الفصل الثامن عشر

البرقية

تبِع هيثرويك رفيقه عبر شارع «ستراند» ودخلا إلى أديلفي ثم إلى المنزل الذي يبغيان؛ وهو منزل كبير عتيق صار مقسَّمًا الآن إلى شققٍ. لم يكلِّف ماذرفيلد نفسَه عناء الصعود إلى الأقسام العليا منه؛ إذ بحث عن حارسٍ ووجده ووجَّه له سؤالًا. فهزَّ الرجل رأسه.

وأجاب يقول: «الدكتور أمبروز يا سيدي؟ أجل، أجل، الدكتور أمبروز يعيش هنا، في الشقة رقم ٣٨. لكنه ليس بالداخل يا سيدي؛ ليس بالمنزل في الواقع. إنه غائب منذ ثلاثة أسابيع أو ما يقرُب من ذلك؛ لا أعرف أين هو.»

وبنظرة ذات مغزًى لهيثرويك، أخذ ماذرفيلد الحارس جانبًا وتحدَّث له بضع لحظات؛ بعد ذلك التفت الرجل وهبط الدَّرج إلى الطابَق التحتي الذي استدعياه منه.

علَّق ماذرفيلد يقول وهو يغمز بعينه: «لا بأس. سيدعنا ندخل إلى شقة أمبروز. ألم أخبرك أننا لن نجد أمبروز هنا؟ لم نكن لنجده! ويسعني القول إنه قد اختفى!»

سأله هيثرويك: «ماذا لو أنه عاد بينما نحن هنا؟»

قال ماذرفيلد ضاحكًا: «ليته يفعل! إنه أكثر شخص أرغب في رؤيته! حسنًا، إن عاد فسوف أطلب منه أن يتمشَّى معي قليلًا، ليشرح لي بعض الأمور. لكنه لن يعود! ها هو ذا الرجل. لنصعد إلى الأعلى.»

ظهر الحارس من جديد ومعه مجموعة من المفاتيح وأرشدهما إلى شقةٍ في أعلى المنزل العتيق. ثم فَتح بابًا وتنحَّى جانبًا.

قال ماذرفيلد: «لستَ في حاجة لانتظارنا. سأغلق المكان مرة أخرى حين نغادر وسنعلمك. لا بأس.»

دلف إلى الشقة ومن خلفه هيثرويك، وفور أن ذهب الحارس وصارا بداخل الشقة، أغلق ماذرفيلد الباب بحذرٍ على نفسه وعلى رفيقه. وبعد نظرةٍ أولى ألقاها هيثرويك على غرفة الجلوس التي دلفا إليها، والتي كانت غيرَ مرتَّبة وأثاثها رثٌّ بعض الشيء، توجَّه مباشرة إلى رفِّ المدفأة وأشار إلى صورة مؤطَّرة باهتة من أثر الزمن، كانت معلَّقة على الرف.

وصاح قائلًا: «هناك دليل بارز ودامغ يدينه في الحال! أتعلم ما هذا يا ماذرفيلد؟»

نظر ماذرفيلد في الاتجاه المشار إليه، وهزَّ رأسه نافيًا.

وأجاب يقول: «ليس لديَّ أدنى فكرة! أرى أنها صورة فوتوغرافية لكنيسةٍ ما أو شيء من هذا القبيل؛ هذا كل شيء.»

قال هيثرويك: «تلك كنيسة أبرشية سيليثوايت! إنها واحدة من أعرق الكنائس في إنجلترا! لقد رأيتها لكن من بعيد فحسب، حين كنت هناك. والآن، ماذا يفعل هذا الرجل بصورةٍ لكنيسة أبرشية سيليثوايت في شقته؟ لقد جاء هانافورد من سيليثوايت!»

وافقه ماذرفيلد قائلًا: «هذا شيء ذو أهمية بالغة على أي حال. سنصل إلى شيء هذا الصباح!» ونظر بتمحيص أكثرَ في الصورة. وأكمل يقول: «مبنًى عتيق وضخم كما تقول. إنَّ حقيقة وضعه لهذه الصورة في مكانها هذا فحسب، توضِّح أنه يكنُّ بعض الاهتمام لذلك المكان. والآن لنبحث في الأرجاء.»

