شعره وأولياته

اتضح مما أسلفنا أن امرأ القيس يمني المحتد، لكنه نجدي المنشأ واللغة واللحن؛ فقد ترعرع في ديار بني أسد في نجد، بين العرب الخلص منهم، وسمع أشعار النجديين وغيرهم من النزاريين وأكثرَ مِن ذِكر الديار والمنازل والجبال والمياه والأودية والمواضع التي في ديار نجد، وكان راوية لأبي دؤاد الإيادي، فانفتق لسانه بالشعر على حداثة سنه، وطمحت نفسه إلى مساجلة الشعراء، وكان محبًّا للجمال ومغازلة الحسان، كثير الأسفار، وتجشم الأخطار، والانتقال من دار إلى دار، ففتق ذلك قريحته، واختط لنفسه سبيلًا في الشعر فَضَلَ به مَن تقدمه، حتى نسب إليه كل حسن في عصره، وعفى على آثار من سبقه، وقيل إنه أول من وقف على الأطلال واستوقف، وبكى واستبكى، بكلمتين:

«قفا نبكِ!» من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
ويعدون١ ابتداءه هذه أفضل ابتداء صنعه شاعر؛ لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل، في مصراع واحد، ولا يقل عنه في الجودة قوله أيضًا:
قفا نبك! من ذكرى حبيب وعرفان
وربعٍ خَلَت آياته منذ أزمانِ!

وأول من شبه النساء بالمها، كقوله:

تصدُّ وتُبدي عن أسيل وتتقي
بناظرة من وحش وَجْرَةَ مُطْفِل٢

وبالظباء، كقوله:

وجيد كجيد الرِّيم ليس بفاحش
إذا هي نصَّته ولا بمعطَّلِ

والبيض، في قوله:

وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجلِ

وشبهها بالدر، على قول، في قوله:

كبِكْر المقاناة البياض بصفرة
غذاها نمير الماء غير المحللِ
وأول من جود٣ التقسيم في قوله في وصف الفرس:
إذا أقبلتْ قلتَ دُبَّاءة
من الخضر مغموسة في الغُدُر
وإن أدبرتْ قلْت أثفية
ململمة ليس فيها أثر
وإن أعرضت قلت سرعوفة
لها ذنب خلفها مسبطر
وهو الذي فتح باب الاحتراس٤ بقوله:
إذا ركبوا الخيل واستلأموا
تحرقت الأرض واليوم قر

فاحترس بقوله: «قر» فتمم.

وهو أول الناس اختراعًا٥ في الشعر، وأكثرهم توليدًا، وله اختراعات كثيرة، منها قوله:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
سموَّ حباب الماء حالًا على حالِ

فإنه أول من طرق هذا المعنى وابتكره، وسلم الشعراء إليه فلم ينازعه أحد إياه، وقوله:

كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا
لدى وكرها العناب والحشف البالي

وهو أول من ابتكر تمثيل شيء بشيء فيه إشارة، بقوله:

وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي
بسهميك في أعشار قلب مقتَّلِ

فمثَّلَ عينيها بسهمي الميسر؛ يعني المعلى وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء؛ فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثَّل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور، فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل.

وجمع مثلين في بيت واحد كل منهما قائم بنفسه، غير محتاج إليه، كقوله:

الله أنجح ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرحْلِ

وأول من عرف في شعره الترديد (وهو أن يعلق لفظة بمعنى، ثم يردها بعينها متعلقة بمعنى آخر) كقوله:

فثوبًا لبست وثوبًا أجر

فقد علق ثوبًا ﺑ «لبست»، ثم ردها متعلقة ﺑ «أجر».

وأجاد في وصف الخيل، وهو أول من جعلها قيد الأوابد ووصفها بذلك في قوله:

وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكلِ

قال أبو عبيدة: «أول من قيد الأوابد امرؤ القيس.»

وأول من شبهها بالعصا كقوله:

بعجلزة قد أترز الجري لحمها
كميت كأنها هراوة٦ منوالِ

وأول من شبهها بالعقاب، كقوله:

كأني بفتخاء الجناحين لَقْوةٍ
صيود من العقبان طأطأت شملالِ

وأول من أجاد وصف الليل، وأول من جود الاستعارة، وجعل الجماد كائنًا حيًّا، وخلع عليه من نعوت الأحياء ما تقتضيه إجادة التشبيه، كقوله:

وليل كموج البحر أرخى سدوله
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فقد استعار لليل سدولًا أرخاها، وصلبًا يتمطى به، وأعجازًا يردفها، وكلكلًا ينوء به، وخاطبه مخاطبة الحي.

وقد زعم ابن وكيع أن أول استعارة وقعت، قولُ امرئ القيس، وذكر البيتين الأولين.

وهو أول من شبه شيئين بشيئين في بيت واحد، كقوله يصف عقابًا (وفيه من البديع الطباق، واللف، والنشر المرتب):

كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا
لدى وكرها العناب والحشف البالي
قال المبرد:٧ هذا البيت أحسن ما جاء في تشبيه شيئين مختلفين، في حالين مختلفين، بشيئين مختلفين.

وقال في العمدة: وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها، أو «كأن» وما شاكلها شيء بشيء في بيت واحد، إلى أن صنع امرؤ القيس في صفة عقاب «كأن قلوب الطير …» فشبه شيئين بشيئين في بيت واحد، واتبعه الشعراء في ذلك، ولم يقع بعد هذا البيت بيت يشبهه في ترتيبه.

