عيوب المنطق العربي

وقد رأينا توفية لفائدة هذا الفصل أن نذكر عيوب المنطق بأسمائها، وهي:
  • (التمتمة) ويقال لصاحبها: التمتام، وذلك إذا تعتع في التاء.

  • (الفأفأة) فإذا تردد في الفاء فتلك: صاحبها فأفاء.

  • (والعقلة) وهي الْتواء اللسان عند الكلام.

  • (والحبسة) تعذر النطق ولم يبلغ التكلم حد الفأفاء ولا التمتام، ويقال: إنها تعرض في أول الكلام فإذا مر فيه انقطعت.

  • (واللفف) إدخال بعض الكلام في بعض.

  • (والرتة) إيصال بعض الكلام ببعض دون إفادة، وقد تقدم لها معنى آخر في اللثغة.

  • (والغمغمة) أن يسمع الصوتُ ولا يبين لك تقطيع الحروف ولا تفهم معناه.

  • (والطمطمة) أن يكون الكلام شبيهًا بكلام العجم؛ وقيل: هي إبدال الطاء تاءً لأنهما من مخرج واحد. نحو السُّلتان في «السلطان».

  • (واللكنة) وهي إدخال بعض حروف العجم في بعض حروف العرب، ومنها قولهم: فلان يرتضخ لكنة فارسية. وعدُّوا منها إبدال الهاء حاءً، والعين همزة.

  • (والغنة) وهي أن يشرب الصوت الخيشوم، ثم هي عيب إذا جاءت في غير حروفها.

  • (والخنة) ضرب منها.

  • (والترخيم) حذف بعض الكلمة لتعذر النطق به.

  • (اللثغة) وقد تقدم الكلام عليها، غير أنا رأينا فيها كلامًا حسنًا لبعضهم قال: وتكون في أربعة حروف (ق س ر ل) فالتي تعرض للقاف يجعلها صاحبها طاءً، فيقول: طلت في «قلت»، ومنهم من يبدلها كافًا. وأما السين فتبدل ثاءً. والتي تعرض في الراء أربعة أحرف: منهم من يجعلها غينًا، ومنهم عينًا، ومنهم ياء، ومنهم زايًا؛ فينطقون لفظ «عمرو» على أنواع اللثغة هكذا: «عمغ، وعمع، وعمي، وعمز»، وأما التي تعرض في اللام فإن من أهلها من يبدلها ياءً، ومنهم من يجعلها كافًا وهي لغة قبيحة. ا.ﻫ.

ولا حاجة بنا لإيراد الأمثلة من ذلك جميعه؛ فإنما أردنا بيان نوع من أنواع الاختلاف الطبيعي في لهجاتهم، وذكر هذه الحروف التي تغير شيئًا من هيئة المنطق، حتى نُقفِّي بذلك على ما أوردناه، ونُوفِّي الفائدة مما أردناه.

تنبيه

ولا يفوتنا أن ننبه القراء إلى أن أنواع الاختلاف التي بسطناها لا تزال متحققة في اللهجات العامية المعروفة اليوم في مصر والشام والعراق وسائر الأقطار التي يتكلم أهلها الفصيح البلدي أو العربية المطلقة، وقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الاختلاف لم يأت عبثًا، بل هو طبيعة الاختلاف بين العرب الأولين الذين استوطنوا البلاد أيام الفتوح فخرج من أصلابهم هؤلاء المتأخرون؛ ومن لم يمُتَّ إليهم بنسب كان منهم بسبب من الولاء والمخالطة ونحو ذلك. وعلى هذا يكون ما تصيبه في لهجات العوام مما يوافق لغات العرب ليس إلا نسبًا لفظيًّا يدل على ما وراءه من النسب التاريخي بين طوائف العوام وقبائل العرب.

