الفصل الأول

النيازك في التاريخ

«لفَهْم علمٍ ما، لا بد من دراسة تاريخه.» (أوجيست كونت، ١٧٩٨–١٨٥٧م)

***

(١) شذرات من التاريخ

عرف الإنسان الأحجار الصلبة التي تسقط من السماء على الأرض (النيازك) قديمًا في التاريخ، لكن تسجيلاته الأولى والقديمة لها ضاعَتْ في ظلام الحِقَب الزمنية البعيدة. ولا يجد الباحث في تاريخ النيازك وممارسات الإنسان حيالها سوى إشارات، تارة تكون واضحةً وأخرى تكون غامضةً مبهمة. وهكذا يجد الباحث نفسه أمام بياناتٍ ناقصةٍ في كثيرٍ من الأحيان، عليه أن يُكملها، بما لديه من خلفياتٍ تاريخية، وهو يحاول أن يضع صورةً تاريخية لعلمٍ وليد. وعلى الرغم من ملاحظة سقوط الأحجار السماوية قديمًا في التاريخ، فلا توجد إشاراتٌ صريحةٌ تذكر كلمة «نيازك» في السجلات التاريخية. ومن طبيعة النيازك ومكوناتها وشغف الإنسان وحفاوته بالفلزات عبر العصور، والظواهر التي تصاحب سقوط النيازك، كالأضواء الخاطفة والأصوات العالية؛ يمكن استقراء تاريخ معرفة الإنسان القديم لها، ويمكن العثور على الإشارات الدالَّة عليها في الثقافات المختلفة عبر التاريخ، ويمكن من خلال مطالعة رسومات إنسان ما قبل التاريخ، العثور على بعض الرسومات الدالَّة على سقوط النيازك؛ فقد تشير بعض رسومات كهوف «التاميرا»، الموجودة في إسبانيا، التي تعود إلى قرابة ٢٠٠٠٠ عام، إلى ظواهر نيزكية، فيما يمكن اعتباره أقدم إشارات إلى سقوط نيازك.١ وفي الآونة الأخيرة عثر الباحثون على رسمٍ ملونٍ، يعود لسكان ما قبل التاريخ، على جدران أحد الجلاميد الصخرية بوادي كركور طلح، بالقرب من جبل العوينات، في أقصى جنوب غرب مصر، ربما يمثِّل تسجيلًا لحدثٍ نيزكي. ويصوِّر الرسم، الذي يوجد على سطح أحد الجلاميد الجرانيتية الضخمة، جسمًا ساقطًا تنتشر منه ستة خيوط سميكة لأعلى، ويُظهر الرسم — بالقرب من الجسم الساقط — رجلًا يطلق ساقيه للريح هربًا. ويقارب هذا الرسم الملون أو يضاهي الرسومات التي وُجِدت خلال العصور التاريخية والتي تسجِّل ظواهر سقوط النيازك على الأرض. ومن الإشارات غير المباشرة التي تعني معرفة الإنسان القديم بالنيازك، ما حقَّقه الباحثون٢ من دلائل، على أن سكان شرق آسيا في العصور الموغلة في القدم، اعتبروا السماء مكونة من مادة حجرية. وتعكس هذه الإشارة أن الناس قديمًا عرفوا سقوط الأحجار السماوية، تمامًا كما أشار قدماء المصريين للسماء على أنها سقف من الحديد، في إشارة إلى معرفتهم بسقوط النيازك الحديدية.
figure
رسم على جدران صخور كهوف «التاميرا» بإسبانيا، ربما يكون أقدم إشارةٍ لسقوط النيازك.
figure
رسم على سطح أحد الجلاميد الجرانيتية بمنطقة جبل العوينات يبيِّن الجسم الساقط (على الجانب الأيسر) والرجل الذي يطلق ساقيه للريح هربًا.
