محاولة في وقتٍ ضيق

استمرَّت السيارة منطلقةً بسرعةٍ كبيرةٍ نحو نصف ساعة … ثم بدأت تُهدِّئ من سرعتها تدريجيًّا … ودارت ولفَّت بضع مرات … ثم توقَّفت … ووضع أحد الرجال يده على عينَي «تختخ» … ثم اقتاده وما زال لاويًا ذراعه حتى اجتاز ممرًّا طويلًا شمَّ فيه رائحة ياسمين قوية؛ فعرف أنه في حديقة … خاصةً وكانت بعض أفرع الأشجار تُلامس وجهه أحيانًا، وسمع «تختخ» صوت باب يُفتح … ثم اصطدم بسُلَّم صعده، وكان الرجل ما زال يضع يده على عينَيه بشدة آلمته … ومشى قليلًا، ثم سمع صوتًا يقول: من هذا؟ …

ردَّ الرجل الذي يقود «تختخ»: إنه ولد متشرِّد كان يتبع «عصفور».

قال صاحب الصوت: ضعوه في المخزن.

وقاده الرجل مسافة عشرة أمتار تقريبًا، ثم نزلا بعض سلالم، ودفع الرجل بابًا بقدمه، ثم دفع «تختخ» إلى الأمام وتركه، وأغلق الباب.

فتح «تختخ» عينَيه ونظر حوله فلم يرَ شيئًا في البداية، إلا خطوطًا من ضوء بعيد تنفذ من خلال نافذتَين مشبَّكتَين بالقضبان الحديدية … ثم أخذ يتأمَّل ما حوله … كان في مخزنٍ للأثاث القديم وإطارات السيارات وغيرها من المهملات … وكان المكان مستطيلًا يبلغ نحو عشرة أمتار طولًا وخمسة أمتار عرضًا … وبعد لحظات كان قد عرف ما في المكان من أشياء، واختار مقعدًا قديمًا وجلس عليه … وأحسَّ بعظامه تؤلمه بسبب ما جرى له في السيارة، وأخذت أفكاره تتلاحق … لقد كان يرجو أن يجد الإجابة عن بعض الأسئلة التي دارت في رأسه … ولكنه وجد نفسه يُضيف أسئلةً جديدةً إلى الأسئلة القديمة … من هم هؤلاء الناس؟ وهل لهم علاقة ﺑ «شمروخ»؟ وهل يعرفون من هو؟ وبحركةٍ لا إرادية رفع يده إلى الباروكة وأعاد تثبيتها على رأسه … وتحسَّس بعض الأدوات الدقيقة التي يحتفظ بها في جيب سري في بنطلونه، وضمنها كشاف صغير في حجم نصف القلم الرصاص … وفكَّر «تختخ» لحظات، ثم فتح «سوستةً» جانبيةً في البنطلون، وجذب الكشاف الصغير، ثم تقدَّم من الباب … ووضع أذنه عليه … لم يسمع إلا أصواتًا بعيدةً لنقاشٍ بين مجموعة الرجال … اطمأن «تختخ» أن لا أحد يُراقبه، وأنهم اكتفَوا بإغلاق الباب عليه، فأضاء الكشَّاف الصغير، وأدار خيط الضوء الرفيع في المكان … ولاحظ على الفور أن المخزن تحت مستوى الأرض … وأنه واطئ السقف، له نافذتان في مستوى الأرض هما اللتان رآهما في الظلام.

اقترب «تختخ» من النافذة الأولى واختبرها، وأحسَّ بنوعٍ من الفرح الطاغي لأن القضبان كانت قديمةً ومتآكلة … وأدرك أنه لا يحتاج إلى أكثر من ساعة مع المنشار الرفيع الذي معه ليتمكَّن من قطع أحد القضبان … وعندما قاس المسافة بيده ابتسم بالرغم عنه، لقد كان سمينًا ولا بد من نشر قضيبَين ليتمكَّن من الخروج من سجنه … وقد كان يمكن أن يشرع فورًا في هذا العمل … ولكن ما قيمة هربه الآن قبل أن يحصل على أية معلومات عن هؤلاء الناس؟!

ولم يستمرَّ في تفكيره؛ طويلًا فقد سمع صوت أقدام تقترب من الباب، فأسرع يُطفئ كشَّافه الصغير ويدسه في مكانه … وخطا خطوتَين فأصبح في وسط المخزن، وسمع الباب يُفتح، ثم سمع من يقول له: تعالَ هنا.