وهو أول من شبه أربعة بأربعة، كقوله:

له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وإرخاء سرحان وتقريب تتفلِ

وزعم الفرزدق أن أكمل أو أجمع بيت قالته العرب، قوله: «له أيطلا ظبي …»

وذكر قدامة أن أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما حتى يدني بها إلى حال الاتحاد، وأنشد في ذلك هذا البيت، وهو عنده أفضل التشبيه كافة: فإنه شبه أعضاء بأعضاء، هي هي بعينها، وأفعالًا بأفعال هي هي بعينها، إلا أنها من حيوان مختلف.

وقال في العمدة: ثم أتوا بتشبيه أربعة بأربعة: بالكاف وبغير كاف، فقال امرؤ القيس، وهو أول من فتح هذا الباب: «له أيطلا ظبي …» فجاء بتشبيه إضافة كما ترى، حتى جعله تحقيقًا لولا مفهوم الخطاب.

وهو أول من استعمل الكناية اللطيفة، فكنى عن المرأة بالبيضة في قوله: «وبيضة خدر …» وعن نعومة جسمها ورقة بشرتها بقوله:

من القاصرات الطرف لو دَبَّ مُحْوِلٌ
من الذر فوق الإتب منها لأثرا

وكنى عن ترفها ونعيمها، وأنها تُخدَم ولا تَخدِم، بقوله:

وتضحي فتيت المسك فوق فراشها
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضلِ

وأول من أشار إلى التتبيع — وهو أن يريد شيئًا فيتجاوزه ويذكر ما يتبعه في الصفة، وينوب في الدلالة عليه — كقوله: «وتضحي فتيت المسك …» أراد أن يصفها بالنعمة والترفة، وأنها شريفة مكفية المئونة، فجاء بما يتبع هذه الصفة ويدل عليها، فقوله: «يضحي فتيت» تتبيع أول، و«نئوم الضحى …» تتبيع ثانٍ، و«لم تنتطق» تتبيع ثالث.

وكذلك قوله: «سمان الكلاب، عجاف الفصال …» فإن «سمن الكلاب» يدل على كثرة ما ينحرون، و«عجف الفصال» يدل على بذل اللبن للأضياف.

ومن أعجب التتبيع قوله:

أَمَرْخٌ خيامهم أم عُشَرْ
أم القلب في إثرهم منحدر

يقول: أنزلوا نجدًا الذي ينبت المرخ أم الغور الذي ينبت العشر؟ لأن الأعراب تتخذ الخيام من نبات الأرض التي ينزلونها، فإذا رحلوا تركوه واستأنفوا غيره من شجر البلد الذي ينزلون به.

إلى غير ذلك مما ذكره العلماء من الأمور التي تقتضي ترجيحه وتقديمه على غيره.

والذي يدلنا على أن امرأ القيس أوتي من براعة التأليف، وجودة السبك والرصف، ورقة الأسلوب ما يتفق مع كل عصر، ويتفق عند كل فريق؛ أننا نجد من أبياته الرائعة بمبناها ومعناها فنونًا من البديع بريئة من التكلف والتصنع بالغة الدرجة القصوى في بابها، وكثير منها لم يلحقه فيه المتأخرون على شدة تعمدهم وتعملهم.

فمن ذلك قوله (وفيه الطباق وجناس المضارع):

مكر مفر مقبل مدبر معًا
كجلمود صخر حطه السيل من علِ

وقوله:

ورحنا وراح الطرف يقصر دونه
متى ما ترقُّ العين فيه تسفَّلِ

وقوله (وفيه التبليغ؛ المبالغة؛ وهو ما يمكن عقلًا وعادة):

فعادى عداءً بين ثور ونعجة
دراكًا ولم ينضح بماء فيغسلِ

وقوله (وفيه الإغراق؛ أي المبالغة؛ وهو ما يمكن عقلًا لا عادة):

تنورتها من أذرعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عالِ

وقوله في الغلو (هو ما لا يمكن عقلًا وعادة، ولكنه أدخل عليه ما يقربه إلى الصحة):

كأن غلامي إذ علا حال متنه
على ظهر باز في السماء محلق

وقوله (وفيه الهزل الذي يراد به الجد):

وقد علمت سلمى وإن كان بعلها
بأن الفتى يهذي وليس بفعَّالِ

وقوله (وفيه التصدير؛ أي رد العجز على الصدر، مع الجناس):

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
فليس على شيء سواه بخزانِ

وقوله (وفيه المماثلة؛ وهي أن تتماثل ألفاظ الكلام أو بعضها في الزنة دون التقفية، وقد يأتي بعضها مقفًّى من غير قصد):

كأن المدام وصوب الغمام
وريح الخزامى ونشر القُطُرْ

وقوله (وفيه المراجعة؛ وهي حكاية ما جرى من المحاورة بين متخاطبين بقال وقلت):

تقول وقد مال الغبيط بنا معًا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزلِ
فقلت لها سيري وأرخي زمامه
ولا تبعديني من جناك المعللِ

وقوله:

فقالت سباك الله! إنك فاضحي
ألستَ ترى السمَّار والناسَ أحوالي؟
فقلت يمينَ الله أبرح قاعدًا
ولو قطَّعوا رأسي لديك وأوصالي

وقوله (وفيه لزوم ما لا يلزم):

