النهاية

هذه هي نهاية رحلتنا القصيرة في بستان التعبيرية الذابل، أو في قصرها الجميل المهجور. لم تكن رحلةً بين روائع الأدب والفن الخالد، بقدر ما كانت نزهةً في أرض منسية أو شبه منسية، كشفت لنا عن أسماء وأعمال ليست كلها جديرة بالنسيان. لقد سبحنا معًا في قاربنا الصغير، فوق أمواج صاخبة من التجارب والمحاولات الفنية. وعرفنا كيف كانت بالغة الأثر على الحركات الفنية التالية، وكيف سقطت ضحية قدَر مظلم اسمه الحرب والطغيان. حقًّا إن التعبيرية لم تقدِّم الروائع الخالدة في الفن كما قلت، ولكنها نفخت في روح العصر طاقةً ثوريةً هائلة لم يزل لها صداها إلى اليوم. لقد أضرمت في ذلك الجيل نار الثورة التي هدأت قليلًا ولكنها لم تنطفئ، ودفعته إلى الاحتجاج على كل سُلطةٍ في الفن والسياسة، وأيقظت فيه الشوق إلى حلم الإنسانية الأكبر؛ شوقها لعالم يحيا الناس فيه إخوةً، متحررين من الخوف والقسوة والظلم والاستغلال … وها هي ذي ثورة الاحتجاج تندلع من جديد في هذه الأيام: ثورة الشباب الأوروبي على كل سلطة ونظام، وثورة الفن والشعر والمسرح على القواعد والتقاليد الموروثة، وثورة الفقراء والزنوج والعرب على آلهة الحرب والمال والاستعمار. وكلها تهدف إلى خلق عالم جديد وإنسان جديد طالما نادى به التعبيريون في شعرهم ومسرحهم وفنونهم، وتعذَّبوا وتشرَّدوا وجاعوا وضحَّوا من أجله بحياتهم في السجون وميادين الحرب وعلى أرصفة الشوارع، أو بالانتحار الذي ختم به عدد غير قليل منهم حياته. صحيح أنهم لم يستطيعوا وقف كارثة الحرب ولم يصمدوا في وجه البرابرة الشُّقر، ولكن متى كانت البراءة قادرة على مواجهة الشر؟ وأين استطاع أصحاب القلم أن ينتصروا على أصحاب السلاح؟ وماذا جنى الأدباء والفنانون من حياتهم وتعبهم غير الثمر المُر؟ … ومع ذلك فإن ثورتهم لم تَضِعْ عبثًا، وصدقهم وحماسهم وصراخهم لم تكن هباءً. وإذا كانت حركتهم قد تعطَّلت في مرحلةٍ زمنيةٍ معينة فإنها في الحقيقة لم تتوقف، وإذا كانت شُعْلتهم قد خَبَتْ في العشرينيات، فإن نارها ظلَّت حيةً تحت الرماد. وها هي ذي اليوم تتخذ أشكالًا فنية وسياسية واجتماعية جديدة أكثر إيجابية، وتتوهج في كل مكان معلنةً عن مشرق فجر جديد يطلَّع على الإنسانية الحديدة التي طالما حلموا بها وعانَوا من أجلها.

لا شك أنهم ليسوا هم وحدهم الذين نفخوا في هذه النار، وليسوا وحدهم الذين رووا شجرة الحرية التي تشرئب الآن في الأفق وتقاوم كل الآفات والحشرات. ولكن من واجب الأبناء أن يذكروا الآباء. ومن واجب الذين يتدفئون بالنار المقدسة أو يستظلُّون بالشجرة الطاهرة أن يتذكروا أولئك الذين شاركوا بجهدهم في رفع الشعلة وريِّ الشجرة. ويكفي التعبيريين أنهم استطاعوا — على مدى عشرين عامًا أو أقل — أن يُحرِّكوا الضمير الأوروبي، ويزلزلوا كثيرًا من القيم العتيقة، ويمهِّدوا الطريق — بصورة مطلقة وعاطفية حقًّا — لأشكالٍ من الثورة والاحتجاج أكثر إيجابًا وفاعلية، ويؤثِّروا على عددٍ من التيارات التي نعرفها اليوم في القصة والرواية والشعر والمسرح الشاعري والملحمي والتسجيلي ومسرح العبث والطليعة، وإذا كانت معظم أعمالهم الفنية قد أصبحت الآن جزءًا من تراث الأدب وتاريخه الحديث، فقد بدءوا شيئًا لم ينتهِ بعدُ، وبثوا أنفاس الحياة في أفكار لم تَمُتْ حتى اليوم. وإذا كانت معظم هذه الأعمال تتسم بشيء غير قليل من الفوضى والاضطراب في الشكل والخطابية التي تستهدف التأثير المباشر، فإن المسئول عن ذلك في المقام الأول هو فوضى الحياة التي عاشوا في ظلها، وانهيار القيم والمُثُل الإنسانية في عصرهم. لقد ظلوا في أعمق أعماقهم ضحايا وحيدين ممزَّقين مهزومين ثائرين. وحاولوا بكل ما فيهم من عنف الشباب وبراءته أن ينفخوا في رماد العصر ليُحيوا جمراته المنطفئة، ويُحذِّروا الأجيال المقبلة من المصير المخيف في عالمٍ خلا من المعنى والقيمة والإيمان، وسيطرت على أقداره حفنةٌ من الجلادين والمشعوذين ورجال المال والأعمال. وإذا كان العالم لم يستمع لهذا النذير، ولم يتعلم من دروس حربين عالميتين وحروب أخرى صغيرة، فيكفيهم — وهم الأدباء والفنانون قبل كل شيء — أن يكونوا قد قدَّموا الدليل على حيوية الفن وقدرته على بعث الإنسان وتأكيد حقه المقدَّس في الرفض والتمرد، وشوقه المشروع إلى عالمٍ أفضل وأسعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