الراهب الأسود

١

أُصيب أندريه فاسيليفتش كوفرين — الماجستير في الفلسفة — بالإرهاق وانهارت أعصابه، ولكنه لم يتعالج، بل تحدَّث ذات مرة بصورة عابرة مع طبيب من أصدقائه وهما يحتسيان الخمر، فنصحه هذا بقضاء الربيع والصيف في الريف. وبالمناسبة فقد تلقَّى رسالة طويلة من تانیا بیسوتسكایا طلبت منه فيها أن يأتي إلى ضيافتهم في بوريسوفكا، فقرر أنه بالفعل بحاجة إلى السفر.

في البداية — وكان ذلك في أبريل — سافر إلى ضيعة عائلتهم كوفرینكا حيث أمضى هناك وحيدًا ثلاثة أسابيع، ثم انتظر حتى أصبحت الطرق صالحة، فسافر بالخيول إلى وصيِّه ومربِّيه السابق بیسوتسكي خبير البساتين المعروف في روسيا كلها. كانت المسافة من كوفرينكا إلى بوريسوفكا؛ حيث كان يعيش آل بیسوتسكي لا تزيد على سبعين فرسخًا، وكان السفر على طريق ربیعي ليِّن، وفي عربة مريحة بزُنبركات؛ متعةً حقيقية.

كان منزل بیسوتسكي ضخمًا بأعمدة، وأسود تساقط منها الملاط، وبحاجب يقف في الفراك بجوار المدخل.

وامتدت حديقة عتيقة، جهمة وصارمة، مخططة على الطريقة الإنجليزية، حوالي فرسخ كامل من المنزل حتى النهر، وانتهت هنا بشاطئ طیني جرفي منحدر بشدة، نمَت فوقه صنوبرات بجذور عارية تشبه المخالب الكثة. وفي الأسفل لمعت المياه بعزلة وخواء، وحلَّقت طيور البكاشین بزعيق شاكٍ، وكان يسود هنا دائمًا مزاج خاص يغري بتأليف الأناشيد الملحمية، ولكن بجوار المنزل في فنائه وفي بستان الفواكه الذي كان يشغل مع المشاتل حوالي ثلاثين دیسیاتینا،١ كان الجو مرحًا ومفعمًا بالفرحة حتى في الطقس السيئ. لم يرَ كوفرين في أي مكان آخر مثل هذه الورود المدهشة، والزنابق، والكاميليا، مثل هذه الأقحوانات العديدة الألوان، ابتداء من الأبيض الناصع، وانتهاء بالأسود كالسناج، وعمومًا مثل هذه الثروة من الزهور التي كانت لدی بیسوتسكي. كان الربيع قد بدأ لتوِّه، وكانت الروعة الحقيقية لأحواض الزهور لا تزال مختبئة بعد في الدفيئات، ومع ذلك فقد كان ما يزدهر منها بحذاء الممرات، وهنا وهناك في الخمائل؛ كافيًا لكي تشعر — وأنت تتجول في البستان — بأنك في ملكوت الألوان الرقيقة، وخاصة في ساعات الصباح الباكر، عندما يلمع الندى على كل ورقة.

أما القسم الديكوري من البستان، والذي كان بیسوتسكي نفسه يسميه في احتقار بالتوافه، فقد ترك في نفس كوفرين أيام الطفولة انطباعًا خياليًّا. أيُّ شواذٍّ ومسوخ منتقاة بدقة، وتشويهات للطبيعة كانت هنا؟! كانت هنا تكعيبات من أشجار الفواكه، وشجرة كمثرى على شكل حور هرمي، وأشجار بلوط وزيزفون على صورة كرات، ومظلة من شجرة تفاح، وأقواس وزخارف وشمعدانات، بل حتى رقم ١٨٦٢ من أشجار البرقوق — الرقم المشير إلى السنة التي بدأ فيها بیسوتسكي يزاول فلاحة البساتين، وكنت ترى هنا أحيانًا شجيرات جميلة باسقة، بجذوع مستقيمة وقوية كجذوع النخل، ولكن إذا ما حدقت فيها بإمعان تعرفت في هذه الشجيرات على عنب الثعلب، أو الزبيب الرومي. أما أكثر ما كان يضفي البهجة والرونق الحي على البستان؛ فهو الحركة الدائبة. فمن الصباح الباكر وحتى المساء كان أناس بعربات ومجارف ورشاشات ينقبون كالنمل حول الأشجار والخمائل، وفي الممرات والأحواض.

وصل كوفرين إلى آل بیسوتسكي مساء، في حوالي العاشرة، ووجد تانيا وأباها يجور سيميونيتش في قلق بالغ؛ فقد كانت السماء الصافية النجمية والترمومتر ينبئان بصقيع في الصباح، بينما رحل البستاني إيفان كارلیتش إلى المدينة، ولم يكن هناك من يُعْتَمد عليه. وفي أثناء العشاء دار الحديث فقط عن صقيع الصباح، وتقرر ألا تذهب تانيا إلى الفراش، وفي الساعة الواحدة تتجول في البستان لترى هل كل شيء على ما يرام، أما يجور سيميونيتش فسيستيقظ في الساعة الثالثة أو ربما قبل ذلك.

جلس كوفرين مع تانيا المساء كله، وبعد منتصف الليل مضى معها إلى البستان. كان الجو باردًا، وفاحت في الفناء بشدة رائحة الدخان، ففي بستان الفواكه الكبير الذي كان يُدعى بالتجاري، وكان يعود على يجور سيميونيتش بدخل صافٍ يبلغ عدة آلاف روبل سنويًّا، انتشر فوق الأرض دخان أسود كثیف خانق، وغطى الأشجار؛ لينقذ من الصقيع هذه الآلاف. كانت الأشجار موزعة هنا بنظام رقعة الشطرنج، وكانت صفوفها مستقيمة منتظمة، كأنها طوابير جنود، فأضفى هذا الانتظام الصارم الدقيق، مع كون الأشجار كلها بارتفاع واحد، وأغصان وجذوع متشابهة تمامًا، أضفى على الصورة طابع الرتابة، بل الملل. سار كوفرین وتانيا عبر صفوف الأشجار التي كانت تشتعل بجوارها أكوام من الروث والقش وشتى المخلفات، وكانا أحيانًا يقابلان عمالًا يحومون في الدخان كالظلال. لم تكن مزهرة سوى أشجار الكرز والبرقوق وبعض أنواع التفاح، بيد أن البستان كله كان غارقًا في الدخان، فلم يتنفس كوفرين بملء رئتيه إلا بجوار المشاتل.

قال وهو يهز كتفيه: منذ الطفولة كنت أعطس هنا من الدخان، ولكني حتى الآن لا أفهم كيف يستطيع الدخان أن يحمي من الصقيع؟

فأجابت تانيا: الدخان يحل محل السحب عندما لا تكون موجودة.

– وما الحاجة إلى السحب؟

– في الجو الملبد بالسحب لا يحل الصقيع صباحًا.

– هكذا!

وضحك وأمسك يدها. كان وجهها العريض، الجاد للغاية والمقرور وذو الحاجبين الأسودين الدقيقين، وياقة معطفها المرفوعة التي كانت تعوق رأسها عن التحرك بحرية، وهي كلها، النحيلة الممشوقة، في فستانها المرفوع قليلًا حتى لا يبلله الندی؛ تثير فيه الدهشة والتأثر.

وقال: يا إلهي، لقد أصبحتِ كبيرة! عندما سافرت من هنا آخر مرة منذ حوالي خمس سنوات، كنتِ بعدُ طفلة تمامًا، كنتِ نحيلة جدًّا، طويلة الساقين، حاسرة الرأس، ترتدين فستانًا قصيرًا، وكنتُ أغيظك ﺑ «الكركي» .. ماذا يفعل الزمن؟!

فتنهدت تانيا: نعم، خمس سنوات! كم مرَّ منذ ذلك الحين؟ قل لي يا أندريوشا بصدق — قالت بحيوية وهي تحدق في وجهه: هل نسيتنا؟ وعمومًا، فما لي أسأل؟ أنت رجل، تحيا الآن حياتك الخاصة، الشائقة، أنت شخص بارز .. والاغتراب طبیعي تمامًا! ولكن مهما كان يا أندريوشا، فإنني أود أن تعتبرنا أهلك، ولنا الحق في ذلك.

– أنا أعتبركم يا تانيا.

– أتقول الحق؟

– نعم، أقول الحق.

– أدهشك اليوم أن لدينا هذه الكثرة من صورك، ولكنك تعرف أن أبي معجب بك، وأحيانًا يخيل إليَّ أنه يحبك أكثر مني. إنه فخور بك؛ فأنت عالم، رجل فذ، وقد شققت لنفسك مستقبلًا باهرًا، وهو واثق من أنك أصبحت كذلك؛ لأنه هو الذي رباك، وأنا لا أصرفه عن هذا الاعتقاد، ليكن.

حل الفجر، وكان هذا ملحوظًا بصفة خاصة من ذلك الوضوح الذي أخذت تبرز به في الهواء أعمدة الدخان وأغصان الأشجار، وصدحت البلابل، وتناهی من الحقول صياح السمان.

وقالت تانيا: ولكن حان الوقت لننام، ثم إن الجو بارد — وتأبطَتْ ذراعه — شكرًا يا أندريوشا على مجيئك. معارفنا هنا ليسوا ممتعين، وحتی هؤلاء قليلون، ليس لدينا سوى البستان، البستان، البستان، ولا شيء غيره. وقالت ضاحكة: شتامب، نصف شتامب، أوبورتو، رینیت، بوروفینكا،٢ التلقيح، التطعيم .. حياتنا كلها كلها ابتلعها البستان، حتى إنني لا أحلم أبدًا بشيء سوى بأشجار التفاح والكمثرى. بالطبع هذا حسن، مفيد، ولكني أحيانًا أتوق أيضًا إلى شيء آخر من أجل التنويع. أذكر عندما كنت تأتي إلينا في الإجازات أو هكذا بلا مناسبة، كان جو المنزل يصبح أكثر انتعاشًا وإشراقًا، كما لو كانت الأغطية قد نزعت عن النجف والأثاث، كنت أنا طفلة آنذاك، ومع ذلك كنت أفهم.

تحدثت طويلًا وبعاطفة قوية. ولسبب ما دار بذهنه أنه من الجائز خلال الصيف أن يتعلق بهذا المخلوق الصغير الضعيف الكثير الكلام، ويغرم به ويحبه .. ففي مثل وضعهما كان هذا شيئًا محتملًا جدًّا وطبيعيًّا؟ وفتَنَته هذه الفكرة وأضحكَتْه، فمال إلى الوجه الرقيق المهموم، وغنی بصوت خافت:

أنيجين، لن أخفي حبي؛

قد هام بتاتیانا قلبي.٣

حينما عادا إلى المنزل كان يجور سيميونيتش قد استيقظ، ولم يشعر كوفرین برغبة في النوم فاندمج في الحديث مع العجوز، وعاد معه إلى البستان. كان يجور سيمونیتش طويل القامة، عريض المنكبين، بكرش كبيرة، وكان يعاني من اللهاث، ولكنه كان يسير دائمًا بسرعة إلى درجة يصعب معها اللحاق به. وكان مظهره ينُمُّ عن القلق البالغ، يسرع دائمًا إلى مكان ما وعلى وجهه تعبير، كأنما لو تأخر دقيقة واحدة لضاع كل شيء!