وتحرَّك «تختخ» في اتجاه الصوت، وهو مندهش من عدم إضاءة النور، ثم اقترب من الرجل الذي جذبه من ذراعه إلى خارج المخزن، ومرةً أخرى صعد الدرجات ومشى في الدهليز الطويل الذي أتى منه … ولاحظ وجود عدد من اللوحات الفنية، ودُهش أن توجد مثل هذه اللوحات في مقر عصابة … وبعد لحظات دخل غرفةً انعقد في سمائها دخَان السجائر … ودُهش أن وجدها غرفة مكتب … ووجد رجلًا شديد الأناقة يجلس إلى المكتب يلبس نظارةً طبية، وهو منهمك في الكتابة … وظنَّ «تختخ» نفسه في غرفة محامٍ … وقال الرجل دون أن يرفع رأسه: اتركه لي …

ووقف «تختخ» مكانه يتأمَّل الرجل … لم يكن بالتأكيد قد رآه من قبل … كان مظهره يوحي برجل مثقَّف … مهذَّب … وزادت دهشة «تختخ» عندما ألقى الرجل قلمه، وخلع نظَّارته، ودعك عينَيه بأصابعه، ثم نظر إلى «تختخ» وزمَّ شفتَيه لحظات، ثم قال: من أنت؟

ردَّ «تختخ»: اسمي «كورة»، وأعمل ماسح أحذية!

ابتسم الرجل وقال: أنت فعلًا تُشبه الكرة.

وصمت لحظات، ثم قال: لماذا كنتَ تتبع «عصفور»؟

تختخ: لم أكن أتبعه في الحقيقة … ولكني ظلِلتُ ألف طول النهار دون أن أتمكَّن من كسب قرشٍ واحد … وعندما شاهدتُ هذا الرجل فكَّرت أن أُحاول أن أمسح له حذاءه …

ضحك الرجل ضحكةً عاليةً وقال: إن دمك خفيف جدًّا … هذه أول مرة أسمع عن ماسح أحذية يُطارد الزبون في الظلام … ما رأيك أن تبحث عن تبريرٍ آخر معقول!

قال «تختخ»: الحقيقة كنتُ سأشحذ منه قرشًا للعشاء …

تأمَّله الرجل لحظات، ثم قال: لا يبدو عليك هيئة الشخص الجائع …

كان الرجل شديد الذكاء … خفيف الدم … وعرف «تختخ» أنه لن يستطيع خداعه، ولكن لم يكن أمامه إلا أن يُحاول للنهاية … فقد كان مصيره، وربما مصير أصدقائه متوقِّفًا على ما سيحدث الآن.

وضع الرجل رأسه على كفه وقال: لا وقت عندي الآن لحديث أطول معك … فلْنُكمل حديثنا غدًا بعد أن يتم …

وتوقَّف الرجل عن إتمام جملته … وبدا عليه بعض الضيق لأنه تحدَّث أكثر ممَّا ينبغي، وأدرك «تختخ» برغم الجملة المبتورة أن شيئًا ما سيحدث هذه الليلة أو غدًا … ولكن ما هو هذا الشيء؟

عاد الرجل يقول: ستكون ضيفنا الليلة … ونحن كرماء مع ضيوفنا إذا لم يتصرَّفوا بما يُغضبنا.

وفهم «تختخ» الإنذار … وضغط الرجل على جرس أمامه، فظهر أحد الرجال على الفور فقال له: ضعوا له طعامًا كافيًا … وأطلقوا الكلاب في الحديقة …

وعاد الرجل إلى أوراقه … وأمسك الرجل الآخر بذراع «تختخ» وقاده إلى مطبخ أنيق … وسرعان ما كان أمامه كمية طيبة من الجبن والبيض والتونة والسلاطة، ولم يُضيِّع «تختخ» وقتًا؛ لقد كان جائعًا حقًّا … وفي نفس الوقت كان عليه أن يُثبت دعواه أنه جائع.

أخذ يلتهم الطعام وهو يُفكِّر … ماذا سيتم الليلة؟ … هل هناك أي احتمال لهربه بعد أن أطلقوا الكلاب في الحديقة؟ إنها بالتأكيد كلاب ضخمة شرسة، وهذا النوع من الحُرَّاس من الصعب التغلُّب عليه … وفكَّر في جهاز التليفون الذي رآه في المكتب … هل من الممكن التسلُّل إليه والحديث إلى أحد الأصدقاء بعد أن ينام هؤلاء الرجال، أو على الأقل يخرجون؟!

