عملية الحلاوة بالشطَّة

غمرت الدهشة ذهن «تختخ» حتى كادت تشل تفكيره … إن شيئًا غير عادي يُدبَّر الآن … فهذا الرجل ليس «شمروخ» كما وصفه المفتش «سامي» … إنه قصير القامة، ضئيل الحجم … وإن كان بادي الشر … و«شمروخ» كما وصفه المفتش عملاق … فما هي الحكاية بالضبط؟ …

واستمع الرجل الأسمر قليلًا، ثم قال: إنني لا أضحك عليك؛ فأنتَ تعرفني يا «سامي» بك … ابنتك عندي … خُذ كلِّمها.

وأشار له الرجل الأنيق فناول السمَّاعة ﻟ «نشوى»، وفي هذه اللحظة أحسَّ «تختخ» أنه من الممكن أن تنقل «نشوى» رسالةً إلى والدها … ولكن كيف؟ سلَّط عليها نظراته … وتمنَّى أن تنظر إليه … وفعلًا رفعتْ «نشوى» إليه بصرها … ورأت في عينَيه رسالةً ما … وعندما أمسكت بالسمَّاعة قالت: صباح الخير يا بابا … أرجو ألَّا تكون غاضبًا مني.

واستمعتْ قليلًا، ثم قالت: أنا على ما يرام … كل ما هنالك أنني أُقيم مع ولدٍ سمين متشرِّد، منكوش الشعر … ولكنه طيب …

ابتهج «تختخ» كثيرًا بما فعلته «نشوى» … فسوف يفهم المغامرون فورًا أنه هو … فهم يعرفون وسيلة تنكُّره … واختطف الرجل الأسمر بناءً على طلب من الرجل الأنيق السمَّاعة، ثم قال: لنا كلام آخر يا «سامي بك»!

ثم وضع السمَّاعة … ونظر إلى الرجل الأنيق الذي قال مبتسمًا: عظيم يا «جودة»! إنكَ تصلح للتمثيل في السينما.

قال «جودة» مكشِّرًا عن أنيابه: البركة فيك يا «سعيد» بك.

لم يكد «جودة» ينطق باسم الرجل الأنيق حتى اكفهرَّ وجهه، وجزَّ على أسنانه وصاح به: اخرج أيها الغبي!

وعرف «تختخ» سبب ثورته … لقد ناداه «جودة» باسمه … ونظر «سعيد» إلى «نشوى»، ثم إلى «تختخ»، وقال محدِّثًا «تختخ»: لقد نسيتُ أمركَ أيها الصعلوك … وبعد أن سمعتَ ما سمعت، لا أظن أن في إمكاني ترككَ تذهب بعيدًا … لقد أصبحتَ خطرًا!

تظاهر «تختخ» بالبلاهة وقال: وما ذنبي أنا يا سيدي، لقد فقدتُ صندوق مسح الأحذية وسوف يضربني أبي … أرجوكَ يا سيدي … أستحلفكَ بكل عزيزٍ لديكَ أن تتركني أُغادر هذا المكان … لقد قطعتُم رزقي.

قال «سعيد» وهو يهز رأسه: سأُعطيك ثمن الصندوق المفقود … المهم أن تأخذ بالكَ من هذه الفتاة، ولا تتركها تُغادر عينَيك.

قال «تختخ» بصدقٍ وحرارة: أؤكد لكَ يا سيدي أنني لن أتركها لحظةً واحدة! قال «سعيد»: إذن اذهب للإفطار الآن، وخُذ معك الفتاة … وعلى كل حالٍ لن تبقى طويلًا.

اقتادهما «عصفور» إلى المطبخ، ووضع أمامهما طعام الإفطار … تمنَّى «تختخ» ساعتها أن يكون هناك طبق من الفول الساخن بالزيت والليمون … ولكن وجبة الإفطار كانت وجبةً جافة … قطعة من الجبن الأبيض … علبة من الحلاوة … بعض الزيتون … ورغيفَين من الخبز اليابس …

قالت «نشوى»: لقد تناولتُ إفطاري … كلْ أنت.

