المعلقة

(١) منزلتها

تكاد كلمة العلماء بالشعر تتفق على أن أفضل تراث أدبي ورثه العرب من شعر الجاهلية «معلقة امرئ القيس»، ويعدون ابتداءها أفضل ابتداء من مطالع الشعر العربي. وقد بلغت من الشهرة في علم الأدب والشعر، منزلة ليست لغيرها، حتى جُعلت مثلًا أعلى في الجودة، وحتى ضُرب بها المثل في الحسن والشهرة، فقيل: «أشهر من قفا نبك!» و«أحسن من قفا نبك!»

وما زالت هذه المعلقة — ولن تزال — معينًا يستمد منه الأدب العربي ثروة جديدة، وركنًا يقيم عليه صروح مجده في الماضي والحاضر، وهي أشبه شيء بالخزائن المدفونة المشحونة بصنوف من الجواهر والأعلاق النفيسة، كلما ازداد المنقبون فيها بحثًا رأوا مما فيها من الذخائر الرائقة، والآيات الرائعة، ما لم يروه من قبل، فلا يكاد ينفد ما فيها من أنواع الحسن والروعة.

وحسبك دليلًا ناصعًا، وبرهانًا قاطعًا على هذا أنك لا تجد كتابًا في اللغة والأدب (على اختلاف أنواعهما وتعدد أشكالهما) إلا ولامرئ القيس فيه أبيات يُتمثل بها، ويُحتج بها، ويشار إلى مواطن الجمال الباهر والفن الساحر فيها.

فمعلقة امرئ القيس وشعره كله، عماد قام عليه الأدب العربي في القديم والحديث، ومثال احتذاء الأدباء في كل جيل. ومهما تبدل الأدب بتبدل الزمان وأهله، وتغير بتغير حياتهم الاجتماعية والعقلية، فإن في شعر امرئ القيس ما يصلح أن يكون مثلًا أعلى في كل جيل وطور، وفي كل بيئة.

(٢) سبب نظم المعلقة

ذهب بعض العلماء إلى أن امرأ القيس كان يعشق عنيزة وأخذ ثيابها يوم الغدير مع صواحباتها، ثم عقر لهن ناقته ثم ركب معها ناقتها فدخل عليها الهودج، كما تقدم، ثم نظم المعلقة وذكر هذه القصة فيها.

وإذا صح أن هذا وحده هو السبب لنظمها، فقد يؤخذ عليه عدم وحدة الموضوع في القصيدة؛ لأنه ذكر فيها وصف الجواد والليل والبرق والسحاب …

ويجوز أن يكون يوم الغدير سببًا من جملة الأسباب، وأن الشاعر كان مولعًا بالشعر، فاستهل هذه القصيدة بالغزل، وثنى فيها بقصة الغدير لولعه بالنساء والتشبيب بهن، ثم عززها بوصف الجواد؛ لأن ركوب الخيل في المنزلة الثانية عنده من اللذاذة.

واستطرد إلى وصف الصيد والطبيعة، جريًا على سنة الجاهلية في عدم الوحدة واشتمال القصيدة الواحدة على أغراض متعددة.

ومما لا ريب فيه أن هذه القصيدة وليدة الشباب، وربيبة الصبا، نظمها الشاعر حين لم يكن في قلبه ما يشغله إلا الصبوة والطموح في سبيل الشهوة، قبل أن تملأ المصائب قلبه، وتنيخ عليه بكلكلها؛ ولذلك يرى الباحث فيها ماء الشباب يترقرق في تضاعيف كلماتها، ونضرة النعيم تتراءى في أسرَّتها.

أما العوامل التي أثرت في نفس الشاعر، واقتنص معانيه وأخيلته منها في هذه القصيدة، وكان لها الأثر البين فيها، فهي:
  • (١)

    لواعج الحب التي تعتلج في صدره لعنيزة، وفاطم، وأم الرباب، وغيرها.

  • (٢)

    مشاهد المنازل التي كانت فيها أحبابه ثم رحلوا عنها، والصحاري التي اجتابها، والمياه التي وردها، والأودية التي قطعها، والجبال والأماكن التي شاهد نزول المطر عليها، وشام البرق من جهتها، والمطر الذي رأى آثاره في بعضها.