يا لها من حكاية يا أخي! — شرع يتحدث متوقفًا بين الحين والحين ليلتقط أنفاسه — على سطح الأرض صقيع كما ترى، ولو رفعت الترمومتر على عصا لمسافة ذراعين فوق الأرض فستجد الجو دافئًا .. فلماذا هكذا؟

فقال كوفرين ضاحكًا: لا أدري حقًّا.

– أم .. طبعًا لا يمكن معرفة كل شيء .. مهما كان العقل واسعًا فلن يتسع لكل شيء، أنت مهتم أكثر بالفلسفة، أليس كذلك؟

– بلی، أقرأ محاضرات في علم النفس، ولكني أشتغل عمومًا بالفلسفة.

– ألا تمل؟

– بالعكس، لا أحيا إلا على ذلك.

– وفقك الله .. — قال يجور سيميونيتش وهو يمسد سالفيه الأشيبين متفكرًا: وفقك الله .. أنا مسرور جدًّا من أجلك .. مسرور يا أخي.

ولكنه أصاخ السمع فجأة، وأصبح وجهه رهيبًا، وركض جانبًا، وسرعان ما غاب وراء الأشجار في سحب الدخان.

– من هذا الذي ربط الحصان إلى شجرة التفاح؟ — تناهت صرخته اليائسة الملتاعة — مَن هذا الوغد المحتال الذي تجاسر على ربط الحصان إلى شجرة التفاح؟ يا إلهي يا إلهي! أفسدوا البستان، دنسوه، لوثوه! ضاع البستان! هلك البستان! يا إلهي!

وعندما عاد إلى كوفرين كان وجهه منهكًا، مهانًا، وقال بصوت باكٍ وهو يشيح بيديه: ماذا أفعل لهؤلاء الملاعين؟ ستيوبكا نقل الروث ليلًا وربط الحصان إلى شجرة التفاح! لف عليها الوغد اللجام بشدة، حتى إن اللحاء جرح في ثلاثة مواضع، هل رأيت؟! أقول له وهو لا يفقه شيئًا، بل يطرف بعينيه: قليل عليه الشنق!

وإذ هدأت ثورته عانق كوفرین وقبله في خده، ودمدم: حسنًا، وفقك الله .. وفقك الله .. أنا سعيد جدًّا بمجيئك، سعید سعادة لا توصف .. شكرًا لك.

وبعد ذلك، وبنفس المشية السريعة والوجه المهموم؛ طاف بالبستان كله، وفرَّج ربيبه السابق على المشاتل، والدفيئات، وحظائر التربة، ومنحليه اللذين كان يسميهما أعجوبة هذا القرن.

وفي أثناء طوافهما أشرقت الشمس وأضاءت البستان بنور ساطع وانتشر الدفء. وإذ توقع كوفرين يومًا طويلًا صافيًا مرحًا؛ تذكَّر أن ذلك ليس إلا بداية مايو، وأن الصيف كله ما زال في الأمام، صيفًا طويلًا صافيًا مرحًا مثل هذا اليوم، وفجأة تحرك في قلبه إحساس فرح فتيٌّ كذلك الذي كان يراوده في الطفولة عندما كان يركض في هذا البستان. وإذا به يعانق العجوز ويقبله برقة، ومضَيَا كلاهما إلى البيت منفعلين، وشرَعا يشربان الشاي من أقداح خزفية عريقة مع الكِريم والكعك الدسم المشبع. وذكَّرَت هذه التفاصيل كوفرین بطفولته وصباه مرة أخرى. واتحد الحاضر الرائع بصور الماضي التي استيقظت فيه، فضاقت بهما روحه، ولكنه أحس بالراحة.

وانتظر حتى استيقظت تانيا، فشرب معها القهوة، وتنزه، ثم ذهب إلى غرفته وجلس يعمل، كان يقرأ بإمعان، ويسجل ملاحظات، وأحيانًا يرفع بصره؛ لينظر إلى النوافذ المفتوحة أو إلى الزهور النضرة التي لا تزال مبللة بالندى والموضوعة في أصيص على الطاولة، ثم يعود ببصره إلى الكتاب، وبدا له أن كل عرق في بدنه ينتفض ويرقص من المتعة.

٢

ظل في الريف يواصل نفس الحياة القلقة المضطربة التي كان يحياها في المدينة. كان يقرأ ويكتب كثيرًا، ويتعلم اللغة الإيطالية، وعندما يتنزه كان يفكر بلذة في أنه سيعود ليواصل العمل قريبًا، وكان ينام قليلًا جدًّا لدرجة أثارت دهشة الجميع، فإذا نعس في النهار صدفة لنصف ساعة فلا ينام الليل، وبعد ليلة من السهاد يشعر بالحيوية والمرح وكأن شيئًا لم يكن.

كان يتحدث كثيرًا، ويحتسي النبيذ، ويدخن السيجار الفاخر، وكانت آنسات من جارات تانيا يزرن آل بیسوتسكي كثيرًا، كل يوم تقريبًا، ويعزِفْن مع تانيا على البيانو ويغنِّين. وأحيانًا كان يأتي شاب جارهم، يعزف جيدًا على الكمان.

وكان كوفرين يستمع إلى العزف والغناء بنَهم ويُرْهَق منهما، وكان الإحساس الأخير يتجلی بدنيًّا في انطباق جفنيه، وميل رأسه جانبًا.

وذات مرة جلس بعد شاي المساء في الشرفة يقرأ، وفي تلك الأثناء كانت تانيا في غرفة الجلوس تغني سوبرانو، وإحدى الآنسات تغني كونترالتو، والشاب يعزف على الكمان، وهم يتدربون على سيرنادا براج المعروفة. وأصغى كوفرين إلى الكلمات — وكانت بالروسية — ولم يستطع قَطُّ أن يفهم معناها، وأخيرًا ترك الكتاب وأصاخ بإمعان ففَهِم: سمعت فتاة مصابة بالوهم في الحديقة ليلًا أصواتًا غامضة، رائعة وغريبة إلى درجة كان ينبغي معها أن تعتبرها هارمونيًّا مقدسًا، ليس مفهومًا لنا — نحن الفانين — ولهذا يعود أدراجَه طائرًا إلى السماء، وأخذ جفنا كوفرين ينطبقان، فنهض وتمشَّى في غرفة الجلوس مرهقًا، ثم في الصالة، وعندما توقف الغناء تأبط ذراع تانيا وخرج معها إلى الشرفة. وقال: منذ الصباح تشغل بالي إحدى الأساطير، لا أذكر هل قرأتها في كتابٍ ما أو سمعتها، ولكنها أسطورة غريبة، لا مثيل لها؛ فهي قبل كل شيء لا تتميز بالوضوح، فقبل ألف عام سار راهب، يرتدي السواد، في الصحراء في مكان ما في سوريا أو الجزيرة العربية .. وعلى بُعْد عدة أميال من المكان الذي كان يسير فيه رأى الصيادون راهبًا آخر كان يمشي ببطء على سطح البحيرة، وكان هذا الراهب الثاني سرابًا، والآن انسي كل قوانين البصريات التي يبدو أن الأسطورة لا تعترف بها، واسمعي التالي، من ذلك السراب تكوَّن سراب آخر، ومن الآخر تكوَّن ثالث، حتى إن صورة الراهب الأسود أصبحت تتنقل بلا نهاية من إحدى طبقات الجو إلى الأخرى، وشوهد تارة في إفريقيا، وتارة في إسبانيا، وتارة في الهند، وتارة في أقصى الشمال .. وأخيرًا تجاوز نطاق الغلاف الجوي الأرضي وأصبح الآن يضرب في الكون دون أن يصادف محيطًا تنطفئ صورته فيه، وربما يرونه الآن في مكان ما على المريخ، أو في أحد نجوم الصليب الجنوبي، ولكن أهم ما في الأمر يا عزيزتي، الشيء المحوري في الأسطورة، هو أنه بعد ألف عام بالضبط من ذلك الزمن الذي كان الراهب فيه يقطع الصحراء، سيعود السراب ثانية إلى الغلاف الجوي الأرضي ويظهر للناس، وكما لو كانت هذه الأعوام الألف على وشك الانقضاء .. وحسب مغزى الأسطورة فعلينا أن نتوقع ظهور الراهب الأسود بين يوم وليلة.

– سراب غريب! قالت تانيا التي لم تعجبها الأسطورة.

فضحك كوفرين قائلًا: ولكن أغرب ما في الأمر أنني لا أستطيع أبدًا أن أتذكر من أين وردت هذه الأسطورة إلى رأسي، هل قرأتها؟ هل سمعتها، أم ربما رأيت الراهب الأسود في المنام؟ أقسم إنني لا أذكر، ولكن الأسطورة تشغل بالي، إنني أفكر فيها اليوم طوال النهار.

وترك تانيا تنصرف إلى ضيوفها، وخرج من المنزل وتجوَّل متفكرًا بجوار أحواض الزهور. كانت الشمس تغرب؛ ولأن الزهور قد رُشت لتوِّها بالماء فقد تضوعت برائحة رطبة مثيرة للأعصاب. وتردد الغناء في المنزل من جديد، وبدا صوت الكمان من بعيد أشبه بصوت بشري. وأجْهَد كوفرین فكره؛ ليتذكر أين قرأ أو سمع الأسطورة، ومضى على مهل إلى الحديقة فبلغ النهر دون أن يلحظ.

وهبط إلى النهر على الدرب الممتد على الشاطئ الشديد الانحدار بجوار الجذور العارية، فأزعج البكاشين وأفزع بطتين. وعلى ذؤابات الصنوبرات الجهمة كانت آخر أشعة الشمس الغاربة تنعكس هنا وهناك، ولكن المساء كان قد حلَّ تمامًا على سطح النهر، وعبر كوفرين إلى الضفة الأخرى فوق قنطرة، أصبح أمامه الآن حقل واسع مغطًّى بجودار فتيٍّ لم يزدهر بعد، ولم يكن هناك مسكن بشري أو روح حية على مدى البصر، وبدا أن الدرب لو سرت عليه؛ لأفضى بك إلى ذلك المكان الغامض المجهول الذي هبطت فيه الشمس لتوها، والذي يتوهج فيه المغيب بهذا الاتساع والعظمة.

وفكر كوفرين وهو يسير على الدرب: «يا للرحابة والحرية والهدوء هنا! يبدو أن الدنيا كلها تنظر إليَّ، وقد كتمت أنفاسها في انتظار أن أفهمها.»

وها هو ذا الجودار يتموج، ومس نسيم المساء الخفيف رأس كوفرین الحاسر برقة، وبعد دقيقة هبت دفقة ريح ثانية، ولكنها أقوى، فصخب الجودار، وتناهی من الخلف هزيم الصنوبرات المكتوم، وتوقف كوفرین مأخوذًا؛ فعند الأفق تصاعد من الأرض حتى السماء عمود أسود طويل، يشبه الزوبعة أو الدوامة الهوائية، ولم تكن حدوده واضحة، ولكن كان من الممكن منذ الوهلة الأولى إدراك أنه لم يكن ثابتًا في مكانه، بل يتحرك بسرعة رهيبة، يتحرك إلى هنا بالذات، نحو كوفرين مباشرة، وكلما اقترب أصبح أصغر وأوضح، وارتمی كوفرین جانبًا في الجودار ليفسح له الطريق، وبالكاد تمكن من ذلك.