ظنَّ هيثرويك أنه لم يكن يوجد الكثير ليبحثوا فيه. كانت الشقة تتكوَّن من غرفة جلوس وغرفة نوم وحمام صغير. وكان أثاثها عتيقًا بسيطًا ورثًّا بعض الشيء؛ وكان المكان برُمَّته يوحي بأن قاطنه لم يكن ميسورَ الحال؛ فلم تظهر أية علامات على التَّرف إلا في أدوات التزيين الموضوعة على طاولة التزيين، وفي ثوب فخم أنيق، بالرغم من قِدَمه، معلَّق على حاجز السرير، وفي وجود الملابس المطوية بعناية والموضوعة في حجرة النوم. وكان هناك عدة كتب هي في معظمها أطروحات طبية على أرفف في حجرة الجلوس، وبعض الصور الشخصية التي يعود معظمها إلى مرحلة الجامعة ومجموعات المدرسة معلَّقة على الجدران، ومكتب في المنتصف يتناثر عليه المزيد من الكتب وأدوات الكتابة والورق. فبدأ ماذرفيلد يقلِّب في تلك الأشياء.

صاح فجأة وهو يشير إلى تقويمٍ قابل للتحريك كان موضوعًا على الرف العلوي للمكتب: «أترى ذلك؟ أتلاحظ التاريخ؟ الثامن عشر من شهر مارس! هذا هو التاريخ الذي لقي فيه هانافورد حتفه. اليوم السابق لمقتله تحديدًا. فقد مات هانافورد في الواقع في يوم التاسع عشر؛ وكان ذلك في وقتٍ مبكر من الصباح في الساعة … أيَّ ساعة كانت؟ في الصباح الباكر على أي حال. فما الذي يمكن استنتاجه من هذا؟ لم يأتِ أمبروز إلى هنا منذ الثامن عشر من شهر مارس. لذا … مرحبًا!»

راح يقلِّب في الأوراق الطليقة التي كانت مبعثرةً على ورق التنشيف، فوقعت عينه فجأة على برقية، وبنفس الطريقة المفاجئة وضعها في يد هيثرويك.

وقال متعجبًا: «انظر! والآن، هذا اكتشاف! هذا أكبرُ ما توصَّلنا له حتى الآن!»

قرأ هيثرويك الرسالة التي يبدو في ظاهرها البراءة.

لا بأس. سنلتقي عند كشك كتب محطة فيكتوريا هذا المساء كما اقترحت.

هانافورد

قال ماذرفيلد في حماسة: «أترى ذلك التاريخ؟ الثامن عشر من شهر مارس! والآن وصلنا إلى السر! كان أمبروز هو الرجل الذي التقى بهانافورد في فيكتوريا؛ ذلك الرجل الطويل الملثَّم الذي رآه ليدبتر! هذا أمر مؤكَّد!»

وافقه هيثرويك قائلًا: «يبدو الأمر كذلك.» كان لا يزال يتفحَّص البرقية. وغمغم يقول: «أُرسلت من شارع «فليت» في الثانية عشرة وخمس عشرة دقيقة في ذلك اليوم. أجل، لا يبدو أن هناك شكًّا كبيرًا بشأن هذا. مَن يكون يا تُرى ذلك الرجل المدعو أمبروز؟»

قال ماذرفيلد في نشاط: «سنعرف ذلك قريبًا يا سيد هيثرويك! والآن، سأضع تلك البرقية في جيبي، وسأغلق هذه الشقة مرة أخرى، وسأتحدَّث مع ذلك الحارس مرة أخرى، وسأذهب للبحث عن المعلومات التي أشرت إليها. تعالَ معي! وفي وقت لاحق، سأستخرج مذكرة تفتيش، وسأجري فحصًا دقيقًا لتلك الشقة. لنتحرك الآن.»