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
فألهيتها عن ذي تمائم مُحْولِ
إذا ما بكى من خلفها انصرفتْ له
بشقٍّ وتحتي شقها لم يحوَّلِ

وقوله (وفيه الموازنة، وهي تساوي الفاصلتين في الوزن دون التقفية):

أفاد فساد وقاد فزاد
وساد فجاد وعاد فأفضلْ

وقوله (وفيه الإيغال؛ وهو أن المتكلم أو الشاعر إذا انتهى إلى آخر القرينة أو البيت استخرج سجعة أو قافية يريد معنًى زائدًا، فكأنه تجاوز حد المعنى الذي أخذ فيه، وبلغ مراده فيه إلى زيادة عن الحد):

كأن عيون الوحش حول خبائنا
وأرحلنا الجزع الذي لم يثقَّب

فإن كلامه انتهى إلى قوله: «الجزع»، وزيادة المعنى في قوله: «الذي لم يثقب.»

وقوله (وفيه الإشارة؛ وهي أن يكون اللفظ القليل مشتملًا على المعنى الكثير بإيماء يدل عليه):

على هيكلٍ يعطيك قبل سؤاله
أفانينَ جَرْيٍ غيرَ كَزٍّ ولا وانِ

فإنه أشار بقوله: «أفانين» إلى جميع صنوف عدْو الخيل المحمودة، والذي يدل على هذا قوله: «قبل سؤاله.»

وقد تقدم قوله في التقسيم الجيد والاحتراس.

وفي شعره كثير من الأنواع التي سبق إليها من غير أن يتعمدها، كالتصريع وحسن الابتداء. ولو استقرأ متتبع لوجد أكثر الأنواع في شعره.

(١) والخلاصة

لا يكاد الباحث يجد نوعًا من أنواع الحسن في باب الشعر والبلاغة، إلا ولامرئ القيس فيه المثل الأعلى، والقدح المعلى.

هذا على قلة ما انتهى إلينا من شعره، حتى عُدَّ من المقلين كما تقدم.

وقالوا: إنه أول من رقق النسيب، كقوله:

أفاطم! مهلًا بعض هذا التدلل
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي!
وإن كنت قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلِ
أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ؟!
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتلِ

وإلى جانب ما سبق من المحاسن، تجد في شعره أشياء خالف بها سنن الشعراء والفصاحة، وخرج عن محجتها، وسلك فيها سبيلًا غيرها أَوْلَى منها، من ذلك الإقواء (وهو اختلاف حركة الروي بكسر وضم):

كأن ثبيرًا في عرانين وَبْلَه
كبير أناس في بجاد مزمَّلِ

وحقه أن يقول: «مزملٌ» وقد يقال إنه أراد في «بجاد»؛ مزمل فيه. والإصراف (وهو اختلاف حركة الروي بفتح وغيره) كقوله:

فظل طهاة اللحم ما بين منضج
صفيف شواء أو قدير معجلِ

وحقه أن يقول: «أو قديرًا معجلًا»، وخرج على المجاورة ونحوها من الوجوه البعيدة.

والإيطاء (وهو إعادة الكلمة المشتملة على حرف الروي بلفظها ومعناها من غير أن يفصل بين اللفظين سبعة أبيات فأكثر) كقوله:

وهبت له ريح بمختلف الصوى
صبًا وشمال في منازل قُفَّالِ

ثم قال بعد أربعة أبيات:

نظرت إليها والنجوم كأنها
مصابيح رهبان تشب لقفالِ

وقوله:

على الأين جياش كأن سراته
على الضمر والتعداء سرحة مرقبِ

ثم قال بعد بيت:

له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وصهوة عير قائم فوق مرقب

ومنها تكرير الجملة أو الشطر أو البيت، ما خلا كلمة القافية، وهذا كثير في شعره، كقوله:

ذعرت بها سربًا نقيًّا جلوده
وأكرعه الوشي البرود من الخال
ذعرت بها سربًا نقيًّا جلوده
كما ذعر السرحان جنب الربيض٨

•••

قعدت له وصحبتي بين ضارج
وبين تلاع يثلث فلغريض٩
قعدت له وصحبتي بين ضارج
وبين العذيب بعدما متأملي

•••

وقد أغتدي والطير في وكناتها
وماء الندى يجري على كل مذنب
وقد أغتدي والطير في وكناتها١٠
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
وقد أغتدي والطير في وكناتها
لغيث من الوسمي رائده خال
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد عبل اليدين قبيض
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
وصهوة عير قائم فوق مرقب

•••

كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حناء لشيب مرجَّلِ
كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حناء بشيب مخضب

•••

فعادى عداء بين ثور ونعجة
وبين شبوب كالقضيمة قرهب
فعادى عداء بين ثور ونعجة
دراكًا ولم ينضح بماء فيغسل
فعادى عداء بين ثور ونعجة
وكان عداء الوحش مني على بالِ

•••

وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
بمنجرد قيد الأوابد لاحه
طراد الهوادي كل شأو مغرب

•••

على الأين جياش كأن اهتزامه
إذا جاش فيه حمية غلي مرجل
على الأين جياش كأن سراته
على الضمر والتعدا سرحة مرقب
ومنه الإسفاف في الغرض، قال رؤبة:١١ ما رأيت أفخر من قول امرئ القيس:
فلو أنما أسعى لأدنى معيشة
كفاني — ولم أطلب! — قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

ولا أنذل من قوله:

