شمروخ … الديناصور

قال المفتش «سامي» وهو يضع ساقًا على ساق: بحكم سِنِّي وخبرتي الطويلة في عمل الشرطة … أستطيع أن أقول لكم إن الماضي كثيرًا ما يُبعث من مرقده، وإن كثيرًا من الأحداث والشخصيات التي تُقابلنا في صدر حياتنا، تعود للظهور مرةً أخرى عندما نكبر … وفي الوقت الذي نظن أن شخصًا ما قابلناه في مكانٍ بعيد … وانتهى أمره بالنسبة لنا … هذا الشخص قد يعود ليلعب دورًا آخر في حياتنا … وكذلك أحداث الحياة.

ورشف المفتش الوسيم رشفةً من فنجان القهوة، ونظر إلى المغامرين الخمسة الذين كانوا يستمعون إليه باهتمامٍ وشغَفٍ وقال: ولعلكم أنتم برغم صغر أعماركم قد حَدَثَ لكم شيءٌ من هذا القبيل.

ردَّ «محب»: نعم … فقد حدث مثلًا في لغز «العنكبوت الذهبي» أن ظهر «كلب البحر» … وهو زعيم عصابة كنا قد قابلناه في مغامرةٍ سابقة … ظهر بعد أن نسيناه، وتقابلنا معه مرةً أخرى.

عاد المفتش يقول: وهذا ما يحدث لي الآن … فعندما كنتُ ضابطًا حديثَ التخرُّج من كلية الشرطة … عُيِّنت في قرية «دُرُنْكة» إحدى قرى الصعيد … وهي قرية ظهَر فيها أشهَر قاتل في تاريخ مجرمي هذه المنطقة … وأعني به «الخُط». وابتسم المفتش وهو يقول: كانت تجرِبةً قاسيةً بالنسبة لي … وفي ذلك الزمن البعيد لم تكن الكهرباء قد دخلت القرى … فعندما كانت الشمس تغرب … كان الظلام يهبط كثيفًا حتى لتظن أنكَ تعوم فيه … ويسود الصمت القرى الصغيرة النائمة في حضن الجبل، ولا تسمع سوى نُباح الكلاب البعيد، أو نقيق الضفادع، وصرير صراصير الحقل … ولا شيء آخر، فليس هناك مكان يمكن أن تذهب إليه.

وعاد المفتش «سامي» يرشف من فنجان القهوة في حديقة منزل «عاطف»، ثم قال: وفي موسم القصب حيث ترتفع أعواده وتتكاثف، يأتي موسم الجريمة … حيث تنطلق الرصاصات في الظلام … ثم يختفي الفاعل في الحقول الواسعة … أو يلجأ إلى الجبل الشرقي الكبير … حيث لا يستطيع أحد مطاردته.

قالت «لوزة»: وهل الجبل متسع إلى هذا الحد؟

ردَّ المفتش: نعم … إنه سلسلة من الجبال تمتد من الصعيد حتى «حلوان»، بل «المعادي» أيضًا … وعريضة لأنها تترامى من ضفة النيل الشرقية حتى البحر الأحمر … وهي جبال موحشة، حافلة بالكهوف المظلمة … ولا أحد يعرف أسرارها إلا «المطاريد» …

ظهرت الدهشة على وجوه الأصدقاء، وتحدَّث «تختخ» لأول مرة فقال: ماذا تعني ﺑ «المطاريد» يا حضرة المفتش؟

ردَّ المفتش «سامي» قائلًا: هذه الكلمة تُطلق على كل من يرتكب جريمة ولا تناله يد العدالة. إنه يُصبح طريد المجتمع، وطريد الشرطة، وطريد القانون؛ لهذا يُطلق عليهم اسم «المطاريد» … وهؤلاء يعيشون في الجبل، وعندما يهبط الظلام يهبطون إلى القرى الآمنة، فيسرقون وينهبون … ثم يفرُّون إلى الجبل …

محب: إنها صورة مخيفة.

ابتسم المفتش وقال: كانت كذلك منذ عشرين عامًا أو تزيد، أمَّا الآن فقد قلَّ عدد «المطاريد» كثيرًا، بعد أن تطوَّر العمل في الشرطة، وأصبح الجنود والضبَّاط على درجةٍ كبيرة من المهارة، وزُوِّدوا بأحدث الأسلحة والسيارات … ولكن هذا لا يمنع من وجود بعض «المطاريد»، ومنهم هذا الرجل الذي أُطارده الآن.

ابتسمت «لوزة» وقالت: أنتَ إذن مشغول بمطاردة مثيرة؟

المفتش: إنها مطاردة بين غريمَين قديمَين … وكما قلتُ لكم الآن … هناك بعض الأشخاص ممَّن تظن أنكَ لن تُقابلهم أبدًا … وإذا بالأيام تدور وتجد نفسك معهم وجهًا لوجه … وهذا الرجل يصدق عليه هذا الرأي.

قال «عاطف»: ومرَّت الأيام وتقابلتما؟

المفتش: نعم … فعندما كنتُ ضابطًا صغيرًا في «دُرُنْكة» منذ خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، ظهر هذا الرجل ليرتكب عدة جرائم متتالية … وفي شهور قليلة أصبح أشهر مجرم في تلك المنطقة … وكان من نصيبي أن أُطارده.

