل لمَ غيَّر باجشو اتجاهه، وفي لحظة، وبعد أن اختفى المحقق في ظلِّ المنزل، سمع صوت جرجرةِ أقدام وسِبابًا مصدره تلك الظلمة؛ ثم عاد باجشو وهو يجرُّ معه رجلًا ضئيل الجسم ذا شعرٍ أحمر اللَّون يحاول التملُّص منه. كان أسيره بلا شكٍّ يحاول الاختباء في عتمة ظل المنزل، حين تناهى إلى آذان المحقق الحادة صوت خشخشته، كأنه طائر بين الشجيرات.
قال المحقق: «أندرهيل، أرجو منك أن تسرع إلى البركة وترى ماذا هنالك.» ثم سأل بعد أن توقف عن السير: «والآن، من أنتَ؟ ما اسمُك؟»
قال الرجل الغريب في توتر: «مايكل فلود.» كان جسده ضئيلَ الحجم بصورة غير طبيعية، وله أنف كبير معقوفٌ لا يتلاءم مع ملامح وجهه، الذي كان عديمَ اللون وكأنه ورقة، وذلك في مقابل لون شعره الأحمر. ثم استطرد: «ليس لي دخلٌ بهذا. لقد وجدته جثةً هامدة وكنت خائفًا؛ ولكنني لم آتِ إلا لأُجري معه مقابلة لصالح إحدى الصُّحف.»
قال باجشو: «وهل تقفز عادةً من فوق سور الحديقة، حين تُجري مقابلاتٍ مع شخصيات شهيرة لصالح الصحف؟»
ثم أشار متجهِّمًا نحو آثار أقدام تذرع المسار نحو حوض الزهور جيئةً وذهابًا.
بدتْ على وجه الرجل، الذي يدَّعي أن اسمه فلود، ملامحُ التجهُّم نفسُها.
ثم قال: «يمكن للمحاور أن يقفِزَ من فوق السور إذا لم يسمَعْه أحدٌ عند الباب الأمامي. كان الخادم قد خرَج من المنزل.»
سأله المحقِّق بنبرةٍ تنمُّ عن الشك: «وكيف تعلم أنه كان قد خرَج من المنزل؟»
قال فلود بنبرةٍ هادئةٍ غير طبيعية: «إنني لست الشخصَ الوحيدَ الذي يقفز من فوقِ أسوار الحدائق. يبدو أنك أنتَ أيضًا فعلت ذلك بنفسِك، ولكن على أي حال، كان الخادمُ قد خرج من المنزل؛ لأنني في تلك اللحظة كنت قد رأيتُه وهو يقفز من فوقِ السُّور عند الجهة الأخرى من الحديقة، تمامًا عند باب الحديقة.»
سأله المحقق: «لماذا إذن لم يستخدم بابَ الحديقة؟»
رد فلود: «أنَّى لي أن أعلم؟ أعتقد لأنه كان مغلقًا، ولكن من الأفضل لك أن توجِّه سؤالك له، وليس لي؛ إنه آتٍ نحو المنزل في هذه اللحظة.»
بالفعل، بدأ جسمٌ غامضٌ في الظهور خلال الظلمة، وكان الجسم قصيرًا بدينًا وله رأسٌ مربع الشكل، ويرتدي صدرية حمراءَ وكانت تلك الصدرية هي الجزءَ الأكثرَ وضوحًا من الثياب الرثَّة التي كان يرتديها. بدا أن الجسم يتحرَّك في سُرعةٍ وخفةٍ نحو الباب الجانبي للمنزل، حتى نادى عليه باجشو، وطلب منه أن يتوقَّف. اقترب الرجل منهما على مَضضٍ شديد، فبرز لون وجهِه المتجهم الأصفر الذي كانت له ملامح آسيوية تتناسب مع لونِ شعره الناعم الأزرق الضاربِ إلى السواد.
استدار باجشو فجأة نحو الرجل المدعو فلود. وقال له: «هل هناك أيُّ شخصٍ في هذا المكان يمكن أن يشهد بصحَّة هويتك؟»
زمجر فلود قائلًا: «ليس الكثير، ولا حتى في هذه البِلاد. لقد أتيت لتوِّي من أيرلندا؛ والرجل الوحيد الذي أعرفه هنا هو القسُّ الذي في كنيسة القديس دومينيك – وهو الأب براون.»
قال باجشو: «لا ينبغي لأيٍّ منكما أن يغادر هذا المكان.» ثم أضاف موجِّهًا حديثه إلى الخادم: «لكن يمكنك أنت أن تذهب إلى داخل المنزل، وتتَّصل ببيت القس في كنيسة القديس دومينيك، وتسأل الأب براون إن كان لا يُمانع في الحضور إلى هنا في الحال. لا تمارسْ أيَّ ألاعيب؛ أنا أحذِّرُك.»
وفيما كان المحقق النشيط يحرس الهاربَيْن المحتملَيْن، كان رفيقه قد سارع نحو الموقعِ الفعلي للحادثة المأساوية؛ وذلك بناء على توجيهٍ منه. كان المشهد غريبًا بما فيه الكفاية؛ ولو لم تكن تلك الحادثة مأساوية بالفعل، لكانتْ خيالية بصورة كبيرة. كان القتيل (ذلك أن أقصرَ فحصٍ قد أثبت وفاتَه بالفعل) ممدَّدًا ووجهُه في البركة، حيث شكَّل وهَج الأضواء الاصطناعية ما يشبه هالةً غريبة حول رأسه. وكان وجهه بائسًا منكوبًا، وملامحُه جافةً، وخصلاتُ شعره القليلة رماديةً داكنة، وكأنها حلقات حديدية، وبالرغم من الضَّرَر الذي لحق بصُدْغه جرَّاءَ الرصاصة التي أُصيب بها، فإن أندرهيل لم يجدْ صعوبة في التعرُّف على وجهه الذي رآه في العديد من الصُّور الشخصية للسير هامفري جوين. كان القتيل يرتدي ملابسَ سهرة، وكانت ساقاه الطويلتان السوداوان رفيعتَين جدًّا، لدرجة أنهما بدَتا وكأنهما ساقا عنكبوت، وكانتا تمتدَّان بزوايا مختلفة عند الحافَة المنحدرة للبركة التي سقَط عندها. وبصورة غريبة وكأنها زخرفةٌ شيطانية كان الدمُ ينساب من رأسه ببطءٍ شديد في المياه المُضاءة على شكلِ حلقات ثعبانية، فكان لونه قرمزيًّا شفَّافًا كسُحب الغروب.
