الفصل الخامس والعشرون

ميت!

بعد أن سمع بقية القائمين بالبحث صيحةَ الفزع من اليهودي، توجَّهوا جميعًا نحو الجزء العلوي من المبنى. وصل إليه روبمور وهيثرويك أولًا؛ كان يقف عند باب حجرة شبه مغلق، وكان يحدِّق في داخلها بعينين قلقتين. فاندفعا من جانبه ودخلا إلى الغرفة.

ميَّز هيثرويك مظهرَ الغرفة العام ومحتوياتها من نظرة واحدة. استنتج من بعض الأدلة الصغيرة أنَّ الغرفة قد جُهِّزَت حديثًا لتكون غرفة نوم وجلوس في الوقت نفسه. كان بها سرير صغير قابل للطي والنقل في إحدى الزوايا، ومغسلة وطاولة زينة ومجموعة من الأدراج وصورتان أو ثلاث، ورفٌّ من الكتب، وسجادة مربَّعة الشكل صغيرة في منتصف الأرضية التي كانت الحواف الخارجية منها قد لُطِّخَت حديثًا. وعلى السرير كانت هناك حقيبة موضوعة ومفتوحة، وكانت معبَّأة بالفعل بالملابس وفُرُش السرير، وبجوارها كان هناك معطف كبير وقبعة وقفازات ومظلة؛ كان من الواضح أن الرجل الذي تعودُ إليه ملكيةُ هذه الأشياء قد أنهى استعداده للرحيل، ولم يكن أمامه شيء يفعله سوى إغلاق الحقيبة، وارتداء معطفه وقبَّعته وأخذِ الأشياء الأخرى والرحيل.

لكن ماذا عن الرجل نفسه؟ كان هناك كرسي وثير كبير الحجم عتيق الطراز عند أحد جوانب السرير، وكان فسيحًا ومريحًا. وكان ثمة رجل يجلس عليه، أو بالأحرى يرقد فيه على نحوٍ يوحي بأنه سقط على الكرسي من إعياء مفاجئ، وأسند رأسه للخلف على الوسادة المبطَّنة، وراح في النوم. لكن الرجال عرفوا جميعًا؛ إذ تجمَّعوا داخل الغرفة، أن ما دخلوا عليه لم يكن شخصًا نائمًا، بل ميتًا. كان هذا الرجل ميتًا كما لاحظ اليهودي سريعًا؛ كان ميتًا بالفعل!

وقد ميَّزه هيثرويك سريعًا كما ميَّز الأشياء المحيطة به. كان رأسه يستند في هدوء إلى بطانة الكرسي، وكان يميل قليلًا نحو كتفه اليسرى، وكان وجهه واضحًا بالكامل. بالنسبة إلى هيثرويك، كان ذلك وجهَ رجل غريب؛ فهو لم يُوصَف إليه من قبل في أثناء أيٍّ من التحقيقات التي أجراها هو وماذرفيلد. لكنه كان متأكدًا من أنه يشبه الرجل الذي يعرفونه ويشتهر لديهم باسم أمبروز. كان الرجل متنكرًا بالطبع؛ إذ حلق ذقنه وشاربه الداكنين اللذين كانا يعرفانه بهما، وتمكَّن هيثرويك من أن يلاحظ في الحال أن التخلُّص منهما أحدث اختلافًا ملحوظًا في مظهره. لكن لا شيء كان بإمكانه أن يخفي طوله وبنية جسده بصفة عامة. فمن دون شك، كان هذا هو الرجل الذي يلاحقه هو وماذرفيلد، الرجل الذي التقى بهانافورد في فيكتوريا، والذي اختفى من الشقة في أديلفي، الرجل الذي كان على معرفة بباسيفيري، والذي …

غمغم روبمور يقول وهو ينحني ليقترب من الجسد الجامد: «ميت ومتصلِّب! ومضت على وفاته مدة أيضًا! بضع ساعات على أي حال. جثته متصلِّبة! أتعرفه يا سيد هيثرويك؟»

قال هيثرويك ما كان يظنه. وأشار روبمور إلى الأشياء التي كانت على السرير.

وعلَّق قائلًا: «يبدو وكأنه أصابته نوبة بينما كان يستعد لينطلق إلى مكانٍ ما.» ثم أردف يقول: «في الواقع، إن كان هذا هو الدكتور أمبروز الذي كنا نبحث عنه … لكن لنرى أولًا ما إذا كان يحمل أيَّ شيء يثبت هويته.»

