عودة الولد المتشرِّد

ظلَّ «تختخ» يُفكِّر لحظات، ثم قال: هل تتصوَّر أن هذه الرقابة لها علاقة بوجود «نشوى» عندنا؟

ضاقت عينا «محب» عند سماعه هذه الجملة وقال: هل تعني أنها رقابة من رجال الشرطة لحماية «نشوى» …

«تختخ»: لا طبعًا …

فلو كان الأمر كذلك لاكتفوا بمراقبة «نشوى» نفسها … ولكن أقصد أن ثمَّة من يُراقب خطواتنا بسببٍ يتعلَّق ﺑ «نشوى» … فنحن الآن لسنا مشتركين في مغامرة من أي نوع، فما السبب في وجود هذه المراقبة؟ …

محب: الحقيقة ليس هناك سوى ما قلتَه أنتَ الآن … أن تكون المسألة متعلِّقةً ﺑ «نشوى».

وسمعتا في هذه اللحظة «عاطف» يصيح بهما من بعيد: ما هي الحكاية؟ هل تُدبِّران مؤامرةً وحدكما؟

ردَّ «محب» بصوتٍ مرتفع: إننا نُفكِّر في تعديل البرنامج.

نهض «عاطف» والفتيات الثلاث وساروا جميعًا إلى «محب» و«تختخ»، فقال «تختخ» هامسًا: لا تُشِر إلى حديثنا الآن …

قال «عاطف»: ما هو تعديل البرنامج؟ … هل سنذهب إلى المريخ بدلًا من الذهاب إلى السينما؟!

قال «تختخ»: لا سينما هذا المساء يا «عاطف» … لقد رأينا أن ننتظر للغد؛ فسوف تُغيِّر السينما البرنامج … وهناك فيلمان رائعان في برنامج الغد.

عاطف: ولماذا لا ندخل الليلة، وندخل غدًا؟

تختخ: من غير المعقول أن ندخل السينما يومَين متتاليَين، وسوف نقضي المساء في دوري «الشطرنج» … ولأن «نشوى» لاعبة ماهرة، فسوف تُكوِّن هي و«نوسة» فريقًا، وأنت و«محب» فريقًا، وستقوم «لوزة» بدور الحكم …

عاطف: وأنت … هل ستكون المتفرِّج الوحيد؟

تختخ: لا … إن عندي بعض أعمال في المنزل لا بد من قضائها، وسوف أمر عليكم بعد ذلك، أو أتصل تليفونيًّا.

لوى «عاطف» بوزه في غير رضًا، ولكن «محب» سارع إلى تأييد رأي «تختخ» … وسرعان ما انهمك الجميع في مناقشة شروط دوري «الشطرنج». فلمَّا قاربت الساعة الرابعة، استأذن «تختخ» الجميع في الانصراف، على أن يعود إليهم بعد ذلك.

خرج «تختخ» وفي ذهنه أن يقوم بعملية مزدوجة … أولًا أن يكون موضع مراقبةٍ على أن يلتزم جانب الحذر الشديد حتى لا يكتشف من يراقبه أنه يعرف، وثانيًا أن يتنكَّر ويقوم هو بالمراقبة والمتابعة.

ركب درَّاجته وانطلق متكاسلًا في الطريق … ليُتيح لمن يتبعه فرصة مراقبته دون متاعب، وكان «زنجر» يجري خلفه، وأدار «تختخ» مرآة الدرَّاجة التي ركبها في الصباح بحيث يرى كلَّ ما يدور في الشارع خلفه … ولكنه لم يرَ الدراجة، ولم تكن هناك سوى بعض السيارات … وبعض المارة … ولم يكن في الطريق درَّاجة واحدة سوى درَّاجته.

ظلَّ يسير … وينظر خلفه … ورأى سيارةً خُيِّل إليه أنها تسير بسرعةٍ غير عادية … تسير ببطء مقصود … وبدأ يُراقبها خلال المرآة … ولكن بعد أن اجتاز شارعًا اختفت السيارة … وظهرت سيارة كادت تصطدم بها، وثار نقاش بين السيارتَين، ولم يُضيِّع «تختخ» وقتًا في مشاهدة المناقشة، وانطلق وقد تأكَّد أنه ليس مراقبًا هذه المرة.