لم يعلم أندرهيل كم مضى من وقتٍ، وهو واقفٌ يحدِّق في هذا المنظر المروِّع، حين رفع رأسَه ورأى مجموعةً من أربعة رجال يقفون حوله عند تلك الحافَة. كان مستعدًّا لرؤية باجشو وأسيره الأيرلندي، ولم يواجهْ صعوبةً في تخمين الشخصِ الثالث على أنه الخادمُ الذي يرتدي الصدرية الحمراء، لكن الشخص الرابعَ كان يتمتعُ بإجلالٍ عجيب يتناسب بصورةٍ غريبةٍ مع مثل هذا التناقُض. كان جسده قصيرًا وبدينًا وله وجهٌ مستدير ويرتدي قبَّعةً وكأنها هالةٌ سوداء حول رأسه. وأدرك أندرهيل أن الشخص الرابع كان في الواقع قَسًّا؛ لكن كان هناك شيءٌ حيالَ ذلك القَس يذكِّرُه بمنحوتةٍ خشبية سوداء قديمة غريبة في نهاية عمَل «رقصة الموت».
ثم سمع أندرهيل المحقِّقَ باجشو يقول للقس:
«يسرني أنك تستطيعُ التعرفَ على هذا الرجل؛ لكن عليك أن تُدركَ أنه موضع شكٍّ إلى حد ما. قد يكون بريئًا بالطَّبع، لكنه دخل الحديقة بصورةٍ غريبة.»
قال القسُّ الضئيلُ الحجمِ بنبرة حيادية: «حسنًا، أنا أعتقد أنه بريءٌ، لكنني قد أكون مُخطئًا بالطبع.»
«لماذا تعتقد أنه بريء؟»
أجابه القس: «لأنَّه دخل الحديقة بصورةٍ غريبة. انظر، لقد دخلت أنا إلى الحديقة بصورةٍ عادية، ولكن يبدو أنني الشخصُ الوحيد هنا الذي فعل ذلك. يبدو أن كلَّ الأشخاص المهمِّين يقفزونَ من فوق أسوار الحدائق في أيامنا هذه.»
سأله المحقِّق: «ماذا تعني بقولكَ بصورة عادية؟»
قال الأب براون، وهو ينظر إليه بنبرة رزينة واضحة: «حسنًا، لقد دخلتُ من الباب الأمامي. أنا عادة ما أدخل المنازلَ بهذه الطريقة.»
قال باجشو: «عذرًا، ولكن هل الطريقةُ التي دخلت بها مهمَّة حقًّا، إلا إذا كنتَ تعتزم الاعتراف بالجريمة؟»
قال الأب براون بلطف: «أجل، هي مهمَّة حقًّا. الحقيقة أنني حين دخلتُ من الباب الأمامي، رأيت شيئًا لا أعتقدُ أن بقيتَكم رآه. ويبدو لي أنَّ ما رأيته قد يكون له علاقةٌ بما حدث.»
«ماذا رأيت؟»
قال الأب براون بنبرتِه الودودة: «رأيت حُطامًا متناثرًا؛ مرآةً كبيرة مكسورة، ونخلةً صغيرة ساقطة، ووعاءً مكسورًا ومتناثرًا على الأرض في كلِّ الأرجاء. بطريقة ما، بدا لي كما لو أنَّ شيئًا قد حدث.»
قال باجشو بعد أن صمت للحظةٍ: «أنت على حقٍّ. إذا رأيت ذلك، فيبدو بالتأكيد كما لو أنَّ لهذا علاقةً بما حدث.»
قال القس بلطفٍ شديد: «وإذا كان لهذا أيُّ علاقة بما حدث، فيبدو أن هناك شخصًا واحدًا ليس له أيُّ علاقة بذلك؛ وهذا الشخص هو السيد مايكل فلود، الذي دخلَ الحديقة بصورةٍ غريبة من خلال القفز من فوق السُّور، ثم حاول بعدها الخروج منها أيضًا بنفس الصُّورة الغريبة. إن تلك الصورةَ الغريبة هي ما تجعلني أعتقد أنه بريء.»
قال باجشو فجأة: «لندخلْ إلى المنزل.»
وفيما كانوا يمرون بالباب الجانبي، وكان الخادم يتقدَّمُهم، تأخر باجشو عنهم بخطوة أو اثنتين، وتحدث إلى صديقه.
قال: «هناك شيء غريبٌ بشأن ذلك الخادم. هو يقول إن اسمه جرين، رغم أنه لا يبدو أنه كذلك؛ ولكن يبدو أنه بلا شكٍّ خادمُ جوين حقًّا، كما يبدو أنه هو الخادم الوحيد لديه، لكنَّ الأمرَ الغريب هو أنه أنكر تمامًا وبشكلٍ قاطع أن سيدَه كان في الحديقة من الأساس، سواء كان حيًّا أم ميتًا. لقد قال بأن القاضي العجوز كان قد خرَج إلى عَشاء كبيرٍ لمجموعة من رجال القضاء، ولم يكن ليعود إلى المنزل إلا بعد ساعات، وقد تذرَّع بذلك؛ لتبرير خروجه من المنزل.»
قال أندرهيل: «وهل قدَّم أي حجة تبرر دخوله المنزل بهذه الطريقة المُثيرة للجدل؟»
أجابه المحقق: «لا، لم يقدِّم أيَّ حجة مفهومة بالنسبةِ إليَّ، ولا يمكنني فهمُ سلوكه. يبدو أنه خائف من شيءٍ ما.»
وعند دخولهم من الباب الجانبي، وجدوا أنفسَهم عند النهاية الداخلية لقاعةِ مدخل المنزل، والتي امتدت بطول أحدِ جوانب المنزل وحتى الباب الأمامي، وتعلوها نافذةٌ مروحية كئيبة ذاتُ طراز قديم. كان هناك ضوء رمادي خافت قد بدأ في تبديد شيءٍ من الظلمة، وكأنه شروق كئيبٌ ذو لون مغاير؛ لكن كان مصدرُ الضوء الوحيد هناك هو مصباحًا مظلَّلًا، من طراز قديم أيضًا، كان مثبتًا على حاملٍ في زاوية. وتحت ضوء هذا المصباح، استطاع باجشو أن يميِّزَ الحطام الذي تحدَّث عنه الأب براون. كانت هناك نخلة طويلة لها أوراقٌ وارفةٌ كبيرة قد سقطت بكامل طُولها، وكان الأصيص ذو اللون الأحمر القاتم الذي وضعت به قد تهشَّم إلى شظايا. كان الحطام متناثرًا على السَّجادة، وكان هناك أيضًا فتاتٌ صغيرٌ لامعٌ لبقايا مرآة مكسورة؛ كان إطارها معلَّقًا خلفَهم على الجدار في نهاية الدهليز، وقد بدا فارغًا تمامًا. وعند الزاوية اليُمنى لهذا المدخل، وتمامًا عند الجهة المقابلة للباب الجانبيِّ الذي دخلوا منه، كان هناك ممرٌّ آخر مماثل له يؤدي إلى بقية أجزاء المنزل. وعند النهاية الأخرى لذلك الممَرِّ، يمكن رؤية الهاتف الذي استخدمه الخادمُ لاستدعاء القس؛ وكان هناك باب نصفُ مفتوح، يظهر منه صفوف من الكتب الرائعة المغلَّفة بالجلد، والذي كان هو مدخلَ حجرة المكتب الخاصة بالقاضي.
