القرن الخامس وملوك الطوائف

بعد أن انقطعت خلافة بني أمية ولم يبقَ من عقبهم من يصلح للملك، استبد بالأندلس أفراد غلب كل واحد منهم على ما يليه، وهم المسمون بملوك الطوائف، فضبطوا نواحيها، وجعلوها عواصم الحضارة، وتنافسوا في أبهة الملك وفخامة الشأن، فكان منهم بنو ذي النون ملوك طليطلة، وبنو هود ملوك طرطوشة وسرقسطة وغيرهما، وملوك بني الأفطس أصحاب بطليوس وجهاتها، وبنو صمادخ أصحاب المرية، والفتيان العامرية: مجاهد ومنذر وخيران ملوك دانية١ وما منهم إلا أديب أو عالم، فنفقت بهم سوق الأدب، وصار الأديب أينما دار استند إلى ركن وتوجَّه إلى قبلة، حتى صارت الأندلس كعبة، لهذه العادة، لا للعبادة، لا جرم كان هذا العهد حافلًا بالشعراء والأدباء والقائمين على أنواع العلوم من كل من أغْلَتْ قيمته المنافسة، وقد وجدوا الزمن رخاء والعصر حضارة والنفوس متهيئة، فلم يبقَ لهم وراء ذلك مقترح لقريحة، ثم إن أولئك الملوك لم يخوضوا في أول أمرهم الفتن، ولم تعصف بهم ريح السياسة، فأصرفوا جهدهم إلى استجماع لذَّة الملك، وأخذوا بأحلام المباهاة التي يهذي بها مرضى الترف الليِّن وضعفاء العصب السياسي، إلا قليلًا منهم، فصار المدح لغذاء أرواحهم كالملح لطعام أجسامهم، وثبتت العادة بذلك، حتى إن يوسف بن تاشفين لما دخل الأندلس توسَّط له المعتمد بن عباد عند الشعراء ليمدحوه حتى لا يصغر شأنه مع أنه دخل في نجدةٍ لهم على الإفرنج وكان على يده النصر المبين.

وتبع ذلك من فنون الآداب ما يخلق لهم اللذة في كل صورة ويبدلها في كل خلقة، حتى يتداووا بهذه الجدَّة من سأم القديم وضجر التكرار، فكانت لهم المجالس العجيبة، والأوصاف البارعة، والفنون المستظرفة من صور التشبيهات، إلا أن ذلك جميعه قد كان أعْوَدَ على الأدب بالفائدة وأردَّ عليه بالمنفعة، فنبغ في أيامهم من لو خلا الأدب الأندلسي إلا منهم لكانوا زينته ورواءه، وقد كاد يكون بهم القرن الخامس تاريخًا على حدة.