لنا غنم نسوِّقها غزار
كأن قرون جلتها العصي
فتملأ بيتنا أقطًا وسمنًا
وحسبك من غنًى شبعٌ وري

وقال أحمد بن عبيد بن عمار: «قد وقفنا على ما أتاه الشعراء القدماء من الزلل والخطأ في قصيد أشعارهم وأراجيزهم، قديمها وحديثها، وإحالتهم في نسج بعضها، وما أتوا به من الكلام المذموم، فأولهم امرؤ القيس، مع جلالة شأنه، وعظيم خطره، وبُعد همته، يقول مفتخرًا بملكه واصفًا لما يحاوله: «فلو أنما أسعى لأدنى معيشة …» ثم قال بعد هذا القول المرضي، في المعنى البهي، قول أعرابي متلفع بشملته لا تجاوز همته ما حوته خيمته: «إذا ما لم تكن إبل فمعزى …»

ولما تنازع هو وعلقمة في الشعر، وحكَّما أم جندب (زوج امرئ القيس) فضلت علقمة، فقال لها زوجها: «وكيف؟» قالت: «لأنك قلت:

فللسوط ألهوب وللساق درة
وللزجر منه وقع أخرج مهذب١٢

فقد جهدت فرسك بسوطك، وزجرت، وحركت ساقيك، فأتعبته.

وقال علقمة:

فأدركهن ثانيًا من عنانه
يمر كمر الرائح المتحلبِ

فأدرك فرسه ثانيًا من عنانه، لم يضربه بسوط، ولم يتعبه!»

وقد عيب عليه قوله:

أغرك مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل؟!

قالوا: إذا لم يغرَّها هذا فأي شيء يغرها؟ وهذا كأسير قال لمن أسره: «أغرك مني أني في يديك أسير؟!»

وفي هذا البيت من البراعة والرقة ما لا يطول إلى مثله أحد إلا امرؤ القيس، فإنه يعلم أن ذلك يغرها، ولكنه سأل سؤال الجاهل، والقلب يحتمل أن يكون قلبها، فالمعنى حينئذ: أنك مالكة قلبك، مهما تأمريه يفعل، وأنا لا أملك قلبي لأنك أنت ملكته، ويحتمل أن يكون قلبه، فالمعنى: مهما تأمري قلبي يفعل؛ لأنه مطيع لك! وكلا المعنيين جميل، والاستفهام على هذا الوجه جيد.

وعابوا عليه قوله:

لها ذنب مثل ذيل العروس
تسد به فرجها من دبر!

قالوا: ذيل العروس مجرور، ولا يجب أن يكون ذنب الفرس مجرورًا ولا قصيرًا، قالوا: والصواب في ذلك قوله:

ضليع إذا استدبرته سد فرجه
بضافٍ فُويق الأرض ليس بأعزلِ

وعابوا قوله: «من دبر»، وقالوا: لمَ قال ذلك؟ فمن أين تسد بذنبها فرجها؟ فهذا ليس من قول الحذاق. ويمكن أن يقال عن الأول: إن الشاعر وغيره قد يشبِّه الشيء بشيء آخر من ناحية من نواحيه، أو ناحيتين أو أكثر، ولا يريد التشبيه به من كل ناحية، ألا ترى أنهم شبهوا العيون بالنرجس، واتفقت كلمتهم على استجادة ذلك، وهم لا يريدون تشبيهها به في البياض؛ لأن ذلك لون عيون الهررة! وكذلك تشبيههم المرأة بالغزال والمها والشمس والبدر والغصن، وهنا يريد تشبيه ذنبها بذيل العروس في حسنه، ولا يتحتم عليه أن يريد التشبيه به في جره على الأرض.

وبيته الثاني «ضليع …» يبين لنا هذا المعنى، ويعين هذا القصد.

ويقال عن الثاني: إن في كلام البلغاء كثيرًا من مثل هذه القيود ما يقع لزيادة الإيضاح، أو على سبيل الاتفاق، ولا يجب أن يكون كل زائد للاحتراس من شيء آخر، ألا ترى أنهم يقولون: سمعته بأذني، ورأيته بعيني، وكتب بيده، و…

وعابوا عليه قوله:

وأركَبُ في الروْع خَيْفَانة١٣
كسا وجهَها سَعَفٌ منتشر

قالوا: لأن الناصية إذا غطت الوجه، لم يكن الفرس كريمًا، والجيد الاعتدال، على أنه يجوز أن يراد بالوجه بعضه على سبيل المجاز من ذكر الكل، وإرادة الجزء.

وعيب عليه قوله:

وللسوط منها مجال كما
تَنَزَّل ذو بَرَد منهمر

قالوا: ما لها وللسوط؟

وعيب عليه قوله: «فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها …» ثم قوله بعدها: «وهل عند رسم دارس من معول؟» لأن كلامه الثاني ناقض الأول.

وقد قيل إن مراده لم يعف رسمها لما نسجته الريح وحده، وإنما عفا للريح والمطر وغيرهما. وقيل إنه دارس بعضه دون بعض. وقيل درس من الريح وغيرها، ولكنه لم يدرس من قلبي. وقيل إنه رجع فأكذب نفسه حين قال: «لم يعف» ثم قال: «دارس»، ومثله قول زهير:

قف بالديار التي لم يعْفُها القدم
بلى وغيَّرها الأرواح والديم

وعيب عليه قوله: «فقلت له لما تمطى بصلبه …» ثم قوله: «ألا أيها الليل الطويل …» لأنه أتم البيت الأول في وصف الليل، ولم يذكر ما قاله، وجعله متعلقًا بما بعده.

