أسواق العرب
آخر الأدوار التي قامت فيها قريش مقامها في تهذيب اللغة، هو الدور العكاظي؛ وقد أشرنا إلى أسواق العرب آنفًا — ومنها عُكاظ — ونحن نوجز القول في بيانها لأنها ليست من غرض ما نحن فيه.
وهي أسواق كانوا يقيمونها في أشهر السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض فكانوا ينزلون «دَوْمة الجَندل» أول يوم من شهر ربيع الأول، ثم ينتقلون إلى «هَجَر» بالبحرين فتقوم سوقهم بها في شهر ربيع الآخر، ثم يرتحلون نحو «عُمان» في أرض البحرين أيضًا فتقوم بها سوقهم إلى أواخر جمادى الأولى، ثم ينزلون سوق «المُشَقَّر»، وهو حصن بالبحرين، فتقوم سوقهم به أول يوم من جمادى الآخرة، ثم ينزلون سوق «صَحَار» فيقيمونها خمسة أيام لعشر يمضين من رجب الفرد. وتقوم سوقهم «بالشَّحْر»، وهو ساحل بين عُمان وعَدَن في النصف من شعبان، ثم يرتحلون فينزلون «عدن أبين»، وهي جزيرة في اليمن أقام بها «أبين» فنسبت إليه، ثم تقوم سوقهم في «حضرموت» نصف ذي القعدة، ومنهم من يجوزها وينزل «صنعاء» فتقوم أسواقهم بها.
ولهم أسواق أخرى غير هذه: ﮐ «ذي المجاز» بناحية عرفة، وسوق «مِجَنَّة» وهي تقام قرب أيام موسم الحج، ويؤمها كثير من قبائلهم، وسوق «حباشة» كانت في ديار بارق نحو قَنَوْنا من مكة إلى جهة اليمين، ولم تكن من مواسم الحج وإنما كانت تقام في شهر رجب؛ وأسواق كانت بين دورهم ودور العجم يلتقون فيها للتسوق والبياعات، وهي التي كانت أوسع أبواب الدخيل والمعرَّب في هذه اللغة، وذكر منها الجاحظ في الحيوان سوق الأُبُلَّة وسوق لقه «كذا» وسوق الأنبار، وسوق الحيرة.
عكاظ
أما عكاظ فهي أعظم أسواقهم، اتخِذت سوقًا بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة — ٥٤٠ للميلاد — ثم بقيت في الإسلام إلى أن نهبها الخوارج الحرورية حين خرجوا بمكة مع المختار بن عوف سنة ١٢٩ للهجرة.
•••
ولا يخفى أن مثل هذا الاجتماع العام حالة من أحوال الحضارة، ولذلك اقتضى الصناعة اللسانية؛ فكان العرب يرجعون إلى منطق قريش، كما كان هؤلاء يبالغون في انتقاد اللهجات وانتقاء الأفصح منها. وهذا هو الدور الأخير من أدوار التهذيب اللغوي إذ يدخل في حالة عامة يشيع فيها المنطق الفصيح وتبلغ بها اللغة درجة عالية من النشوء ليس بعدها إلا موت الضعيف وتحوله إلى شكل أثري لا منفعة فيه للمجموع المكون على هذه الطريقة ولكنه يدل على أصل التكوين.
هذا أثر قريش في تهذيب اللغة، وبلغتهم نزل القرآن فتكونت به الوحدة اللغوية في العرب، ومنع لغتهم على الدهر أن تضمحل أو تتشعب فتصير إلى ما انتهت إليه لغات الأمم من تباين اللهجات واختلاف مناحي الكلام كما ترى في اللغات العامية العربية، فهي من أصل واحد وقد تتباين حتى يصير هذا الأصل فيها كأنه بعض الجذور الذاهبة في طبقات الأرض خفاءً وضعفًا في التأثير.
وكما أن الذي أُنْزِلَ عليه القرآن نبي العرب، فالقرآن نبي العربية، بحيث لا تجد من فضل لرسول الله على الأنام، إلا وجدت فضلًا في معناه لكلام الله على الكلام.