مرَق بجواره راهبٌ في حُلَّة سوداء، برأسٍ أشيبَ وحاجبَين أسودَين، وقد عقَد ذراعَيه على صدره .. ولم تكن قدماه الحافيتان تمسَّان الأرض، وبعد أن مرَق إلى مسافةِ ثلاثِ أذرُعٍ الْتَفتَ إلى كوفرين، وأومأ برأسه وابتسم له ابتسامةً رقيقة، ولكنها في الوقت نفسه ماكِرة، ولكن كم كان وجهه شاحبًا، شاحبًا إلى درجة فظيعة، ونحيلًا! وأخذ يكبر مرة أخرى فعبر النهر طائرًا، وارتطم دون صوت بالشاطئ الطيني والصنوبرات، ونفذ من خلالها، ثم اختفى كالدخان.

ودمدم كوفرین: أرأيتم إذن؟ وهكذا فالأسطورة صادقة.

لم يحاول أن يشرح لنفسه هذه الظاهرة الغريبة، وأرضاه فحسب أنه استطاع أن يرى بهذا القرب والوضوح لا حلة الراهب السوداء فقط، بل وجهه وعينيه أيضًا، فعاد إلى المنزل وهو يشعر باضطراب لطيف.

في الحديقة وفي البستان كان الناس يغدون ويروحون في هدوء، وفي المنزل كانوا يعزفون، وإذن فهو وحده الذي رأى الراهب، وتملكته رغبة شديدة في أن يخبر بذلك تانيا ويجور سيميونيتش، ولكنه أدرك أنهما، في الغالب، سيعتبران روايته هذيانًا، وسيفزعهما ذلك؛ فمن الأفضل إذن أن يصمت. وأخذ يضحك بصوت عالٍ، ويغني، ويرقص المازوركا، وكان يشعر بالمرح، فاعتبر الجميع — الضيوف وتانيا — أن وجهه يبدو اليوم بصورة خاصة نورانيًّا، ملهمًا، وأنه شخص طريف للغاية.

٣

بعد العشاء، عندما انصرف الضيوف، ذهب إلى غرفته وتمدد على الكنبة، فقد كان يريد أن يفكر في الراهب، ولكن سرعان ما دخلت تانيا.

– خذ يا أندريوشا، اقرأ مقالات أبي — قالت وهي تقدم له رزمة من الكراريس والملازم المطبعية: مقالات ممتازة، إنه يكتب بصورة رائعة.

– دعْكِ من المبالغة! — قال يجور سيمونيتش الذي دخل في أثرها — وهو يضحك بتصنع؛ فقد كان خجلًا: لا تصغِ إليها من فضلك، لا تقرأ! وعمومًا إذا أردت أن تنعس فلتقرأها إذن، وسيلة منومة رائعة.

فقالت تانيا بيقين راسخ: في رأيي أنها مقالات عظيمة، اقرأها يا أندريوشا، وأقنِعْ بابا بأن يكتب أكثر؛ بإمكانه أن يكتب دورة محاضرات كاملة في فلاحة البساتين.

قهقه يجور سيمونيتش بتوتر، وتضرج وجهه، وأخذ يقول عبارات من تلك التي يقولها المؤلفون المحرجون عادة. وأخيرًا بدأ يستسلم.

– في هذه الحالة اقرأ أولًا مقالة جوشيه ثم هذه المقالات الروسية — دمدم وهو يقلب الكراريس بأصابع مرتعشة — وإلا فلن تكون المسائل مفهومة لك؛ فقبل أن تقرأ اعتراضاتي ينبغي أن تعرف علام أعترض، وعمومًا، كلام فارغ .. في غاية الملل، ثم إن موعد النوم قد حان، كما أظن.

خرجت تانيا، وجلس يجور سيميونيتش إلى جانب كوفرين على الكنبة وزفر بعمق.

– نعم، يا أخي! شرع يقول بعد فترة صمت: هكذا يا عزیزي الماجستير! ها أنا ذا أكتب مقالات، وأشارك في المعارض، وأحصل على ميداليات .. ويقولون: إن التفاحة عند بیسوتسكي بحجم الرأس، ويقولون: إن بیسوتسكي كوَّن لنفسه ثروة من البستان، وباختصار، كوتشوبي غني وشهير.٤ ولكن السؤال هو: وما جدوى ذلك؟ صحيح أن البستان رائع، نموذجي .. ليس بستانًا، بل مؤسسة كاملة ذات أهمية كبرى على مستوى الدولة؛ لأنه — إذا جاز التعبير — خطوة إلى العصر الجديد للاقتصاد الروسي، والصناعة الروسية، ولكن ما جدواه؟ ما الهدف؟

– عملكم يشهد لنفسه بنفسه.

– لا أقصد هذا المعنى. إنني أريد أن أسأل: ما الذي سيحدث للبستان عندما أموت؟ لن يبقى بعد وفاتي شهرًا واحدًا بهذه الصورة التي تراه عليها؛ إن سر النجاح ليس في كون البستان كبيرًا والعمال كثيرين، بل في أنني أحب هذا العمل، أتَفْهم؟ أحبه ربما أكثر من نفسي، انظر إليَّ إنني أصنع كل شيء بنفسي. إنني أعمل من الصباح إلى المساء. التطعيم كله أجريه بنفسي، والتقليم بنفسي، والشتل بنفسي، كل شيء بنفسي، وعندما يساعدني أحد أشعر بالغيرة وأستثار إلى حد الخشونة. السر كله في الحب، أي في العين المدبِّرة اليقظة، وفي الأيدي المدبِّرة، وأيضًا في ذلك الإحساس الذي يراودك عندما تذهب ضيفًا إلى أحد ما لمدة ساعة فتشعر وأنت هناك بأن قلبك في غير مكانه، وأنت نفسك على غير طبيعتك؛ إذ تخشى أن يحدث شيء للبستان. فمن ذا الذي سيعتني به بعد أن أموت؟ من ذا الذي سيعمل؟ البستاني؟ العمال؟ نعم! إذن فلتسمع ما أقوله لك يا صديقي العزيز: إن العدو الأول لعملنا ليس الأرنب، أو الخنفساء، أو الصقيع، بل الشخص الغريب.

فسأله كوفرین ضاحكًا: وتانيا؟ لا يمكن أن تكون أكثر ضررًا من الأرانب، إنها تحب هذا العمل وتفهمه.

– نعم، إنها تحبه وتفهمه، لو أن البستان آل إليها بعد وفاتي وأصبحت صاحبته، فليس هناك بالطبع من هو أفضل من ذلك، ولكن ماذا — لا قدر الله — لو تزوجت؟ — همس يجور سيميونيتش، ونظر إلى كوفرين بفزع — تلك هي المسألة! ستتزوج، وتنجب أطفالًا، وعندها لا يصبح لديها وقت للتفكير في البستان. إن أكثر ما أخشاه أن تتزوج من شاب ما، ويتملك الجشع هذا الشاب فيؤجر البستان للبائعات، فيذهب كل شيء إلى الشيطان في أول سنة! النساء في عملنا هذا لعنة مسلطة!

تنهد يجور سيميونيتش وصمت قليلًا، ثم قال: ربما كانت هذه أنانية، ولكني أقول لك بصراحة: أنا لا أريد لتانيا أن تتزوج؛ أخاف! يوجد هنا غندور يزورنا بكمان ويطنطن عليه، وأعرف أن تانيا لن تتزوجه، أعرف جيدًا، ومع ذلك لا أطيق رؤيته! وعمومًا يا أخي فأنا فعلًا غريب الأطوار، أعترف بذلك.

نهض يجور سيميونيتش، وذرع الغرفة منفعلًا، وكان واضحًا أنه يريد أن يقول شيئًا مهمًّا للغاية، ولكنه لا يجرؤ.

– إنني أحبك بحرارة وسوف أكون صريحًا معك — قرر أخيرًا أن يقول، وقد دس يديه عميقًا في جيبيه — أنا أنظر إلى بعض الأمور الحساسة ببساطة، وأقول مباشرة ما أفكر فيه، ولا أطيق ما يُسمى بالأفكار المكنونة، أقول لك بصراحة: أنت الشخص الوحيد الذي لا أخشى أن أزوجه ابنتي؛ أنت رجل ذكي، ذو قلب، ولن تسمح لعملي المحبوب أن يهلك. أما السبب الرئيسي فهو أنني أحبك كابني .. وأفخر بك، ولو نشأت بينك وبين تانيا علاقة فليكن، سأكون مسرورًا جدًّا، بل سعيدًا، أقول لك هذا بصدق، دون تكلف، كرجل شريف.

ضحك كوفرين، وفتح يجور سيميونيتش الباب ليخرج، ثم توقف على العتبة.

– لو وُلد لك ولد من تانيا لجعلتُ منه خبير بساتين — قال بعد تفكير: وعمومًا فما هي إلا أحلام فارغة .. طابت ليلتك.

عندما أصبح كوفرين وحده تمدد في وضع مريح وتناول المقالات، كان عنوان إحداها: «حول المحصول الانتقالي»، وعنوان الأخرى: «تعليق قصير على مقال السيد «س» حول تقليب التربة لإقامة بستان جديد»، وكان عنوان الثالثة: «مرة أخرى عن التطعيم بالأكمام النائمة»، وهكذا دواليك، ولكن أي نبرة منفعلة، عصبية، أي حماس يكاد يكون مرضيًّا! ها هي ذي مقالة بعنوان يبدو مسالمًا للغاية وبمحتوى محايد، وهي تتحدث عن تفاح أنطونوفكا الروسي، ولكن يجور سيميونيتش يبدؤها ﺑ audiatur altera pars،٥ وينهيها ﺑ sapienti sat،٦ وبين هاتين العبارتين شلال دافق من الكلمات اللاذعة الموجهة إلى «الجهل العلمي للسادة خبرائنا المعترف بهم في فلاحة البساتين الذين يراقبون الطبيعة من منابرهم الجامعية»، أو إلى السيد جوشيه «الذي أحرز نجاحه بفضل الجهلة والهواة»، ثم أسف غير مناسب، وغير صادق على أنه لم يَعُد من الممكن جَلْد الفلاحين الذين يسرقون الفواكه ويحطمون الأشجار في أثناء ذلك.

وفكر كوفرین: «قضية جميلة، لطيفة، وسليمة، ولكن حتى هنا تلتهب الغيرة وتشتعل الحرب. لا بد أن الأشخاص العقائديين هم في كل مكان ومجال عصبيون ويتميزون بحساسية عالية. ربما كان ذلك مطلوبًا.»

وتذكر تانيا التي تعجبها جدًّا مقالات يجور سيميونيتش. قصيرة القامة، شاحبة، نحيلة إلى درجة بروز عظام الترقوة، عيناها مفتوحتان باتساع، داكنتان، ذكيتان، تحدقان دائمًا بإمعان، وتبحثان دائمًا عن شيء ما، ومشيتها كمشية أبيها دقيقة متعجلة. وهي تتحدث كثيرًا، وتهوى الجدل، وخلال ذلك تصاحب كل عبارة، حتى التافهة بحركات الوجه واليدين، يبدو أنها عصبية إلى أقصى حد.

