حديثٌ على انفراد

في صباح اليوم التالي وصلت سيارة المفتش … ونزلت «نشوى» تحمل حقيبتها عند باب الحديقة، ولكن المفتش لم يدخل، واكتفى بتحية الأصدقاء من بعيد … ثم ابتعدت السيارة.

أسرع الأصدقاء يُرحِّبون ﺑ «نشوى» … كانوا يُحبُّونها كما يُحبُّون والدها المفتش، كانت ذكيةً مثله … وظريفةً مثله … وعندما جلست سألتها «نوسة»: لماذا لم يدخل المفتش؟

ردَّت «نشوى»: لا أدري؛ فهو قليلًا ما يُحدِّثنا في المنزل عن عمله، ولكني فهمتُ من بعض الأحاديث بينه وبين رجاله أن رجلًا يُطارده قد ابتعد تمامًا عن منطقة «حلوان» و«المعادي».

نوسة: نعم سمعنا أمس من والدكِ عنه، إنه رجل يُدعى «شمروخ»، وهو عملاق ضخم، كان قد قبض عليه والدكِ منذ سنوات بعيدة، وقد عاد للظهور مرةً أخرى.

نشوى: إن حياة رجال الشرطة حياة شاقة، وكثيرًا ما نشعر بالقلق عندما يتغيَّب والدي فترةً طويلة … أو يخرج لمطاردة مجرمٍ خطير.

رأى «عاطف» أن يُغيِّر مجرى الحديث فقال: لقد أعددنا لكِ برنامجًا حافلًا؛ فسنقضي يومًا في النيل للنزهة … وسندخل السينما … وسنُقيم حفلًا صغيرًا ندعو إليه بعض أصدقائنا وسيسرُّهم التعرُّف عليك.

نشوى: شكرًا لكم … إنه شعور جميل أن تستقبلوني بكل هذه الحفاوة.

محب: نحن الذين نشكرك لحضورك.

نشوى: بالمناسبة أجدكم تجلسون هادئين، وليست هذه عادتكم، أليس هناك لغز تشتركون في حلِّه؟

اندفعت «لوزة» تقول: أبدًا … تصوَّري أن نجلس هكذا لا نفعل شيئًا … سوى أن نلعب «الشطرنج»، ونقرأ بعض الكتب … وبالمناسبة لعلَّ حضورك يأتينا بلغزٍ نعمل فيه معًا … إنني لا أُحب البقاء جالسةً طول الوقت.

عاطف: يمكنكِ أن تقفي.

ضحكت «نشوى» على هذا التعليق الظريف، ولكن بقية الأصدقاء لم يضحكوا، فقال «عاطف»: الحمد لله … أصبح عندي مشجِّع.

وانهمكَ الجميع في الكلام … وتمَّ الاتفاق على أن يقضوا المساء في إحدى دور السينما الصيفية … وأصرَّ «تختخ» أن يكون الغداء في منزلهم … ولكن «محب» قدَّم اقتراحًا … أن يقوم كل واحدٍ منهم بإحضار نوعٍ من الطعام، وأن يتناولوا الغداء جميعًا في حديقة منزل «عاطف»، ووافق الجميع على هذا الاقتراح.

وقرب الساعة الواحدة ظهرًا … انصرف «تختخ» إلى منزله يتبعه «زنجر»، وانصرف «محب» و«نوسة» معًا … على أن يعود الثلاثة إلى حديقة منزل «عاطف» بعد ساعة وقد أحضروا الطعام حسب الاتفاق.