وصل إلى منزله، فخلع ثيابه واغتسل، ثم أوى إلى فراشه … فقد كانت خطته تحتاج إلى سهر طويل … وعندما استيقظ في المساء تحدَّث إلى الأصدقاء تليفونيًّا واطمأن على سير دوري «الشطرنج»، ثم دخل غرفة العمليات حيث يحتفظ بأدوات التنكُّر، وعشرات من الأشياء الصغيرة التي يحتاج إليها المغامرون الخمسة في حلِّ الألغاز … وعندما سمع باب الفيلا الرئيسي يُغلق، عرف أن والدَيه قد خرجا للسهرة كما أخبراه … وسرعان ما خلع ثيابه، وأخذ يلبس مجموعةً متناثرةً من الملابس … بنطلون قديم أقصر من طوله … قميص طويل ممزَّق في أكثر من موضع … وضع باروكة الشعر الشقراء المنفوشة … ولطَّخ وجهه ببعض الأصباغ … ثم اختار من حاجياته القديمة الكثيرة صندوقًا صغيرًا به أدوات مسح الأحذية …

انتظر «تختخ» ساعةً أخرى، ثم اتصل بالأصدقاء واعتذر لهم عن عدم إمكانه الذهاب إليهم … ثم انطلق من الباب الخلفي للحديقة، بعد أن ترك نافذة غرفته التي تفتح على الشجرة مفتوحًا؛ ليتمكَّن من العودة دون أن يُحِس به أحد. حاول «زنجر» أن يسير خلفه، ولكن «تختخ» خشي أن يكشف الكلب عن حقيقته، فطلب من «زنجر» البقاء مكانه … فانسحب وهو يعوي في حزنٍ شديد …

اجتاز «تختخ» الشارع … وسار مبتعدًا عن المنزل، حتى إذا أصبح في شارع موازٍ لكورنيش النيل اجتاز شارعًا جانبيًّا، ثم أسرع الخطو إلى محل تأجير الدرَّاجات الكبير خلف محطة البنزين … كان يعرف أن المحل في سبيله إلى أن يُغلق أبوابه في هذه الساعة … ولكنه أراد أن يُلقي نظرةً على الدرَّاجات هناك ليتأكَّد من وجهة نظره … ولكن للأسف عندما وصل إلى المحل كان العمَّال يُغلقون آخر أبوابه …

مشى «تختخ» على الكورنيش قليلًا، ثم عاد مرةً أخرى إلى قلب «المعادي»، وسار حتى اقترب من حديقة منزل «عاطف» … وسمع أصوات الأصدقاء وهم يتبادلون تحية المساء، وصوت «عاطف» وهو يُعلن تحدِّيه غدًا لفريق «نشوى» و«نوسة»، وفهم أنه قد هُزم مع «محب» في دوري «الشطرنج».

خرج «محب» و«نوسة» من منزل «عاطف» و«لوزة»، وسارا في الشارع الرئيسي فترة، وكان «تختخ» يتبعهم من بعيد … وعلى الفور استطاع أن يُدرك أن هناك من يتبعهما … وأحسَّ «تختخ» بالخطر … إن المسألة أصبحت الآن حقيقة … فالمغامرون الخمسة مراقبون لسببٍ مجهول … وفكَّر أن يُسرع لتحذير «محب» و«نوسة»، ولكنه تذكَّر أن «محب» يعرف هذه الحقيقة، وأنه بالتأكيد قد أخذ حذره … واكتفى «تختخ» بأن ينحرف في أحد الشوارع الجانبية ليسمح للرجل الذي يتبع «نوسة» و«محب» بتجاوزه حتى يستطيع هو أن يُراقبه، ولم تمضِ سوى لحظات حتى بدا الرجل يُسرع الخطو خلف «نوسة» و«محب»، فانتظر «تختخ» لحظات أخرى، ثم خرج من مكمنه … كان الرجل قصيرًا يلبس ملابس سوداء، ويترنَّح في مِشيته بطريقةٍ عجيبة …