ومنذ بداية عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور الحديثة نسبيًّا، كان الناس لا يَرَوْن النيازك سوى حديدٍ يسقط من السماء، أو حديدٍ يتكوَّن من تأثير الصاعقة على الصخور الأرضية؛ إذ تشمل النيازك الساقطة على الأرض من السماء نوعًا مميزًا، هو النيازك الحديدية، التي تتشكَّل من سبيكة طبيعية من الحديد والنيكل؛ ومن ثم يوفِّر سقوطها الحديد الفلزي. ويُصاحب سقوط النيازك الأضواء الخاطفة، والكرات النارية، والأصوات العالية المفزعة. ومن هذه الخيوط يستشفُّ الباحثون — بطريقةٍ غير مباشرة من قراءة إشارات الإنسان القديم لمصادر الحديد الفلزي — مدى معرفة الإنسان قديمًا بوجود النيازك. فماذا تذكر الكتابات القديمة عن مصادر الحديد؟ تكشف الدراسات الأركيولوجية عن وجود إشارات إلى المصادر السماوية للحديد، في عددٍ من الكتابات القديمة؛ فالكتابات المصرية القديمة، أطلقت على الحديد، خلال القرن الرابع عشر قبل الميلاد تسمية: «آن بار نا»، التي تعني معدن أو فلز السماء، مما يعني معرفة قدماء المصريين بسقوط النيازك الحديدية من السماء. وما يؤكد ذلك تصوُّرهم الكون على أنه عبارةٌ عن صندوقٍ كبير بيضاوي إلى مثلثي الشكل، طويل من الشمال إلى الجنوب، وقصير نسبيًّا من الشرق إلى الغرب، تشغل مصر وسطه، وتحد سلسلة من الجبال شرقه وغربه، وتمثِّل السماء غطاءه.٣ ومن الطريف أنهم تخيَّلوا السماء سقفًا من الحديد. وهذا يؤكد معرفتهم بالنيازك الحديدية التي تسقط من السماء.٤
figure
إشارة قدماء المصريين للحديد على أنه فلز سماوي.
وتوجد إشاراتٌ للنيازك في اللغة اللاتينية، التي أطلقَتْ على الحديد تسمية «سيدروس»، المشتقَّة من الكلمة «سيدوس»، التي تعني نجمًا، في إشارة إلى أصله السماوي. ومن الإشارات الدالة على المصدر السماوي للحديد، إشارة السومريين القدماء للحديد باسم «آن بار»، التي تعني في رأي بعض الباحثين «نار السماء»،٥ في إشارة صريحة للنيازك التي تسقط مصحوبة بالنيران. وكذلك كتابات الحيثيين (٢٠٠٠–١٢٠٠ق.م.)، التي أشارت، في رأي بعض الباحثين، للحديد باسم «كو آن» والتي تعني أيضًا «نار السماء»، وفي رأي البعض الآخر، باسم «آن بار»، والتي تعني فلز أو عنصر السماء. ويؤكد بعض الباحثين أن هذه الإشارة تعني الحديد السماوي تحديدًا، ولا تعني شيئًا آخر؛ إذ ورد في نفس تلك النصوص إشاراتٌ لبعض المواد التي من بينها الحديد مشفوعة بمصادرها الأرضية، كما وُجد في نصٍّ شعائري بمناسبة تشييد منزل:
«الديوريت (حجر أرضي من الصخور النارية) الذي أحضروه من الأرض. الحديد الأسود السماوي الذي أحضروه من السماء. النحاس والبرونز الذي أحضروه من «تاجاتا» في «ألاسيا»، قبرص».٦ ويرى الباحثون أن الإشارة إلى الحديد هنا تعني أنه من مصادرَ سماوية في إشارة واضحة وجلية إلى النيازك الحديدية تحديدًا. ومما يؤكد ذلك أن النص وصف الحديد النيزكي، بأنه الحديد الأسود، في إشارةٍ إلى الطبقة السوداء البراقة التي تغطي النيازك، والتي تتكوَّن من احتراق الجزء الخارجي من الجسم النيزكي أثناء مروقه في الغلاف الجوي للأرض. وقد اعتبر الباحثون وَصْف الحديد باللون الأسود، يعني أن هذا النص يفرق بين مصدرين للحديد، حديد سماوي وحديد أرضي، ورد ذكره أيضًا في نفس الكتابات مجردًا. فمثل هذه الإشارات في الكتابات القديمة للحديد على أنه معدن أو فلز سماوي، تعني معرفة القدماء بظواهر سقوط الأجسام الصلبة من السماء، خاصة الحديدية. وغني عن القول أن هذه التفسيرات مجرد اجتهادات، لا ترقى لدرجة اليقين بأي حالٍ من الأحوال؛ إذ قد يفسرها باحثون آخرون بطريقة مخالفة.
figure
رسم تخطيطي حديث يصور فكرة قدماء المصريين عن الكون.
