عندما يُخدع المغامر

فكَّر «تختخ» بسرعةٍ فيمن يتصل من المغامرين … ووجد أن من الأفضل الاتصال ﺑ «عاطف» … ﻓ «نشوى» ابنة المفتش عندهم … ولعل كل هذا المخطَّط الذي تُنفِّذه هذه العصابة يتعلَّق ﺑ «نشوى» ما دام المغامرون الخمسة ليسوا مشتركين في لغز أو مطاردة عصابة … ولأن الرقابة لم تبدأ عليهم إلا بعد وصول «نشوى»، كما أن «نشوى» أقدر على الاتصال بوالدها …

طافت هذه الأفكار برأس «تختخ» في ثوانٍ قليلة … ومدَّ يده وأخذ يُدير رقم «عاطف» … وعندما انتهى منه وضع السمَّاعة على أذنه … وسمع الجرس يدق في الطرف الآخر … وانتظر … كان يُدرك طبعًا أن «عاطف» وأسرته جميعًا يتمتَّعون بالنوم في هذه الساعة المبكِّرة من الصباح … فانتظر دقيقة … دقيقتَين … ثلاث دقائق … والتليفون يدق في الناحية الأخرى بإصرار دون رد … كانت خريطة منزل «عاطف» واضحةً تمامًا في ذهن «تختخ»؛ فهو يعرف أن التليفون موجود قرب غرفة «عاطف» في الدور الثاني … فلماذا لا يرد «عاطف»؟ … لماذا لا تستيقظ «لوزة» أو «عاطف» أو «نشوى» أو أحد الوالدَين؟ … هل طلب رقمًا خاطئًا؟!

وضع يده على التليفون قاطعًا الجرس … وركَّز ذهنه جيدًا حتى تأكَّد أنه يتذكَّر رقم «عاطف» … ثم أدار القرص مرةً أخرى ووضع السمَّاعة على أذنه واستمع … ودقَّ الجرس على الطرف الآخر مرة … مرتَين … ثلاث مرات … أربع … خمس … ست … سبع … ثماني مرات … تسع … عشر مرات …

وفي هذه اللحظة … وبرغم أنه كان مُركِّزًا انتباهه على جرس التليفون، فقد خُيِّل إليه أنه يسمع حركةً ما في الحديقة … صوت أقدام شخص يقترب من غرفة المكتب … وأسرع يضع السمَّاعة وأرهف أذنَيه … ولم يعُد عنده أدنى شك أن ثمة من يتحرَّك في الحديقة مقتربًا من الباب الخارجي للمكتب … وأسرع يُغادر الغرفة متسلِّلًا على أطراف أصابعه وهو يلعن «عاطف» في سره لنومه الثقيل … لائمًا نفسه لأنه لم يتصل ﺑ «محب»، ووصل إلى المخزن … وأسرع ينزل السلالم، ثم دخل وأغلق خلفه الباب بهدوء، ووقف في الظلام يُفكِّر متسارع الأنفاس … ماذا يفعل بعد ذلك؟ إن ضوء الفجر الوليد يتسلَّل من النافذة، وسيعج المكان بالحركة بعد قليل، ولن يكون في إمكانه أن يفعل شيئًا …

وجلس «تختخ» وحيدًا يُفكِّر، وقطع عليه حبل أفكاره صوت مُحرِّك سيارة تقترب، ثم سمع صوتها تهدر قريبًا منه، وأدرك أنها سيارة العصابة، وأنهم كانوا في مهمة استغرقت نحو ساعة ونصف الساعة وعادوا … وفكَّر في هذه المهمة، وأحسَّ بقلبه يكاد يتوقَّف … نصف ساعة إلى «المعادي»، ومهمة في نصف ساعة … ثم العودة في نصف ساعة … لقد كانوا في «المعادي»! … فماذا فعلوا هناك؟ …

وأرهف أذنَيه محاولًا أن يسمع شيئًا، ولكن الأصوات كانت بعيدة، ولم يكن في إمكانه أن يسمع شيئًا … وأحسَّ أنه متعب ويائس … وأنه في أشد الحاجة إلى الراحة؛ فلم يعُد في إمكانه أن يفعل شيئًا، واختار كنبةً قديمةً ولكنها مريحة، وتمدَّد عليها، وأجبر أفكاره على التراجع، ثم استسلم للنوم.