كان من أعظم مباهاة ملوك الطوائف أن فلانًا العالم عند فلان الملك، وفلانًا الشاعر مختص بفلان الملك؛٢ وقد بذل مجاهد العامري ملك دانية لأبي غالب اللغوي ألف دينار ومركوبًا وكساء على أن يضع اسمه في صدر كتاب ألَّفه فأبى ذلك أبو غالب وقال: كتاب ألَّفْتُهُ لينتفع به الناس وأُخلِّد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري؟ فلما بلغ هذا مجاهدًا استحسن أنفته وأضعف له العطاء. وكان من ملوك بني هود: المقتدر بن هود وهو آية في علم النجوم والهندسة والفلسفة، وكان يباهى بالفقيه الأديب العالم الشاعر أبي الوليد الباجي وانحياشه إلى سلطانه، ومن ملوك بني الأفطس: المظفَّر، وكان أحرص الناس على جمع علوم الأدب خاصة من النحو واللغة والشعر ونوادر الأخبار وعيون التاريخ، وقد انتخب مما جمع من ذلك كتابه المشهور بالمظفري في خمسين جزءًا على نحو كتاب الاختيارات للروحي وعيون الأخبار لابن قتيبة.٣ توفي سنة ٤٦٠، وكان أديب ملوك عصره؛ أما ملوك بني عباد فقد كانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدورًا في بلاغتي النظم والنثر، مشاركين في فنون العلم؛ وكانت دولتهم العبادية بالمغرب كالدولة العباسية بالمشرق، وكان المعتمد منهم لا يستوزر وزيرًا إلا أن يكون أديبًا شاعرًا حسن الأدوات؛ وكان من شعراء أبيه المعتضد، أبو جعفر بن الأبار … وأبو الوليد وابنه الوزير ابن زيدون واليماني، وابن جاخ البطليوسي الذي يعد من أعاجيب الدنيا لأنه كان أميًّا، وقد بلغ من حسن شعره أن ولاه المعتضد رياسة الشعراء؛ إذ كانت له دار مخصوصة بهم وديوان تقيَّد فيه أسماؤهم، وقد جعل لهم يومًا يفرغ لهم فيه فلا يدخل فيه الملك غيرهم، وربما كان يوم الاثنين.٤
فتأمل ما عسى أن يبلغ عدد قوم يُفرد لأسمائهم ديوان وتخصص بهم دار؟ وكان المعتضد داهية يشبه أبا جعفر المنصور، وقد اتخذ خُشبًا في ساحة قصره جللها برءوس الملوك والرؤساء عوضًا عن الأشجار التي تكون في القصور، وكان يقول: في مثل هذا البستان فليتنزه!٥
وهذا الخبر ينقله كتبة الأوربيين إلى الشعر المحض فيقولون: إنه كان يزرع الورد في جماجم أعدائه، ولابنه المعتمد شيء من مثل هذا، فقد اتخذ في بعض وقائعه … من جماجم أعدائه مئذنة ثوَّب عليها المؤذنون، ولم يجتمع من فحول الشعراء وأمراء الكلام بباب أحد من ملوك الإسلام ما اجتمع بباب الرشيد والصاحب بن عبَّاد والمعتمد هذا، فكان بباب الرشيد مثل أبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري وأشجع السلمي ومسلم بن الوليد وأبي الشيص ومروان بن أبي حفصة ومحمد بن مناذر وغيرهم، وكان بباب الصاحب بأصبهان وجرجان والري مثل أبي الحسين السلامي وأبي بكر الخوارزمي وأبي طالب المأمون وأبي الحسن البديهي وأبي سعيد الرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي وأبي محمد الخازن وأبي الحسن بن عبد العزيز الجرجاني وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني وبديع الزمان والشاشي وكثيرين غيرهم.٦ وكان بحضرة المعتمد مثل ابن زيدون وابن اللبانة وابن عمار وعبد الجليل بن وهبون وأبي تمام غالب بن رباح الحجام وابن جامع الصباغ، وغيرهم؛ ولا أحدث بالمعتمد وأولاده وأمه العبادية، فكلهم شعراء، وكان يناظر المعتمد المتوكل بن الأفطس، وكان في حضرة بطليوس كالمعتمد بإشبيلية، يترد أهل الفضائل بينهما كتردد النواسم بين جنتين، وينظر الأدب منهما على مقلتين، والمعتمد أشعر والمتوكل أكتب٧ وكان وزيره ووزير أبيه ابن عبدون الكاتب الشاعر الشهير، وهو الذي سيَّر فيهم القصيدة الخالدة التي أولها:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر

وذكر فيها مصارع الملوك إلى زمنهم، وتوفي سنة ٥٢٠.

وكذلك كان بالمرية يومئذ المعتصم بن صمادح، ومن شعرائه ابن الحداد شاعر الأندلس وعمر بن الشهيد وأبو جعفر الخراز البطرني وأبو الوليد النحلي ومحمد بن عبادة الوشاح والأسعد بن بليطة والحكيم الفيلسوف أبو الفضل بن شرف القائل في دولته:

لم يبقَ للجور في أيامهم أثر
إلا الذي في عيون الغيد٨ من حور

وقد قصر إمداحه عليه بعد أن مدح المتوكل بن المظفر وأقطعه المعتصم قرية بأحوازها لهذا البيت — وسنتكلم عن الشعراء الفلاسفة في موضع آخر.

ومما امتاز به القرن الخامس شيوع الأدب في النساء، حتى كانت مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري التي اشتهرت بإشبيلية بعد الأربعمائة تدارس النساء الأدب.٩

وامتاز أيضا باختراع الزجل كما امتاز القرن الرابع باختراع التوشيح، والذي اخترع الزجل هو الوزير أبو بكر بن قزمان، وكان مما اشتمل عليهم المتوكل بن المظفر.

وفي آخر هذا القرن نُكب ملوك الطوائف وانقرض ملكهم على يد يوسف بن تاشفين الملقب بأمير المسلمين ولم يكن على شيء من الأدب العربي؛ ولذلك كان أكثر الشعراء في بر العدوة أيام نكبة ملوك الطوائف من الزعانفة وملحِفي أهل الكدية، حتى إنه لما أخذ المعتمد إلى طنجة تعرَّض له أولئك الصعاليك وألحفوا في استجدائه، وكان هو أولى منهم بالكدية لولا أنه المعتمد الذي يقول في ذلك:

لولا الحياء وعزة لَخْمِيِّةٌ
طيّ الحشا ساواهم في المطلب
ومن مشاهيرهم الحصري الأعمى، وكانت له عادة سيئة من قبح الكدية وإفراد الإلحاف.١٠