ويرى بعض المهتمين بتاريخ تسجيلات حوادث سقوط النيازك أن الوثائق التاريخية تحوي العديد من الإشارات الدالَّة على سقوط النيازك. ويعتبر حدث سقوط نيزك على «فرجيا» (مملكة قديمة في الأناضول بآسيا الصغرى، تقابلها الآن تركيا) في حوالي عام ٢٠٠٠ق.م. أقدم حدث مسجل في تاريخ علم النيازك. ويشير عددٌ من المؤرخين إلى أن هذا النيزك حُفظ لسنواتٍ طويلةٍ في أحد المعابد حتى ينال التقدير والتبجيل، بوصفه جسمًا مقدسًا لأنه سقط من السماء. وخلال تمدُّد وسطوة نفوذ الإمبراطورية الرومانية، طلب «الملك أتالوس» King Attalus في عام ٢٠٤ق.م. نقل الحجر إلى روما في حفاوةٍ كبيرة. ووصف الحجرَ بعضُ المؤرخين الرومان على أنه مخروطيُّ الشكل له قاعدةٌ مستديرة عريضة، وينتهي إلى قمة ضيقة نسبيًّا ولونه أسود. وبقي الحجر في روما مصانًا لحوالي ٥٠٠ عام؛ حيث فُقد بعدها ولا يُعرف مصيره. ويُذكر أن الحجر ظل في معبد بمدينة «بيسينوس» الأثرية التي تقع في الجزء الآسيوي من تركيا الحالية على نهر «ساكارياط» (سانجاريوس)، حيث كان يُقدَّس باعتباره «سيبيل» Cybele، أو «أم الجبل» أو رب الأرض. وتمَّت عملية نقل الحجر من «فرجيا» إلى روما؛ بناءً على إعلان أحد الكهان أن امتلاك هذا الحجر يضمن الازدهار والرفاهية لروما.
ويذكر «تيتوس ليفيوس» Titus Livius (٥٩ق.م.–١٧م)، المعروف في اللغة الإنجليزية ﺑ «ليفي»، في تاريخه عن مدينة روما والرومان، الذي عنونه «فصول من تأسيس المدينة» وتناول فيه الأساطير والأقوال الخاصة بروما من بداية التأسيس، التي امتدت للوراء حتى عام ٧٥٣ق.م. يذكر حادثة سقوط وابل من الأحجار على «جبلِ البان»، في حوالي ٦٥٢ق.م. فأقرَّ مجلس الشيوخ آنذاك القيام باحتفالية لمدة تسعة أيام، حفاوة بهذا الحدث.
ويعد الصينيون القدماء أول من عُني بتسجيل الحوادث النيزكية في الحوليات التاريخية. وحقَّق باحثون حوالي ٣٠٠ حدث نيزكي وُجدت مسجلة في الحوليات الصينية التاريخية بدايةً من عام ٧٠٠ق.م. حتى عشرينيات القرن العشرين. ومن الأحداث النيزكية المسجلة في حولية صينية تاريخية، كتبها المفكر والفيلسوف الصيني «كونفوشيوس» (٥٥١–٤٧٩ق.م.) يطلق عليها «حولية الربيع والخريف»؛ حدث سقوط خمسة أحجار نيزكية على منطقة «سونج» في ٢٤ ديسمبر، عام ٦٤٥ق.م.٧ وسجَّل اليونانيون والرومان القدماء حوادثَ سقوط النيازك ضمن الحوادث التاريخية ذات الدلالة على تاريخ الإنسان. وحقَّقَ باحثون أن أقدم نيزك سجله قدماء اليونانيين والرومان هو حدث نيزك «إيجوسبوتامي»، الذي سقط على منطقة «ثراسيان تشيرسونسيس» (شبه جزيرة جاليبولي الحالية)، ما بين ٤٦٩–٤٦٧ق.م. وسُجِّل هذا الحدث على لوحة رخامية توجد في «المدخل ٥٧ من سجل الباريان»، كسرت إلى ثلاث قطع في عام ٢٦٤ق.م. وتسجل هذه اللوحة أهم الأحداث التاريخية؛ كالطوفان وسقوط طروادة … إلخ، بداية من عام ٣٨٠٠ق.م. حتى عام ٢٦٤ق.