•••

في صباح اليوم التالي في حديقة منزل «عاطف» كان الأصدقاء الثلاثة … «نشوى» و«لوزة» … و«عاطف» يجلسون في الكشك الخشبي بعد الإفطار يشربون الشاي ويضحكون، وقالت «لوزة»: تعالَوا نُحدِّث «تختخ» ونطلب منه سرعة الحضور … فهذا هو اليوم الذي سنقضيه في النيل، ويجب الذهاب مبكِّرًا قبل أن ترتفع الشمس … وأحضرت «لوزة» التليفون، ورفعت السمَّاعة … ولكن التليفون كان هامدًا لا حرارة فيه … أخذت تدق وتدق عليه … وتنفخ في البوق، ولكن الجهاز ظلَّ صامتًا كأنه تحوَّل إلى قطعةٍ من الخشب.

صاحت «لوزة» في ضيق: ما هي حكاية هذا التليفون؟ … لقد كان خربًا منذ أسبوع واحد، وها هو ذا يعود فيصمت مرةً أخرى … هذه مشكلة!

قال «عاطف»: لن تُعيد صيحاتكِ الحرارة إلى التليفون، سأذهب أنا سريعًا بالدرَّاجة إلى منزل «محب» فهو قريب منا، وأُحدِّث «تختخ»، ثم أطلب هيئة التليفونات وأطلب منهم إرسال من يُصلح هذا الجهاز الصامت.

وقبل أن ينتظر موافقة الفتاتَين، كان قد قفز إلى درَّاجته، وشاهد والده ووالدته يخرجان، فأشار لهما بيده مُودِّعًا؛ فقد كانا سيقضيان اليوم كله في القاهرة، ولن يعودا قبل الليل.

انطلق «عاطف» إلى منزل «محب» … وجلست الصديقتان تتحدَّثان … وسمعا صوت جرس درَّاجة تقترب، ثم ظهرت درَّاجتان، عليهما رجلان يلبسان ملابس رجال التليفونات ومعهما أدوات الإصلاح، وصاح أحدهما: هل في تليفونكم أي عطل؟

ردَّت «لوزة»: نعم … هل حدَّثكم أخي «عاطف»؟

ردَّ الرجل: لم يتصل بنا شقيقك، ولكن شخصًا يُدعى «توفيق» قال إنه يُحاول الاتصال بكم منذ الصباح الباكر، ولكن التليفون لا يرد.

قالت «لوزة» ﻟ «نشوى»: إن «توفيق» هو اسم «تختخ» الحقيقي، ثم صاحت بالرجلَين: تفضلا هنا!

وترك الرجلان درَّاجتَيهما، ثم دخلا من باب الحديقة … واقتربا من التليفون، فقالت «لوزة»: إنني لم أرَكما من قبل … عادةً يأتي «رشدي».

ردَّ أحد الرجلَين: إن «رشدي» مريض اليوم، ونحن نقوم بعمله.

ورفع الرجل السماعةَ وأخذ يستمع، ثم قال ﻟ «لوزة»: أين «الفيشة» الأصلية للتليفون؟ …

ردَّت «لوزة»: إنها بالداخل.

قال الرجل: أرجو أن تدليني عليها.

مضت «لوزة» مع الرجل داخل الفيلا، وأرته «الفيشة» فأخذ يفحصها، ثم قال: إنها على ما يُرام … لا بد أن العطل من السلك، فأين يوجد السلك الموصل إلى الفيلا؟

قالت «لوزة»: إنه فوق السطح.

قال الرجل: تفضَّلي فدليني عليه.

سبقت «لوزة» الرجل، وسمعت في هذه اللحظة صوت سيارة تقف عند باب الحديقة، فقالت في نفسها: لا بد أنه المفتش.

صعدت «لوزة» مع الرجل إلى السطح، ولاحظت على الفور أن السلك مقطوع … ودُهشت قليلًا، وأسرعت تقول للرجل: مدهش! … إن السلك مقطوع …

قال الرجل: لا بأس … سوف نُصلحه فورًا.

