إثباته ونفيه

ذهب بعض الأدباء في هذا العصر إلى الشك في حقيقة امرئ القيس، ثم انتقل من الشك في ذلك إلى إنكار وجوده بتاتًا، وأقام صرح شكه وإنكاره على شُبه واهية تشهد على أنفسها ببطلانها، وتنادي بلسان حالها على ضعفها. زعم أن الرواة اختلفوا في اسم امرئ القيس ولقبه وكنيته كما اختلفوا في نسبة بعض الأبيات إليه، وألَّف من هذه الخيوط الواهية نسيجًا ظن أنه متين القوى، وثيق العرى، واسترسل في خياله ووهمه ما شاء وشاء له حبه بالإغراب، وطموحه إلى الشهرة على قاعدة «خالف تعرف».

فهبَّ فريق من أرباب العلم الصحيح والعقل الراجح إلى دحض هذا الزعم وبصَّروه بالحقيقة الناصعة، وردوا شبهه على أعقابها بما بينوه من الحجج البالغة والأدلة الدامغة.

وأغرب ما جاء في مزاعمه أنه أنكر امرأ القيس للاختلاف في اسمه ولقبه وكنيته وقبيلته، وأن الكثرة من الأساطير والأحاديث المتعلقة بامرئ القيس وقصته لم تشع بين الناس إلا في عصر الرواة المدونين والقصاص، وأن الذي أنشأ هذه القصة ونمَّاها هو المكان الذي احتلته قبيلة كِندة في الحياة الإسلامية وذكر ما كان للأشعث بن قيس من المنزلة في الفتح والبلاء في الحروب، ولابنه محمد بن الأشعث وحفيده عبد الرحمن الذي خلع عبد الملك بن مروان وثار بالحجاج ثم لجأ إلى ملك الترك وهذا غدر به وسلمه إلى الحجاج، واستنتج من مجموع هذه الأمور أن مثل هذه الأسرة لا يظن أنها لا تصطنع القصص وتؤجر القصاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شأنه رفع ذكرها.

وأن ما يروى من أخبار كندة في الجاهلية متأثر بعمل هؤلاء.

وأراد أن يجعل قصة امرئ القيس لونًا من التمثيل لحياة عبد الرحمن بن الأشعث الذي ثار منتقمًا لحجر بن عدي، وتنقَّل في مدن فارس والعراق ولجأ إلى ملك الترك ثم مات في طريقه.

فإن امرأ القيس ثار لقتل أبيه حجر، وتنقل في قبائل العرب ولجأ إلى قيصر وهذا غدر به ثم مات في طريقه.

وزعم أن القصاص كانوا يخشون عمال بني أمية فانتحلوا قصة امرئ القيس وجعلوها رمزًا لقصة ابن الأشعث.

واتخذ من اختلاف الرواة ببعض الأبيات وفي نسبة بعضها إلى امرئ القيس وإنكارها وسيلةً للشك في امرئ القيس.

وكذلك اتخذ من كون امرئ القيس يمنيًّا وشعره قرشيًّا ذريعة للإنكار.

وزعم أن ما في المعلقة من لهو وفحش يشبه أن يكون من انتحال الفرزدق، وأن هذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فن عمر بن أبي ربيعة قد احتكره ولم ينازعه فيه أحد، ولقد يكون غريبًا حقًّا أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفن ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو.

وانتهى به الأمر إلى أن قال: وقل مثل هذا في القصص الغرامي الذي تجده في قصيدة امرئ القيس «ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي.»

ففي هذا القصص الفاحش فن ابن أبي ربيعة وروح الفرزدق، ونحن نرجح إذن أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف إلى امرئ القيس أضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين.

واضطرب كلامه قبل ذلك فقال: فنحن نقبل أن امرأ القيس هو أول من قيد الأوابد وشبه الخيل بالعصي والعقبان، ثم قال: ولعل أحق الشعر بالعناية قصيدتان اثنتان:
  • الأولى: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.»
  • والثانية: «ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي.»

فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر.

ثم قال: وهناك قصيدة ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة انتحالًا، وهي القصيدة البائية التي يقال: إن امرأ القيس أنشأها يخاصم بها علقمة بن عبدة الفحل، وإن أم جندب زوج امرئ القيس غلَّبت علقمة على زوجها.

واحتج لذلك بأن في القصيدتين رقة إسلامية ظاهرة، وألَّا يوجد فرق بين شخصية الشاعرين فيهما بل ليس فيهما شخصية ما، ثم أنكر المفاخرة والتحكيم بزعم أن القصيدتين ليستا من الجاهلية في شيء.