وفي الطابَق السفلي، نادى ماذرفيلد على الحارس.

وسأله: «أتقول إنَّ الدكتور أمبروز ليس موجودًا منذ فترة؟ هل هناك أيُّ شيء غير اعتيادي بشأن هذا؟»

أجاب الرجل قائلًا: «ليس كثيرًا. فمنذ جاء إلى هنا قبل عامين أو ثلاثة أعوام وهو معتاد الاختفاءَ لبعض الوقت. أظن أنه كان يذهب إلى باريس. لكنني لا أتذكَّر أنه غاب أكثرَ من أسبوع من قبل.»

قال ماذرفيلد متسائلًا: «من الواضح أنه طبيب. هل أتاه مرضى لزيارته هنا من قبل؟»

فهزَّ الحارس رأسه نافيًا.

وأجاب قائلًا: «لا، لم يأتِه أحدٌ من قبل لزيارته هنا؛ لا أتذكَّر مجيء أحد، إلا إن كان أحدًا قد جاء معه في الليل ليدخِّنا معًا أو ما شابه. وكان في الغالب يخرج في الصباح مبكِّرًا، ويأتي في وقتٍ متأخر من المساء؛ في وقت متأخر للغاية.»

سأله ماذرفيلد: «ماذا عن طعامه؟»

قال الحارس: «لم يكن يتناول أيًّا من وجباته هنا، إلا أن يصنع لنفسه كوبًا من القهوة أو ما إلى ذلك في الصباح. كان يتناول كل وجباته في الخارج، وفي ذلك الإفطار أيضًا. وكان ذلك في يوم العطلة وبقية أيام الأسبوع أيضًا. لم نكن نراه إلا قليلًا.»

فقال متسائلًا: «ومَن الذي يصعد إلى غرفته لترتيب السرير وما إلى ذلك؟»

فأجابه الحارس: «زوجتي. هي تفعل كل ذلك.»

«ومنذ متى وليس لديها ما تقوم به في شقته؟»

«ثلاثة أسابيع، أنا واثق من ذلك. لم يكن الرجل معتادًا قولَ أيِّ شيء قبل أن يغادر، بل يذهب فحسب. لكنه كان ينادينا حين يعود ويخبرنا بعودته. غير أننا لم نظن أبدًا أنه سيغيب مثل هذه المدة في هذه المرة. لقد كانت زوجتي تخبرني في هذا الصباح للتو قبل أن تأتيا، أن هذا الأمر يبدو غريبًا.»

«لماذا يبدو غريبًا؟»

«لأنه لم يأخذ شيئًا معه. فعلى الرغم من قِصَر الوقت الذي كان يغيبه قبل ذلك، كان دائمًا ما يأخذ معه حقيبة، وملاءة نظيفة وأدوات للحلاقة، وما إلى ذلك؛ كان الرجل أنيقًا للغاية في مظهره، ودائمًا ما كان متأنقًا في ملبسه كالأثرياء ويرتدي قميصًا نظيفًا كل يوم؛ كانت فاتورة الغسيل الخاصة به باهظة على أي حال!»

سأله ماذرفيلد: «أكان يبدو عليه أنه ميسور الحال كثيرًا؟ أم أنه النقيض؟»

فأجابه الحارس: «لا أستطيع قول ذلك بالتحديد. كان الرجل دائمًا ما يدفع إيجاره، وراتبنا وفاتورة غسل الملابس بانتظام، لكننا لا نعرف شيئًا عن موارده المالية بخلاف ذلك. لكنه كان يبدو وكأنه من النبلاء بالطبع، مثلما أخبرتك.»

قال ماذرفيلد: «فهمت! لا بأس، ستراني مرة أخرى بعد ظهر اليوم.»

وخطا بعيدًا نحو شارع «ستراند»، وهناك أشار إلى هيثرويك بدخول أول سيارة أجرة فارغة التقيا بها.