    وقد ذكرها في شعره: كالدخول، وحومل، وتوضح، والمقراة، ودارة جلجل، ووجرة، وضارج، والعذيب، وقطن، ويذبل، والقنان، وثبير، وصحراء الغبيط، وما شاكل ذلك …

  • (٣)

    الحياة الاجتماعية التي كان يعيشها الشاعر حين نظمها، فهي تمثل لنا نوعًا من مجانته، وتعيهره، وتذلله لمن يحب، ونوعًا آخر من اجتيابه الصحاري والأودية، ومطاردة الوحش، واتخاذ الأطعمة منه في الفلوات …

ونوعًا ثالثًا من خدمة أصحابه، وحمله الماء على ظهره لهم، ونحو ذلك مما يدل على أن حياته حياة الصعاليك والشذاذ والخلعاء …

(٣) أغراضها

وقد اشتملت هذه المعلقة على أغراض متنوعة يمكن ردها إلى ثلاثة أمور:
  • الأول: الغزل والتشبيب: ويندرج فيه بكاء الديار، والوقوف فيها، وعقر المطية للعذارى، ودخول خدر عنيزة، وحديثه معها ومع فاطم، وتشبيه المرأة بأنواع من المشبهات، ووصف الليل والشكوى من طوله.
  • الثاني: وصف الخيل: ويندرج فيه وصف الوحش، وصيده والأودية ويتبعها حديثه مع الذئب.
  • الثالث: وصف الطبيعة: ويندرج فيه وصف الجبال والصحاري، والمطر والسيل وآثاره.

وقد أطال في الأول لأنه مولع بالمرأة وهي غاية المتمنى والمشتهى عنده.

وكذلك أطال في الثاني؛ لأن ركوب الجواد عنده لذة تقارب أو تقارن لذة المرأة، يدلك على ذلك قوله:

كأني لم أركب جوادًا للذة
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال!

بل قدم في هذا البيت لذة الجواد على تبطن الكاعب.

ولم يطل في الثالث؛ لأنه أدنى منزلة في نفس الشاعر من سابقيه.

(٤) كلمة في المعلقة

إذا أمعن الباحث النظر في هذه المعلقة، ثم عرضها على محك النقد والتمحيص، يتبين له فيها أشياء هي في الدرجة القصوى من البلاغة، وأشياء يؤخذ بها صاحبها إن كانت سالمة من عبث الرواة وتحريف النساخ.

والغالب على الظن أنها لم تسلم لكثرة ما فيها من الروايات المضطربة. أما محاسنها، وهي أكثر ما فيها، وهي التي جعلها مضربًا للمثل في الشهرة حتى قيل: «أشهر من قِفا نبك!» فهي:
  • (١)

    أن أسلوب الشاعر يسهل حيث تطلب السهولة، ويشتد أسره حيث يقتضي المقام ذلك، فكلامه في الغزل رقيق لطيف عذب، يتلاءم مع المتغزل بها رقة ورشاقة، كأنما يتخيره من لؤلؤ رطب.

    وكلامه في وصف الجواد والوادي والصيد وما شاكل ذلك متين جزل، كأنما ينحته من صخر صلد، فأسلوبه أسلوب ساحر ماهر لبق.

  • (٢)

    أنه مجود في التشبيه بارع فيه، وأكثر ما يكون لديه المشبه به محسوسًا لأنه أقرب إلى التناول وأرسخ في النفوس، ولا يخرج المشبه عما تتضمنه البيئة البدوية، والحياة الفطرية، فهو إذا أراد أن يشبه أعضاء المرأة بشيء يُشعر بالجمال شبهها بالمهاة في عينها، وبالظبي في جيده، وببيضة النعام في لونها، وشبه أناملها بالأساريع، وليس في المحيط البدوي مثل أعلى للجمال في هذه الأنواع إلا هذه الأشياء.

    وإذا أراد أن يشبه الجواد، شبهه بالجلمود يحطه السيل من عل، بخذروف الوليد في سرعته، وشبه ظهره بمداك العروس، وشبه عنقه المضرج بالدماء بالشيب المخضب بالحناء.

    وإذا أراد أن يشبه البرق شبه خفقاته بحركة اليد، وضوءه بمصباح بان السليط فيه، وهكذا شأنه في كل تشبيه. وهذه التشبيهات توضح المعنى المقصود توضيحًا تامًّا، وليس في البادية شيء أدل على المراد وأبين للغرض منها، وهي تمثل المشبه تمثيلًا صحيحًا تامًّا.

  • (٣)

    أنه مجود في الاستعارات، محسن لتخير اللطيف منها، فإنه لما أراد أن يعبر عن طول الليل، شبهه بشيء له صلب وكلكل وأعجاز.

    واستعار السهم للعين؛ ليدل على شدة تأثيره في الفؤاد.

    واستعار الصيد للقلوب، في قوله: «وهر تصيد قلوب الرجال» ليدل على شدة استيلائها على القلوب.

  • (٤)

    أنه بارع في تخير الكنايات، فإنه لما أراد أن يصف المرأة بطيب الرائحة وطراوة الجسم، كنى عن ذلك بأن فتيت المسك فوق فراشها، وبأنها نئوم الضحى، وأنها لا تلبس الفضل للامتهان.