عصر الوزراء

غير أن ملوك الطوائف قد تركوا له إرثًا من الأدب اتصل به بعضه بعد أن استوسق له الأمر، إذ خلفوا من الشعراء والكتَّاب كالوزراء بني القبطرنة من أهل بطليوس أبي بكر وأبي محمد وأبي الحسن، وذي الوزارتين أبي بكر محمد بن رحيم الشاعر، وأخيه الوزير أبي الحسين بن رحيم، والوزراء أبي بكر الطائي، وأبي الحسن جعفر بن الحاج، وأبي محمد بن القاسم، وأبي عامر بن أرقم، وأبي جعفر بن مسعدة، وأبي محمد بن …، وأبي القاسم بن السقاط، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي الحسين بن سراج، وأبي القاسم بن الجد، وأبي محمد بن مالك، وعبد الله بن سماك، وعبد الحق بن عطية، وعبد الحسن بن أضحى، والكاتب أبي عبد الله اللوشي … وأبي الحسن بن زنباع، وأبي محمد بن سارة، ويحيى بن تقي، وأبي الحسن غلام البكري، وأبي القاسم المتنبي، وأبي الحسن بن … وأبي عبد الله محمد بن عائشة، وأبي عامر بن عقال، وعبد المعطي بن مجد، وغيرهم، وما منهم إلا عَلَم في دولة القلم.

وهذا القرن الخامس يصح أن يلقَّب بزمن الوزراء؛ لأنهم كثروا فيه كثرة لم تكن فيما قبله ولم تعهد فيما بعده، وإنما كانوا يستوزرون لأدبهم من الكتابة والشعر — وبذلك عرفوا — فكأن الوزارة كانت كالشعر منافسة، ثم كانوا يوزعون عليهم الخطط كالمظالم والأحكام والإنشاء وغيرها.

وربما يتهادى الوزير الواحد ملوك عدة، ولذهاب هؤلاء الوزراء بجيد الشعر قلَّ في زمنهم من عُرِفَ بالشعر وحده؛ لأنه لا يتميز به إلا من ميَّزته مواهبه وتخطّت به جلالة الوزارة، وقد مر بك أسماء بعضهم، أما الوزراء ممن لم نذكرهم فمنهم أحمد بن عباس وزير زهير الصقلي ملك المرية، وكانت له عناية خاصة بجمع الكتب حتى بلغت دفاتره ٤٠٠ ألف مجلد غير الدفاتر المخرومة، وأبو مروان بن سراج جاحظ الأندلس، وأبو محمد بن عبد البر، وأحمد بن عبد الملك ابن شهيد، وأبو مغيرة بن حزم، ومحمد بن عبد الله بن مسلم، وأبو المطرف بن الدباغ، وأبو حفص بن برد، وأبو عبد الله البكري، وأبو بكر بن عبد العزيز، وأبو عبد الملك بن عبد العزيز، وأبو جعفر البتي، وأبو جعفر بن سعدون، والحاجب أبو مروان عبد الملك بن رزين، و… محمد بن طاهر، وأبو عامر بن سنون، وأبو بكر بن القصيرة، وأبو الحسن بن اليسع، وأبو الفضل بن حداي، وذو الوزارتين أبو عيسى بن لبون، وأبو محمد بن سفيان، وأبو محمد بن القاسم، وأبو الحسن بن الحاج، وأبو الأصبغ بن الأرقم، وابن الحضرمي، وأبو طالب بن غانم، وأبو بكر بن قزمان، وربما كان لكل واحد جمع من هؤلاء، كتَّاب وشعراء، يتجمَّل بهم موكب الوزارة، وينطق بهم لسان المجلس، فتأمل عظمة هذا العصر، وتدبر مقدار ما فيه من ذلك من الأدب وفنونه.

ونحن نستوفي هذه الكلمة بذكر من اشتهروا قبل مَن ذكرناهم من وزراء الأندلس، ومنهم حاجب الناصر أحمد بن عبد الملك بن عمر بن أشهب، ووزيره عبد الملك بن جهور، ثم حاجب ابنه الحكم جعفر بن محمد المصحفي، وكان في زمنه وزمن أبيه من بيوت الوزراء آل أبي عبيدة وينتهي بيتهم في الوزارة إلى زمن الداخل، وآل شهيد، وآل فطيس؛ وفي زمن المنصور بن أبي عامر: محمد بن حفص بن جابر، وأبو بكر محمد بن نهور، وأبو عبيدة حسن بن مالك صاحب كتاب ربيعة وعقيل الذي سلفت الإشارة إليه.

هوامش

(١) نفح الطيب: ٢ / ١٣٩.
(٢) نفح الطيب: ٢ / ١٣٩.
(٣) المعجب: ص٤٩.
(٤) نفح الطيب: ٢ / ٤٦٨.
(٥) المعجب: ص٥٩.
(٦) يتيمة الدهر: ٣ / ٣٢.
(٧) نفح الطيب: ٢ / ٥٨٣.
(٨) قلت: الغيد: مفردها (الغيداءُ): التي تتمايل وتثني في لين ونعومة.
(٩) نفح الطيب: ٢ / ٤٩٣.
(١٠) المعجب: ٩٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