وواصل كوفرين القراءة، ولكنه لم يفهم شيئًا فتركها. وذلك الانفعال اللطيف الذي رقص به المازوركا واستمع إلى الموسيقى منذ قليل، أصبح الآن يعذبه ويثير فيه أفكارًا كثيرة، فنهض، وأخذ يذرع الغرفة، وهو يفكر في الراهب الأسود، وخطر بذهنه أنه إذا كان هو وحده الذي رأى هذا الراهب الغريب الخارق، فهذا يعني أنه مريض وبلغ به الأمر حد التهيؤات، وأخافه هذا الخاطر، ولكن لوقت قصير.

«ولكني أشعر بالراحة، ولا أسبب أذى لأحد، وإذن فليس في تهيؤاتي أي شيء سيئ» فكر كوفرين، ومن جديد أحس بالراحة.

وجلس على الكنبة ووضع رأسه بين يديه وهو يكتم فرحة غير مفهومة ملأت كل كيانه، ثم راح وجاء مرة أخرى، وجلس إلى المكتب ليعمل، ولكنَّ الأفكار التي قرأها في الكتاب لم ترضِه؛ كان يرغب في شيء عملاق لا حدود له، مذهل، وقبيل الصباح نزع ملابسه وأوی مكرها إلى الفراش، فمن المفروض في النهاية أن ينام!

وعندما سمع كوفرین وقْعَ خطوات يجور سيميونيتش الذي خرج إلى البستان دق الجرس وأمر الخادم أن يحضر له نبيذًا، وشرب عدة كئوس من نبيذ «لافيت» بلذة، ثم تغطى حتى رأسه، وغام وعيه، ثم نعس.

٤

كان يجور سيميونيتش وتانيا كثيرًا ما يتشاجران؛ فيكيل كل منهما للآخر كلمات مسيئة.

وفي هذا الصباح تشاجرا بسبب شيء ما، وبكت تانیا وانصرفت إلى غرفتها، ولم تخرج للغداء ولا لتناول الشاي، وفي البداية سار يجور سیمیونیتش متخذًا سيماء الأهمية، عابسًا كما لو كان يريد أن يظهر أن مصالح العدالة والنظام بالنسبة له أسمى من أي شيء في الدنيا، ولكنه لم يستطع أن يصمد طويلًا، وسرعان ما انهارت معنوياته، وأخذ يتجول في الحديقة حزينًا ويتنهد: «آه، يا إلهي! يا إلهي!» ولم يذق في الغداء لقمة واحدة، وأخيرًا مضى مذنبًا، معذب الضمير إلى الباب الموصد فطرقه ونادی بوجل: تانیا! تانيا!

فسمع من خلف الباب صوتًا ضعيفًا، أرهقته الدموع، ولكنه في الوقت نفسه حازم: دعني أرجوك.

وانعكست كآبة السادة على البيت كله، حتى على العاملين في البستان. وكان كوفرين منهمكًا في عمله الشائق، ولكن — حتى هو — أحس في النهاية بالملل والحرج؛ ولكي يبدد المزاج العام السيئ بشكل ما قرَّر أن يتدخل، فدق باب غرفة تانيا قبيل المساء، وسمحت له بالدخول.

– عیب، عیب، ألا تخجلين؟ — بدأ يقول مازحًا وهو ينظر بدهشة إلى وجه تانيا الباكي، الحزين، المغطى ببقع حمراء — الأمر جد هكذا؟ عيب عليك.

– آه لو تعلم كيف يعذبني! قالت تانيا، وانهمرت دموع مريرة غزيرة من عينيها الواسعتين: لقد عذبني تمامًا! — استطردت وهي تلوي ذراعيها — أنا لم أقل له شيئًا .. قط .. قلت فقط: إنه لا داعي للاحتفاظ .. بعمال زائدین، طالما .. طالما من الممكن في أي وقت استئجار عمال مُياوِمين، العمال .. العمال لا يفعلون شيئًا طوال أسبوع .. أنا .. هذا فقط ما قلته، فصرخ فيَّ وانهال عليَّ بكلمات مسيئة، مهينة جدًّا، لماذا؟

فقال كوفرين وهو يسوي شعرها: كفَی، كفَی، تشاجرتما وبكيتِ فيكفي، لا يصح الزَّعَل طويلًا، هذا ليس حسنًا .. وخاصة أنه يحبك بلا حدود.

فمضت تانيا تقول وهي تشهق: إنه .. إنه أفسد حياتي؛ لا أسمع منه سوى الإساءات .. و.. والإهانات، إنه يعتبرني زائدة في بيته. حسنًا، إنه على حق، سأرحل من هنا غدًا، وألتحق بمكتب تلغراف .. ليكن.

– طيب، طيب، طيب .. لا داعي للبكاء يا تانيا! لا داعي يا عزيزتي! كلاكما سريع الغضب، عصبيٌّ، وكلاكما مخطئ، هيا، هيا أصالحكما.

كان كوفرين يتكلم بلطف وإقناع، بينما واصلت تانيا البكاء وكتفاها تنتفضان، وراحت تعصر يديها وكأنما حلَّتْ بها حقًّا فاجعة رهيبة، ومما زاد من إشفاقه عليها أن مُصابها كان بسيطًا بينما كانت تعاني منه بشدة. أي أشياء تافهة كانت كافية لجعل هذا المخلوق تعيسًا طول النهار، بل ربما طول العمر؟ وبينما كان كوفرين يهدئ تانیا، راح يفكر في أنه لن يجد في الدنيا كلها — ولو أعياه البحث — غير هذه الفتاة وأبيها أحدًا يحبه كواحد منهم، كشخص عزيز قريب، ولولا هذان الشخصان لما عرف — في الغالب حتى الممات، هو الذي فقد أباه وأمه في طفولته المبكرة — معنى المودَّة الصادقة، وذلك الحب الساذج المسلم الذي نكنه فقط للأشخاص القريبين للغاية الذين تربطنا بهم أواصر الدم، وأحس أن أعصابه شبه المريضة، المستثارة تستجيب لأعصاب هذه الفتاة الباكية المنتفضة، كالحديد إلى المغناطيس، وما عاد في وسعه قط أن يحب امرأة صحيحة، قوية، حمراء الخدين، ولكن تانيا الشاحبة الضعيفة، التعيسة، أعجبته.

فراح يمسد شعرها وكتفيها بسرور، ويضغط على راحتيها، ويمسح دموعها .. وأخيرًا كفَّتْ عن البكاء، وظلت طويلًا تشكو من أبيها وحياتها الشاقة التي لا تحتمل في هذا البيت، وتتوسل إلى كوفرين أن يتفهَّم وضعها، ثم أخذت شيئًا فشيئًا تبتسم وتتنهد؛ إذ بلاها الله بهذا الطبع السيئ، ولكنها في النهاية ضحكت بصوت عالٍ، ووصفت نفسها بالحمقاء وانفلتت راكضة من الغرفة.

وعندما خرج كوفرين إلى البستان بعد ذلك بقليل، كان يجور سيميونيتش وتانيا يتنزهان معًا في الممر، كأن شيئًا لم يكن، وكان كلاهما يأكل خبز الجودار بالملح، فقد كانا جائعين.

٥

ذهب كوفرين إلى الحديقة مسرورًا من أنه وُفِّق في أن يلعب دور المصلح. وبينما كان جالسًا على الأريكة يفكِّر سمع وقع عربات، وضحكًا نسائيًّا .. لقد وصل الضيوف، وعندما ارتمت ظلال المساء على البستان، ترددت بوهن أنغام كمان وأصوات تغني، فذكره ذلك بالراهب الأسود. تُرَى أين يهيم الآن هذا اللامعقول البصري، في أي بلد أو في أي كوكب؟

وما إنْ تذَكَّر الأسطورة ورسم في خياله ذلك الشبح الأسود الذي رآه في حقل الجودار حتى خرج من وراء الصنوبرة، قبالته تمامًا بدون صوت، دون أدنى حفيف، رجل متوسط القامة، برأس أشيب حاسر، متشحًا بالسواد، حافي القدمين، أشبه بالشحاذ، وفي وجهه الشاحب كوجه میت، برز بحدة حاجباه الأسودان. اقترب هذا الشحاذ أو الجوال من الأريكة دون صوت فجلس، وهو يومئ برأسه محييًا، فعرف فيه كوفرين الراهب الأسود، ومضت دقيقة وهما يتبادلان النظر .. كوفرین بذهول، والراهب برقة، وكما في المرة السابقة، بشيء من المكر، وبتعبير مَن يعرف شيئًا ويخفيه.

وقال كوفرین: ولكنك سراب، فلماذا أنت هنا؟ ولماذا أنت جالس لا تتحرك؟ إن هذا لا يتفق والأسطورة.

فأجابه الراهب بعد فترة، بصوت خافت، ملتفتًا بوجهه نحوه: هما سيان، الأسطورة والسراب وأنا .. كل ذلك من وحي خيالك المستثار، نا شبح.

فسأله كوفرین: إذن فلست موجودًا؟

– فكر كما تشاء — أجاب الراهب وابتسم بوهن: أنا موجود في خيالك، وخيالك جزء من الطبيعة، وإذن فأنا موجود في الطبيعة.

فقال كوفرین: وجهك عجوز وذكي جدًّا، ومعبر إلى أقصى حد، كأنك عشت بالفعل أكثر من ألف عام، لم أكن أعرف أن خيالي قادر على خلق هذه الخوارق، ولكن لماذا تنظر إليَّ بهذا الإعجاب؟ هل أروق لك؟

– نعم! أنت واحد من أولئك القلائل الذين يُدْعَون بأبناء الله المختارين، أنت تخدم الحقيقة الخالدة، وأفكارك، ونواياك، وعلمك المدهش، وحياتك كلها تحمل بصمات إلهية، سماوية؛ لأنها مكرسة لما هو حكيم وجميل، أي لما هو خالد.

– تقول: الحقيقة الخالدة .. ولكن هل يستطيع الناس بلوغ الحقيقة الخالدة؟ وهل هم بحاجة إليها إذا لم تكن هناك حياة خالدة؟

فقال الراهب: بل هناك حياة خالدة.

– أتؤمن بخلود البشر؟

– نعم، طبعًا، إن مستقبلًا عظيمًا باهرًا ينتظركم، أنتم البشر، وكلما كثر أمثالك على الأرض تحقق هذا المستقبل أسرع، فلولاكم، أنتم الذين تخدمون الغاية الأسمى، وتعيشون بوعي وحرية؛ لكانت البشرية تافهة، ولو تطورت وفق النظام المألوف لظلت طويلًا تنتظر نهاية تاريخها الأرضي، أما أنتم فسوف تدخلونها ملكوت الحقيقة الخالدة قبل الأوان ببضعة آلاف من السنين، وتلك هي الخدمة الجليلة التي ستقدمونها، أنتم تجسدون البركة الإلهية التي لم يحظَ بها البشر.

فسأل كوفرین: وما هي غاية الحياة الخالدة؟

– كغاية كل حياة: المتعة، إن المتعة الحقيقية هي في المعرفة، والحياة الخالدة ستقدم منابع عديدة لا تنفد للمعرفة، وفي هذا المعنى بالذات قيل: إن في بيت أبي منازل كثيرة.٧

فقال كوفرين وهو يفرك يديه من المتعة: آه لو تدري كم أستمتع بسماعك!