وسكت المفتش لحظات، كان يتذكَّر ذلك الماضي البعيد، ثم قال: كانت عصابة تزيد على عشرين من «المطاريد» … ولم يكن عندي سوى خمسة جنود، وبضعة خُفراء، وبينما كان الرجل واسمه «شمروخ» يستخدم هو ورجاله أحدث أنواع البنادق السريعة الطلقات، كنا نستخدم بنادق قديمةً من طراز «لي أنفيلد». وهكذا كان عليَّ أن أعتمد على الدهاء والمكر أكثر ممَّا أعتمد على القوة والسلاح … وسكت المفتش وازداد اقتراب المغامرين منه … كانوا يخشَون أن تُفلت منهم كلمةٌ واحدةٌ ممَّا يقول المفتش … حتى «زنجر» زحف وأصبح تحت المائدة تمامًا … ومضى المفتش يقول: ومن الصعب أن أسرد عليكم تفاصيل تلك المطاردة المثيرة بيننا …

وقاطعته «لوزة» صائحة: أرجوكَ يا سيادة المفتش أن تروي لنا كل شيء … نظر المفتش إلى ساعته، ثم قال: لن يتسع وقتي لهذا … فإنني مرتبط بموعدٍ بعد دقائق، المهم أن المغامرة انتهتْ بالقبض على «شمروخ»، وعندما رأيته أدركتُ لماذا كان يخاف منه الناس … فقد كان رجلًا طويل القامة … مفتول العضلات … كثيف الشعر … عيونه كعيون النسر … رجل مهول حقًّا … وعملاق كما نتصوَّر العملاق … وعجبتُ حقًّا كيف وقع هذا الرجل في يدي؟! ولكن ذلك كان نتاج خطة محكمة وتدبير طويل …

نوسة: وماذا حدث بعد ذلك؟

المفتش: قُدِّم «شمروخ» للمحاكمة … وحُكم عليه بالسجن عشرين عامًا … ومنذ فترة أُفرج عنه، وبدلًا من أن ينسى ماضيه السيئ … ويبدأ من جديد … عاد إلى حياة الإجرام، وكوَّن فريقًا جديدًا من «المطاريد» … وقد استطاع رجال الشرطة أن يوقعوا العصابة بضع مرات … ولكنه استطاع دائمًا الفرار في الوقت المناسب.

وسكت المفتش لحظات، ثم عاد يقول: ومنذ يومَين وصلتْ إلينا أنباء أن «شمروخ» بعد أن ضيَّق رجال الشرطة عليه الحصار في الصعيد قد اتجه شمالًا … أي جاء إلى هذه الأنحاء.

لوزة: في «المعادي»؟

المفتش: لا … إن أمثال «شمروخ» لا يستطيعون الحياة إلا في الجبل … إنه إذا ظهر في مثل هذه المنطقة انكشف على الفور.

قالت «لوزة» وقد بدت عليها خيبة الأمل: إذن فلن نشترك في هذه المغامرة!

ضحك المفتش وهو يقول: أي مغامرة يا عزيزتي «لوزة»؟ … إن هذا العملاق لا تصلح معه الاستنتاجات والأدلة … إنه وحش كاسر لا يعرف الرحمة … خاصةً وهو يعرف أنه إذا قُبض عليه مرةً أخرى قد لا يخرج من السجن بعد ذلك. إن حريته الآن هي حياته.

محب: ولكنا سنراك ونسمع أخبار «شمروخ» أولًا بأول؟!

وقف المفتشُ وهو يقول: بالطبع … إنني أتردَّد يوميًّا على «المعادي» و«حلوان» لأنني أضع خطةً للإيقاع ﺑ «شمروخ» مرةً أخرى.

تختخ: وهكذا يتكرَّر ما حَدَثَ منذ عشرين عامًا.

المفتش: نعم … وكما قلتُ لكم في بداية الحديث … هناك بعض الأشخاص والأحداث التي لا تتوقَّع أن تتكرَّر في حياتك، ولكنها تظهر من جديد.

نوسة: بهذه المناسبة يا سيادة المفتش … لماذا لا تُحضر «نشوى» ابنتك لتُقيم معنا بضعة أيام … ما دمت ستتردَّد على المنطقة كل يوم؟ … إننا لم نرَها منذ فترةٍ طويلة، وسيُسعدنا جدًّا أن تأتي للإقامة معنا بعض الوقت …

فكَّر المفتش لحظات، ثم قال: لا بأس … إنها فكرة طيبة وأشكركم، وأظن أن «نشوى» ستسعد كثيرًا.

واتجه المفتش «سامي» … إلى باب الحديقة، في نفس الوقت الذي ظهر فيه الشاويش «علي» قادمًا يحمل ورقة … ورفع الشاويش يده بالتحية، ودقَّ كعبيه، ثم قال: إشارة عاجلة يا سيادة المفتش.

أمسك المفتش بالورقة، وأخذ يلتهم سطورها بعينَيه سريعًا، ثم ابتسم ابتسامةً واسعة … فقالت «لوزة»: هل سقط العملاق؟

ردَّ المفتش: ليس تمامًا … ولكن واحدًا من أهم أعوانه قد وقع منذ نصف ساعة في أيدينا، ولعلنا عن طريقه نستطيع الاهتداء إلى مخبأ «شمروخ» في الجبل.

وأسرع المفتش إلى سيارته التي كانت تقف بالباب، وقفز الشاويش «علي» بجواره وهو ينظر إلى المغامرين باستعلاء، ثم انطلقت السيارة مخلِّفةً وراءها دخَانًا خفيفًا.

وعاد المغامرون الخمسة إلى مقاعدهم في الحديقة …

وقال «عاطف» ضاحكًا: إن «شمروخ» هذا كأنه حيوان من حيوانات ما قبل التاريخ … كأنه «ديناصور».

قال «تختخ»: المشكلة أنه موجود … وأنه لم يقع بعد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