وبينما وقف بقية الرجال يشاهدون، مد روبمور يده إلى داخل جيب صدر الرجل المتوفَّى الذي كان يرتدي بزة جديدة رمادية من قماش التويد، وتذكَّر هيثرويك فيما بعد كيف أنَّ جدتها قد بدت له متناقضةً مع الأجواء بشكلٍ ما، ثم أخرج منه دفترًا صغيرًا. لمس روبمور مرفق هيثرويك وأشار إليه أن يتبعه، ثم ذهب إلى النافذة وترك البقية يحدِّقون في استغراب إلى الرجل الميت.

وهمس روبمور بينما ابتعدا عن الجمع: «هذه مسألة غريبة يا سيد هيثرويك. أتظن أن هذا هو الدكتور أمبروز الذي نلاحقه؟»

فأجابه هيثرويك: «أنا واثق من ذلك! لقد حلق لحيته وشاربه، ولا شك أن هذا أحدث اختلافًا كبيرًا في مظهره، لكنك تستطيع الوثوق بكلامي؛ هذا هو الرجل! لكن ما الذي تسبَّب في وفاته المفاجئة؟»

ثم ومضت في ذهنه ذكرى قوية واضحة، فالتفت بسرعة وراح يحدِّق في الجسد الجامد القابع في الخلفية.

فسأله روبمور في فضول: «ماذا؟ أتفكِّر في شيء؟»

فأشار هيثرويك إلى هيئة الرجل الميت.

وهمس قائلًا: «تلك … تلك هي الهيئة التي بدا عليها هانافورد حين مات في عربة القطار! فبعد أن ظهرت عليه العلامات الأولى، استلقى للخلف ومات. بهذه الهيئة تمامًا، وكأنه استغرق في النوم بكل هدوء. أيمكن، أيمكن أن يكون …»

غمغم روبمور: «أعرف ما تفكِّر فيه. مات مسمومًا! حسنًا، ماذا عن ذلك الرجل الآخر؟»

قال هيثرويك متعجبًا: «باسيفيري!»

فقال روبمور: «لمَ لا؟ ليتخلص من شريكه في الجريمة! لكن، لدينا هذا الدفتر. لنرَ ما بداخله. لا يبدو أن به الكثير بناءً على سُمكه الرقيق.»

ومن إحدى دفَّتي الدفتر، سحب روبمور رزمة من عملات نقدية مطوية بعناية، فراح يَعدُّها بسرعة.

وعلَّق يقول: «مائة وخمسون جنيهًا. وما هذه الورقة، حوالة على أحد بنوك نيويورك بقيمة مائتي جنيه. نيويورك؟ إذن كانت تلك وجهته؟» ثم أكمل يقول وهو يقلِّب الدفة الأخرى: «آه! أترى هذا يا سيد هيثرويك؟ لقد حجز رحلته البحرية على متن السفينة «ماراتيك» التي ستبحر الليلة. أممم! وقد ذهب ماذرفيلد إلى ساوثامبتون في أثر باسيفيري. بدأتُ أدرك الأمر الآن، على ما أظن.»

فسأله هيثرويك: «ماذا ترى؟»

«حسنًا، يبدو لي وكأن باسيفيري قد ذهب أولًا ليحصل على ذلك الصندوق الذي يحتوي على الجواهر على أن يلحق به أمبروز هناك، حين يكون باسيفيري قد أمَّن غنيمتهما، وأنهما بعد ذلك كانا سيهربان بما اغتنما! لكن، أتلحظ هذا، الاسم الذي حُجِزت به الرحلة؟ ليس بأمبروز، بل السيد المحترم تشارلز أندروز. أندروز! وباسيفيري هو بيسنج. بيسنج وأندروز. والآن أتساءل إن كانا يجريان الأعمال هنا باستخدام هذين الاسمين؟»

قال هيثرويك: «هذه تفصيلة غير مهمة. الأمر المهم بكل تأكيد هو، هذا! كيف لقي هذا الرجل منيَّته؟»

فأجاب روبمور يقول: «لكني لا أظن أن هذا مهم للغاية في الوقت الراهن. فقد مات على أي حال، وسواء أمات نتيجة لنوبة مفاجئة، أم كان باسيفيري قد سمَّمه ببراعة قبل أن يغادر، فهذا سؤال سيتعين علينا أن نجد إجابته في وقت لاحق. لكنني سأخبرك بأمرٍ ما يا سيد هيثرويك: أراهن بأي شيء على أنه لم يُسمِّم نفسه! انظر حولك، لا توجد إشارة واحدة على وجود أيِّ شيء كان يتناول منه الشراب. لا يا سيدي، بل فعل الرجل الآخر هذه الفِعلة. وإذا حالف ماذرفيلد الحظ في إلقاء القبض عليه الليلة … آه! لكن الآن، ما الذي أخبرنا به موظفك مابيرلي عن تلك السيدة صاحبة المنزل الكائن في شارع «ليتل سميث» والتي أتت إلى هنا ظهر اليوم؟»

أجاب هيثرويك: «تعقَّبها جولدمارك إلى هنا. رآها تدخل بمفتاحٍ أخرجته من جيبها. ومكثت بالداخل بضع دقائق، ثم خرجت وهي تبدو منزعجة للغاية، ثم هُرعت نحو منزلها.»