ومثل هذا شائع منتشر في كلام الفصحاء، ولم يعد أهل العروض من التضمين المعيب ذكر المفعول في البيت الثاني لقال أو لغيرها.

وعيب عليه فجوره وعهره في شعره، كقوله:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشق وتحتي شقها لم يحول

وقالوا: هذا معنًى فاحش. وعيب أيضًا لقصده للحبلى والمرضع دون البكر، وهو ملك وابن ملوك، فما فعل هذا إلا لنقص همته.

وقد حمل قوله هذا على وجه أفضل، وهو: أن الحبلى والمرضع لا تكادان ترغبان في الرجال، وهما ترغبان فيه لجماله، فقوله هذا يريد به التمدح. وكذلك عد من فجوره قوله:

دخلت وقد ألقت لنوم ثيابها
لدى الستر إلا لبسة المتفضلِ

وقوله:

سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالًا على حال
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
تعرض أثناء الوشاح المفصل

فقيل ليست الثريا تتعرض في السماء، وقال بعض من يعذره: أراد الجوزاء؛ لأنها تتلوها!

وعيب عليه قوله:

أبعد الحارث الملِك بن عمرو
وبعد الملْك حُجْر ذي القباب
أُرجِّي من صروف العيش لينًا
ولم تَغفُل عن الصُّم الهضابِ

قالوا: إنه مضمن، وليس هذا بتضمين على الصحيح؛ لأن التضمين تعلق كلمة القافية بالبيت التالي تعلقًا لا يتم المعنى بدونه، وما هنا ليس كذلك، وفي كلام الشعراء كثير من هذا النوع.

واستهجنوا قوله:

وَهِرٌّ تصيد قلوب الرجال
وأفلت منها ابن عمرو حجر

فلفظة «هر» و«الصيد» مضحك مستهجن، ولو أن أباه حجرًا من فأر بيته ما أسف على إفلاته منها هذا الأسف.

والحق أن العرب لا تلتفت إلى مثل هذه الأشياء، وإنما تنظر إلى الحقائق والجد.

وعيب عليه قوله: «يزل الغلام الخف عن صهواته»، وليس للجواد إلا صهوة واحدة، والحق أن هذا غير عيب؛ لأن العرب تنزل الأجزاء منزلة الأفراد، كما قالوا في قول ذؤيب:

فالعين بعدهم كأن حداقها

وليس لها إلا حدقة واحدة.

وعيب عليه قوله:

وعين لها حَدْرةٌ١٤ بَدْرةٌ١٥
فشقت مآقيهما من أُخر

لأنه ذكر العين مفردة، وأعاد ضمير المثنى.

وعيب عليه قوله:

لها مَتْنَتَانِ خَظَاتَا كما
أكبَّ على ساعديه النمر
والصواب خظتا.١٦

وحضر أحمد بن أبي طاهر مجلس علي بن يحيى المنجم يومًا بعد أن أخل به أيامًا، فعاتبه على ذلك، فقال: «كنت متشاغلًا باختيار شعر امرئ القيس.» فأنكر عليٌّ عليه ذلك، وقال: «أما تستحي من هذا القول؟ وأي مرذول في شعر امرئ القيس، حتى تحتاج إلى اختياره؟» واتسع القول بينهما في ذلك، فقال هارون بن علي لأبيه: «قد صدقت، يا سيدي، في وصف شعر امرئ القيس، ولكن فيه ما يفضل بعضه بعضًا، وإلا فقوله:

يا هند لا تنكحي بوهة١٧
عليه عقيقته١٨ أحسبا١٩
مرسعة٢٠ بين أرساغه٢١
به عسم٢٢ يبتغي أرنبا
ليجعل في ساقه كعبها٢٣
حذار المنية أن يعطبا
ولست بخِزْرافة٢٤ في القعود
ولست بطياخة٢٥ أخدبا٢٦
ولست بذي رثية٢٧ إمَّر٢٨
إذا قيد مستكرهًا أصحبا٢٩

أهو مما يختار ويوصف بهذه الأوصاف مع ما في هذه الأبيات من حوشي الكلام وجساء الألفاظ وخلوها من كثير من الفائدة.» فأمسك علي.

(٢) أسلوبه

أما أسلوبه فقد كان جزل الألفاظ، متين التأليف، جيد السبك، كثير الغريب، إلا في الغزل فإنه كان يغلب عليه في غزله الرقة والرشاقة.

وأما معانيه فقد كانت بديعة، كما كان خياله بديعًا، وربما سلك سبيل المبالغة والغلو، كقوله في الغزل:

مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ
مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإِتْبِ مِنْهَا لَأثَّرَا٣٠
وقوله:٣١
تَنَوَّرْتُها من أذْرِعات وأهلها
بيثرب أدنى دارها نظر عالِ

وله أبيات تدل على أنه كان ينظم الشعر، ثم يتخير منه، فيأخذ المستجاد ويطرح ما سواه، وهي:

أذود القوافي عندي ذيادا
ذياد غلام جريء جرادا
فلما كثرن وعنَّيْنَه
تخير منهن شتى جيادا
فأعزل مرجانها جانبًا
وآخذ من درها المستجادا

وزعم ابن الكلبي أنه امرؤ القيس بن بكر بن امرئ القيس بن الحارث بن معاوية الكندي.