وقف باجشو يتأمَّل الوعاءَ المهشم، والشظايا المختلطة المتناثرة عند قدميه.
ثم قال للقس: «أنت محقٌّ تمامًا؛ لقد وقع شجار هنا. ولا بدَّ أنه شجار بين جوين وقاتله.»
قال الأب براون بنبرة متواضعة: «بدا لي أنَّ شيئًا قد وقع هنا.»
صدَّق المحقق على كلامه قائلًا: «أجل، من الواضح تمامًا ما حدَث. لقد دخل القاتل من الباب الأمامي ووجد جوين؛ وربما سمح له جوين بالدُّخول. ثم حدث صراعٌ شديد بينهما، ومن المحتمل أن طلقة طائشة أصابت المرآة، على الرغم من إمكانية أنهما حَطَّماها بركلة طائشة أو شيءٍ من هذا القبيل. ثم تمكن جوين من تحرير نفسِه وهرب باتجاه الحديقة، حيث تبِعَه الآخر وأطلقَ عليه النار في النهاية عند البركة. أتخيَّل أن هذه هي القصة الكاملة خلفَ وقوع هذه الجريمة، لكن لا بدَّ أن ألقي نظرة على الغرف الأخرى بالطبع.»
لكن لم يُستشف من فحص الغُرف الأخرى سوى القليل من المعلومات، رغم أن باجشو أشارَ إلى وجود مسدس أوتوماتيكي محشوٍّ بالطلقات في أحد أدراج المكتبِ الموجود بالمكتبة.
قال باجشو: «يبدو وكأنه كان يتوقَّع ما حدث، لكن يبدو من الغريب أنه لم يصطحبْ مسدسَه معه، حين خرج إلى القاعة الأمامية.»
ثم عادوا جميعًا في النهاية إلى القاعة الأمامية، وسلكوا طريقهم نحو الباب الأمامي. جال الأب براون بعينيه في المكان بطريقةٍ شاردةٍ نوعًا ما. بدا أن الممرَّيْن، اللذين كانا يتطابقان في الألوان الباهتة الرمادية لورقِ الحائط المغطَّى به كلٌّ منهما، يتلاءمانِ مع أشكال الزهور المغبرة الكئيبة لبعض زخارف العصر الفيكتوري القديمة، وكذلك الصدأُ الأخضر الذي طغَى على الجزء البرونزي من المصباح، وكذلك اللون الذهبي الباهت الذي يلمَع من إطار المرآة المكسورة.
قال الأب براون: «يقولون إنَّ كسر المرآة يُعد نذيرًا بسُوء الحظ. ويبدو أن هذا المنزل في حدِّ ذاتِه نذيرُ حظٍّ عاثر. هناك شيء ما بشأن الأثاث …»
قال باجشو بنبرة حادة: «هذا أمرٌ غريب تمامًا. كنت أعتقد أن الباب الأمامي سيكون مغلقًا، لكنه كان غيرَ موصد.»
لم يكن هناك ردٌّ على كلامه؛ وخرجوا جميعًا من خلال الباب الأمامي إلى الحديقة الأمامية، وقد بدت ضيقةً أكثر. وتتكون من مجموعة من الأزهار المنسَّقة، وفي إحدى نهاياتها سياجٌ نباتي مقصوص بصورة غريبة، وبه فجوة وكأنه مدخل كهف، وقد ظهرت عند حافَته بضع درجات مكسورة.
سار الأب براون نحو الفجوة، وخفَض رأسه وأدخل نفسه فيها. وبعد بضع لحظات من اختفائه بداخل الفجوة أصابتْهم الدهشة جميعًا؛ لأنهم سمعوا صوته الهادئ فوق رءُوسهم، كما لو كان يتحدث مع شخص فوق قمَّة إحدى الأشجار. تبعه المحقق، ووجد أنَّ الدرجات المخبَّأة الغريبة كانت تؤدِّي إلى ما يبدو وكأنه جِسر مكسور، يتدلى فوق الأجزاء الخاوية والأكثر ظلمةً من الحديقة. كان الجسر يلتفُّ حول زاوية المنزل، ويطل على مجالٍ من الأضواء الملونة في آفاقه. ربما كان الجسرُ يمثل بقايا محاولةٍ معمارية مهجورة لبناء شُرفة من نوع ما مُقَنْطرة فوق الحديقة. ظن باجشو أنه من المثير للفضول أن يجدُوا شخصًا في مثل هذا المكان الذي لا منفذَ له في هذه الساعة بين الليل والصباح، لكنه لم يكن يدقِّق في تفاصيل المكان حينها؛ فقد كان ينظر إلى الرجل الذي وجَدُوه.
وفيما كان الرجل القصير الذي يرتدي ملابسَ ذات لون رمادي فاتح يقف وظهرُه لهما، كان أبرز ما في هيئته هو شعر رأسِه المدهش؛ كان شعره ذا لونٍ أصفر مشعٍّ كما لو كان رأس زهرة هِنْدِباء بريَّة كبيرة. وكان منثورًا حول رأسِه حرفيًّا وكأنه هالة من نوع ما. ومن تداعياتِ هذا الربط أنهما أُصيبا معًا بالصدمة حين أدار وجهَه نحوهما في بطءٍ وتجهم؛ فقد كان وجهُه مغايرًا تمامًا لما توقعاه. كان من المفترض أنَّ هذه الهالة ستحيط بوجهٍ بيضاويٍّ ملائكي بشكل ما، لكن وجهه كان نكِدًا وتعتليه ملامح الشيخوخة، وكان فكه قويًّا وأنفه صغيرًا، مما أوحى لهما بطريقةٍ ما أنه يشبه أنوفَ الملاكِمين المكسورة.
قال الأب براون بنبرة هادئةٍ كما لو كان يقدِّم اثنين من الأشخاص إلى بعضِهما في إحدى غرف الاستقبال: «حسنًا، هذا هو السيد أورم، الشاعرُ المعروف.»
قال باجشو: «أيًّا من كان هو، فلا بدَّ أن يتحمل عناء اصطحابي له، وإجابته عن بعض الأسئلة التي سأوجِّهها له.»