سأل هيثرويك بينما تبِعه ماذرفيلد إلى داخل السيارة بعد أن تحدَّث إلى سائقها بكلمة: «إلى أين الآن؟»

فأجابه ماذرفيلد بسرعة: «سنذهب الآن يا سيدي إلى شارع «هالام»، حيث مقر المجلس الطبي العام. لديَّ خبرة في التحقيق بشأن سوابق رجال الطب، وأعرف أين يمكنني الحصول على جميع المعلومات المتعلقة بأيٍّ منهم. وسأعرف كلَّ شيء عن ذلك الدكتور تشارلز أمبروز؛ هذا بالطبع إن كان طبيبًا إنجليزيًّا.»

علَّق هيثرويك قائلًا: «هو ليس كذلك على الأرجح، مثلما أنَّ باسيفيري ليس كذلك أيضًا.»

قال ماذرفيلد متعجبًا: «آه، باسيفيري! لقد نسيت ذاك الرجل في الوقت الراهن! حسنًا، سوف نرى أيضًا إن كان بإمكاننا أن نعرف أيَّ معلومات عنه بينما نحن هناك. لقد قمنا بعمل جيد هذا الصباح يا سيد هيثرويك!» تابع وهو يفرك يده مع شعوره بالرضا: «لقد تأكدنا بصورة عملية من أن أمبروز كان هو الرجل الذي التقى بهانافورد في فيكتوريا، ونحن واثقان من أنه هو الرجل الذي أمدَّه ماكفيرسون بالزجاجة التي اكتُشِف السمُّ فيها في حجرة جرانيت. والآن نأمل أن ينقشع المزيد من الظلام!»

سرعان ما وجد هيثرويك نفسه جالسًا مع ماذرفيلد ومسئولٍ متجهِّم بدأ يراجع عدة كتب مَرجعية مختلفة بعد أن نظر في أوراق ماذرفيلد الرسمية واستمع إلى أسباب زيارته للتحقيق. وبعد ذلك غادر المسئول الغرفةَ وغاب بعض الوقت، ثم عاد ومعه ورقتان أعطاهما إلى ماذرفيلد.

وقال: «كتبت لك التفاصيل المطلوبة حتى يتسنى لك النظر فيها متى أردت. وأنا …» ثم ابتسم ابتسامةً باردة وأكمل يقول: «أفهم أنك متلهِّف بعض الشيء على التواصل مع هذين الرجلين؟»

فأجابه ماذرفيلد بإيماءة هي أقرب كثيرًا إلى الغمز: «أظن أنه من المحتمل جدًّا يا سيدي أنني سأكون متحرقًا للتواصل مع هذين الرجلين قبل أن ينتهي اليوم! سأكون أكثرَ من متحرق لذلك!»

أومأ له المسئول المتجهِّم وابتسم له مرة أخرى، وغادر كلٌّ من هيثرويك وماذرفيلد. وفي الخارج نظر ماذرفيلد عن يمينه وشماله.

وقال: «سيد هيثرويك، لقد تجاوزت الساعة الثانية عشرة، وقد تناولت إفطاري قبل الساعة الثامنة؛ أنا جائع! لندخل إلى أول مكان ملائم نمر به ونحصل لنا على طعام وشراب! ونراجع تلك الأوراق.»

بعد قليل، تقدَّم هيثرويك إلى صالة إحدى الحانات، وبعد أن ذكر أنه يريد تناول الجِعَة والخبز والجبن في مثل هذا الوقت من اليوم أحضرها لنفسه وانسحب إلى أحد الزوايا المريحة وتبِعه هيثرويك بشيء من الويسكي والصودا.

فقال ماذرفيلد وهو يرفع كوب جِعَته: «بصحة نجاح مسعانا يا سيد هيثريوك! أنا الآن واثق من أننا نضيف حلقةً تلو الأخرى إلى السلسلة! لكن لننظر الآن فيما هو مكتوب هنا بهذا الخط السيئ.»

وضع الورقتين على الطاولة التي كانا يجلسان إليها؛ وانكب كلاهما يقرآن. لم يكن هناك الكثير من الكلام المكتوب، لكن هيثرويك رأى أنَّ هذه الكلمات القليلة المباشرة كاشفة بما يكفي.