نعم إن اللغة ميراث تاريخي، ولكنها كذلك في الجملة، فيقال: إن لغة أمة متفرعة تدل على تحقيق النسبة التاريخية بينها وبين أمة اللغة نفسها، ولكن من الخطأ الواضح أن يقال: إن نسب المفردات في الكلام يرتبط بنسب الأفراد في المتكلمين؛ فإذا رأيت أهل مصر جميعًا يقولون: مَشَالله في «ما شاء الله» فلا يدل ذلك على أنهم من بقايا عرب الشَّحر وعمان الذين يحذفون بعض الحروف اللينة، وهي اللخلخانية كما مر في موضعه، وإذا رأيت كثيرين من أهل البحيرة والغربية يقولون: أحْمَا في «أحمد»: وتَاكوا «في تأكل». والبَصَا «في البصل»، فذلك لا يدل على أنهم من عرب طيئ الذين يقطعون اللفظ قبل تمامه، وهي القُطعة كما بيناه.

ولو ذهبنا نعارض كل ما كان من هذا القبيل بالمأثور من لهجات العرب على أن نحقق نسبة هذا الميراث المنطقي إلى قبائلهم، لتقحمنا خطة من الغيب، ولأوشكنا أن نضع علمًا كله جهل، وإن كان هذا البحث مما يُنهج للنظر سُبُلًا من الكلام ويفتُق للذهن أمورًا من الجدل، بيد أنه التاريخ المزوَّر، والشهادة الظنية على حق اليقين.

والصحيح أن الألسنة هي الألسنة في كل زمان، وما جرى عليه العرب في لغتهم جرت عليه العامة في لغتها؛ فهم يتصرفون في المنطق تصرف المتمكن المستقل، لأن العامية لا ترجع إلى قاعدة مضبوطة، ولا هي من اللغات المكتوبة فتقف عند حد محدود؛ ولكنهم يلوون بها ألسنتهم على ما يصرِّفها من الأسباب الخلقية، ثم ما تُقوَّم عليه من أحوال المجتمع بين موروث ومكتسب؛ ولسنا ننكر ألبتة أن التقليد قد فعل في اللغة العامية ما فعله في العربية قبلها، بل كان أهل الأمصار في صدر الإسلام — وهم أصل العامية — يتكلمون على لغة النازلين فيهم من البدو، كما كان العرب النازلون بقرب السُّبل ومجامع الأسواق يتكلمون على لغة من يليهم من العامة. واللغة لا تُخلَق على لسان أحد؛ بل لا بد من التقليد والمحاكاة؛ ولكنا ننكر نسبة الناطقين إلى قبائل من العرب توافقها في هيآت المنطق، بعد أن تصرف أهل الأمصار في اشتقاق اللغة كما تصرَّف العرب، وأخذوها بالتقليد والمحاكاة عن كل شفة، وكان لهم في سياستها استقلال أوسع بكثير مما كان للعرب.

ونحن نذكر هنا كلمة واحدة صح نقلها عن العامية أول عهدها في الشام، ثم هي لا تزال دائرة إلى اليوم في العامي والفصيح. وهي لفظة «عليه»، فقد نقل صاحب «الأغاني» كلمة من الشعر العامي في دمشق زمن الوليد بن عبد الملك جاءت فيها هذه الكلمة «ويلي عَلوه» وهي تنطق كحرف (O) وينطقونها اليوم في الشام «علاه»، وقد مرت هذه اللغة عن العرب، وفي الفصيح «عليه»، وفي اللهجات المصرية الغالبة «علَيْهْ» و«عَلايَهْ» و«عَلِيَهْ» و«عَلِيهْ» بالإمالة كحرف (E) و«عَلِيه» بغيرها كحرف (I)، وذلك أكثر ما يمكن أن تدار عليه اللفظة؛ فإذا استطعنا تحقيق نسبة هذا المنطق إلى قبائل معينة فهل تحقق بها نسبة الناطقين أيضًا؟ هذا ما لا جواب عليه إلا أنه لا جواب له؛ والتاريخ وإن كان من الكلام غير أنه ليس كل الكلام من التاريخ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