كان «تختخ» يركب درَّاجته، و«زنجر» يسير خلفه … وكان يسير بهدوءٍ في ظل الأشجار بقدر الإمكان … فقد كان الجو حارًّا … وبحاسته السادسة كمغامرٍ أحسَّ أن شخصًا ما يتبعه، وحاول أن يُبعد عن نفسه هذا الخاطر … فهم ليسوا مشتركين في مغامرة … والوقت ظهرًا، وليس وقت مغامرات ولا متابعات … ولكن إحساسه بالمراقبة كان مُلِحًّا … وقرَّر أن يُجري تجرِبة بسيطة لا تُثير انتباه من يتبعه … ظلَّ يسير باحثًا عن قطعة من الطوب أو مطب يقع فيه … فقد قرَّر أن يُمثِّل دور من اصطدمتْ درَّاجته واضطُر للنزول للكشف عنها؛ حتى لا يلتفت إلى الخلف ويكشف إحساسه بالمراقبة لمن يتبعه … وبعد بضعة أمتار وجد مطبًّا صغيرًا يكفي لتمثيل الدور … فترك العجلة الأمامية تنزل فيه، وتظاهر بأنه فقد توازنه … وترك الدرَّاجة تقع على الجانب وهو معها مُقدِّرًا ألَّا يُصاب بخدش … وألَّا تصاب الدراجة بعطل، وقد نجح تمامًا في تمثيل الدور … وعندما وقع على الأرض … استطاع فورًا أن يلتفت خلفه ويرى شخصًا يركب درَّاجة يسير على الجانب الآخر من الشارع وهو يلبس نظارة شمس سوداء … وقد تجاوزه الرجل بسرعة وهو ينظر إلى ناحية أخرى كأنه لا يرى «تختخ». ولاحظ «تختخ» ظَهْرَ الرجل … كان يلبس قميصًا أزرق وبنطلونًا رمادي اللون، وشعره الطويل ينسدل على قفاه … ولاحظ «تختخ» أن الدرَّاجة مزيَّنة بالورق الأحمر والأخضر، ورجَّح أنها مستأجرة من أحد محلَّات الدرَّاجات التي تحرص على تزيين درَّاجاتها بالورق الملوَّن.

أسرع «تختخ» يقفز إلى درَّاجته ويتبع الرجل الذي ما كاد يبتعد عن «تختخ» حتى أطلق للدراجة العِنان … وبعد لحظات انحرف إلى أحد الشوارع الجانبية … ولم يكد «تختخ» يصل إلى الشارع وينحرف فيه حتى وجد الرجل قد تلاشى تمامًا.

توقَّف «تختخ» قليلًا يُفكِّر فيما حدث … هل كان الرجل يتبعه حقًّا … أو أنه مجرَّد وهم؟ لم يكن يستطيع أن يتأكَّد … وكل ما استطاع أن يفعله أن ينقش صورة الرجل في ذهنه … فلو شاهده مرةً أخرى يتبعه … فسيكون من المؤكَّد أن ثمَّة شيء يجري في الخفاء ولا يعرفه.

اتجه «تختخ» إلى منزله … كانت والدته قد أعدَّت غداءً من اللحم المحمَّر والمحشي والسلطة الخضراء … وارتاح «تختخ» إلى هذا النوع من الطعام … فليس به سوائل يصعب نقلها بدرَّاجته.

وطلب «تختخ» من والدته إعداد طعام يكفي شخصَين … وشرح لها زيارة «نشوى» ومشروع الغداء المشترك … ورحَّبَت الوالدة كثيرًا، وسرعان ما أعدَّت له كميةً من المحشي واللحم المحمَّر والسلطة والفاكهة … وحملها «تختخ» جميعًا في سلةٍ خلفه، وانطلق و«زنجر» يتبعه وقد شدته رائحةُ اللحم المحمَّر … وكان قبل أن يُغادر المنزل قد فكَّر قليلًا، ثم صعد إلى غرفته وعاد بمرآة ركَّبها في الدرَّاجة.

أخذ «تختخ» يُراقب الطريق طول الوقت دون أن يلمح أثرًا للرجل ذي النظَّارة السوداء … وكان يُفكِّر في نفس الوقت … هل يقول للأصدقاء ما حدث؟ هل يروي لهم قصة الرجل؟ لقد كان يخشى اندفاع «لوزة» التي ستتصوَّر فورًا أن هناك لغزًا … وأنهم يجب أن يبحثوا عن الرجل … وكان يخشى أن يُفسد على «نشوى» … زيارتها عندما يُضطرون لتغيير برنامج الزيارة وتحويله إلى برنامج للاشتراك في مغامرة.

