تفرع اللغات

الأصل في تشعب اللغات تشعب الجماعات؛ فإن اللغة كما أسلفنا بنت الاجتماع، وهي ألفاظ ملك السامع في الحقيقة لا ملك المتكلم، لأنها لا يُلْغَى بها لَغْوَ الطائر، ولكنها تلقى لدلالة خاصة يعنيها الاصطلاح العرفي بين المتكلم والسامع، وهذا الاصطلاح عمل اجتماعي محض لا يتهيأ لفرد فيما بينه وبين ذات نفسه؛ وليس ما بسطناه فيما تقدم مما يدل على كيفية نشء اللغات في القِدم وتدرج الإنسان في استعمال المنطق والتوفيق في الدلالة بين الصوت وحركة النفس التي هي المعاني القائمة بالفكر — ليس كل ذلك مما يتعين معه دلالة خاصة على كيفية اختلاف اللغات، فإن هذا الاختلاف لا يتعلق بسر الوضع اللغوي؛ إذ هو إلهام مخلوق في فطرة الإنسان، ولكن اختلاف اللغات عمل صناعي تكيفه حالة الاجتماع كما تكيف سائر الأحوال من العادات وأمثالها؛ ولهذا كانت حقيقة معنى اللغة أنها مجموع العادات الخاصة بطائفة من طوائف الاجتماع.١

فلا يمكن القطع إذن بأن أصل اللغات كلها لغة واحدة، إلا إذا نهض الدليل على أن النوع الإنساني في أول وجوده لم يكن إلا جماعة واحدة، أو كان جماعات مختلفة ولكنها تتفق في حالة جامدة من أحوال الحياة الاجتماعية، كالحيوان السائم الذي لا يتعدى درجة معينة من الإلهام على تفاضل أنواعه فيما دون ذلك؛ وهذا — أي نهوض الدليل — بعيد عن اليقين، بل هو بعيد عن الظن أيضًا، لأن «الظن العلمي» أضعف مراتب اليقين.

نقول هذا لنقطع بأن لا يمكن تعيين الأمهات التي ينتهي إليها التسلسل اللفظي، ولا الحكم بأصالة لغة دون غيرها كالذين يقولون إن آدم الألسنة أو لسان آدم كان سريانيًّا أو عبرانيًّا أو نحو ذلك؛ فإن الإنسان الأول أمر من الأمور الغيبية، والزمان نفسه لا يهتدي الآن إلى مواطئ قدمه من الأرض؛ ولا يعلم الغيب إلا الله.

وإن ما حصره علماء اللغات من ذلك وعدوه أمهات إنما هو خاص بالأزمنة المتأخرة التي أحصاها التاريخ مما يرجع إلى حد من الزمن يختلفون في تقديره من ٣٠٠٠ إلى ٦٠٠٠ سنة، على أنهم يقولون إن الإنسان الأول نشأ على ضفاف الفرات ودجلة بين العراق وأرمينيا، فتناسل هناك وكانت ذريته بعضها من بعض، ثم انساحت الجماعات وتفرقت، بما يلجئها من الأسباب الطبيعية: كضيق الوطن وبغي بعضهم على بعض؛ فضربوا في الأرض؛ وبهذا تنوعت الجماعات أو دخلت في أسباب التنوع الذي هو الأصل في تفرُّع اللغات.

ومن ذلك ما أشارت إليه التوراة «أقدم كتاب تاريخي» مما يعرف بحكاية تبلبل الألسنة «سفر التكوين — الإصحاح الحادي عشر»، وذكر تفرق الأمم التي انشعبت من نسل نوح عليه السلام بعد الطوفان، فكانت لغة كل فئة تنفصل عن أمها ثم تنمو وتتغير بالاستعمال فتصير أمًّا لفروع أخرى، وهلم جرًّا.

وقد استدلوا على تحقق هذا التسلسل بتشابه الأسماء الخالدة في الإنسانية، وهي التي لا يمكن أن تتغير، لثبوت مدلولها على حالة واحدة في تاريخ النوع كله: كاسم الأم، فقد وجدوا أن هذه الميم أصيلة في كل ما عرف من لغات العالم؛ وكذلك وجدوا أن الباء أصيلة أيضًا في لفظ الأدب، ومهما يكن من الأمر فإن هذا وأمثاله مما يستأنس به ليس غير.

وعلى الاعتبار الذي أومأنا إليه، ردوا اللغات إلى ثلاثة أصول: الأصل الآري، والسامي، والطوراني؛ وهم يريدون بهذه الأصول، الأمم التي تتكلم باللغات الراجعة إليها، فيقولون: إن الأمم التي تنطق اللغات الآرية ترجع إلى أصل واحد في تاريخ الاجتماع، وكذلك السامية والطورانية، ثم انشعب كل أصل وانشعبت معه اللغة، ولكن بقيت المشابهة في لغاتهم المتفرعة دليلًا تاريخيًّا على وحدة الأصل.

ويعدون من اللغات الآرية: السنسكريتية وما خرج منها: كالهندية، والفارسية، والأفغانية، والكردية، والبخارية، وغيرها، وهي اللغات الجنوبية؛ ثم اللغات الشمالية: ومنها اللاتينية وفروعها: من الفرنساوية، والإيطالية، والأسبانية، والبرتغالية؛ وكذلك الهيلينية: ومنها اليوناني القديم والحديث، والوندية، ومنها لغات روسيا، وبلغاريا، وبوهيميا، والتيوتونية، ومنها لغات إنجلترا، وجرمانيا، وهولاندا، والدانمارك، وإسلاندا.

وسنفرد للغات السامية كلامًا، لأنها أصل ما نحن بسبيله من هذا التأليف؛ أما الطورانية فيعدون منها الفروع التركية التي يتكلم بها ما بين آخر حدود النمسا الشرقية وآسيا الصغرى؛ فالتتر إلى ما وراء أواسط آسيا وشمالًا إلى حدود سيبيريا، وهي لغات كثيرة.

وهذا كله وإن كان ليس من حاجتنا ولا نريد التكثر به، إلا أننا سقناه كما قالوا بيانًا لما ذهبوا إليه من الرأي في تنوع الجماعات، وأصل انشعاب اللغات؛ والله يقول في محكم تنزيله: وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.٢

هوامش

(١) هذا هو التعريف المعنوي، أما تعريف اللغة باللفظ فهو كما يقولون «ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم».
(٢) سورة الإسراء: ٨٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