لم يكن الشاعر السيد أوزرك أورم نموذجًا يُحتذى به في التعبير عن الذات، حين يتعلَّق الأمر بالإجابة عن الأسئلة الموجهة إليه؛ ففي تلك الزاوية من الحديقة القديمة، وبينما كانتْ خيوط الفجر الرمادية الأولى تتسلَّل فوق الأَسْوِجة النباتية الكثيفة والجسر المكسور، وفيما تلا ذلك من سلسلة من الظروف ومراحلِ التحقيق القانوني التي أصبحت تُنذر بسوء أكثر فأكثر، رفضَ الشاعر أن يقول أي شيء سوى أنه انتوى بالفعل زيارةَ السير هامفري جوين عند الباب، لكنَّه لم يفعل ذلك؛ لأن أحدًا لم يُجبْه حين دقَّ جرس الباب. وحين أُشير إلى أن الباب كان مفتوحًا بالفعل، نخَر. وحين أُشير إلى أن الساعة كانت متأخِّرة بعض الشيء، زَمْجر. أما القليل الذي قاله، فكان غامضًا مُبهمًا؛ إما لأنه لم يكن يعرف الكثير من الإنجليزية مما يمكِّنه من الحديث، وإما لأنه لم يكنْ يعرفُ شيئًا من الأساس. بدا أن آراءه ذاتُ طابع عدمي وهدَّام، تمامًا كما كانت الأشعار التي يكتبُها في نظرِ مَن يستطيعون فهمها؛ وبدا من الممكن أن علاقتَه بالقاضي — وربما شجاره معه — كان متعلقًا بالفوضوية. كان يُعرف عن جوين أن لديه هوسًا نوعًا ما بالجواسيس البلشفيين، تمامًا كما كان حاله مع الجَواسيس الألمان. على أي حال، تسبَّبت إحدى الصدف التي وقعت بعد لحظات قصيرةٍ من الإمساك بالشاعر في ترسيخ انطباعٍ لدى باجشو مفادُه أن هذه القضية لا بدَّ أن تُؤخذ على مَحمَلِ الجِد؛ ذلك أنهم حين كانوا يخرجون عبر البوابة الأمامية للمَنزل، صادفوا جارًا آخر للسيد جوين وهو بولر، تاجر السيجار الذي يقطُن في المنزل المجاور، وقد تعرَّفوا عليه من خلال وجهِه البنِّي وملامحِه الحادة وزهرة الأوركيد البارزة في عروة سُترته؛ ذلك أنه كان يتمتعُ بشيء من الشهرة في هذا الفَرع من مجال البستنة. ومما أدهشَ الجميعَ أنه حيَّا جاره الشاعر، بطريقة عادية، تمامًا كما لو أنه كان يتوقَّع رؤيته.
قال بولر: «مرحبًا، ها نحن ثانية. أعتقد أنك تحدَّثت حديثًا مطوَّلًا مع العجوز جوين، أليس كذلك؟»
قال باجشو: «لقد قُتل السير هامفري جوين، وأنا أحقِّق في القضية، ولا بد أن أطلبَ منك تفسيرًا لما قلته.»
وقف بولر جامدًا بلا حراك كعمود الإنارة بجانبِه، ربما كان ذلك من تأثير المفاجأة. كانت نهاية سيجاره الحمراء تشتعل وتخبو بشكلٍ إيقاعي، لكنَّ وجهَه البني كان مبهمًا بفعل الظلام؛ وحين تحدث، كانت نبرتُه مختلفة تمامًا.
قال: «أقصد فقط أنني حين مررتُ قبل ساعتين، كان السيد أورم يدخُل من هذه البوَّابة لرؤية السير هامفري.»
قال باجشو: «إنه يقول إنه لم يرَه حتى الآن، أو لم يدخل المنزل حتى.»
رد بولر: «تلك فترةٌ طويلة للوقوف أمام البابِ.»
قال الأب براون: «حقًّا، إنها فترة طويلة للوقوف في الشارع.»
قال تاجر السيجار: «كنت موجودًا بالمنزل منذ ذلك الحين؛ فقد كنت أكتب خطاباتٍ، وخرجتُ لكي أُودِعَها صندوق البريد.»
قال باجشو: «سينبغي لك أن تقصَّ كل ذلك فيما بعد. طبتَ مساءً — أو طبتَ صباحًا.»
كانت محاكمة السيد أوزرك أورم لاتهامه بمقتل السيد هامفري جوين — والتي عجَّت بها الصحف لأسابيع عديدة — تدورُ بالكامل في واقع الأمر حولَ النقطة الأساسية نفسِها التي دارتْ حولها تلك المحادثة القصيرة تحت عَمود الإضاءة، حين كان الفجر ينشر خيوطه الباهتةَ على الشوارع والحدائق المظلمة. كان كلُّ شيء يدور حول لغز الساعتين الخاليتَين بين لحظة رؤية بولر لأورم، وهو يدخل من باب الحديقة ولحظة أنْ وجده الأب براون، وهو لا يزال في الحديقة. كان أمامه بكل تأكيد وقتٌ كافٍ ليرتكب ستَّ جرائم قتل، وربما ارتكبها بالفعل لمجرد القيام بشيءٍ ما؛ ذلك أنه لم يكن باستطاعته أن يقدِّم إفادةً واضحة ومتسقة حول ما كان يقوم به بالفِعل. دفعت جهة الادِّعاء بأن المتهم كانت تتوافر لديه الفرصة لارتكاب الجريمة، حيث كان الباب الأمامي غير موصد، وكان الباب الجانبي المؤدي إلى الجزء الأكبر من الحديقة مفتوحًا. وقد استمعتْ هيئة المحكمة باهتمام شديد إلى تصور باجشو الواضح للصراع الذي دار في الممر، والذي كانت دلائل وقوعه دامغةً؛ وقد وجدت الشرطة بالفعل الرصاصة التي تسببت في تحطيم المرآة. وأخيرًا، كانت الفجوة في السياج النباتي التي وُجد المتهم فيها تمثِّل وبصورة واضحة مكانَ اختباء له. وعلى الجانب الآخر، كان السير ماثيو بليك، وهو ممثل جهة الدفاع البارع، قد وجَّه تلك الحجة الأخيرة لصالح المتهم؛ فسأل عن السبب الذي سيدفع المتهم ليُوقِع بنفسه في فخٍّ ليس له منه مخرج، في حين أنه كان من المنطقيِّ للغاية له أن يهرب إلى الشارع. كما استفاد السير ماثيو بليك بصورة كبيرة من اللغز المتعلق بالدافع وراءَ ارتكاب الجريمة. في واقع الأمر، حين جرى تناول هذه النقطة في مُرافعات السير ماثيو بليك ممثل جهة الدفاع، والسير آرثر ترافرز ممثل جهة الادعاء الذي يُضاهيه براعة، كان الأمر في مصلحة المتهم بكلِّ تأكيد. فلم يكن باستطاعة السير آرثر سوى أن يقترح شيئًا عن مؤامرة بلشفية والتي بدتْ واهيةً إلى حد ما، لكنه حين تناول تفاصيل سلوك أورم الغامض في تلك الليلة، كان وَقْع حديثه أكثر تأثيرًا.