م. ويعد هذا الحدث من أكثر الأحداث النيزكية القديمة وضوحًا وشهرة؛ إذ ورد ذكره في العديد من الحوليات التاريخية، وشاع في الأدب اللاتيني والروماني. ويرى بعض الباحثين أن هذا الحدث أثَّر في فكر اثنين من فلاسفة الإغريق، فيما قبل عصر سقراط، هما: «أناكساجوراس» مِن «كلازومينا»، و«دياجونس»، من «أبولونيا»، عن الكون والأجسام السماوية؛ فذكر الأول أن الشمس والقمر والنجوم أجسامٌ حجرية نارية تتكوَّن من ثورات بعضها البعض، وأن الشمس والقمر والأجسام التي ترتبط بهما ولا ترى نظرًا لصغرها، تقع أسفل الشمس. أما «دياجونس» فقد تصوَّر أن الأجسام السماوية هي أجسامٌ حجريةٌ ناريةٌ (ملتهبة)، مثل الصخور التي تقذفها البراكين ملتهبة في الجو. وأهم إسهام له في مجال الأحجار السماوية قولُه إن هناك أجسامًا غير مرئية تدور في فلك الأجسام السماوية المرئية.٨ وذكر «أرسطو» (٣٨٤–٣٢٢ق.م.) هذا الحدث في كتاباته، لكنه أنكر كونه جسمًا ساقطًا من السماء، معتبره قطعة من الصخور الأرضية، دفعتها الرياح القوية عاليًا في الجو، حيث عادت وسقطت مرة ثانية على الأرض. وذكر حادثة سقوط هذا النيزك «بليني الأكبر» (كايوس بلينيوس سكوندوس Gaius Plinius Secundus، ٢٣–٧٩م)، وحدد تاريخ سقوطه، وأضاف أن الحدث وقع في وضح النهار، وأنه يشبه حمل العربة، وأنه لا يزال موجودًا في عصره، أي أنه ظل حوالي ٥٥٠ عامًا محفوظًا بعد سقوطه.٩ وورد ذكر حدث النيزك في عددٍ كبيرٍ من الكتابات اللاحقة.
وحفل بأحداث سقوط الأحجار من السماء المؤرخون والكتابُ العرب الذين سجلوها في شتى المؤلفات، ضمن الحوادث التاريخية والظواهر الطبيعية المهمة، باعتبارها حوادث لها مدلولها العلمي ولها تأثيراتها على الأرض. ويعتبر حدث سقوط نيزك السويداء بسوريا في عام ٢٤٢ﻫ/٨٥٦م، أقدمَ حدثٍ مسجل في التراث العربي؛ إذ سجَّل المؤرخون العرب سقوط نيزك حجري عبارة عن خمسة أحجار، على قرية السويداء بسوريا. وذكروا أن أحجار النيزك نُقلت للأراضي المصرية في ذلك الوقت. وفي ليلة ١٩ مايو عام ٨٦١م، سقط حجرٌ سماوي صغير يزن حوالي ٤٧٢ جرامًا، على قرية صغيرة باليابان تُدعى «يشو»، بالقرب من مدينة «نوجاتا»، مصحوبًا بالأضواء الخاطفة، وبأصوات انفجاراتٍ شديدة، وارتطم بالأرض مشكلًا حفرةً صغيرةً غار فيها. وفي الصباح تقصَّى القرويون الحدث فعثروا على الحجر الساقط، وأخرجوه من الحفرة.١٠ ويمثِّل هذا النيزك، الذي يطلق عليه «نيزك نوجاتا»، أقدمَ عينةٍ نيزكية معروف تاريخ سقوطها على الأرض حتى الآن.
وفي عام ٣٩٦ﻫ/١٠٠٥م سقط نيزك يقدَّر وزنه بحوالي ٢٦٠كجم، على منطقة «جوزجانان» [جورجان – جوزجان] التي تقع الآن ضمن حدود أفغانستان. وسجل حادثة السقوط، ووصف النيزك الساقط ابن سينا (٩٨٠–١٠٣٧م) في كتابه الطبيعيات ضمن موسوعة «الشفاء»: «المعادن والآثار العلوية».١١ وسجله كذلك عدد من المؤرخين والكتاب العرب. وتعد حادثة سقوط هذا النيزك من أكثر حوادث سقوط النيازك شيوعًا في التاريخ، حيث تناوله عددٌ من الفلاسفة والكتاب والمؤرخين. ومن الوصف الذي قدَّمَه ابن سينا للجسم الساقط في ذلك الوقت، أمكن تحديد طبيعته، وتصنيفه على أنه نيزك حديدي حجري (بالاسيت). وفشل السلطان محمود بن سبكتكين في ذلك الوقت في استغلال حديد النيزك الساقط في تشكيل سيف. وذكر البيروني أن النيزك الذي سقط في هذه الحادثة استخدم أَنْجرًا لتثبيت السفن؛ نظرًا لأن حديده لم يكن جيدًا.