تشارلز أمبروز، حاصل على بكالوريوس الطب (أوكسفورد). مسئول الصحة، كرايبورت، لانكشاير (١٩٠٣-١٩٠٤)؛ طبيب ممارس، وايتبرن، لانكشاير (١٩٠٤–١٩٠٩)؛ طبيب في الشرطة، سليثوايت، دبليو آر، يوركس (١٩٠٩–١٩١٢)؛ مارس المهنة في برودنزبيري، لندن، (١٩١٢–١٩١٨). شطبه المجلس الطبي العام من السجل لسلوكه غير المهني، ١٩١٨.

همهم ماذرفيلد يقول بينما كان فمه منتفخًا بالخبز والجبن: «ها نحن أولاء قد انتهينا منه! كنت أخمِّن أننا سنجد شيئًا على هذه الشاكلة! والآن لننظر في أمر الآخر!»

سيبريان باسيفيري، حاصل على شهادة الكلية الملكية للأطباء، حاصل على شهادة الكلية الملكية للجراحين. مارس المهنة في برمنجهام (١٨٩٧–١٩٠٢)؛ وفي وايبورو، نورثامبتونشير، (١٩٠٢–١٩١١)؛ وفي دالستون، «إن» (١٩١١–١٩١٧)، أدانته المحكمة الجنائية المركزية بتهمة الاحتيال، ١٩١٧، وشطبه المجلس الطبي العام من السجلات في عام ١٩١٨.

هتف ماذرفيلد: «مرحى! لقد خضع لمحاكمةٍ بالفعل إذن؟ حسنًا يا سيد هيثرويك، وما زلنا نكتشف أمورًا يا سيدي! وسنعرف أكثرَ من ذلك. باسيفيري مجرم مدان. كلا الرجلين قد شُطِب من سجلات الأطباء. ومن المؤكَّد أنَّ أمبروز كان في سيليثوايت؛ وذلك في وقت وقوع مسألة سيليثوايت طبقًا لتلك التواريخ. هذان زوج واعد لغايتنا! ما رأيك؟»

فأجابه هيثرويك: «أتساءل إن كان الرجلان يعرفان أحدهما الآخر.»

فقال ماذرفيلد: «لا داعيَ للتساؤل بشأن ذلك. هما يعرفان أحدهما الآخر على الأرجح. ومن المرجَّح أيضًا أنهما متورِّطان معًا في تلك المسألة. ومن المرجَّح أنهما شريكان بالفعل، ومساعدان أحدهما للآخر. لكن الآن وبما أنني أعرف كلَّ هذه المعلومات عنهما، فيمكنني أن أكتشف المزيد، خاصة عن أمبروز؛ لأنه كان طبيبًا في الشرطة. ويمكنني أن أعرف أيضًا الجريمة المحدَّدة التي ارتكبها باسيفيري. أظنُّ أنه احتال على مريضٍ لديه. على أي حال، سأعيِّن في عصر اليوم رجلًا أو رجلين للحصول على بعض التفاصيل والسجلات عن كلٍّ من باسيفيري وأمبروز، وسأعود بالطبع إلى الشقة الموجودة بشارع «جون» وأفحصها بدقةٍ وإمعان.»

فسأله هيثرويك قائلًا: «وهل ستعيِّن مجموعةً للبحث عن أمبروز في ظل الأدلة التي قدَّمها ماكفيرسون؟»

أجابه ماذرفيلد: «بكل تأكيد! سنُصدِر إشعار «مطارد من الشرطة»، وسنفصِّل فيه صفاته بأفضل ما يمكننا. لكن أعتقد أن مهمة القبض عليه ستكون صعبة. وإن أردت رأيي الشخصي، فالأرجح أنه حصل على ذلك الاختراع السري من هانافورد وهرب عبر المحيط؛ ليحوِّله إلى أموال.»