    وكنى عن اقتلاع السيل الشجر بقوله: «يكب على الأذقان دوح الكنهبل»، وكنى عن تباهي محبوبته في الجمال، وعن حداثة سنها بقوله:

    إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
    إذا ما اسبكرت بين درع ومجول

    وكنى عن ارتفاع موضع بقوله: «نيافًا تزل الطير عن قذفاته.»

  • (٥)

    أنه ماهر في التصوير فإذا وصف لك شيئًا أحاط بالموصوف من كل ناحية يطلبها تحقق ذلك الموصوف وتفوقه فيها، فقد وصف الجواد من النواحي التي يتطلبها وصفه بالقوة والسرعة فجعله مقيدًا للوحش سريعًا مطاوعًا لا يتعبه الجري ولا يفوته الوحش ووصف ظهره وخاصرتيه وساقيه وجريه، وهذا ما يتطلب وصفه في الجواد من حيث صلوحه للكر والفر وطرد الصيد، وزاد على ذلك فوصف لونه وذنَبه.

    ولما عنَّ له السرب وصف لونه واجتماعه ثم تفرقه حتى كأن السامع يراه، وكذلك وصفه السحاب والسيل وآثارهما.

  • (٦)

    أنه بارع في تصوير الخيال أو الحال الواقعة فإنه؛ لما قص دخوله على عنيزة الخدر وخروجه بها أرانا كيف كانت تعفي الأثر بذيلها وكيف هصر بفوديها وكيف كان الغبيط يميل بهما.

    وأسمعنا لومها إياه ودعاءها عليه حتى كأننا نرى ونسمع ذلك حقيقة.

    وكذلك حديثه في الوادي مع الذئب وتصوير اجتماع المها وافتراقها.

    فهو مصور بارع يؤثر كلامه العذب في النفوس ما لا تؤثره ريشة المصور.

  • (٧)
    أن ابتداء هذه القصيدة أفضل ابتداء صنعه شاعر؛ لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد.١

    وأنه ختمها بوصف السيل ولم يتعمد جعله خاتمة كما فعل غيره من أصحاب المعلقات، مع أنها أفضلها، رغبة في اطراح الكلفة وحتى تبقى النفس متعلقة بها طامعة في بقية الكلام.

(٥) ما يؤخذ به في المعلقة

  • (١)

    وحدة الموضوع فيها، فإنها جمعت بين الغزل والطرد ووصف الجواد والبرق والسحاب … إلخ.

  • (٢)

    عدم التلطف في الانتقال من غرض إلى غرض: فبينا هو يتغزل انتقل إلى وصف نفسه بالدماثة والشجاعة، ثم يقفز إلى الوادي فيدور حديثه مع الذئب ثم يطفر إلى وصف الجواد، وهكذا شأنه في شعره كله.

  • (٣)

    عدم الترتيب الطبيعي في الغرض الواحد: فهو عندما أراد أن يصف محبوبته وصف خصرها وترائبها، ثم انتقل إلى خدها وعينيها ثم نزل إلى جيدها، ثم ارتقى إلى شعرها، ثم هبط إلى كشحها وساقها، ثم ذهب إلى فراشها، ثم وصف يديها.

    وكذلك شأنه في الجواد فإنه وصف خاصرتيه وساقيه ثم انتقل إلى ذنبه ثم وصف ظهره.

  • (٤)

    عدم إحاطته بالموصوف من كل ناحية إحاطة تامة: فلو أكمل وصف المرأة فوصف ثدييها وحديثها وأنفها وأسنانها وما شاكل ذلك لجاءت صورة كاملة، وكذلك لو وصف أذني الجواد وجمجمته وعرفه وحوافره لكانت الصورة تامة.

  • (٥)

    وجود الإقواء في مثل قوله: «كبير أناس في بجاد مزمل.» وقوله: «ونصف بالحديد مكبل.» ونحو ذلك مما أسلفنا ذكره.

    ولكن هذه الأمور لا تعد شيئًا في جانب ما فيها من المحاسن والروائع التي فتح بها الباب، ومهد السبيل لمن أتى بعده، والكمال لله وحده.

وقد رأينا أن نجتزئ الآن بهذا القدر على أن نعود إن شاء الله تعالى إلى إتمام القول فيما يتعلق بهذا الشاعر الفذ، وفي شرح البقية الباقية من شعره، حتى يتبين الجاهلون لقدره أن امرأ القيس عماد يقوم عليه الأدب العربي في الماضي والحاضر، وأن له فضلًا على الأدب لا ينكره إلا جاهل أو مكابر.

١  «العمدة» ٢ / ١٦٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