– مسرور جدًّا.

– ولكي أعرف أنك حينما تمضي سوف يؤرقني السؤال عن طبيعتك، أنت شبح، تهيؤات! وإذن فأنا مريض نفسيًّا، مجنون.

– حتى لو كان كذلك، فِيمَ الخجل؟ أنت مريض لأنك عملت فوق طاقتك وأجهدت نفسك، وهذا يعني أنك ضحيت بصحتك في سبيل الفكرة، وقريبًا يحل الوقت الذي تهبها فيه حياتك أيضًا، فهل هناك ما هو أفضل؟ إن هذا هو ما تسعى إليه عادة كل الشخصيات الموهوبة النبيلة.

– وإذا ما كنت أعرف أنني مريض نفسيًّا، فهل أستطيع إذن أن أثق في نفسي؟

– ولماذا تعتقد أن العباقرة الذين يثق بهم العالم أجمع، لم يروا هم أيضًا أشباحًا؟ ألا يقول العلماء الآن: إن العبقرية صنو الجنون؟ یا صدیقي! الأصحاء والطبيعيون هم فقط الأشخاص العاديون، أفراد القطيع، إن الاعتبارات التي تذكر بخصوص عصر القلق، والإرهاق، والانحلال .. إلخ، لا يمكن أن تثير أحدًا سوى أولئك الذين يرون غاية الحياة في الحاضر، أي أفراد القطيع.

– ولكن الرومان قالوا: mens sana in corpore sano.٨

– ليس كل ما قاله الرومان أو الإغريق حقيقة، فالمزاج العالي، والاستثارة، والنشوة، أي كل ما يميز الأنبياء والشعراء وشهداء الفكرة عن الناس العاديين؛ يتنافر مع الجانب الحيواني في الإنسان، أي مع صحته البدنية، أكرر: إذا أردت أن تكون صحيحًا وطبيعيًّا، فاذهب إلى القطيع.

فقال كوفرین: غريب أنك تكرر ما يطوف كثيرًا بذهني، كأنك تلصصت وتنصت إلى أفكاري المكنونة، ولكن دعنا نترك الحديث عن شخصي، ما الذي تعنيه بالحقيقة الخالدة؟

لم يَردَّ الراهب، وتطلع كوفرين إليه فلم يميز وجهه .. تضبَّبتْ ملامحه وتلاشت، ثم أخذ يختفي رأس الراهب، ويداه، واختلط بدنه بالأريكة وغسق المساء، ثم تلاشى تمامًا.

– انتهت التهيؤات! قال كوفرين ثم ضحك: يا خسارة.

وعاد أدراجه إلى البيت مرحًا وسعيدًا، لم تهدهد تلك الكلمات القليلة التي قالها له الراهب الأسود غروره، بل روحه كلها، وكيانه كله؛ أن يكون من المختارين، أن يخدم الحقيقة الخالدة، أن يكون في عداد أولئك الذين سيجعلون البشرية جديرة بملكوت الله قبل الأوان بعدة آلاف من السنين؛ أي يريحون الناس من عدة آلاف من السنين لا مبرر لها من النضال والذنوب والعذاب، أن يهب الفكرة كل شيء: صباه وقواه وصحته، أن يكون مستعدًّا للموت في سبيل خير الجميع .. يا له من قدر سامٍ سعيد! وومض في ذاكرته ماضيه البريء، الطاهر، المفعم بالعمل، وتذكر ما تعلمه وما علَّمه هو نفسه للآخرين، فقرر أنه لم تكن هناك مبالغة فيما قاله الراهب.

كانت تانيا تسير نحوه في الحديقة، وكانت قد غيرت فستانها، قالت: أنت هنا؟ ونحن نبحث عنك ونفتش .. ولكن ماذا بك؟ قالت بدهشة وهي ترى وجهه المفعم بالإعجاب والبريق، وعينيه المليئتين بالدموع: كم أنت غريب يا أندريوشا.

فقال كوفرين وهو يضع يديه على كتفيها: أنا مبسوط يا تانيا، بل أكثر من مبسوط، أنا سعید! تانيا، يا تانيا العزيزة! أنت مخلوق لطيف للغاية، تانيا العزيزة، كم أنا مسرور، كم أنا مسرور!

ولثم يديها بحرارة واستطرد: لقد عشتُ منذ قليل لحظات مشرقة، خلابة، سامية، ولكني لا أستطيع أن أروي لك كل شيء؛ لأنكِ ستعتبرینني مجنونًا أو لا تصدقينني، فلنتحدث عنك، تانيا العزيزة الرائعة! إنني أحبك وأصبحتُ آلف حبك، أصبح قربك ولقاؤنا عشر مرات في اليوم حاجة لا غنى عنها لروحي، لا أعرف كيف سأعيش بدونك عندما أعود إلى داري؟

فضحكت تانيا: أوه! سوف تنسانا بعد يومين، نحن ناس صغار، وأنت رجل عظيم.

فقال كوفرین: كلَّا، فلنتحدثْ جديًّا! سوف آخذك معي یا تانیا، حسنًا .. هل تأتين معي؟ هل تريدين أن تصبحي لي؟

– أوه! قالت تانيا وأرادت أن تضحك ثانية، ولكنها لم تفلح، وظهرت بقع حمراء على وجهها.

وترددت أنفاسها بتلاحق، واندفعت تسير بسرعة، ولكن ليس باتجاه المنزل، بل إلى عمق الحديقة.

– أنا لم أفكر في ذلك .. لم أفكر! قالت وهي تعصر يديها كأنما في يأس.

وسار كوفرین خلفها وهو يقول بنفس الوجه المشرق الطافح بالإعجاب: إنني أريد حبًّا يستولي على كل كیاني، وهذا الحب لا يستطيع أن يهبه لي إلا أنت يا تانيا، أنا سعید! سعید!

كانت مذهولة، فانطوت وانكمشت كأنما كبرت فجأة عشرة أعوام، أما هو فكان يراها رائعة ويعبر عن إعجابه بصوت عالٍ: كم هي جميلة!

٦

عندما علم يجور سيميونيتش من كوفرين أنه لم تنشأ بينه وبين تانيا علاقة فحسب، بل سيكون عرس أيضًا، أخذ يذهب ويجيء طويلًا من ركن إلى ركن محاولًا إخفاء اضطرابه، وأصابت الرعشة يديه، وانتفخ عنقه وتضرج، فأمر بإعداد العجَلة الخفيفة ورحل إلى جهة ما، وعندما رأت تانیا كيف أهوى بالسوط على الحصان، وكيف شدَّ العمرة عميقًا على رأسه، حتى أذنيه تقريبًا، أدركتْ كنه مزاجه، فأغلقت غرفتها على نفسها وبكت طول النهار.

في الدفيئات كان الخوخ والبرقوق قد نضجا، وكان تغليف هذه البضاعة الرقيقة والنزقة وإرسالها إلى موسكو يتطلبان كثيرًا من العناية والجهد والمشاغل، ولما كان الصيف حارًّا وجافًّا؛ فقد كان ينبغي رَيُّ كل شجرة، الأمر الذي استهلك الكثير من الوقت والأيدي العاملة، وظهرت الديدان بكمية رهيبة، فكان العمال، وحتى يجور سيميونيتش وتانيا، يسحقونها بأصابعهم مباشرة؛ مما أثار تقزز كوفرين البالغ، وعلاوة على ذلك فقد حان الوقت لتلقي الطلبات لتوريد الفواكه والأشجار في الخريف، والقيام بمكاتبات كثيرة. وفي إبان هذه الفترة الحرجة، حين بدا أن أحدًا لا يملك دقيقة فراغ حلَّ أوان أعمال الحقول التي انتزعت من البستان أكثر من نصف العمال، وكان يجور سيميونيتش الذي اسمرَّ بشدة؛ يركض معذبًا، غاضبًا، تارة إلى البستان، وتارة إلى الحقل، ويصرخ بأنهم يمزقونه إربًا، وأنه سيطلق رصاصة على رأسه.

أضف إلى ذلك مشاغل جهاز العروس الذي كان آل بیسوتسكي يُولونه أهمية غير قليلة. ومن رنين المقصات، ودقِّ ماكينات الخياطة، ودخان المكاوي، ومن نزق مصممة الأزياء، تلك السيدة العصبية السريعة الغضب؛ دارت رءوس كل أهل البيت. وكأنما نكاية بهم أخذ الضيوف يأتون كل يوم، فكان لا بد من تسليتهم وإطعامهم، بل إبقائهم للمبيت أحيانًا، ولكن كل هذه الأشغال الشاقة مرَّت دون أن تُلاحَظ، وكأنما من خلال الضباب.

وكانت تانيا تشعر وكأنما دهمها الحب والسعادة بغتة، رغم أنها كانت منذ الرابعة عشرة من عمرها واثقة لسبب ما بأن كوفرين سيتزوجها بالذات، كانت تشعر بالذهول والدهشة ولم تصدق نفسها .. وتارة تغمرها فرحة بحيث تود لو حلَّقت إلى عنان السماء فتصلي هناك لله، وتارة تتذكر فجأة أنه سيكون عليها في أغسطس أن تفارق عُشَّها الحبيب وتترك أباها، أو تواتيها - من حيث لا يعلم إلا الله - فكرة أنها تافهة، ضحلة وغير جديرة برجل عظيم مثل كوفرين، فتمضي إلى غرفتها وتوصدها عليها وتبكي بحرقة لعدة ساعات، وعندما يزورهم ضيوف يخيل إليها بغتة أن كوفرین جميل بصورة غير عادية، وأن جميع النساء مغرمات به ويحسدنها، فتمتلئ روحها بالإعجاب والفخر، كأنما انتصرت على العالم أجمع، ولكن ما إن يبتسم كوفرين لآنسة ما، حتى تنتابها رعشة الغيرة، فتمضي إلى غرفتها، فإلى الدموع ثانية، واستولت عليها تمامًا هذه المشاعر الجديدة، فكانت تساعد أباها بطريقة آلية ولا تلاحظ الخوخ أو الديدان أو العمال، أو مرور الوقت بهذه السرعة.

وكان نفس الشيء تقريبًا يحدث ليجور سيمونیتش، كان يعمل من الصباح إلى المساء، ودائمًا يقصد على عجل جهة ما، ويفقد أعصابه ويتوتر، ولكن ذلك كله كان يجري في شبه حلم مسحور، وكأنما كان يستقر داخله شخصان: أحدهما يجور سيميونيتش الحقيقي الذي كان وهو يصغي إلى تقرير البستاني إيفان كارلیتش عن المخالفات؛ يغلي غضبًا ويمسك رأسه بيديه في يأس، والثاني شخص آخر غير حقيقي، كأنما شبه ثمل، يقطع فجأة حديث العمل، ويربت على كتف البستاني ويشرع يدمدم: أيًّا ما كان الأمر، فالدم يعني الكثير، لقد كانت أمه امرأة مدهشة، في غاية النبل والذكاء، كان من الممتع أن تنظر إلى وجهها الطيب الصبوح الصافي كوجه ملاك، كانت ترسم بروعة، وتنظم الأشعار، وتتحدث بخمس لغات أجنبية، وتغني .. المسكينة، عليها الرحمة، ماتت بالسل.