خطا المتهم نحو منصَّة الشهود، والسبب في ذلك يعود على نحو رئيسي إلى أن محاميه الذكيَّ قد رأى أن عدم قيامه بذلك سيخلف انطباعًا سيئًا لدى المحكمة، لكن المتهم كان صموتًا في وجهِ محامي الدفاع كما كان تمامًا في وجه محامي الادِّعاء. وقد استغل السير آرثر ترافرز صمتَه العنيد لصالحه بكل السبل الممكنة، لكنه لم يتمكَّن من حمله على الحديث. كان السير آرثر رجلًا طويل الهيئة نحيل البنية، ذا وجه شاحبٍ طويل، على النقيض تمامًا من هيئة السير ماثيو بليك الذي كان قويَّ البنية ذا عينين لامعتين شبيهتين بعيون الطيور، ولكن إذا كان السير ماثيو بليك شبيهًا بعصفورٍ دوري واثق من نفسه، فقد كان السير آرثر أقربَ شبهًا إلى طائر الكركي أو اللقلق، وفيما كان ينحني بجسده إلى الأمام ويوجه الأسئلة إلى الشَّاعر، كان أنفه الطويل أشبهَ بمنقار كبير.
سأل السير آرثر بنبرةٍ منزعجة تنمُّ عن الشك: «أتقصد أن تخبر هيئة المحلفين أنَّك لم تدخل قطُّ إلى المنزل لترى القتيل؟»
أجابه أورم باقتضاب: «نعم!»
«أعتقد أنك كنت تريد رؤيته. لا بدَّ أنك كنت تتوق بشدة إلى ذلك. ألم تنتظر طوال ساعتين كاملتين عند الباب الأمامي؟»
أجابه الآخر: «بلى.»
«ومع ذلك لم تلاحظ قطُّ أن البابَ كان مفتوحًا؟»
قال أورم: «نعم.»
سأل المحامي بإلحاح قائلًا: «ماذا كنت تفعل يا تُرى طوالَ ساعتين كاملتين في الحديقة الأمامية لمنزل شخصٍ آخر؟ لا بد أنك كنت تفعل شيئًا، أليس كذلك؟»
«بلى.»
سأله السير آرثر، بنبرة هزلية: «أهو سر؟»
أجابه الشاعر: «إنه سرٌّ عنك.»
عندما بدا هذا الاقتراح بوجودِ سر، شرع السير آرثر في استغلال الأمر في سرد تصوُّره للاتهام. وفي شجاعةٍ قد يعتقد البعض أنها تفتقر إلى احترام المبادئ، تمكَّن من تحويل لغز عدم وجود دافع وراء ارتكاب الجريمة — والذي كان هو الركنَ الأقوى في حجة خصمه محامي الدفاع — إلى حجةٍ تخدم مصلحته. فقد قدمه على أنه أولُ الأجزاء الدالة على وجود مؤامرةٍ كبيرة عميقة متقنة، والتي راح رجلٌ وطني ضحيتها كشخص وقع بين براثن أخطبوط.
صاح آرثر بنبرة رنانة: «أجل، صديقي المثقَّف على حق! إننا لا نعلم السبب الحقيقي الذي قُتل ذلك الموظف العام المحترم في سبيله. ولن نعرف السبب في جريمة القتل التالية التي ستقع لمثله. وإذا ما سقط صديقي المثقف نفسُه ضحيةً لسمو مكانته، وللكراهية التي تكنُّها القوى الشيطانية للهدم تجاه حُماة القانون، فسيُقتل هو أيضًا، ولن يُعرف السبب في ذلك. إن نصف الرجال المحترمين الذين يشرفون هذه المحكمة سيُذبحون في أسرَّتِهم، ولن نعرف السبب وراء ذلك. إننا لن نعرف السببَ أبدًا، ولن نتمكن أبدًا من إيقاف المذبحة، حتى تُخلى بلادُنا من ساكنيها، وما دام يُصرَّح للدفاع بإيقاف كلِّ الإجراءات القانونية من خلال التذرع ﺑ «الدافع»، تلك الكلمة البالية البائدة، في حين أن كل حقيقةٍ أخرى في هذه القضية، وكلَّ تناقضٍ صارخٍ وذلك الصمت العميق هي كلها أشياء تُخبرنا بأننا نقف أمام قاتل.»
قال باجشو لمجموعة كانت ترافقه بعد ذلك: «لم أعهَد السير آرثر بمثل هذه الحماسة من قبلُ. يقول البعض إنه تخطَّى الحدودَ المألوفة، وإن ممثِّل الادعاء في قضية قتلٍ لا ينبغي أن يسعى إلى الانتقام هكذا، لكني لا أجد مفرًّا من القول بأن هناك شيئًا شديد الغرابة حيال ذلك العفريتِ الصغير ذي الشعر الأصفر الذي يعدُّ سببًا في تكوين هذا الانطباع. طوال الوقت كنت أتذكر على نحوٍ مبهم شيئًا قاله دي كوينسي عن السيد ويليامز، ذلك المجرم الشنيع الذي ذبح عائلتَيْن كاملتَين في صمت تام. أعتقد أنه قال إن ويليامز كان له شعر ذو لون أصفر فاقع بصورة غير طبيعية، وإنه يعتقد أن شعره قد صُبغ بإحدى الحِيل التي تعلَّمها في الهند، حيث يصبغون خيولهم باللون الأخضر أو الأزرق. ثم هناك ذلك الصمت العميق والغريب الذي يَلزمه، وكأنه أحدُ رجال الكهوف الذين لا يعرفون كيف يتحدثون؛ لن أُنكر أبدًا أن هذا الأمر بالكامل قد أثارني بشدَّة، حتى شعرت بأن من يقف في قفص الاتهام كان على نحو ما وحشًا. ولو كان شعوري هذا نتيجة ما أتى به السيد آرثر من بلاغة، فلا بد أنه قد بذل جهدًا كبيرًا في حديثه؛ لكي يخرج بهذه الصورة.»
قال أندرهيل بنبرة لطيفة أكثر: «لقد كان صديقًا لجوين المسكين في واقعِ الأمر، ولقد رآهما مؤخرًا شخصٌ أعرفه بينما كانا يتجوَّلان معًا مؤخرًا، بعد عشاء كبير ضمَّ مجموعة من رجال القضاء. قد أتجرَّأ وأقول إن هذا هو السبب وراء تأثُّره الشديد بهذه القضية. وأنا لا أعرف إن كان تصرف المرء تجاه قضية كهذه من منطلق المشاعر الشخصية هو أمرًا ملائمًا أم لا.»