وأخذ «تختخ» يمضغ الطعام … كان يُفكِّر في طريقةٍ ما لإيصال معلومات أكثر إلى المفتش … ولكن كيف؟ … من الواضح أن العصابة تُريد شيئًا من المفتش «سامي»؛ فهي تُساومه على حياة ابنته «نشوى»، ومن المؤكَّد أن المفتش سيرفض أي مساومة؛ فأمام الواجب تتلاشى أية عاطفة … حتى عاطفة الأبوة … ولكن ما هو الشيء الذي تُريده العصابة؟ … مرةً أخرى فكَّر في مساعد «شمروخ» الذي قبض عليه رجال الشرطة … ولكن حرية هذا الرجل تُساوي هذه الخطة المدبَّرة بإحكامٍ لخطف «نشوى» … ثم أين «شمروخ» ذاته؟ … إنه لم يظهر حتى الآن، فأين هو؟ … ولماذا يُدير «سعيد» هذه العملية كلها دون أن يبدو «شمروخ» في الصورة؟ …

وفجأةً خطر ﻟ «تختخ» خاطر ما … أخذ ينمو بسرعةٍ في ذهنه وكأنه نبات شيطاني … إن حياة «نشوى» هامة جدًّا للعصابة … ولوالد «نشوى» في نفس الوقت، ماذا لو تعرَّضت حياة «نشوى» للخطر … مثل أن تُصبح مريضةً جدًّا؟ … في هذه الحالة لن تتردَّد العصابة في استدعاء طبيب … وربما استطاع عن طريق هذا الطبيب أن يُهرِّب رسالةً للخارج …

ومال على «نشوى» وقال بصوتٍ هامس: «نشوى» … هل في إمكانك أن تتظاهري بالمرض … الشديد؟ …

نظرت إليه «نشوى» بدهشة وقالت: لماذا؟!

قال «تختخ»: لو كان في إمكانك أن تتظاهري بالمرض بحيث يُخشى على حياتك، في هذه الحالة فإن العصابة لن تتردَّد في استدعاء طبيب … وربما استطعنا عن طريقه أن نُهرِّب رسالةً إلى المفتش.

قالت «نشوى»: آسفة جدًّا … إنني ممثِّلة فاشلة … وفي إحدى الحفلات المدرسية أسندوا لي دورًا بسيطًا، ولكني فشلتُ في القيام به، واستبعدوني واستبدلوا بي زميلةً أخرى … لماذا لا تُحاول أنت؟

ابتسم «تختخ» برغم الظروف المحيطة بهما وقال: وماذا يُهمُّهم من أمري إذا مرضتُ أو حتى مت … إنني مجرَّد ولد متشرِّد يحتجزونه خوفًا من أن يتحدَّث ويُفسد خططهم، ولكن أنتِ هامة جدًّا بالنسبة لهم … إنهم يُساومون عليكِ والدك …

نشوى: ولكن والدي لن يقبل أية مساومة في أداء واجبه.

تختخ: هذا شيء أعرفه … ولكنهم لا يعرفونه … وهذه فرصتنا الوحيدة … وساد الصمت و«تختخ» يمضغ طعامه في بطء … وفجأةً لمعت عيناه وقال: «نشوى» … ما رأيكِ في أن تصبحي مريضةً حقيقة؟!

زادت دهشة «نشوى» وقالت: كيف؟!

تختخ: سمعتُ مرةً من الدكتور «فكري» خال «عاطف» أن الإنسان إذا تناول بعض الحلوى والشطة ارتفعت درجة حرارته جدًّا … حتى ليبدو كأنه مريض بالحمَّى، والحلاوة الطحينية موجودة، ولا بد أن في هذا المطبخ شطةً حامية.

فكَّرت «نشوى» لحظات، ثم قالت: ولكنني لا أحب الشطة!

ابتسم «تختخ» مرةً أخرى برغم كل شيء وقال: ومن الذي يحبها؟! … أنا شخصيًّا أخشى الاقتراب منها … على كل حال، هذا مجرَّد اقتراح … أو فلننتظر ونرَ ما ستأتي به الأحداث، وإن كنتُ أظن أنه من الواجب أن نأخذ نحن زمام المبادرة ونفعل شيئًا، بدلًا من الانتظار حتى تفعل بنا العصابةُ ما تشاء …

ومضت «نشوى» تُفكِّر، ومضى «تختخ» يتحدَّث … وفجأةً ابتسمتْ «نشوى» وقالت: هذه فرصة لأشترك في مغامرةٍ بعملٍ إيجابي … إنني موافقة!