ويتنهد يجور سيميونيتش غير الحقيقي، ويصمت قليلًا، ثم يستطرد: عندما كان صغيرًا يتربى عندي كان له مثل ذلك الوجه الملائكي الصبوح الطيب، ونظراته وحركاته، وحديثه رقيقة ورشيقة مثلما لدى أمه، وذكاؤه؟ كان دائمًا يذهلنا بذكائه، يكفي أنه أصبح ماجستيرًا ليس صدفة! ليس صدفة! انتظر يا إيفان كارليتش وسترى كيف سيصبح بعد عشر سنوات! لن تبلغه يدك!

ولكن يجور سيميونيتش الحقيقي يستدرك فجأة، فيصبح وجهه رهيبًا، ويمسك برأسه ويصيح: الشياطين! أفسدوا البستان، دنسوه، لوثوه! ضاع البستان! هلك البستان!

أما كوفرين فكان يعمل بدأبه السابق ولم يلاحظ الهرج، وصبَّ الحبُّ المزيد من الزيت على النار، وبعد كل لقاء مع تانيا كان يعود إلى غرفته سعيدًا، معجبًا، وبنفس الهيام الذي قبَّل به تانيا منذ قليل وباح لها بحبه، ينكب على كتاب أو على مخطوطة. كان ما قاله الراهب الأسود عن أبناء الله المختارين، عن الحقيقة الخالدة، عن مستقبل البشرية الباهر وغير ذلك؛ يضفي على عمله أهمية خاصة، غير عادية، ويملأ روحه بالاعتزاز والإدراك لسموه. وكان يلتقي بالراهب الأسود مرة أو مرتين أسبوعيًّا، في الحديقة أو في المنزل، فيتحدث معه طويلًا، ولكن ذلك لم يخفه، بل بالعكس أثار إعجابه؛ لأنه أصبح على ثقة تامة بأن مثل هذه الرؤی لا تراود إلا المختارين، البارزين، الذين وهبوا حياتهم لخدمة الفكرة.

وذات مرة جاء الراهب في أثناء الغداء فجلس بجوار النافذة في غرفة الطعام، وفرح كوفرين، وأدار حديثًا مع يجور سيميونيتش وتانيا بمهارة كبيرة عما يمكن أن يكون شبقًا للراهب.

وأصغى الضيف الأسود وهو يهز رأسه ببشاشة، وأصغى يجور سيميونيتش وتانيا أيضًا وهما يبتسمان بمرح، دون أن يفطنا إلى أن كوفرین لا يتحدث إليهما، بل إلى تهيؤاته.

لم يلاحظوا كيف اقترب صيام الرفع، وسرعان ما تبعه يوم العرس الذي احتفلوا به، حسب رغبة يجور سيميونيتش الملحة «بفرقعة»؛ أي بازدحام مشوش استمر يومين، وأكلوا وشربوا بحوالي ثلاثة آلاف روبل، ولكنهم بسبب الفرقة الموسيقية المؤجرة السيئة، والأنخاب الزاعقة، وهرولة الخدم بسبب الصخب والزحام لم يقدروا مذاق النبيذ الفاخر، أو المزات المدهشة المجلوبة من موسكو.

٧

ذات ليلة طويلة من ليالي الشتاء كان كوفرین راقدًا في الفراش يقرأ رواية فرنسية، وكانت تانيا المسكينة، التي كانت تعاني من الصداع كل مساء لعدم تعودها على المعيشة في المدينة؛ نائمة منذ وقت طويل، وأحيانًا تتفوه هاذية بعبارات ما غير مترابطة.

ودقت الساعة الثالثة، فأطفأ كوفرين الشمعة ورقد وظل ممددًا فترة طويلة بعينين مغمضتين، ولكنه لم يستطع أن ينام؛ لأن الجو في غرفة النوم — كما خيل إليه — كان حارًّا، وكانت تانیا تهذي، وفي الرابعة والنصف أشعل الشمعة ثانية وفي تلك اللحظة رأى الراهب الأسود جالسًا في المقعد قرب السرير.

– مرحبًا، قال الراهب، ثم صمت قليلًا، وسأله: فيم تفكر الآن؟

فقال كوفرین: في الصيت، في الرواية الفرنسية التي كنت أقرؤها لتوي يصور المؤلف شخصًا عالمًا شابًّا يرتكب الحماقات ويذوي من الحنين إلى الصيت، هذا الحنين غير مفهوم لي.

– لأنك ذكي، أنت تنظر إلى الصيت بلامبالاة، كدمية لا تثير اهتمامك.

– نعم، هذا صحيح.

– والشهرة لا تروق لك، فما هو الأمر المغري، أو المسلي، أو ذو العبرة في أن ينقشوا اسمك على تمثال القبر، ثم يمحو الزمن هذه الكتابة مع طلائها المذهب؟ ثم إنكم، ولحسن الحظ، أكثر من أن تحتفظ الذاكرة البشرية الضعيفة بأسمائكم.

فقال كوفرین موافقًا: مفهوم، ثم ما الداعي لتذكرها؟ لكن هيا نتحدث عن شيء آخر، عن السعادة مثلًا، ما هي السعادة؟

عندما دقت الساعة الخامسة، كان جالسًا في السرير، مدلیًا ساقيه على البساط، يتحدث مخاطبًا الراهب: في الماضي أحس أحد السعداء في نهاية الأمر بالخوف من سعادته لفرط ما كانت عظيمة! ولكي يتقي غضب الآلهة ضحى لهم بخاتمه الأثير، أتدري؟ أنا أيضًا، مثل بوليقراط، بدأت أقلق نوعًا ما من سعادتي؛ إذ يبدو لي غريبًا أنني لا أشعر من الصباح إلى المساء إلا بالفرحة فقط، وهي تملأ كل كیاني، وتطغى على كل المشاعر الأخرى، أنا لا أعرف ما الحزن أو الأسي أو الملل، ها أنا ذا لا أنام، وينتابني الأرق، ولكني لا أشعر بالملل، أقول لك بجدية: لقد بدأت أستغرب.

فذهل الراهب وقال: فلماذا؟ هل الفرحة شعور خارق؟ أليس من المفروض أن تكون هي الحالة الطبيعية للإنسان؟ وكلما ارتقى الإنسان في تطوره الذهني والخلقي، وكلما أصبح أكثر تحررًا، أصبحت الحياة تجلب له المزيد من المتعة. إن سقراط وديوجين ومرقس أوريليوس كانوا يشعرون بالفرحة لا بالحزن، كما أن الرسول قال: افرحوا كل حين، فلتفرح إذن ولتكن سعيدًا.

– ولكن قد تغضب الآلهة؟ قال كوفرين مازحًا ثم ضحك: لو أنهم حرموني من الرفاهية واضطروني إلى حياة البرد والجوع فلا أظن أن ذلك سيروق لي.

وفي تلك الأثناء كانت تانيا قد استيقظت وأخذت تنظر إلى زوجها بذهول ورعب؛ كان يتحدث مخاطبًا المقعد، وهو يشيح بيديه ويضحك، وكانت عيناه تلمعان وكان في ضحكه شيء ما غريب.

– أندريوشا مع من تتحدث؟ — سألته تانيا وهي تشد يده التي مدها نحو الراهب — أندريوشا! مع من تتحدث؟ فقال كوفرین محرجًا: آه .. مع من؟ معه .. ها هو ذا جالس، قال مشيرًا إلى الراهب الأسود.

– لا أحد هنا .. لا أحد! أندريوشا، أنت مريض!

وعانقت تانیا زوجها والتصقت به كأنما تحميه من الرؤی وأغمضت عينيه بيدها.

وانتحبت وبدنها كله يرتجف: أنت مريض! سامحني يا حبیبي، یا عزیزي،! ولكني لاحظت من وقت طويل أن روحك مضطربة .. أنت مريض نفسيًّا يا أندريوشا.

وانتقل ارتجافها إليه، ونظر مرة أخرى إلى المقعد الذي أصبح الآن خاویًا، فأحس فجأة بضعف في يديه وقدميه، وتملكه الخوف، وراح يرتدي ملابسه.

ودمدم وهو يرتعش: هذا لا شيء یا تانيا .. لا شيء، فعلًا أنا معتلٌّ قليلًا .. ينبغي أن أعترف بذلك.

فقالت تانیا وهي تحاول كتمان النحيب: أنا لاحظت منذ وقت طويل .. وبابا أيضًا لاحظ، أنت تُكلِّم نفسك، وتبتسم ابتسامات غريبة .. ولا تنام، أوه يا إلهي، يا إلهي أنقذنا! — قالت برعب — لكن لا تخف يا أندريوشا، لا تخف، بالله عليك لا تخف.

وراحت هي الأخرى ترتدي ثيابها، الآن فقط، عندما نظر كوفرين إليها؛ أدرك كل خطورة وضعه، أدرك ما الذي يعنيه الراهب الأسود وأحاديثه معه، لقد أصبح واضحًا له الآن أنه مجنون.

لبسا ملابسهما وهما لا يدريان لماذا، وخرجا إلى الصالة، هي في المقدمة وهو خلفها، وهنا أيضًا كان يقف يجور سيميونيتش الذي نزل ضيفًا عليهما، في الروب، حاملًا شمعة بعد أن أيقظه النحيب.

وقالت تانيا وهي ترتعش كالمحمومة: لا تخف يا أندريوشا، لا تخف .. بابا، هذا سيزول .. كل شيء سيزول.

ولم يستطع كوفرين أن يتحدث من شدة الانفعال، وأراد أن يقول لحميه بلهجة مازحة: هنئني، يبدو أنني جننتُ، ولكنه حرك شفتيه فقط وابتسم بمرارة.

وفي التاسعة صباحًا ألبسوه المعطف الصوفي، ومعطف الفراء، ولفعوه بِشال، ونقلوه في عربة إلى الطبيب، وبدأ يتعالج.

٨

حل الصيف من جديد، ونصح الطبيب بالانتقال إلى الريف، وكان كوفرين قد شُفي، ولم يعد يرى الراهب الأسود، ولم يبقَ إلا أن يعزز قواه البدنية، وفي أثناء إقامته لدى حميه في الريف أخذ يشرب اللبن بكثرة، ويعمل ساعتين فقط في اليوم، وامتنع عن شرب الخمر وعن التدخين.

وعشية عيد القديس إيليا أقاموا في المنزل صلاة المساء، وعندما أعطى الشماس المبخرة للقس فاحت في الصالة العتيقة الضخمة رائحة كرائحة القبور، فأحس كوفرين بالملل، وخرج إلى البستان، ودون أن يلاحظ الزهور الفاخرة، تجول في البستان، وجلس على الأريكة، ثم تمشَّى في الحديقة، وعندما بلغ النهر هبط إلى أسفل، ووقف هناك متفكرًا وهو يحدق في المياه، لم تَعُد الصنوبرات الجهمة ذات الجذور الكثة والتي شهدته في العام الماضي شابًّا، فرحًا، نشيطًا؛ تهمس الآن، بل انتصبتْ جامدة خرساء، كأنما لم تتعرف عليه، وبالفعل فقد كان رأسه حليقًا، ولم يَعُد لديه ذلك الشَّعْر الطويل الجميل، وأصبحت مشيته ذابلة، وسمن وجهه، بالمقارنة مع العام الماضي، وشحب.