وأخذ الرجل طرفَي السلك، وأخرج مطواه وأخذ يكشط البلاستيك الأسود حتى يبرز السلك، ومضت لحظات حتى انتهى من كشط السلكَين، فقالت «لوزة»: هل تحتاجني في شيء آخر؟

قال الرجل: لحظةً واحدة، ستبقَين بجوار السلك لحين تجرِبة التليفون … ارفعيه بيدكِ إلى فوق؛ فهو متهدِّل قليلًا، وقد يُحدث هذا تداخلًا في المكالمات … وسأنزل سريعًا لأُجرِّب التليفون وأعود إليك …

دُهشت «لوزة» قليلًا لهذا الطلب، ولكن في سبيل إصلاح التليفون، رفعت السلك بيدها ووقفت، ونزل الرجل …

مضت خمس دقائق وسمعت «لوزة» صوت السيارة تبتعد، وتضايقت أن المفتش غادرهم دون أن تراه وتسأله عن أخبار «شمروخ»، وظلَّت واقفة، ومرَّت خمس دقائق أخرى، وأحسَّت بذراعها تؤلمها … وفي نفس الوقت أحسَّت بقلقٍ خفي لأن الرجل تأخَّر أكثر من اللازم … وليس في المنزل سوى الشغَّالة «لطيفة» وهي مشغولة الآن في المطبخ، وفي النهاية قرَّرت أن تترك السلك وتنزل للبحث عن الرجل … ونزلت مسرعةً إلى الدور الأرضي ولم يكن الرجل هناك، وخرجت إلى الحديقة … ولم يكن هناك أحد، وأحسَّت بقلقها يتزايد … وأسرعت إلى الكشك الخشبي وهي تصيح: «نشوى»! … «نشوى»! … ولكن لم تتلقَّ ردًّا … دخلت الكشك فلم تجد أحدًا … فعادت مسرعةً إلى الخارج، ووجدت الدرَّاجتَين في مكانَيهما … ولا أثر للرجلَين … وأخذت «لوزة» تجري كالمجنونة، وقد أدركتْ أن شيئًا قد حدث … كان ظنها في البداية أن المفتش قد حضر وأخذ «نشوى»، ولكنها استبعدت أن يفعل هذا دون أن يُخطرها ودون أن تُودِّعها «نشوى»، كما أن ملابس «نشوى» ما زالت في غرفتها، ومن ناحية أخرى فإن اختفاء الرجلَين بهذا الشكل المريب أثار مخاوفها … فتَّشت الغرف غرفةً غرفة … وسألت «لطيفة» التي قالت إنها لم ترَ شيئًا، وأحسَّت «لوزة» بيدٍ حديدية تعتصر قلبها … وفي هذه اللحظة ظهر «عاطف» وخلفه «نوسة» و«محب»، وصاحتْ بهم «لوزة» وهي تلهث: ألم ترَوا «نشوى»؟!

قال «عاطف» ساخرًا: ألم ترَيها أنت؟ …

صاحت «لوزة»: إنني لا أمزح! … لقد اختفت «نشوى»!

عاطف: اختفت!

نوسة: ماذا تقصدين؟

محب: كيف اختفت؟

لوزة: حضر رجلان لإصلاح التليفون وقالا لي إن «توفيق» قد اتصل بنا في الصباح الباكر، ولمَّا لم نردَّ عليه أبلغ عن عطلٍ في التليفون، وصعدت مع أحدهما ليرى مكان السلك، وتركني ونزل لتجرِبة التليفون، فلمَّا تأخَّر نزلتُ أبحث عنه فلم أجِده … ولم أجِد زميله … ولم أجِد «نشوى»! …

قال «عاطف»: إنكِ تحلمين! … كيف حدث هذا في أقل من ثلث الساعة التي غبتُها؟

قالت «لوزة» وقد امتلأت عيناها بالدموع: هذا حدث فعلًا … لقد خطف الرجلان «نشوى» … فعندما كنتُ أصعد مع الرجل سمعتُ سيارةً تقف بالباب، وظننتُ أنه المفتش «سامي» … وقبل أن أنزل غادرَت العربة مكانها، ولا بد أنهما خطفاها بالسيارة … كم كنت غبية! … كم كنت غبية! …

وقف الجميع واجمين … كان الحادث رهيبًا ويحمل عشرات الدلالات … فلا بد أن الخاطف من رجال «العملاق»، ولا بد أنه سينتقم من المفتش في شخص «نشوى» الصغيرة … ومن بين دموعها قالت «لوزة»: وأين «تختخ»؟ لماذا لم يحضر؟

ردَّ «عاطف»: إنه ليس في منزله … يقولون إنه ربما خرج مبكرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