فقال روبمور: «والآن سنُهرع أنا وأنت خلفها. ففي نهاية المطاف، هي على قيد الحياة، وسنجعلها تجد طريقة للكلام. لقد أتت المرأة إلى هنا بالطبع وهي تتوقَّع أن تجد هذا الرجل، وأن تخبره أن هناك مَن يبحث خلفهم. فوجدته ميتًا! تعالَ معي في الحال يا سيد هيثرويك.»

التفت بعد ذلك إلى المحقِّق الآخر والشرطي، وبعد أن أعطاهما التعليمات همسًا، غادر الغرفة، وتبِعه هيثرويك بعد أن تحدَّث بكلمة مع مابيرلي. لكن وقبل أن يصلا إلى الباب الخارجي، سمعا صوت أقدام في الباحة، وفجأة ظهر أمامهما عند المدخل رجلان.

وإذا كان هيثرويك ورفيقه قد نظرا إليهما بنظرات استفهام، فقد نظر الرجلان من جانبهما أيضًا إلى روبمور وهيثرويك بالطريقة نفسها. كان الرجلان شابَّين؛ وقد حدَّد هيثرويك أنهما حِرَفيَّان يرتديان ملابس محترمة. كان من الواضح تمامًا أن روبمور وهيثرويك قد فوجئا بمقابلتهما عند الباب حيث كان أربعتهم يقفون؛ والحق أنَّ شعورهما بالمفاجأة كان كبيرًا للغاية حتى إنهما توقَّفا تمامًا، وراحا يحدِّقان في صمت. لكن روبمور تحدَّث. فسأل بنبرة حادة: «أتبحثان عن أحد؟»

تبادل الرجلان النظرات، ثم أجاب الأكبر سنًّا فيهما على ما يبدو:

فقال: «لا، في الواقع! لا نعرف بوجود أحد هنا. لكن أيمكن لنا أن نطرح السؤال نفسه عليكما؟ وكيف دخلتما إلى هنا؟ لأن هذا المكان في الواقع ملك لنا!»

صاح روبمور متعجبًا: «لكما! مِلك لكما؟»

فأجابه الرجل: «إن كان شراؤه ودفْعُ ثمنه وأخْذُ قسيمة شراء وأوراق يجعل منه مِلكًا لنا! لقد اشتريناه هذا الصباح، ودفعنا كامل ثمنه أيضًا، على أي حال.»

أخرج روبمور بطاقةً مهنية وسلَّمها لهما؛ فسُقِط في أيدي الرجلين وهما يقرآنها. ثم رفع أكبرهما عينه سريعًا.

وقال بقلق: «آمل أنه لا يوجد خطْب ما أيها المحقِّقان، أثمَّة خطْب؟ لقد دفعنا مبلغًا كبيرًا من المال في هذا المكان، ووضعنا فيه مدخراتنا كذلك و…»

فأجابه روبمور مطمئنًا إياه: «لا أعتقد أن هناك خطْبًا ما بهذا الشكل. لكنْ ثمة خطْبًا كبيرًا جدًّا من جوانب أخرى، والآن اسمعا، مَن أنتما، وممن اشتريتما هذا المكان؟»

فأجابه المتحدِّث عنهما: «اسمي مارشال، واسمه ويلكنسن. نحن نبدأ عملًا تجاريًّا خاصًّا بنا كمهندسَين كهربائيَّين. وقد نشرنا إعلانًا عن مكانٍ مشابه لهذا في الأرجاء، وأتانا السيد أندروز بشأن هذا الإعلان، وقال إنه هو وشريكه السيد بيسنج سيغادران ويريدان بيعه، بالحالة التي هو عليها تمامًا. فأتينا لنلقي نظرة عليه، وحيث إنه المكان المناسب للبداية، اتفقنا على شرائه. وقد قالا بأن المكان ملكيتهما الخاصة، ولكي نوفِّر أتعاب المحامين أتممنا عملية الشراء فيما بيننا. لقد دفعنا ثمن المكان هذا الصباح، وحصلنا على الأوراق والمفاتيح.»

فسأله روبمور: «كم كانت الساعة؟»

أجاب مارشال: «العاشرة صباحًا تقريبًا. كان هذا موعد لقائنا هنا.»