وعبر إلى الضفة الأخرى فوق القنطرة، وفي المكان الذي كان يغطيه الجودار في العام الماضي امتدت الآن صفوف شعير محصود، وكانت الشمس قد غربت، وتوهج عند الأفق شفق أحمر عريض، منبئًا بطقس ریحي في الغد، وساد الهدوء، وحدق كوفرين في الجهة التي ظهر منها الراهب الأسود لأول مرة في العام الماضي، ووقف حوالي عشرين دقيقة، إلى أن بدأ شفق المغيب يعتم.

وعندما عاد إلى البيت ذابلًا غير راضٍ، كانت الصلاة قد انتهت، وكان يجور سيميونيتش وتانيا جالسين على درجات الشرفة يشربان الشاي، كانا يتحدثان عن شيء ما، ولكنهما صمَتَا فجأة عندما شاهدا كوفرین فقرر من تعبير وجهيهما أنهما كانا يتحدثان عنه.

وقالت تانیا لزوجها: أظن أن الوقت قد حان لتشرب اللبن.

– لا، لم يحن .. قال وهو يجلس على آخر درجة في أسفل السلم: اشربيه أنت، أنا لا أريد.

تبادلت تانيا مع أبيها نظرة قلقة، وقالت بنبرة ذنب: أنت نفسك تلاحظ أن اللبن مفيد لك.

فضحك كوفرين بسخرية: نعم، مفيد جدًّا! أهنئكم؛ منذ يوم الجمعة ازداد وزني رطلًا آخر، وضغط رأسه بيديه بقوة، وقال بِأسًى: لماذا، لماذا عالجتموني؟ محاليل البروم، والبطالة، والحمامات الدافئة، والرقابة، والخوف الجبان من كل رشفة، من كل خطوة .. كل هذا سيؤدي بي في النهاية إلى البلَه، نعم، لقد جننت، كنت مريضًا بجنون العظمة، ولكني كنت مرحًا نشيطًا، بل سعيدًا، كنت طريفًا وأصيلًا، والآن أصبحتُ أعقَلَ وأرصن، ولكني صرتُ مثل الجميع، أنا عادي، سئمت الحياة .. أوه، كم قسوتم عليَّ! كنت أرى تهيؤات، ولكن من ذا الذي كان يزعجه ذلك؟ إنني أسأل: من ذا الذي كان يزعجه ذلك؟

فتنهد يجور سيميونيتش وقال: الله يعلم ما هذا الذي تقول! حتى سماع هذا ممل.

– إذن لا تسمع.

كان وجود الآخرين، وبخاصة يجور سيميونيتش؛ يثير الآن كوفرین، فكان يرد عليه بجفاف وبرود، بل حتى بغلظة، ولم يكن يعامله إلا بسخرية وكراهية، أما يجور سيميونيتش فكان يرتبك ويسعل بذنب، رغم أنه لم يكن يحس بأنه ارتكب أي ذنب، ولما لم تكن تانيا تفهم لماذا تغيرت بحدة علاقات الود والبشاشة بينهما، فقد التصقت بأبيها وأخذت تحدق في عينيه بقلق؛ كانت تريد أن تفهم ولا تستطيع، وأصبح واضحًا لها شيء واحد، وهو أن علاقاتهما تتدهور من يوم إلى يوم، وأن أباها هرم بشدة في الآونة الأخيرة، وأصبح زوجها عصبيًّا، نزقًا، متمَحِّكًا وغير طريف، ولم يَعُد في وسعها أن تضحك أو تغني، ولم تكن تذوق شيئًا في الغداء، ولا تنام ليالي كاملة وهي تتوقع شيئًا رهيبًا، وأُنهكت إلى درجة أنها ظلت ذات مرة في حالة إغماء من الغداء إلى المساء، وخُيِّل إليها في أثناء صلاة المساء أن أباها كان يبكي، أما الآن، وهم جالسون ثلاثتهم في الشرفة، فقد جاهدت لكيلا تفكر في ذلك.

وقال كوفرین: ما كان أسعدَ بوذا ومحمدًا وشكسبير؛ لأن أقاربهم الطيبين والأطباء لم يعالجوهم من النشوة والوحي! لو أن محمدًا كان يتناول برومید البوتاسيوم من الأعصاب، ويعمل ساعتين فقط في اليوم ويشرب اللبن لما تبقى بعد هذا الإنسان الرائع أكثر مما تبقی بعد كلبه. سيتمكن الأطباء والأقارب الطيبون في نهاية الأمر من جعل البشرية تتبلد، وسوف تُعْتَبَر العادية عبقرية وستهلك الحضارة، وقال كوفرين بأسًی: آه لو تعلمون كم أنا ممتن لكم!

أحس بضيق شديد؛ ولكي لا يتفوه بما لا داعي له نهض بسرعة ودخل المنزل، كان الهدوء يشمل المنزل، ومن النوافذ المفتوحة تناهت من البستان رائحة الطباق ونبات الحلبة، وفي الصالة الضخمة المظلمة انتشرت على الأرض والبيانو بقع خضراء من ضوء القمر، وتذكر كوفرین لحظات إعجابه في العام الماضي، عندما تضوع شذا الحلبة أيضًا مثلما الآن، ولاح ضوء القمر من النوافذ؛ ولكي يستعيد مزاج العام الماضي توجه بسرعة إلى غرفة المكتب، ودخن سيجارًا قویًّا وأمر الخادم أن يحضر له نبیذًا، ولكنه أحس بطعم السيجار مرًّا وكريهًا في فمه، ولم يكن النبيذ لذيذًا كما في العام الماضي، ما أكثر ما یعني نسيان العادة! فمن سيجار وجرعتَي نبیذ دار رأسه وتلاحقت نبضات قلبه، فكان لا بد من تناول بروميد البوتاسيوم.

وقبل أن يأويا إلى الفراش قالت له تانيا: أبي يعبدك، وأنت غاضب منه لسبب ما، وهذا يكاد يقتله غمًّا، انظر كيف يهرم كل ساعة لا كل يوم، أتوسل إليك يا أندريوشا، أستحلفك بالله أن تكون لطيفًا معه من أجل راحتي، ومن أجل أبيك الراحل!

– لا أستطيع ولا أريد.

– ولكن لماذا؟ — سألته تانيا وبدأ بدنها كله يرتجف — خبرني، لماذا؟

– لأنه لا يروق لي، وهذا كل ما هنالك، قال كوفرين باستخفاف وهز كتفيه: ولكن دعينا لا نتحدث عنه، إنه أبوك.

فقالت تانیا وهي تضغط على صدغيها وتحدق في نقطة واحدة: لا أستطيع، لا أستطيع أن أفهم! هناك شيء رهيب، لا يمكن إدراكه، يجري في منزلنا. أنت تغيرت، لم تعد كما كنت .. أنت الشخص العاقل غير العادي، أصبحت تنزعج لأشياء بسيطة، وتدخل في المشاحنات .. تثيرك أشياء في غاية التفاهة لدرجة أنني أحيانًا أدهش ولا أصدق، أهذا أنت؟ حسنًا، حسنًا، لا تغضب — استطردت تانیا ومضت تلثم يديه وقد خافت من كلماتها: أنت ذكي، طیب، نبيل، فلتكن عادلًا مع أبي؛ إنه لطيف جدًّا!

– ليس لطيفًا بل ملاطف، إن الأعمام الهزليين أمثال أبيك، ذوي الوجوه الشبعانة البشوشة، الكرماء للغاية والغريبي الأطوار؛ كانوا في وقتٍ ما يثيرون إعجابي وضحكي سواء في القصص أم في الهزليات أم في الحياة، أما الآن فيثيرون نفوري؛ إنهم أنانيون حتى النخاع، وأكثر ما ينفرني منهم هو شبعهم، وذلك التفاؤل الثيراني أو الخنازيري البحت النابع من معداتهم.

جلست تانيا في الفراش ووضعت رأسها على الوسادة.

– هذا عذاب — قالت، وكان واضحًا من صوتها أنها أصبحت مرهقة لأقصى حد وأنه من الصعب عليها أن تتكلم — من الشتاء لم أعرف دقيقة راحة .. ما أفظع هذا يا إلهي! إنني أتعذب.

نعم، أنا طبعًا هيرودس، وأنت وباباك صبيَّا مصر.٩ طبعًا!

بدا وجهه لتانيا قبيحًا ومنفرًا، ولم تكن الكراهية والسخرية تنسجمان معه، وقد لاحظت من قبل أن شيئًا ما ينقص وجهه، كما لو أن ملامحه أيضًا قد تغيرت منذ أن حلق شعره، وشعرت بالرغبة في أن تقول له شيئًا مهينًا، ولكنها انتبهت على الفور إلى هذا الإحساس الكريه فخافت، وغادرت الغرفة.

٩

حصل كوفرين على كرسي أستاذ مستقل، وتحدد موعد محاضرته الافتتاحية في الثاني من ديسمبر، وعُلِّق إعلان بذلك في ممر الجامعة، ولكنه في اليوم المحدد أرسل إلى مسئول الطلاب برقية يعتذر فيها عن عدم استطاعته إلقاء المحاضرة لمرضه.

نزف دمًا من حلقه، كان قبلها يبصق دمًا، ومرتين في الشهر ينزف بغزارة، وعندئذٍ كان ينتابه ضعف شديد وميل إلى النوم، ولم يكن هذا المرض يسبب له خوفًا كبيرًا؛ لأنه كان يعرف أن المرحومة أمه عاشت بنفس هذا المرض عشر سنوات بل أكثر، وأكد له الأطباء أن ذلك ليس خطيرًا، ونصحوه فقط بألا ينفعل، وأن يتبع نظامًا سليمًا للمعيشة، ويقلل من الكلام.

وفي يناير ألغيت المحاضرة لنفس السبب، أما في فبراير فكان الوقت متأخرًا للبدء في الدورة، فاضطروا للتأجيل إلى العام القادم.

لم يعد يعيش مع تانيا، بل مع امرأة أخرى كانت تكبره بعامين وتعتني به كما يُعتنى بطفل، وكان مزاجه مسالمًا، مستكينًا؛ فقد كان يطيعها عن طيب خاطر، وعندما عزمت فارفارا نیكولايفنا — هكذا كانت تُدعى رفيقته — على السفر به إلى القرم، وافق رغم أنه كان يحدس بأن هذه الرحلة لن تسفر عن أي شيء طيب.