وزعم غيره أن الأبيات لامرئ القيس بن عانس الكندي.

وقد تقدم أنه لقب ﺑ «الذائد» لقوله: «أذود القوافي …»

(٣) بداهته

والظاهر أنه كان سريع الخاطر، قوي البديهة، لم يتكلف تنقيح شعره وتهذيبه، بل كان يلقيه عفوًا بلا تعمل ولا كد قريحة؛ ولذلك تجد على أكثر شعره مسحة البداوة وجفاءها.٣٢

والغالب على شعره أيام صبوته التشبيب بالنساء، ووصف الخيل، والصيد، وما شاكل ذلك مما تقتضيه الصبوة والمجانة، وفي أيام كبره يغلب على شعره الشكوى من الزمن، وتجهم الإخوان، ونحو ذلك مما تقتضيه المحنة التي مُنِّي بها، وقد يمثل شعره صورة تامة عن حياته وخلقه، فانظر إلى قوله:

بكى صاحبي لمَّا رأى الدَّرب دونه
وأيقن أنَّا لاحقانِ بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما
نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

وقوله:

ولكنني أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

وقوله في وصف راحلته:

عليها فتًى لم تَحمل الأرض مثله
أبرَّ بميثاق وأوفى وأصبرا

وقوله:

فظل طهاة اللحم ما بين منضج
صفيف شواء أو قديرٍ معجل

وقوله:

فظل العذارى يرتمينَ بلحمها
وشحم كهدَّاب الدِّمَقس المفتل

فإنك تجد فيه عزة الملك، وتلمح فيه مخايل النبل والإمرة والسيادة وعلو الهمة وعظمة النفس.

وإذا نظرت إلى قوله:

إذا ما لم يكن إبل فمعزى
كأن قرون جلتها العصي
لنا غنم نسوقها غزار
كأن قرون جلتها العصي

… إلخ.

فإنه يمثل لك قناعة الصعلوك، وذلة المعدوم، ورضا الخامل.

وإذا نظرت إلى قوله:

فإن كنت قد ساءتك مني خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسلِ

وقوله:

رمتني بسهم أصاب الفؤاد
غداة الرحيل فلم أنتصر
فأسبل دمعي كفض الجمان
أو الدر رقراقه المنحدر
فبتُّ أكابد ليل التما
م والقلب من خشية مقشعر

تمثل لك فيه ذل العاشق، وخنوع المحب الذي مَلَكَ الحبُّ عليه مشاعرَه، فلم يجد ما يفرج به كربه إلا إسبال الدمع، والاستسلام للمحبوب، والنزول عند رغبته.

وإذا تأملت قوله:

وأنا المنية بعدما قد نوموا
وأنا المعالن صفحة النوَّام

وقوله:

وإذا أذيت ببلدة ودعتها
ولا أقيم بغير دار مقام
وأنازل البطل الكريه نزاله
وإذا أناضل لا تطيش سهامي

وقوله:

والله لا يذهب شيخي باطلا
حتى أُبير مالكًا وكاهلا
القاتلين الملك الحُلاحلا
خير مَعَدٍّ حسبًا ونائلا٣٣

وقوله:

وكل مكارم الأخلاق صارت
إليه همتي وبه اكتسابي

رأيته يضم بين جوانحه نفسًا جبارة لا تقيم على ضيم، ولا تنام على وتر، فهو الموت، وهو ينازل البطل الكريه نزاله، ولا تطيش سهامه، وقد أحبت همته كل خلق كريم، كما حملت راحلته فتًى لم تحمل الأرض مثله، فامرؤ القيس شجاع كريم الأخلاق، شديد الاعتداد بنفسه، كثير الفخر بها وبقومه.

وإذا تدبرت قوله:

أرانا مُوضِعين٣٤ لحتم غَيْب
ونُسْحَر٣٥ بالطعام وبالشراب
عصافيرٌ وذبَّانٌ ودودٌ
وأجرأُ مِن مُجَلِّحةِ٣٦ الذئاب
فبعض اللوم عاذلتي فإني
ستكفيني التجارب وانتسابي٣٧
إلى عرق٣٨ الثرى وشجت٣٩ عروقي
وهذا الموت يسلبني شبابي
ونفسي سوف يسلبها وجُرمي٤٠
فيُلحقني وشيكًا٤١ بالتراب

إلى أن يقول:

وقد طوفت بالآفاق حتى
رضيت من الغنيمة بالإياب!
أبعد الحارث الملك بن عمرو
وبعد الخير حجر ذي القباب٤٢
أرجي من صروف الدهر لينًا
ولم تغفل عن الصم الهضاب٤٣
وأعلم أنني عما قليل
سأنشب في شبا٤٤ ظفر وناب
كما لاقى أبي حجرٌ وجَدِّي
ولا أنسى قتيلًا بالكُلاب٤٥

وقوله المتقدم:

ألا إن لم تكن إبل فمعزى
كأن قرون جلتها العصي

… إلخ.

خيل إليك أن زاهدًا يملي ضروبًا من العظات على تلاميذه ليعتبروا، ويكفوا أنفسهم عن الهوى؛ لأنهم صائرون إلى ما صار إليه آباؤهم من قبل، ويحضهم على القناعة والاجتزاء من الغنى بالشبع والري.