وفجأةً طاف بذهنه سؤال … ما سر مراقبة العصابة للمغامرين الخمسة؟ … إن هذا الرجل الأنيق المهذَّب ليس «شمروخ» بالتأكيد … فمن هو؟ … وهل هناك علاقة بينه وبين «شمروخ»؟ …

مزيد من الأسئلة … ومزيد من الغموض …

وأطال «تختخ» من فترة طعامه … كان يُريد أن يكسب أكبر وقتٍ ممكن ليراقب حركة الرجال حوله … محاولًا التسمُّع إلى أحاديثهم … ولكن ملاحظته الأولى عن صمتهم أمامه برزت له مرةً أخرى … إنهم لا يتحدَّثون أمامه مطلقًا …

واضطُر في النهاية أن يُنهي طعامه حتى لا يلفت الأنظار إلى بطئه المتعمَّد. ومرةً أخرى اقتاده الرجلُ إلى المخزن، وأغلق عليه البابَ دون أن يُضيء النور …

قرَّر «تختخ» أن يفهم سر النور المطفأ باستمرار، فأخرج كشَّافه الصغير وأطلق شعاعه على سقف المخزن، وعرف السبب … كان بسيطًا جدًّا؛ فلم يكن هناك مصباح كهربائي في السقف … كان السلك مقطوعًا.

اتجه «تختخ» إلى الكرسي الذي اختاره لجِلسته، ثم جلس ومدَّ قدمَيه إلى الأمام وأخذ يُفكِّر … كانت هناك نقطة واحدة في صالحه … إنهم لم يكتشفوا تنكُّره. وفكَّر في والدَيه … سيعرفون صباحًا أنه ليس في غرفته … ولكن ما كان يُطمئنه أنهما قد اعتادا على خروجه مبكِّرًا أحيانًا … ولكن المهم أن يتمكَّن غدًا من الخروج من هذا السجن في موعد ملائم …

مضت ساعة … وبدأ «تختخ» يشعر برغبةٍ في النوم تُسيطر عليه تدريجيًّا … ونظر إلى ساعته … كانت الثالثة صباحًا … وأخذ يُقاوم رغبته في النوم، فقام يتمشَّى في المخزن، ثم توقَّف عند النافذة ينظر إلى الخارج … وعلى الفور سمع همهمةً قوية، وسمع صوت مخالب تقترب من النافذة … وأدرك أن حُرَاسه الأُمناء يقومون بواجبهم.

عاد إلى مقعده، ثم مدَّ يده إلى الجيب السري، وأخرج أدواته الدقيقة، وفكَّر أنه إذا لم يتمكَّن من الخروج من النافذة، فليخرج من الباب … ويكفي أن يتصل بأصدقائه محذِّرًا … وأن يطلب منهم الاتصال بالمفتش «سامي».

مضت ساعة أخرى وهدأ كل شيء … وتقدَّم «تختخ» من الباب ووضع أذنه على فُتحة القفل وأنصت جيدًا … لم تكن هناك أصوات من أي نوع، ثم فجأةً سمع صوت سيارة تتحرَّك قريبًا جدًّا منه … ورجَّح أنها تخرج من جراج الفيلا … وسمع بعض الأصوات، ثم اندفعت السيارةُ خارجة، وهدأ كلُّ شيء …

أمسك أدواته الدقيقة وأخذ يُعالج المزلاج … كان من نوع عادي جدًّا … فلم يصمد أمام أدواته أكثر من دقائق قليلة … ثم سمع تكة اللسان وهو يُغادر مكانه … وأدرك أن في إمكانه أن يخرج … أخذ قلبه يدق سريعًا وهو يفتح الباب وينصت … لم يكن هناك صوت … وتسلَّل بهدوءٍ وصعد الدرجات، ثم مشى في الدهليز الطويل متجهًا إلى المكتب … ووصل إلى باب المكتب ووجده نصف مفتوح، فانتظر لحظات، ثم دفعه برفق … لم يحدث أي صوت … فمشى على أطراف قدمَيه وشعاع الضوء الرفيع يُضيء له المكان، حتى وقف أمام التليفون، ورفع السمَّاعةَ برفق، وسمع الأزيز السريع الذي يدل على أن التليفون جاهز للاستعمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