وصلَا إلى سيفاستوبول مساء ونزلَا في فندق؛ لكي يستريحا ثم يسافرا غدًا إلى يالطا، وأرهقهما السفر كليهما، وشربت فارفارا نیكولايفنا الشاي، وأوت إلى الفراش، وسرعان ما نامت، ولكن كوفرين لم يذهب إلى الفراش، فقد تلقى وهو بعدُ في المنزل، قبل التوجه إلى المحطة بساعة رسالة من تانيا، ولم يجرؤ على فضها، وها هي ذي الآن ترقد في جيبه الجانبي، وأثار التفكير فيها اضطرابًا كریهًا في نفسه، كان الآن يعتبر في قرارة نفسه وبإخلاص أن زواجه بتانیا كان خطأ، وكان راضيًا لأنه انفصل عنها نهائيًّا، ولم تثر ذكرياته عن هذه المرأة التي تحولت في نهاية الأمر إلى مومياء حية، والتي بدا أن كل شيء فيها مات، اللهم إلا عينيها الواسعتين الذكيتين الثاقبتَي النظرة، لم تثر ذكرياته عنها إلا الحسرة والأسى على نفسه، وذكَّره خطها على المظروف كم كان ظالمًا وقاسيًا منذ عامين، وكم صبَّ نقمته لخواء روحه وملله ووحدته وبرمه بالحياة على أناس أبرياء، وتذَكَّر بالمناسبة كيف مزق ذات مرة رسالة الدكتوراه ومقالاته التي كتبها في أثناء مرضه مزقًا صغيرة، وألقى بها من النافذة، فطارت المزق مع الريح وهي تتعلق بالأشجار والأزهار، لقد رأى في كل سطر من سطورها ادعاءات غريبة لا أساس لها، وهراءً عابثًا ووقاحة وجنون عظمة، فترك هذا في نفسه انطباعًا، كأنما كان يقرأ وصفًا لرذائله، ولكن عندما مزق آخر دفتر وألقى به من النافذة شعر فجأة بالأسى والمرارة، فذهب إلى زوجته وأسمعها الكثير من الإساءات، يا إلهي! كم كان يتلف أعصابها؟ ذات مرة وقد أراد أن يؤلمها، قال لها: إن أباها لعب في قصة غرامهما دورًا شائنًا؛ لأنه رجاه أن يتزوجها، وسمع يجور سيميونيتش ذلك عرَضًا فاندفع إلى الغرفة، ولم يستطع من شدة الإساءة أن يقول كلمة واحدة، بل ظل فقط يراوح في مكانه، ويخور بصورة غريبة، كما لو كان لسانه قد شُل، أما تانيا فنظرت إلى أبيها وصرخت صرخة تمزق القلب، وسقطت مغشيًّا عليها، كان ذلك شيئًا فظيعًا.

ورد كل هذا على خاطره عندما تطلع إلى الخط المعروف، وخرج إلى الشرفة، كان الجو هادئًا دافئًا، وفاحت رائحة البحر، وعكس الخليج الرائع صورة القمر والأضواء، واكتسی بلون يصعب أن تجد له اسمًا، كان ذلك خليطًا رقيقًا وناعمًا من اللونين الأزرق والأخضر، وفي بعض الأماكن كان لون المياه يشبه الزاج الأزرق، وفي أماكن أخرى بدا أن ضوء القمر تكثَّف فملأ الخليج بدلًا من المياه، وعمومًا، فيا له من توافق ألوان، ویا له من مزاج مسالم، مستكین، سامٍ!

يبدو أن النوافذ في الطابق الأدنى، تحت الشرفة، كانت مفتوحة، فقد تناهت بوضوح أصوات نسائية وضحك، الظاهر أنه كانت هناك حفلة.

وتحامل كوفرين على نفسه وفض الرسالة، وذهب إلى غرفته وقرأ:

«مات أبي لتوه، وأنا مدينة لك بذلك؛ لأنك أنت الذي قتلته، وبستاننا يهلك، وأصبح الغرباء يديرونه؛ أي يحدث بالضبط ما كان يخشاه أبي المسكين، وأنا مدينة بذلك لك أيضًا. إنني أمقتك من صميم قلبي، وأتمنی أن تهلك في أقرب وقت. أوه، كم أعاني! روحي يحرقها ألمٌ لا يطاق .. عليك اللعنة، لقد ظننتك إنسانًا فذًّا، عبقريًّا، وأحببتك، ولكن ظهر أنك مجنون.»

لم يستطع كوفرين أن يواصل القراءة فمزق الرسالة وألقى بها، وتملكه قلق يشبه الخوف. وكانت فارفارا نيكولايفنا نائمة خلف الحاجز، وتردد صوت أنفاسها، ومن الطابق الأسفل تناهت الأصوات النسائية والضحك، ولكن تملكه إحساس بأنه لا يوجد في الفندق كله أحد غيره؛ ولأن تانيا التعيسة التي حطمتها البلوى لعنته في رسالتها وتمنت له الهلاك، فقد أحس بالرعب، ونظر إلى الباب لمحًا كأنما كان يخشى أن تدخل الغرفة وتتحكم فيه ثانية تلك القوة المجهولة التي ألحقت بحياته وحياة أقربائه في غضون ما لا يزيد على سنتين كل هذا الدمار.

كان يعرف من واقع التجربة أنه إذا ما أفلتت الأعصاب فإن أفضل وسيلة لكبح جماحها هي العمل، ينبغي أن يجلس إلى الطاولة ويرغم نفسه، مهما كلف الأمر، أن يركز انتباهه على فكرة ما، وأخرج من حقيبته الحمراء دفترًا سجل فيه ملخصًا سريعًا لمؤلف تصنیفي صغیر، كان قد أعده ليشغل به نفسه فيما لو بدت له الإقامة في القرم مملة بدون عمل، وجلس إلى الطاولة وانكب على هذا الملخص، فبدا له أنه يستعيد مزاجه الهادئ المستكين اللامبالي، بل إن هذا الدفتر قد أوحى إليه بأفكار عن باطل الحياة الدنيا، وفكر في أن الحياة تأخذ الكثير لقاء تلك النعم الضئيلة، أو العادية للغاية، التي يمكن أن تقدمها للإنسان. وعلى سبيل المثال، فلكي يحصل على كرسي أستاذ وهو يناهز الأربعين، ولكي يكون أستاذًا عاديًّا، يصوغ بلغة ذابلة مملة ثقيلة أفكارًا عادية، هي فوق ذلك أفكار الآخرين .. وباختصار، فلكي يبلغ منزلة العالم المتوسط، كان عليه هو كوفرين؛ أن يدرس خمسة عشر عامًا، ويعمل ليل نهار، ويصاب بمرض نفسي عضال، ويخوض تجربة زواج فاشل، ويرتكب الكثير من الحماقات والمظالم التي يسعده ألا يتذكرها، كان كوفرين يدرك الآن بوضوح أنه شخص عادي، وقنع بذلك عن طيب خاطر؛ لأن كل إنسان — حسب رأيه — ينبغي أن يرضى بما هو عليه.

كان الملخص يهدئه تمامًا، بيد أن الرسالة الممزقة الملقاة على الأرض كانت تلوح لناظريه فتعوقه عن التركيز، فنهض من أمام الطاولة، وجمع مِزَق الرسالة وألقى بها في النافذة، ولكن نسيمًا خفيفًا هب من البحر فتناثرت المزق على حافة النافذة، ومن جديد تملَّكه قلق يشبه الخوف، وعاوده الإحساس بأنه لا يوجد في الفندق كله أحد غيره .. وخرج إلى الشرفة، كان الخليج كمخلوق حي يحدق فيه بأعين زرقاء وسماوية وفيروزية ونارية عديدة ويشده إليه، وبالفعل كان الجو حارًّا وخانقًا يغري بالاستحمام.

وفجأة تردد من الطابق الأدنى تحت الشرفة عزف كمان، وغنى صوتان نسائیان رقيقان، وبدا ذلك شيئًا مألوفًا، كانت الأغنية التي غنوها في الأسفل تتحدث عن فتاة ما، مصابة بالوهم، سمعت ليلًا في الحديقة أصواتًا غامضة فاعتبرتها هارموني مقدسًا، ليس مفهومًا لنا — نحن الفانين — واحتبست أنفاس كوفرين، وعصر الحزن قلبه، ورفرفت في صدره فرحة رائعة حلوة منسية منذ زمن بعيد.

وعلى ضفة الخليج الأخرى ظهر عمود أسود طويل، يشبه الزوبعة أو الدوامة الهوائية، وتحرك فوق الخليج بسرعة رهيبة متجهًا نحو الفندق وهو يزداد انكماشًا وقتامة، فلم يتمكن كوفرين من التنحي إلا بالكاد ليفسح له الطريق .. ومرق الراهب الأسود، برأسه الأشيب الحاسر، وحاجبيه الأسودين، وقدميه الحافيتين، ويديه المعقودتين على صدره، بجوار كوفرین وتوقف في وسط الغرفة.

وسأل بعتاب وهو ينظر إلى كوفرین برقة: لماذا لم تصدقني؟ لو صدقت ما قلته لك آنذاك بأنك عبقري، لما قضيت هذين العامين بهذا الحزن والجدب.

أصبح كوفرين الآن يؤمن بأنه من أبناء الله المختارين وعبقري، وتذكر على الفور كل أحاديثه السابقة مع الراهب الأسود، وأراد أن يتكلم، ولكن الدم سال من حلقه على صدره مباشرة، فأخذ — وهو لا يدري ماذا يفعل — يمسح بيديه على صدره، فتبللت أساوره بالدم، وأراد أن يدعو فارفارا نیكولايفنا التي كانت نائمة خلف الحاجز، فتحامل على نفسه وتمتم: تانيا!

وسقط على الأرض، ثم نهض على ذراعيه ونادی ثانية: تانيا!

كان ينادي تانیا، ينادي البستان الكبير بأزهاره الفاخرة المبللة بالندى، ينادي الحديقة، وأشجار الصنوبر ذات الجذور الكثة، وحقل الجودار، وعلمه البديع، وشبابه، وجسارته، وفرحته، كان ينادي الحياة التي كانت جد رائعة، ورأى بجوار وجهه على الأرض بركة دم كبيرة، ولم يعد بوسعه من شدة الضعف أن ينطق بكلمة واحدة، ولكن سعادة لا نهائية لا توصف ملأت كل كيانه، وفي الأسفل تحت الشرفة كانوا يعزفون سیرنادا، بينما راح الراهب الأسود يهمس له بأنه عبقري وبأنه لا يموت إلا لأن جسده البشري الضعيف قد فقد توازنه ولم يعد قادرًا على أن يكون غلافًا يحفظ العبقرية.

عندما استيقظت فارفارا نيكولايفنا وخرجت من وراء الحاجز، كان كوفرين قد فارق الحياة، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة عذبة.

١  الديسياتينا مقياس روسي قدیم لمسطح الأرض يعادل ١,٠٩ هكتار. (المعرب)
٢  شتامب: اسم جذع الشجرة من الجذر إلى الفروع، أوبورتو، رینیت، بوروفینكا: أسماء أنواع من التفاح. (المعرب)
٣  من أوبرا تشايكوفسكي «يفجيني أنيجين» المأخوذة عن رواية بوشكين الشعرية. وتانيا هو اسم التدليل من الاسم الكامل تاتیانا.
٤  البيت الأول من قصيدة بوشكين «بولتافا»، وكوتشوبي إحدى شخصيات هذه القصيدة. (المعرب)
٥  «فليسمعوا الطرف الآخر» (باللاتينية في الأصل).
٦  «الذكي يكفيه» (باللاتينية في الأصل).
٧  إنجيل يوحنا، الفصل الرابع عشر، الآية: ۲. (المعرب)
٨  العقل السليم في الجسم السليم (باللاتينية في الأصل).
٩  الإشارة إلى ما جاء بإنجيل متى (الفصل الثاني) عن قيام الملك هيرودس بقتل جميع صبيان بيت لحم بعد هروب يوسف ومريم ويسوع الوليد إلى مصر خوفًا من بطشه. (المعرب)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