وعندما وصل «تختخ» إلى باب حديقة منزل «عاطف» كان رأيه قد استقرَّ على أن يُخفي كلَّ شيء عن الأصدقاء، إلا إذا تكرَّر ظهور الرجل … وبعد وصوله بقليل وصلت «نوسة» و«محب»، وكانا يحملان كميةً من السمك المشوي والأرز بالطماطم، وهو نوع من الأرز شائع بين سُكَّان الشواطئ … ووالدة «نوسة» و«محب» أصلًا من الإسكندرية. وقام «عاطف» بالإشراف على تنظيم المائدة، وتناول الجميع غداءً شهيًّا مرحًا بين فكاهات «عاطف» … خاصةً الموجَّهة إلى «تختخ» الذي انهمك في الطعام كعادته دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة … كان يُحب السمك المشوي والأرز … فجلس بجوار طبق السمك … وأخذت الأسماك تنتقل إلى يدَيه … فينتهي من كل سمكة في بضع دقائق، حتى قال «عاطف»: أقترح أن تفتح محلًّا لتنظيف السمك …

قال «محب»: وأكله!

عاطف: سيكون أول محلٍّ في العالم يفتتحه شخص ليأكل ما فيه.

وضحك الجميع، واضطُر «تختخ» للابتسام … ولكن ابتسامته لم تمنعه من الاستمرار في التهام الأسماك الشهية.

وعندما انتهى الجميع من طعامهم، ظلَّ «تختخ» مستمرًّا في الأكل، فقال «محب»: في هذه الحالة أنت مسئول عن تنظيف المائدة!

ووجد «تختخ» نفسه في مأزق … فتحدَّث لأول مرة قائلًا: ليس عندي مانع من تنظيف المائدة بشرطٍ واحد.

محب: وما هو هذا الشرط، والوقت ظهرًا؟

ابتسم «تختخ» وقال: أُريد مزيدًا من السمك …

وانفجر الجميع ضاحكين، وقالت «نوسة»: إنني على استعدادٍ للذهاب إلى المنزل والعودة بمزيدٍ من السمك.

قال «تختخ»: أشكرك يا «نوسة»، لقد تناولتُ أشهى غداءٍ في حياتي!

عاطف: هكذا أنت … دائمًا تقول عن كل أكلة إنها أشهى أكلة في حياتك!

وانتهى «تختخ» من طعامه … وأصرتْ «نوسة» و«لوزة» و«نشوى» على الاشتراك معه في تنظيف المائدة، وفجأةً سمعوا جميعًا صوت «زنجر» يَعْوي بصوتٍ حزين، فصاح «محب»: يا لنا من قُساة! … كيف نسينا «زنجر»؟!

وأسرع الجميع يختارون ما بقي من لحم وسمك يضعونه أمام الكلب الأسود … الذي نظر إليهم في عتاب، فقال «تختخ» وهو يربت عليه: آسف جدًّا يا «زنجر» … لقد أخطأنا … ولكن آخر مرة.

وقَبِل «زنجر» الاعتذار وأخذ يتناول طعامه … ثم غسلوا جميعًا أيديهم وجلسوا يتناولون الفاكهة «بطيخ مثلَّج» من «لوزة» و«عاطف»، وعنب من «تختخ»، وتين من «نوسة» و«محب».

وقالت «نشوى»: بصراحة … هذه أجمل أكلة تناولتها.

قاطعها «عاطف»: في حياتك؟!

قالت «نشوى» ضاحكة: على ما أذكر.

وعندما انتهوا جميعًا من تناول الفاكهة، لاحظ «تختخ» أن «محب» يُشير له، إنه يُريد أن يتحدَّث إليه على انفراد … فقام «تختخ» يتمشَّى في الحديقة وتبعه «محب»، فلما ابتعدا عن بقية الأصدقاء قال «محب»: إنني أشك أن شخصًا كان يتبعني أنا و«نوسة».

سكت «تختخ» لحظات، ثم قال: يركب درَّاجة؟ …

محب: بالضبط!

فكَّر «تختخ» لحظات، ثم قال: لقد حدث لي هذا أيضًا، وظننتُ أنني واهم، وأخفيتُ الأمر عنكم حتى لا أُفسد زيارة «نشوى».

محب: هكذا فكرتُ أنا أيضًا … ولكن ما العمل الآن؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