ومن سمع قوله:

البر أنجع ما طلبت به
والبر خير حقيبة الرَّحْلِ٤٦

وقوله:

وقاهم جدهم٤٧ ببني أبيهم
وبالأشقَيْن ما حلَّ العقاب٤٨

وقوله:

وهل يَنْعَمَنْ إلا سعيدٌ مخلَّدٌ
قليل الهموم ما يبيت بأوجال؟!

وقوله:

صُبَّت عليه ولم تنصبَّ من كثب
إن الشقاء على الأشْقَيْن مصبوب!

وقوله في النساء:

أراهن لا يُحْبِبْنَ مَن قلَّ مالُه
ولا من رأينَ الشيب فيه وَقوَّسا٤٩
ألا إن بعد العدم للمرء قنْوة٥٠
وبعد المشيب طول عمر ومَلبَسا٥١

وقوله:

إذا المرء لم يَخزُن عليه لسانه
فليس على شيء سواه بخزَّانِ!

وقوله:

فإنك لم يفخر عليك كفاخر
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلَّب

وقوله:

أرى المرء ذا الأذواد يصبح مَحْرضًا٥٢
كإحراض بكر في الديار مريض
كأن الفتى لم يغن في الناس ساعة
إذا اختلف اللحيان عند الجَرِيضِ٥٣

وقوله:

وما المرء ما دامت حُشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوف ولا آل

وقوله:

تمتع من الدنيا، فإنك فانِ
مِن النشواتِ والنساءِ الحسانِ!

وقوله:

ألا إنما الدهر٥٤ ليالٍ وأعصر
وليس على شيء قويم بمستمر٥٥

تبين أن امرأ القيس شاعر حكيم، يستمد حكمته من التجارب ومقايسة بعض الأمور ببعض.

وإذا تأملت قوله:

لقد أنكرتني٥٦ بعلبك وأهلها
ولابْن جريج في قرى حمص أنكرا

وقوله:

إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته
وقرَّت به العينان، بُدِّلت آخرا
كذلك جَدَّي: لا أصاحب صاحبًا
من الناس إلا خانني وتغيرا
وكنَّا أناسًا قبل غزوة قَرْمَل٥٧
ورثنا الغنى والمجد أكبر أكبرا

تمثل لك فيه شكوى البائس، وذكرى المكروب، وفخر الضعيف المغلوب.

وإذا نظرت إلى قوله:

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول

وقوله:

سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالًا على حال

وقوله:

كأني لم أركب جوادًا للذة
ولم أتبطن كاعبًا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل
لخيلي كِرِّي كَرَّة بعد إجفال

وقوله:

إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة
معتقة مما تجيء به التجر

وقوله:

هصرت بفوديْ رأسها فتمايلت
عليَّ هضيم الكشح ريَّا المخلخل

وقوله الذي غبر فيه في وجه كل من وصف المضاجعة:

تقول وقد جردتها من ثيابها
كما رُعت مكحولًا من العين أتلعا٥٨
وجدِّكَ لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجدْ عنك مدفعا
فبتنا نذود الوحش عنا كأننا
قتيلان لم تعلم لنا الناس مصرعا
إذا أخذتها هزة الروع أمسكتْ
بمنكب مقدامٍ على الهول أروعا٥٩

وقوله:

فلما تنازعنا الحديث وأسمحت
هَصَرْتُ٦٠ بغصن ذي شماريخ٦١ ميَّال
وصرنا إلى الحسنى ورقَّ كلامنا
ورُضْتُ فذلَّت صعبة أي إذلال

تراءى لك فيه عربدة الماجن، وصراحة الخليع، وفجور المتعيهر.

فأشعار امرئ القيس لا تمثل نفسًا سلكت سبيلًا واحدًا في الحياة، ولا انتهجت سَنَنًا مطردًا، بل تمثل نفسًا مضطربة لا تستقر على حال من القلق.