«هل رأيتما كلا الرجلين؛ بيسنج وأندروز؟»

«كلاهما! في تلك الحجرة الصغيرة على اليمين. أتممنا عملية البيع، ودفعنا الأموال نقدًا، وسوينا كلَّ شيء. سرعان ما تم الأمر، ثم قدَّم لنا الرجلان مشروبًا وسيجارًا، وخرجا.»

فقال روبمور فجأة: «قدَّما لكما شرابًا؟ أين؟»

«هنا! لقد أخرج بيسنج زجاجة شمبانيا كبيرة وعلبة سيجار، وقال إننا سنشرب نَخْب الصفقة. فتناول كلٌّ منَّا كأسًا، ويلكنسن وأنا، ثم تركناهما لينتهيا من الزجاجة، كنا على عجلٍ من أمرنا. لكن؛ هل هناك خطْبٌ ما؟»

فأجابه روبمور: «الخطْب أيها الرجل أن الرجل الذي تعرفونه باسم أمبروز يرقد في الطابق العلوي ميتًا! مات مسمومًا على الأرجح، على يد شريكه. لكن مثلما قلتُ الآن، لا أعتقد أن هناك خطْبًا في شرائكما لهذا المكان، بشرط أن تتمكَّنا من تقديم برهان على ذلك؛ أتقولان إنَّ الأوراق اللازمة في حوزتكما؟»

فربَّت مارشال بيده على جيب معطفه.

وقال: «لديَّ الأوراق كلها هنا. لكن، أتقول إن أندروز مات مسمومًا؟ لقد كان على قيد الحياة حين تركنا الرجلين معًا. كانا ينهيان الزجاجة …»

فقاطعه روبمور قائلًا: «اسمعا، انتظرا هنا حتى نعود، لدينا عملٌ مهم في الجوار. هناك رجال لنا في الطابق العلوي؛ أخبِراهم أنني قلت إنكما ستنتظران هنا. والآن يا سيد هيثرويك.»

التفت روبمور إلى رفيقه خارج الباحة في الشارع وكان يضحك ضحكةً ساخرة.

وقال: «شمبانيا؛ ليشربا نَخْب الصفقة! تركاهما ينهيان الزجاجة؟ لا شك أن ما قضى على أمبروز كان في هذه الشمبانيا ودسَّه باسيفيري فيها حين أعطاه ظهره. سأخبرك بأمرٍ يا سيد هيثرويك، ذلك الرجل بارع للغاية وهو يكمل ما بدأه حتى النهاية وعلى أكمل وجه! إنما آمل فقط ألا يستعصي على ماذرفيلد في ساوثامبتون! لن يبارحني القلق حتى أسمع المستجدات.»

فسأله هيثرويك: «أمن الممكن له أن يهرب من ماذرفيلد؟ كيف له ذلك؟ في رأيي أنه الآن في قبضة ماذرفيلد بالفعل! لا بد أنه سيذهب إلى مكتب البريد ليحصل على الصندوق.»

فقاطعه المحقِّق قائلًا بضحكة ساخرة أخرى: «حقًّا؟ لستُ واثقًا جدًّا من ذلك. لا شك أن باسيفيري محتال بارع، وفي جَعبته الكثير والكثير من الخدع! سأخبرك بما يشغل ذهني: هل سيذهب ذلك الطرد فعلًا إلى مكتب بريد ساوثامبتون، حيث يمكن الحصول عليه؟»

فسأله هيثرويك في إلحاح: «ماذا تقصد؟ إنه في مكتب البريد! لقد أُرسِل صباح اليوم.»

فوافقه روبمور باقتضاب قائلًا: «لا شك في ذلك. عن طريق التوصيل الخاص، صحيح؟ وحين يصل الطرد إلى محطة ساوثامبتون، ينبغي أن يُؤخذ إلى مكتب البريد الرئيسي، أليس كذلك؟»

سأله هيثرويك: «وبعد؟»

فأجابه روبمور: «بين الكأس والشفة مزالقُ كثيرة كما يُقال في المَثَل القديم. وقد يتعرَّض ذلك الطرد لأحدها. لكن أليس هذا هو الرقم الذي ذكره موظفك؟»

بدا باب منزل السيدة ماليت موصدًا أكثرَ من ذي قبل؛ إن كان هذا ممكنًا. ولم يأتِ ردٌّ على العديد من دقات الجرس والطَّرْق. وبعد ذلك أمسك روبمور بمقبض الباب؛ ففُتِح الباب في يده.

فصاح يقول: «مرحبًا! الباب مفتوح! يبدو هذا غريبًا بعض الشيء. لندخل!»

وللمرة الثانية في ظهر ذلك اليوم، كان هيثرويك يدخل إلى مكانٍ يبدو مهجورًا تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