فقال هيثرويك موافقًا: «هذا مرجَّح جدًّا. لكن ماذا عن باسيفيري؟»

قال ماذرفيلد: «لا يشغلني كثيرًا في الوقت الراهن. يبدو لي أن أمبروز هو الرجل الذي أبحث عنه، أولًا على أيِّ حال. لكنني سأفعل ما بوسعي لألقي القبض على باسيفيري. لو أن بنتيني وأولئك الأشخاص من شركة بلينكنسوب أتَوا إلينا بدلًا من وضع الخطط بمفردهم، لكنا فعلنا شيئًا مفيدًا. ما كنت لأسمح لذلك الرجل أن يهرب!»

فعلَّق هيثرويك يقول: «في رأيي أن باسيفيري وأمبروز شركاء في هذه المسألة. فكيف لنا أن نعرف أنهما لم يلتقيا في دوفر وأنهما هربا معًا؟»

وفي صباح اليوم التالي، كان هيثرويك لا يزال يفكِّر في هذا السؤال، فذهب إلى «لينكولنز إن فيلدز» وطلب رؤيةَ أحد الشريكين. فأُدخِل إلى الحجرة التي أجرى فيها هو وماذرفيلد المقابلةَ في اليوم السابق. لكنه وجد الرائد بنتيني وحدَه. وقال الشريك الأصغر إنَّ بلينكنسوب لديه عملٌ في المحكمة في هذا الصباح.

فقال هيثرويك موضِّحًا سببَ زيارته: «أتيت لأسأل إن كنت قد حصلت على مزيدٍ من المعلومات عن اختفاء باسيفيري في دوفر.»

بدا الامتعاض على وجه بنتيني.

وأجابه قائلًا: «أنا في أشد حالات الانزعاج من هذا الأمر! كان ذلك التصرُّف غبيًّا للغاية ولا مبرِّر له من جانب رجلنا؛ وهو رجل كنا نرى قبل ذلك أنه يمكن الاعتماد عليه دومًا. لقد عاد الرجل عصرَ أمس خجِلًا وأخبرنا الأمرَ برمَّته، فلاقى من جانبنا توبيخًا كبيرًا. كان يبلي بلاءً حسنًا في البداية. تعقَّب الرجل من قصر ريفرسريد وحتى دوركينج، ومن هناك إلى ريدهيل، ثم إلى دوفر، وذلك بعد تغيير واحد أو اثنين. نزل باسيفيري في فندقٍ نسيت اسمه الآن، لكنه يقع بالقرب من الميناء، ونزل رجلنا هناك أيضًا؛ إذ كان واثقًا من أن باسيفيري لا يدرك على الإطلاق وجودَ أحد يتبعه. ولم يحدث شيء. ورأى رجلنا باسيفيري في العشاء تلك الليلة، ورآه في غرفة التدخين بعدها، بل لعب معه البلياردو أيضًا، ورآه يعود إلى فراشه؛ إذ كانت غرفتاهما متجاورتين. كان الرجل واثقًا من أنه سيراه على الإفطار، لكنه حين نزل وجد أن الطائر قد طار؛ إذ قال الحارس الليلي إنه غادر مسرعًا قبل الساعة السادسة لكنه لا يعلم بوجهته. ولم يكن بمقدور رجلنا أن يتتبَّعه إلى محطةٍ من المحطات أو إلى الميناء أو إلى أيِّ مكان.»

قال هيثرويك: «ذلك أسلوب مستهتر في المراقبة.»

فوافقه بنتيني قائلًا: «بل أكثر من مستهتر! لقد حصل الرجل كما قلت على الكثير من التعنيف. لكن الآن …»

حينها دقَّ جرس الهاتف على مكتب بلينكنسوب. والتفت إليه بنتيني بعد أن اعتذر إلى هيثرويك. وبعد لحظةٍ انطلقت منه صيحةٌ مكتومة تنم عن المفاجأة، وتلاها بسرعة سؤال من جانبه. وفجأة التفت إلى هيثرويك.

وقال صائحًا: «يا إلهي! ما كل هذا؟ كانت هذه هي الليدي ريفرسريد. تقول إن أختها التي أتت أمس والآنسة فيذرستون قد اختُطِفتا! اختُطِفتا هذا الصباح!»