وعلى نفس المنوال في تسجيل حوادث سقوط الأحجار من السماء، قام مؤرخ صيني يدعى «مو توان لين» Mu Tuan Lin (١٢٤٥–١٣٢٥م)، بجمع التقارير الخاصة بحوادث سقوط الأجسام الصلبة من السماء (النيازك)، خلال قرنين من الزمن ضمن سفرٍ ضخم، يُعرف باسم «موسوعة الصين العظيمة» Great Chinese Encyclopedia.١٢ ويورد «ألكساندر فون هومبولدت»،١٣ عن تسجيلات تاريخية حدثًا فريدًا ومهمًّا في موضوع تسجيلات سقوط النيازك، حيث سقط نيزك كبير على هيئة وابل من الأحجار، في عام ١٥١١م، على سهلِ «لومباردي» بالقرب من ميلان إيطاليا. وتذكر الروايات المسجلة عن هذا الحدث، أن الدنيا أظلمت في ظهيرة يوم ٤ سبتمبر ١٥١١م؛ إذ ظهر في السماء فوق مدينة «كريما» شيءٌ هائلٌ مثل الطاووس العملاق، ثم تحوَّل الطاووس العملاق إلى شيء مثل الهرم، الذي عبر السماء من الغرب إلى الشرق في سرعةٍ كبيرة، لم تستغرق بضع دقائق. واختلط خلال تلك الفترة العصيبة دوي الرعود المفزعة مع ومضات البرق التي تخطف الأبصار، والتي كانت تسمع وترى في ربع السماء. وظهرت أضواءٌ شديدة أضاءت المنطقة، حتى إن السكان في «بيرجامو» كان بإمكانهم رؤية كل سهل «كريما» بوضوح تامٍّ في تلك الأثناء. وتذكر المدونات التاريخية: وقد يسأل المرء: ما الذي حدث بعد هذه الفوضى العارمة المخيفة في الطبيعة؟ الذي حدث أن سهل «كريما» الذي لم يكن بإمكانك من قبل أن ترى عليه حجرًا في حجم بيضة صغيرة، قد غطت سطحه قطعٌ من أحجارٍ كثيفةٍ مختلفة الأحجام، قيل إن عشرةً منها تزيد أوزانها عن مائة رطل. وقَتلَت الأحجارُ الساقطة في طريقها الطيورَ والخرافَ وحتى بعض الأسماك. وبعد كل ذلك، كان بإمكان المرء أن يرى السحابة السوداء التي سقطت منها الأحجار، باقية في السماء بنفس كثافتها. وتلقَّى «أنجيرا» Anghiera بنفسه في إسبانيا، قطعة في حجم قبضة اليد، من تلك الأحجار، وأراها للملك «فيردناند الكاثوليكي» Ferdinand the Catholic، في حضور المحارب المعروف «جونزولو دي قرطبة» Gonzolo de Cordova. وجاء في نهاية خطابه: «… أمدتنا إيطاليا بالأعاجيب والمعجزات، بالفيزياء وعلم اللاهوت، وبالذي يتنبَّئون به، وكيف يأتون ليمضوا، سوف تتعلم الكثير ريثما جئت إلينا، مكتوب من «بيرجوستو» إلى «فاجيادوس».»