وقد أكثر العلماء والشعراء والأدباء من ذكر امرئ القيس في القديم والحديث وجعلوه مثلًا أعلى في كثير من النواحي وذكروه في كلامهم، فكيف يكون شخصًا خياليًّا لا حقيقة له؟ أم كيف ينظمون تلك الأشعار البالغة أقصى درجات البلاغة، وينسبونها إليه ولا ينسبونها إلى أنفسهم ليكونوا في طليعة المجودين كما كان، ويكتب لهم الخلود بها كما كتب له؟

ومن استقرأ التاريخ واستقصى الأدب العربي يجد امرأ القيس في كل عصر يتراءى في مقدمة الشعراء المفلقين، ويدور ذكره على ألسنة النوابغ وأئمة الأدب في كل عصر ومصر.

وقد أسلفنا أن قومًا وفدوا على النبي ، وذكروا قوله في العين التي عند ضارج فكان ذلك سببًا لنجاتهم من الهلاك عطشًا، وقومًا آخرين سألوه: من أشعر الناس؟ فأمرهم أن يسألوا حسان، فقال: امرؤ القيس، وصدقه النبي في ذلك، وقومًا أرسلوا رجلًا فسأل لبيدًا من أشعر الناس؟ فقال: ذو القروح! وحسان ولبيد عاشا في الجاهلية أكثر من نصف قرن.

وقدمنا قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب فيه وقول الفرزدق وغيره من الشعراء والعلماء.

وجاء نافع بن الأزرق يسأل عبد الله بن عباس عن كلمات من القرآن فاستشهد له في جملة ما استشهد به بخمسة أبيات من شعر امرئ القيس وهي:

قفا فاسألا الأطلال عن أم مالك
وهل تخبر الأطلال غير التهالك

•••

وماء آسن بركت عليه
كأن مناخها ملقى لجام

•••

ألا زعمت بسباسة اليوم أنني
كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي

•••

أرانا مُوضِعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام وبالشراب

•••

خفاهن من أنفاقهن كأنما
خفاهن ودق من عشي محلب

وقد ذكروا أن الفرزدق كان يروي شعر امرئ القيس وذكره في شعره من قصيدة يفتخر بها على جرير فقال:

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا
وأبو يزيد وذو القروح وجرول

ومما أسلفنا ذكره يتضح لنا أن امرأ القيس كان معروفًا مشهورًا قبل أن يدون التاريخ، وقد روى شيئًا من أخباره الثقات منذ الإسلام إلى يومنا هذا، وفيهم المخضرمون، كحسان ولبيد ووفد جهينة والصحابة الكرام، ولا يتصور عاقل أن تجمع أمة منذ أربعة عشر قرنًا على ذكر رجل ليس له حقيقة في الوجود!

وأبعد من هذا وأغرب أن تنسب قصته إلى الفرزدق، والفرزدق ذكره مفتخرًا به، ولو كان شخصًا خياليًّا ما افتخر به على جرير ولا سكت جرير عنه وهو يتتبع سقطاته وهناته.

وأغرب من هذا الأغرب أن ينكر عاقل امرأ القيس ورحلته إلى قيصر وقد ذكره مؤرخو الروم.

واتفقت كلمة الأدباء على أن الفرزدق كان يروي شعر امرئ القيس وأنه كان يُغير على شعر غيره وينتزعه.

ومن البعيد جدًّا ممن كانت هذه حاله أن ينظم قصائد مطولة وينحلها غيره، وأبعد من المستحيل أن يتفق لشاعر قصائد هن من عيون الكلام ومقلدات الشعر، كالمعلقة واللامية، ثم يعزوها لغيره.

وقد مر أن ابن عباس استشهد ببيت من كافية لامرئ القيس، وهذه لم تذكر في ديوانه، وآخر من قافية له، وثالث من اللامية، ورابع من البائية، وهذا يدل على أن لامرئ القيس من الشعر ما لم يشتمل عليه ديوانه وما ذهب بذهاب رواته، كما يدل على أن القافية واللامية كانتا قبل الفرزدق وعمر بن أبي ربيعة، وأن البائية جاهلية حقيقة وليست بإسلامية، ولا يسوغ لنا اطراح ما سلف من الأدلة على ثبوتها ونسبتها إلى امرئ القيس إلا إذا اطلعنا على أدلة أقوى وأنصع وليس لدى المنكر إلا الوهم المجرد.

أما الاختلاف في الاسم واللقب والكنية والقبيلة، وتعدد شيء من هذا، فقد وقع كثير منه ولم يقتضِ إنكارًا ولا نفيًا: فإن أبا هريرة اختلف في اسمه على خمسة أقوال فأكثر، وفي اسم أبيه على خمسة وثلاثين قولًا.

وأبو عمرو بن العلاء اختلف في اسمه على أحد وعشرين قولًا، وغيرهما … ولم يذهب أحد إلى إنكارهما للاختلاف في نسبهما أو لقبهما.

وهذا الاختلاف مستفيض في اللغة في الأشخاص وغيرهم: ألا ترى تعدد أسماء السماء والسيف والجمل ونحوها؟ وما علمنا أحدًا زعم أن التعدد مقدمة تنتج الجحد والإنكار إلا من متحذلقة هذا العصر.

والسخافة ليس لها حدٌّ تقف عنده، ولا مدًى تنتهي إليه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