قفز هيثرويك على قدميه وصدرت عنه صيحةُ تعجُّب حادة، وقد توزَّعت مشاعره بين الدهشة وعدم التصديق. لكن أفكاره كانت مع رونا بالفعل؛ إذ كان يرى مخاطر هذا الموقف عليها على نحوٍ لا يمكن لبنتيني أن يراها به.

قال بنتيني: «مستحيل! اختُطِفتا! في وضح النهار؟ ومِن هناك؟»

لكن بنتيني كان لا يزال مشغولًا على الهاتف؛ إذ كان يتلقَّى إجابات سريعة ويجيب بمثلها.

كان يقول: «أجل، أجل! بكل تأكيد — الشرطة — أجل! سآتي إلى هناك على الفور — سيارة — أخبِر الشرطة أن يشرعوا في العمل.»

والتفت فجأة إلى هيثرويك ووضع السماعة من يده.

وقال: «يؤسفني أن ذلك ليس مستحيلًا! تقول الليدي ريفرسريد إنهما اختُطِفتا بينما كانتا في طريقهما من القصر إلى «الدار»؛ إذ سمعت شيئًا يشبه صوت سيارة كبيرة وبها رجال غرباء. سأذهب إلى هناك حالًا؛ فهذا الأمر يحمل في طياته أكثرَ مما تراه العين للوهلة الأولى.»

قال هيثرويك: «سآتي معك. أين يمكن لنا الحصول على سيارة؛ سيارة سريعة؟»

فأجابه بنتيني وهو يمسك على عجلٍ بواحد من عدة معاطف كبيرة معلَّقة في فجوة في الحائط: «هناك مَرأب قريب من هنا، في كينجزواي. تفضَّل! البَس واحدًا من هذه المعاطف؛ أنت في مثل طولي تقريبًا، فالهواء سيكون قارسًا ونحن في السيارة. والآن هيا بنا، سنكون هناك في أقل من ساعة.» وأردف يقول وهما يغادران المكتب ويسرعان نحو كينجزواي: «أتعلم، أظن أنني أستشفُّ شيئًا من هذا الأمر بالفعل يا هيثرويك. الأرجح أن أولئك الرجال ظنوا أنهم اختطفوا الليدي ريفرسريد! فاختطفوا أختها خطأً. يريدون طلب فدية بالطبع! فشلت حيلة الابتزاز؛ والآن يحاولون القيام بهذه الحيلة. لا شك أنهم يائسون متهورون!»

أومأ هيثرويك في صمت مشيرًا إلى اتفاقه مع ذلك. كان يفكِّر فيما إن كان سيخبر بنتيني أن الآنسة فيذرستون التي تحدَّث عنها لتوه هي في الواقع حفيدة الرجل الذي كانت جريمة قتله الغامضة هي نقطة البداية للأحداث الراهنة الغامضة. بدا لهيثرويك أن هذه الحقيقة ستظهر علنًا عاجلًا أو آجلًا، ومن المحتمل أن يترتَّب على ظهورها تعقيدات، بل ربما يترتَّب عليها مشاكلُ أيضًا حين تكتشف الليدي ريفرسريد أنَّ رونا قد ذهبت للتجسُّس عليها. ألن يكون من الأفضل أن يثق في بنتيني ويشرح له الأمر؟ لكنه وبعد تفكير قرَّر أن ينتظر حتى يعرف حقيقة الموقف بالضبط في قصر ريفرسريد؛ فحتى الآن وعلى الرغم من الأخبار التي أفصحت عنها الليدي ريفرسريد، كان هيثرويك يشعر بصعوبةٍ في تصديق أنَّ امرأتين إحداهما، كما يعلم، فتاةٌ ذاتُ معرفة شخصية قوية وسَعَة حيلة، والأخرى سيدة من سيدات المجتمع معتادة السفرَ والمغامرة، قد اختُطِفتا في وضح النهار على مرأًى مباشر من منزلين كبيرين، بدا له هذا الأمر مستحيلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