ويذكر «ت. ل. فيبسون»١٤ نفس الحدث، ويورد أن حادثة السقوط تلك ذكرها «سارينس كارثيسيان» راهب «كولوجن»، في مذكراته، وذكرها أيضًا «كاردان» في مدونته المعروفة ﺑ «دي روم فاريتات». ويضيف أن أحجار النيزك سقطت على موضعٍ يُعرف ﺑ: «كريما» على شاطئ نهر «أيدا» قريبًا من مدينة «ميلان»، في الساعة الخامسة مساء يوم ٤ سبتمبر عام ١٥١١م. وبلغ وزن أكبر الأحجار الساقطة حوالي ١٢٠ رطلًا. وكانت تلك الأحجار شديدة الصلابة، وكانت تنبعث منها وقت سقوطها رائحةٌ كبريتية. ويُذكر أن «بيتروس بارتير» أورد الحدث في مؤلفه الذي يحمل عنوان «أوبيس إبيستولاروم»، وذكر أن عددًا كبيرًا من الأحجار قدر بحوالي ١١٢٠ حجرًا، بعضها يزن عدة أرطال، سقط على المنطقة في ذلك الحدث. وقد ضرب أحدها في طريقه أحد الرهبان، فلقي حتفه في الحال. وأصابت الأحجار الساقطة الطيور، والخراف المنتشرة في المنطقة، وقتلَتْ حتى بعض الأسماك في النهر. ولوحظ أن السهل الذي كان خاليًا من الأحجار قبل الحدث، قد امتلأ بالأحجار الساقطة من النيزك. وكانت الأحجار الساقطة ثقيلة وذات لون حديدي رمادي، تنبعث منها رائحة كبريتية. وصاحَبَ عملية سقوط الجسم ظهور كرة نارية هائلة، وسحابة سوداء كثيفة، ودوي انفجار عنيف. ويُعْتبر هذا الحدث من الأحداث المهمة في تاريخ دراسة النيازك. ويُشبه حدث سقوط وابل نيزك «سيكوتالين» Sikhote-Alin الذي سقط في ١٢ فبراير ١٩٤٧م، ووابل نيزك «أليند» الذي سقط في ٨ فبراير سنة ١٩٦٩م.
وفي سنة ٦٧٩ﻫ/١٢٨٠م، سجَّل بعض المؤرخين العرب حادثة سقوط نيزك حديدي، على الجبل الأحمر شرق القاهرة، ووصف الحدث على أنه صاعقةٌ أحرقت الحجر الأرضي الذي أصابته، وكونت نتيجة لذلك قطعة من الحديد. وفي ظهيرة السابع من نوفمبر عام ١٤٩٢م، سقط نيزك حجري كبير يزن حوالي ٢٨٠ رطلًا مصحوبًا بأصوات انفجارات شديدة رجَّت المنطقة، وأصابت السكان بالفزع، على حقل مزروع بالقمح في قرية صغيرة تدعى «إنيشيم» Ensiheim، من إقليم «ألساس»، التي تقع الآن في نطاق الأراضي الفرنسية، والتي كانت في ذلك الوقت تخضع لألمانيا. ولا يزال هذا النيزك محفوظًا حتى الآن، وهو ثاني أقدم نيزك معروفٍ في تاريخ سقوط النيازك. وفي أبريل عام ١٦٢١م سقط على منطقة «جولاندهار» بإقليم البنجاب، التي تقع في حدود الهند الآن، نيزك حديدي يزن حوالي ١٥٠ «تولاس»، مصحوبًا بالأضواء الشديدة، والأصوات العالية، وأحدث فزعًا بين سكان القرية. ووصف الحدث الإمبراطور «جهانكير» الذي حكم في الفترة من ١٦٠٥ إلى ١٦٢٧م، الذي وقع الحدث في نطاق مملكته. وكان هذا الإمبراطور يتمتَّع بحسٍّ علمي مرهف؛ إذ أبدى اهتمامًا ملحوظًا بالظواهر الطبيعية، حيث سجل كسوفَيْنِ حدثَا للشمس في عصره.
وفي ١٣ ديسمبر عام ١٧٩٥م سقط على منطقة «والد كوتج»، بالمملكة المتحدة،١٥ نيزك حجري كبير. ووقع الحدث في نهار يوم خالٍ من الغيوم، وشاهده عددٌ كبيرٌ من الناس؛ ومن ثم لم يساور الناس شكٌّ في كونه شيئًا آتيًا من الفضاء؛ حيث لا توجد غيوم في السماء، يمكن أن ينسب إلى اصطكاكها تكوُّن الجسم الساقط، كما كان شائعًا في ذلك الوقت. ولقي الحدث اهتمامًا شعبيًّا كبيرًا؛ إذ أقيم في عام ١٧٩٩م نصبٌ تذكاري يسجل الحدث في الموضع الذي سقط عليه النيزك، ويذكر التوقيت الذي سقط فيه ووزنه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