١  العمدة.
٢  أي بقرة ذات طفل.
٣  العمدة ٢/٢.
٤  الوزير ٦.
٥  العمدة ١ / ١٧٥.
٦  الهراوة: العصا.
٧  السيوطي ١١٩.
٨  الغنم في مرابضها.
٩  اسم موضع.
١٠  في رواية: وكراتها.
١١  موشح ٢٧.
١٢  يعني ألهب جريه حين زجره، وإذا غمزه بساقه درَّ جريه. والأخرج: الظليم. والخرج: سواد وبياض. ومهذب: مسرع.
١٣  خيفانة: فرس طويلة القوائم ضامرة، ويريد بالسعف: شعر الناصية.
١٤  واسعة مكتنزة صلبة.
١٥  تبدر بالنظر، أو الحديدة النظر، أو تامة كالبدر.
١٦  خظا اللحم: اكتنز؛ والخظاة المكتنزة من كل شيء. قيل أصله خظتا فاضطر فوصل الفتحة بألف ساكنة، كما قالوا: كلكال في كلكل. وذهب الفراء إلى أنه أراد: خظاتان، فحذف النون استخفافًا.
١٧  طائر يشبه البومة، وقيل البومة، والرجل الضعيف، والأحمق.
١٨  شعره الذي يولد به؛ أي إنه لا يطلى ولا ينظف.
١٩  يضرب إلى السواد، والذي ابيضت جلدته وفسدت شعرته.
٢٠  رسع فهو مرسع: فسد موق عينه. وأنثه كقولك: هلباجة أو لأن الترسيع يكون في العين وهي مؤنثة. وروي: «مسرغة»، وهي كالمعاذة أن يأخذ سير فيخرق فيدخل فيه سير فيجعل في إرساغه دفعًا للعين، فمرسعة مبتدأ، خبره بين أرساغه.
٢١  ج. رسغ؛ مفصل ما بين الكف والساعد، والقدم إلى الساق. ويروى أرفاغه: ج رفغ؛ هو أصل الفخذ، وسائر المغابن، وكل موضع اجتمع فيه الوسخ.
٢٢  يبس في المرفق والرسغ تعوج منه اليد والقدم.
٢٣  الكعب: العظم لكل ذي أربع، وكل مفصل للعظام. كان حمقى الأعراب في الجاهلية يعلقون كعب الأرنب في الرجل كالمعاذة، ويزعمون أن من علقه لم تضره عين ولا سحر ولا آفة؛ لأن الجن تجتنب الأرانب لمكان الحيض، يقول: هو من أولئك الحمقى.
٢٤  الخزرافة: الضعيف، والمضطرب في جلوسه، أو الذي لا يحسن القعود في المجلس، أو الكثير الكلام.
٢٥  الطياخة: الأحمق لا خير فيه، أو الأحمق القذر أو الذي لا يزال يقع في بلية وسوء.
٢٦  الأخدب: الذي لا يتمالك حمقًا وجهلًا، أو الأهوج.
٢٧  الرثية: وجع يأخذ في المفاصل واليدين والرجلين، أو كل ما منع من الانبعاث من وجع أو كبر.
٢٨  الإمَّر: الأحمق الضعيف لا رأي له أو لا عقل له إلا ما أمرته به لحمقه، يأتمر لكل أمر شبهه بالجدي إذا قيد انقاد.
٢٩  اصحب: انقاد. وتتمة هذه الأبيات:
وقالت بنفسي شباب له
ولمته قبل أن يشجبا
وإذ هي سوداء مثل الجناح
تغشي المطانب والمنكبا
(اللمة: ما ألم من الشعر بالمنكبين. ويشجب؛ يقال شَجِبَ يشجَب شجَبًا، وشجَبَ يشجُب شجوبًا: إذا عطب وهلك. تقول أفدي شبابه: شفقة عليه ومحبة فيه. والمطانب: جمع مَطْنَب، ومطنب المنكب والعاتق وحبل العاتق.)
٣٠  الإتب: بُرد أو ثوب يشق في وسطه، تلقيه المرأة في عنقها من غير جيب ولا كمَّين، وهي المعلقة والصدار والشَّوذَر، وقيل قميص بلا كمين، وقيل السراويل بغير رجلين.
٣١  العمدة ١ / ١٣٤.
٣٢  وقد تقدمت ممالطته للتوأم اليشكري وعبيد بن الأبرص، وإنشاده بائيته في علقمة.
٣٣  في العكبري ١ / ٥٠ لامرئ القيس:
القاتلين الملك الحلاحلا
يا لهف هند إذ خطئن كاهلا
وهذه هي امرأة أبيه لم تلد لأبيه حجر شيئًا، فخلف عليها امرؤ القيس وخرج في طلب بني كاهل، فأوقع بحي من بني كنانة وهو يظن أنهم من كاهل، وهم بطن من أسد. وخطئ وأخطأ بمعنًى واحد، وهما لغتان.
٣٤  الإيضاع: نوع من السير.
٣٥  أي نعلل، فكأنا نسحر ونخدع بهما.
٣٦  جريئة، وفي اللسان: أجرأ من مجلجة.
٣٧  إذا لم أجد بيني وبين أحد حيًّا كفاني وعلمت أني سأموت.
٣٨  آدم.
٣٩  اتصلت.
٤٠  جسدي.
٤١  سريعًا.
٤٢  القبة من أدم تكون للملوك.
٤٣  ج. هضبة: الصخرة الراسية الضخمة.
٤٤  حد.
٤٥  اسم ماء كانت عنده وقعة؛ ولذلك قالوا: الكلاب الأول والثاني، وهما يومان مشهوران، والمراد بالقتيل: عمه شرحبيل بن عمرو.
٤٦  الحقيبة: وعاء يجعل الرجل فيه زاده.
٤٧  حظهم.
٤٨  نسخة العتاب؛ أي صار الملام واقعًا بهؤلاء الأشقياء.
٤٩  انحنى.
٥٠  غنًى ورخاء، كسبة.
٥١  ثوبًا يلبس.
٥٢  ج. ذود من الإبل، ما بين الثلاث إلى عشر. المحرض: الهالك، لا حي فيرجى، ولا ميت فيواسى.
٥٣  الغصص بالريق، ورواه الجوهري: «عند جريض»، وفسر الجريض بالغصة.
٥٤  في رواية: ألا إنما الدنيا …
٥٥  استمر الشيء: مضى على طريقة واحدة.
٥٦  أنكر الشيء: جهله.
٥٧  ملك من اليمن غزا كِندة قبل امرئ القيس فأصاب منهم، أو اختلفت أصحاب امرئ القيس عليه، فخرج إلى قَرْمَل فاستجاشه، فثبطه.
٥٨  طويل العنق.
٥٩  الأروع: الكريم ذو الجسم والجهارة والفضل، والذي يروعك حسنه ويعجبك إذا رأيته.
٦٠  هصر الغصن وبالغصن: أمال رأسه إليه.
٦١  الشمراخ: العذق. والشمروخ: غصن دقيق رخص ينبت في أعلى الغصن الغليظ خرج في سنته رخصًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