وقام «تختخ» وأخذ يبحث في دولاب المطبخ، وسرعان ما وجد زجاجةً صغيرةً مملوءةً بالشطة الحمراء … وأخذ كميةً وضعها في ورقة، ثم اقتطع قطعةً من الحلاوة الطحينية وضعها في ورقة أخرى … وأعطى «نشوى» ورقة الحلاوة لتُخفيها في جيبها، وأخذ ورقة الشطة … ولم يكد ينتهي من هذا حتى دخل «عصفور» قائلًا: هيا إلى المخزن …

واقتادهما عبر الممرِّ إلى المخزن، ونزلا السلالم، وأغلق «عصفور» خلفهما الباب … توقَّفا لحظةً يتبادلان النظرات … كان «تختخ» يُفكِّر في التوقيت الملائم لتأخذ «نشوى» الحلاوة بالشطة … و«نشوى» تُفكِّر في هذا المغامر العجيب «تختخ» الذي يُفكِّر في كل شيء.

•••

في هذا الوقت كان المفتش «سامي» يجلس مع «محب» و«نوسة» و«عاطف» و«لوزة» يتحدَّثون … كانت هناك ثلاث سيارات لا سلكي تقف في طابور أمام منزل «عاطف» … وكانت الاتصالات التليفونية لا تنقطع … وكانت «لوزة» للمرة العاشرة تصف الرجلَين اللذَين حضرا لإصلاح التليفون … وبعض الضبَّاط ينقلون … المعلومات إلى مديرية الأمن للبحث في سجل ذوي السوابق؛ لعل أحدهما له ملف في إدارة البحث الجنائي … وتولَّى الشاويش «علي» البحث عن المحل الذي استأجر منه الرجلان الدرَّاجتَين، واستطاع أن يعرف المحل، وبدأت التحريات حول الرجلَين … ولكنها وصلت إلى طريق مسدود … فقد اتضح أنهما استأجرا الدرَّاجتَين ببطاقتَين مزوَّرتَين لا أثر لهما في سجلات الشرطة!

وكان المفتش «سامي» يضع كل هذه المعلومات أمامه وهو يُفكِّر … وقالت «نوسة»: إنني أحسستُ ببعض الاطمئنان عندما عرفتُ أن «تختخ» مع «نشوى». لقد استطاع أن يوصل إلينا عن طريقها معلومات عن وجوده، وأعتقد أنه في المكالمة الثانية قد نحصل على معلومات أخرى …

المفتش: إنهم لن يتركوا «نشوى» تتحدَّث مرةً أخرى … لقد دعوها للحديث معي ليُؤكِّدوا لي أنها بين أيديهم … ولم يعُد هناك داعٍ لأن تتحدَّث معي مرةً ثانية.

محب: ولكن إذا كانوا سيتصلون مرةً أخرى كما قالوا … ففي إمكانك أن تشترط الحديث إليهما أولًا قبل أن تسمع شروطهم …

فكَّر المفتش لحظات، ثم قال: إنني أشك كثيرًا في كل هذا … لسبب بسيط أن «شمروخ» ليس المجرم الذي يضع مثل هذه الخطة المعقَّدة … إنه مجرم بسيط … لا يضع خططًا ولا يفهم في هذه التحرُّكات المحسوبة … إن العملية أكبر من «شمروخ» …

محب: ولكنه تحدَّث إليك!

المفتش: إنني بالطبع لا أستطيع أن أذكر صوت «شمروخ» الحقيقي بعد مرور عشرين سنة … إن أي شخص يتحدَّث باللهجة الصعيدية يمكن أن يخدعني.

عاطف: وماذا تتوقَّع أن يطلبوا منك؟ …

المفتش: لا أدري … ومهما كان فإنني لن أُنفِّذ لهم أي طلبٍ مقابل إطلاق سراح «نشوى»؛ فواجبي وعملي فوق كل شيء، بما في ذلك ابنتي.

وساد الصمت … وقالت «لوزة»: وما هي خطتك يا سيدي المفتش؟ … من غير المعقول أن تترك «نشوى» … بين أيديهم.

ردَّ المفتش: إن رجالي يقومون بكل ما يمكن … وما علينا إلا أن ننتظر؛ فقد يصلون إلى شيء يُنير لنا الطريق … وفي نفس الوقت قد تحمل لنا المكالمة الثانية معلومات جديدةً تُحدِّد خط سيرنا … وهناك محاولة لتتبُّع المكالمة الثانية ومعرفة مصدرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