سار الأربعة … «محب» و«نوسة»، ثم الرجل ذو الملابس السوداء، وبعده بنحو ثلاثين مترًا كان «تختخ» وعيناه مركِّزتان على الرجل، مستعدًّا للجري في أي لحظة إذا حاول الرجل لأي سبب الاعتداء على صديقَيه … ولكن الرجل ظلَّ يمشي حتى وصل «محب» و«نوسة» إلى المنزل، ودخلا … وتوقَّف الرجل قليلًا على الرصيف الآخر، ثم استدار وعاد من نفس الطريق الذي جاء منه … وانزوى «تختخ» في حديقة منزلٍ حتى تجاوزه الرجل، ثم عاد لمتابعته من جديد … ولدهشة «تختخ» كان الرجل يتجه مرةً أخرى إلى منزل «عاطف».

أخذ ذهن «تختخ» يعمل بسرعة … ما هي حكاية هذه المراقبة؟ … إن هؤلاء الرجال يكتفون حتى الآن بمتابعة المغامرين الخمسة … فماذا يُريدون منهم؟ وأخذ يتذكَّر الرجل ذا القميص الأزرق في الصباح … ثم هذا الرجل، ويُحاول أن يُفتِّش في ذاكرته عن شيء عنهما ولكن عبثًا … فهو لم يرَهما من قبلُ مطلقًا … وإلا لأدرك أنهما من عصابةٍ من العصابات التي أوقع بها المغامرون الخمسة تُحاول الانتقام منهم … فما هي الحكاية إذن؟ … هل لها علاقة ﺑ «نشوى»؟ هل لها علاقة بمطاردة المفتش «سامي» للعملاق «شمروخ»؟ ولكن معلومات الشرطة تُؤكِّد أن «شمروخ» قد انتقل بعيدًا عن المنطقة تمامًا … والمفتش قد ذهب خلفه …

أسئلة كثيرة بلا إجابة واحدة …

وصل الرجل إلى منزل «عاطف» وتوقَّف قليلًا … كان المنزل غارقًا في الظلام، دليل أن جميع من به قد ناموا … وفوجئ «تختخ» بالرجل يجتاز الشارع مبتعدًا عن المنزل … ولم يتردَّد «تختخ» في متابعته … وانحرف الرجل في شارع ضيِّق، وانحرف «تختخ» خلفه مسرعًا؛ خوفًا من أن يتلاشى منه في الظلام … وفجأةً لمع ضوء كشَّافات سيارة واقفة … فغمر الضوء الرجل و«تختخ» يُسرع خلفه …

بهر الضوء عينَي «تختخ»، فرفع يده ليُخفِّف من أثر الضوء على عينَيه …

وهكذا فقد لحظات ثمينة … فقد انقضَّ عليه رجلان من جانبَي الشارع … ووجد صندوقه يقع منه، والرجلان يحملانه حملًا إلى السيارة، وقد كتم أحدهما أنفاسه … وسرعان ما دار المحرِّك … وانطلقت السيارة …

كانت المفاجأة كاملةً حتى إن «تختخ» ظنَّ أنه يحلم … لقد كان يجري خلف الرجل خوفًا من أنه يفقد أثره … وفي لحظات قليلة وجد نفسه في السيارة … وبقدر ما أحسَّ بالضيق لما حدث … فقد أحسَّ ببعض الارتياح … لأنه سيجد إجابةً عن بعض الأسئلة التي دارت في نفسه … ودُهش «تختخ» لطبيعة المغامر التي جعلته يُحس بالارتياح في لحظةٍ المفروض أن يُحس فيها بالرعب والضيق …

انطلقت السيارة مسرعةً وقد لوى الرجل ذراعه فاضطُر إلى أن يقبع تحت أقدام الرجلَين على أرض السيارة عند المقعد الخلفي … وسمع عجلات السيارة وهي تدق قضبان القطار، وعرف أنهما يجتازان المزلقان … ثم انطلقت السيارة مسرعة، وبعد فترة أحسَّ بهواء بارد ينفذ من نافذة السيارة، وعرف أنهم يسيرون بجوار الكورنيش … ومضت السيارة في طريقها مسرعة … دون أن ينطق أيٌّ من الجالسين بحرفٍ واحد … وكأنهم جميعًا خُرْس لا ألسنة لهم … أو يتبعون تعليمات بالصمت من زعيم يخشونه تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