قال باجشو: «ما كان للسير آرثر أن يتصرَّف من منطلق شعوره الشخصي، أراهن على أنه لم يكن ليتصرف من هذا المنطلق فقط، على الرغم من تأثره الشديد. إنه يتمتع بإحساس قوي تجاه مَركزه المهني، وهو أحد الرجال الذين لا يهدأ طموحهم حتى وإن حقَّقوا كثيرًا مما يطمحون إليه. لم أعرف مثيلًا له قط في محاولة الحفاظ على مكانته. لا؛ أنت مخطئ في افتراض السببِ وراء خُطبته المدوية تلك. إنه إذا ما سمح لنفسه أن يقول ما قال؛ فهذا لأنه يعتقد أن بإمكانه إدانةَ الرجل، على أي حال، ويود أن يضع نفسه على رأس حركة سياسية مضادَّة للمؤامرة التي يتحدث عنها. لا بد أن لديه سببًا قويًّا وراء رغبته في إدانة أورم، وكذا في اعتقادِه أن بإمكانه القيام بذلك. هذا يعني أن الحقائق ستكون داعمةً له، وثقته هذه لا تُبشر بخيرٍ فيما يتعلَّق بالمتهم.» وهنا انتبه باجشو إلى وجود شخصٍ ضئيل الحجم ضمن المجموعة التي كان يتحدث إليها.
قال وقد علتْ وجهه ابتسامة: «حسنًا أيها الأب براون، ما رأيُك في الإجراءات القضائية؟»
أجابه القس على نحو شارد: «في الواقع، أعتقد أن أكثر ما أثار دَهشتي هو مدى الاختلاف الذي يظهر على شكل المرء حين يرتدي شَعرًا مستعارًا. أنت تتحدث عن أن محاميَ الادعاء كان رائعًا جدًّا، لكن تصادف أنني رأيته وهو يخلعُ شعره المستعار للحظة، وأزعم أنه يبدو رجلًا مختلفًا تمامًا. إنه أصلع إلى حدٍّ ما، وهذا أحد الأسباب.»
رد عليه باجشو: «أخشى أن هذا لن ينفي كونَه رائعًا. أنت لا تقترح أن تُبنى حجةُ الدفاع على حقيقة أن محاميَ الادعاء أصلع، أليس كذلك؟»
قال الأب براون بنبرة فيها شيءٌ من الدعابة: «ليس تمامًا. ولكي أكون صادقًا، كنت أفكر كيف أن بعض الأشخاص لا يعرفون الكثيرَ عن الأشخاص الآخرين الذين تختلف طبيعتُهم عنهم. هبْ أنني ذهبت إلى مكان ناءٍ به أناسٌ لم يسمعوا عن إنجلترا من قبل، وهبْ أنني أخبرتهم أنه لن يسأل شخص في بلادي عن أمور تتعلقُ بالحياة والموت؛ إلا إذا وضع على رأسه شيئًا مصنوعًا من شعر الحصانِ له أطراف قصيرة في مؤخرتِه، وتتدلى على جانبيه جدائلُ شعرٍ لولبية رمادية، وكأنه امرأة عجوز تعيش في بدايات الحقبة الفيكتورية. سيعتقد هؤلاء الناس أنه غريبُ الأطوار؛ لكنه ليس غريبَ الأطوار على الإطلاق، إنما هو شخص يتمسك بالعُرف ليس إلا. ولكنهم سيعتقدون بأنه غريب الأطوار؛ لأنهم لا يعرفون شيئًا عن المحامين الإنجليز؛ ولأنهم لا يعرفون ماذا تعني كلمة «محامٍ». وفي الواقع، ذلك المحامي لا يَعرف ماذا يكون الشاعر، وهو لا يفهم أنَّ غرابة أطوار الشاعر لن تبدو كذلك في أعين شعراءَ آخرين. إنه يرى أن من الغريب أن يتجول أورم في حديقةٍ جميلة مدة ساعتين، وهو لا يفعل أي شيء. يا إلهي! إن الشاعر لن يضيره أبدًا أن يتجوَّل في الحديقة نفسها مدة عشر ساعات إذا كان يفكِّر في كتابة قصيدة. وقد كان محامي أورم على نفسِ الدرجة من الغباء أيضًا؛ فهو لم يخطر بباله قطُّ أن يطرح على أورم السؤال المبين.»
سأله الآخر: «ما السؤال الذي تقصده بحديثِك؟»
قال الأب براون بنبرة تنم عن نفاد صبره: «السؤال بالطبع هو: ما القصيدة التي كان يكتبُها؟ ما السطر الذي كان عالقًا به؟ ما الصفة التي كان يبحث عنها؟ ما الذروة التي كان يحاول الوصول إليها؟ إذا كان هناك في تلك المحكمة أشخاصٌ مثقفون يعلمون ما هو الأدب فعلًا، لكانوا قد عرَفوا من دون شك إن كان يفعل شيئًا حقيقيًّا أم لا. إنك كنت ستسأل أحد أصحاب الصناعات عن حالة مصنَعِه، لكن يبدو أنَّ أحدًا لا يفكر أبدًا في الحالة التي تتم صياغةُ الشعر خلالها. إن الشعر يُصاغ أثناء عدم القيام بشيء.»
أجابه المحقق: «لا بأس بذلك، ولكن لماذا كان مختبئًا؟ لماذا صعد تلك الدرجات المكسورة وانتظر هناك؛ إذ لم تكن تلك الدرجات تُفضي إلى أي مكان؟»
صاح الأب براون في اندفاع: «بالطبع لأنها لا تؤدِّي إلى أي مكان. إن أي شخص تقع عيناه على ذلك الطريق المسدود الذي ينتهي في الجوِّ كان سيعرف أن الفنانَ سيرغب في الذهاب إليه، تمامًا كما كان سيفعل أي طفل صغير.»
ثم توقف للحظة بينما كان يرمشُ بعينيه، ثم قال معتذرًا: «أعتذر لك، لكن يبدو من الغريبِ أن لا أحد منهم يفهم هذه الأشياء. ثم إن هناك شيئًا آخر؛ ألا تعرف أن كلَّ شيء بالنسبة إلى الفنان له معنًى ويكون صحيحًا من زاويةٍ معينة أو جانب محدد؟ إن الشجرة والبقرة والسحابة ستعني له شيئًا فقط إذا ما ربطَت بينها علاقة معينة؛ تمامًا كما سيحدث إذا وضعتَ ثلاثة حروف بجوار بعضها في ترتيب معين، عندها ستشير هذه الحروف إلى كلمة. وفي الواقع، كان منظرُ تلك الحديقة المضاءة من فوق الجسر المكسور هو المكانَ الصحيح لرؤيتها. كان المنظر من هناك فريدًا من نوعه وكأنه بُعدٌ رابع. كان بمنزلة تكثيفٍ خرافي؛ كان كالنظر إلى السماء ورؤية كلِّ النجوم تتلألأ فوق الأشجار، وكانت البحيرة المضاءة وكأنها قمرٌ قد سقط على الأرض في قصة سعيدة نحكيها للأطفال. كان الشاعر سيتطلعُ لهذا المشهد إلى الأبد، وإذا ما قلتَ له إن ذلك الطريق لم يكن يؤدي به إلى أي مكان، كان سيُخبرك بأنه قد أدى به إلى آخرِ بلاد العالم، لكن هل تتوقَّع منه أن يقول ذلك وهو يَعتلي منصة الشهود؟ كيف كنت سترد عليه لو كان قد أخبرَك بذلك؟ أنت تتحدثُ عن المحامي، وهو يقف بين هيئة محلَّفين تتألف من أقران له يفهمهم ويَفهمونه، فلماذا إذن لا تكون هناك هيئة محلَّفين من الشعراء؟»
قال باجشو: «أنت تتحدثُ وكأنك شاعر؟»
قال الأب براون: «احمد ربك أنني لست كذلك. واشكر ربَّك على أن القساوسة عليهم أن يتَّسِموا بالتسامح أكثر من الشُّعراء. فليرحمنا الرب؛ لو أنك تعرف ما يشعر به ذلك الشاعرُ من مشاعر ازدراء وحشية ساحقة تجاهكم جميعًا، كنت ستشعر كما لو أنك تقف تحتَ شلالات نياجرا.»
قال باجشو بعد أن صمت برهة: «ربما تعرف عن الحالة المزاجية الفنية أكثرَ مما أعرف، لكن يبقى الرد بسيطًا في نهاية المطاف. يمكن أن تبرهن على أنه فعل ما فعل من دونِ أن يرتكب الجريمة، لكن يصح القول بالمثل إنه ربما يكونُ قد ارتكب الجريمة أيضًا. فمن غيره يمكن أن يكون قد فعَلها؟»
سأله الأب براون بنبرة تنمُّ عن تفكير عميق: «هل فكرت في أمر الخادم، جرين؟ لقد سرد رواية غريبة نوعًا ما.»
صاح باجشو على الفور: «أوه، أنت تعتقد في نهايةِ المطاف أنَّ جرين هو من فعلها.»
أجابه الآخر: «أنا واثق تمامًا أنه لم يفعلها، إنما أسألك فقط إن كنت قد فكرت في روايتِه الغريبة. لقد خرج من المنزل؛ ليقوم بأمر ما أو ليتناول مشروبًا أو ليلقى شخصًا ما، أو أي شيء آخر، لكنه خرجَ من باب الحديقة وعاد من فوق سُور الحديقة. أو بكلمات أخرى، كان قد ترك الباب مفتوحًا، لكنه عاد ووجده مغلقًا. لماذا؟ لأنَّ شخصًا آخر كان قد خرج بالفعل من خلاله.»
غمغم المحققُ في نبرة تنم عن الشك: «القاتل. أتعرف من يكون؟»
أجابه الأب براون في هدوء: «أعرف كيف كان شكلُه. هذا هو الشيء الوحيد الذي أعرفُه. يمكنني رؤيته تقريبًا بينما دخل من الباب الأمامي، في ضوءِ مصباح القاعة؛ يمكنني رؤية جَسده وملابسه، بل وحتى وجهه!»
«ماذا؟»
قال القس: «كان يبدو كالسير هامفري جوين.»
سأل باجشو بإلحاح: «اللعنة، ماذا تقصد؟ كان جوين يرقُد قتيلًا، ووجهُه غارق في البحيرة.»
قال الأب براون: «أوه، أجل.»
ثم استطرد بعد لحظة: «لنعد إلى نظريَّتِك، وقد كانت جيدة للغاية، رغم أنني لا أتفق معها تمامًا. أنت تفترض أن القاتل دخل من الباب الأمامي، وقابل القاضي في القاعة الأمامية، وتصارعا فكَسَرا المرآة، وبعدها انسحب القاضي نحو الحديقة، حيث أُردي قتيلًا في نهاية المطاف. ولكن وبطريقة ما لا تبدو هذه النظرية صحيحة بالنسبة إليَّ. فبفرض أنه قد انسحَب من جهةِ نهاية القاعة، فهناك مخرجان؛ أحدهما يؤدي إلى الحديقة؛ والثاني يؤدي إلى الأجزاء الداخلية من المنزل. كان سينسحب إلى داخل المنزل بكل تأكيد، أليس كذلك؟ فقد كان مسدسُه هناك؛ وكذلك هاتفه، وكذلك خادمه كان موجودًا بحسب ما كان يعرف حينها. حتى أقرب جيرانه كان أقربَ إليه في ذلك الاتجاه. فلماذا إذن يتوقف ليفتح باب الحديقة، ويخرج وحيدًا إلى ذلك الجزء المهجور من المنزل؟»
رد عليه رفيقه وقد بدت الحيرة عليه: «لكننا نعرف أنه خرجَ من المنزل. نحن نعرف أنه خرج من المنزل؛ لأنه وُجد في الحديقة.»
قال الأب براون: «لم يخرج قط من المنزل؛ لأنه لم يكن في المنزل من الأساس. أقصد، ليس في ذلك المساء. كان يجلس في ذلك الكُوخ، لقد عرفت ذلك في البداية أثناء الظلمة، حيث كانت الإضاءة الحمراء والذهبية تشبهُ النجوم في أرجاء الحديقة. كان مصدر طاقتِها هو الكوخ؛ ولم تكن لتكون مضاءة لو أنه لم يكن بداخل الكوخ. كان يحاول أن يجري في اتجاهِ المنزل والهاتف، وذلك حين أطلق عليه القاتل النار بجوار البحيرة.»
صاح باجشو: «ولكن ماذا بشأن الأصيص والنخلة والمرآة المكسورة؟ كنت أنت من وجد حطامها! أنت من قلت إنه لا بد أنَّ هناك شجارًا قد وقع في القاعة.»
رمش القس بعينيه في مرارةٍ، وغمغم قائلًا: «أحقًّا فعلت ذلك؟ أنا لم أقل ذلك بالتأكيد. لم أعتقد قط أنَّ شجارًا قد وقع. لقد قلت إنَّ ما أعتقده هو أن شيئًا قد حدث في تلك القاعة. وقد حدث شيء بالفعل؛ لكنه لم يكنْ شجارًا.»
سأله باجشو باقتضاب: «إذن ما الذي تسبب في كسر المرآة؟»
أجابه الأب براون في جدية: «لقد تسبَّبتْ رصاصة في كسر المرآة، وقد كانت رصاصةً مصدرُها مسدس القاتل. أما القطع المكسورة الكبيرة من المرآة؛ فقد كانت كفيلة بإسقاط النخلة والأصيص.»
سأله المحقق: «حسنًا، من غير جوين يمكن أن يكون القاتلُ قد أطلق عليه النار؟»
أجابه رفيقه القس بشكل شبه حالم: «هذه مسألة تخمينية بعضَ الشيء؛ فمن ناحية كان القاتلُ يُطلق النار على جوين بالطَّبع، لكن جوين لم يكن هناك ليُطلق عليه النَّار. كان المجرم وحيدًا في القاعة.»
ثم سكت لحظة وعاودَ بنبرة هادئة: «تخيل المرآة الموجودة في نهايةِ الممر، قبل أن تنكسر، والنخلة الطويلة تعلوها. في ظل الإضاءة الخافتة، التي تعكس تلك الجدران أحادية اللون، كانت ستبدو وكأنها هي نهاية الممر. وكان الرجل الذي تظهر صورتُه معكوسةً في المرآة، سيبدو وكأنه قادم من داخل المنزل. كان الرجل في المرآة سيبدو وكأنه صاحب المنزل — فقط لو كان الانعكاسُ يبدو شبيهًا به.»
صاح باجشو: «توقَّف دقيقة، أعتقد أنني بدأت …»
قال الأب براون: «لقد بدأت ترى. بدأت ترى لماذا أن كل المُشتَبَه بهم في هذه القضية ينبغي أن تُبرَّأ ساحتهم. لم يكن أحدهم سيظن خطأً أنَّ صورة جسده المعكوسة هي صورة العجوز جوين. كان أورم سيعلم في الحال أن رأسه ذا الشعر الأصفر لا يبدو أصلعَ في المرآة. وكان فلود سيرى شعره الأحمر، وكان جرين سيرى صدريته الحمراء. أضفْ إلى ذلك أنهم جميعًا قصيرو القامة ويرتدون ملابس رثَّة؛ لم يكن أي منهم سيظن أنَّ صورته المعكوسة هي لرجلٍ طويل ونحيل وعجوز يرتدي ملابس سهرة. إننا نبحث عن رجل آخر يماثلُه في الطول والنحافة. ذلك هو ما كنت أقصده حين قلت إنني أعرف شكل القاتل.»
سأله باجشو وقد ثبت نظرَه إليه: «وماذا تستنتج من ذلك؟»
أطلق القس ضحكةً قصيرة حادة وعالية، تختلف بصورةٍ غريبة عن طريقته المعتادة المعتدلة في الحديث.
ثم قال: «أستنتج أن ما قلتَه كان مثيرًا للسخرية، وكذلك مستحيلًا.»
«ماذا تقصد؟»
قال الأب براون: «إنني سأبني حجةَ الدفاع على حقيقة أن محاميَ الادعاء له رأس أصلع.»
قال المحقق بنبرة هادئة، ثم هبَّ واقفًا على قدميه وقد أخذ يحدق بالقس: «يا إلهي!»
استطرد الأب براون حديثه بنبرة هادئة:
«لقد كنت تتبع تحركات الكثير من الأشخاص الصالحين في هذه المسألة، إنكم يا رجالَ الشرطة كنتم مهتمين بشدَّة بتحركات الشاعر، والخادم، والرجل الأيرلندي. أما الرجل الذي تبدو تحركاتُه منسية، فهو القتيل نفسه. كان الخادم مذهولًا بصورة صادقة لمعرفةِ أنَّ سيده قد عاد. كان سيده قد غادر؛ لكي يحضر عَشاءً يضم صفوة ممن يمتهنون القانون، لكنه غادر العشاء فجأة وعاد للمنزل. لم يكن مريضًا، ذلك أنه لم يطلب أي مساعدة؛ لا شكَّ في أنه تشاجر مع أحد هؤلاء الصفوة. كان ينبغي لنا أن نبحث أولًا عن عدوِّه الأول وسط هذه الصَّفوة. لقد عاد الرجل وأغلق على نفسه الكوخ، حيث يحتفظ بكل الوثائق الخاصة التي تخصُّ ممارسات الخيانة، لكن أحد الصفوة ممن يمتهنون القانون، والذي كان يعرف أن هناك وثائقَ تدينه وسط ما يمتلكه القتيل من وثائق، كان ذكيًّا بما يكفي؛ لكي يتتبع الرجل الذي وجَّه الاتهامات إليه حتى وصل إلى بيته؛ كان هو أيضًا يرتدي ملابس سهرة، لكنه كان يحمل مسدسًا في جَيبه. هذا هو كل ما في الأمر؛ ولم يكن أحدٌ سيخمن كلَّ هذا لو لم تكن المرآة موجودة.»
بدا القس، وكأنه يحدق في الفراغ للحظة، ثم أضاف:
«إن المرآة شيء عجيب؛ إنها صورة مؤطَّرة تحتوي على مئات الصور المختلفة، التي تبدو جميعُها على قيد الحياة، ثم تتلاشى إلى الأبد. لكن كان هناك شيء غريب بصورة خاصَّة بشأن تلك المرآة المعلقة في نهاية ذلك الممرِّ الرمادي تحت تلك النخلة الخضراء. إنها تبدو كما لو أنها مرآة سِحرية ومصيرها يختلف عن مثيلاتها، وكأنَّ الصورة التي عكستها استطاعتْ أن تنجو من حطامها، وظلَّت معلقة في الهواء في ذلك المنزل المظلم وكأنها شبَح؛ أو على الأقل وكأنها رسم تجريدي، هيكل إحدى الحجج. يمكننا الآن على الأقل أن نستنبطَ من الفراغ ما رآه السير آرثر ترافرز. وبالمناسبة، هناك شيء واحدٌ صحيح جدًّا كنتَ قد قلتَه بشأنه.»
قال باجشو في نبرة تنم عن ابتهاج بسيط: «يسرني سماعُ ذلك، ولكن ما هو ذلك؟»
قال القس: «لقد قلت إن السير آرثر لا بدَّ أنه يمتلك سببًا وجيهًا؛ يجعله يرغب في إدانة أورم بارتكاب الجريمة.»
بعد أسبوع، تقابل القسُّ ومحقق الشرطة مرة أخرى، وعرف القس أن السلطاتِ كانت تتبع خيوط التحقيق الجديدة، حين قاطعها وقوع حدثٍ غاية في الإثارة.
بدأ الأب براون حديثه قائلًا: «السير آرثر ترافرز.»
قال باجشو باقتضاب: «لقد ماتَ السير آرثر ترافرز.»
قال الآخر وقد بدا بعضُ الاندهاش في نبرة صوته: «آه! أتقصد أنه …»
قال باجشو: «نعم، لقد أطلق النار على الرجلِ نفسه مرة أخرى، لكن ليس في المرآة هذه المرة.»