الفصل السادس والعشرون

واترلو

دخل المحقِّق الذي كان يتقدَّم رفيقه بعض الشيء إلى طاولة الرُّواق وطرقَ على سطحها المصقول طرْقًا عاليًا. لم يأتِه أيُّ رد. فتقدَّم أكثر نحو مقدمة درابزين السُّلم الذي كان من الواضح أنه يؤدي إلى مطبخ القبو، ومرة أخرى طرقَ على لوحٍ مجاور بصوتٍ أعلى من ذي قبل، ومرةً أخرى لم يأتِه أيُّ ردٍّ. وحينها التفت عائدًا إلى الرُّواق، وفتح باب الحجرة التي تطل على الشارع، ونظر فيها هو وهيثرويك. كانت ستائر الحجرة مغلقةً ورائحتها عفنة، أشبه بغرفة استقبالٍ لا تُستخدم إلا قليلًا في أيام الآحاد، فبدت باردة لا تبعث على الراحة. لكن الحجرة التي تليها، والتي توجَّه إليها روبمور بعد ذلك، كان بها إشارات تدل على وجود حياة، وأنَّ هناك مَن كان يقطنها حديثًا. كانت المدفأة لا تزال موقدة، وكان هناك كرسي وثير بالقرب منها، وعلى الطاولة القريبة كانت توجد بعض الأغراض النسائية: كومة من الكتان بها إبرة وخيط، وسلة عمل، ومقص، وقمع خياطة، ولم يتطلب الأمر أكثرَ من نظرة واحدة ليدرك الناظر أن مالكة هذه الأشياء البريئة قد وضعتها من يدها فجأة؛ إذ قوطِعت فجأة عن مهمتها.

هتف روبمور فجأة وقال: «حسنًا يا سيد هيثرويك! هذا المنزل فارغ! فارغ من الناس على أي حال.»

فوافقه هيثرويك قائلًا: «المنزل ساكن بما يكفي، هذا أكيد. يبدو أن المرأة …»

قال روبمور: «لقد أخفتها بمجيئك إلى هنا. فتسللت إلى شارع «بينكوف». وهناك وجدت أمبروز ميتًا! ثمة علاقةٌ ما تربطها به وبباسيفيري، لأنها تملك مفتاحًا يدخلها إلى الباحة. وحين وجدت أمبروز ميتًا، عادت إلى هنا، وجمعت أشياءها ورحلت. لا يوجد شخص واحد حتى في هذا المنزل. أراهنك بأي شيء على ذلك!»

علَّق هيثرويك يقول: «فكَّرت في أن هذا قد يكون المكان الذي ربما احتُجِزت فيه المرأتان.»

فصرَّح روبمور: «سنرى بشأن ذلك. لنصعد إلى الطابق العلوي، سنفتِّش في المكان أولًا عن آخر. لكن توقَّف، لنبحث في الطابق التحتي أولًا.»

هُرع على الدَّرج حتى مطبخ القبو، وكان هيثرويك خلفه. وعند الباب راح يضحك وهو يشير إلى داخل المطبخ.

وهتف يقول: «انظر! قلت لك إنك قاطعت بعض الأمور. أترى! هذه طاولة شاي، كانت موضوعة ومجهزة لشخصين: أكواب وصحون وإبريق شاي وخبز مقطوع وزبد وكعك. وثمة طاولة شاي أخرى معدَّة لشخص واحد. وها هي ذي غلاية الشاي، تصفر كعصفور على غصن. ما معنى هذا؟ كانت المرأة على وشك أن تحمل الشاي لاثنين من الأشخاص في مكانٍ ما؛ وكانت الطاولة الأخرى لها. لقد قضيت على ذلك في مهده؛ لكنها ستحصل على شايها في مكانٍ ما. فماذا عن الآخرين؟ لنصعد إلى الطابق العلوي.»

وبعد أن عادا إلى الرَّدهة، تقدَّم روبمور على الدَّرج الرئيسي للمنزل. كان هناك طابقان فوق الطابق الأرضي، لم تكشف غرف الطابق الأول منهما، سواء فتحها الرجلان أو وجداها مفتوحة إلا عن أشياءَ عادية؛ وكان منها ثلاث تفضي إلى بسطة سلَّم رئيسية. أما الطابق التالي، فلم يكن هناك سوى غرفتين إحداهما غير مفروشة، وعند باب الأخرى الذي كان مفتوحًا بعض الشيء توقَّف المحقِّق في الحال.

قال وهو يشير في الأرجاء: «والآن انظر هنا يا سيد هيثرويك! قد أُجري هذا العمل حديثًا! أترى أن هناك مزلاجًا قويًّا هو أشبه بقضيب حديدي، قد ثُبِّت على الجانب الخارجي من هذا الباب، وزُوِّد الباب نفسه بقفلٍ حديث قوي مفتاحه من الخارج؟ يا إلهي! هناك سلسلة أيضًا. قد يكون هذا سجنًا! لكن ماذا يوجد في الداخل؟»

دفع الباب ليفتحه فظهرت أمامه حجرة كبيرة، بها سريران صغيران، وكرسيان، وطاولة كان عليها كتب ومجلات وجرائد، وعلى الطاولة أيضًا كان هناك قماش يتم تطريزه، وكان من الواضح أنه تُرِك على عجلٍ كما حدث في قماش الخياطة بالأسفل. مال هيثرويك على الأشياء يتفحَّصها، بينما توجَّه روبمور إلى النافذة الوحيدة.

وهتف يقول: «سجن، ألم أقل لك؟ يا إلهي، سجن! انظر يا سيد هيثرويك! النافذة موصدة من الداخل وعليها قضبان حديدية مثبتة من الخارج. حتى إذا تمكَّن أيًّا مَن كانوا هنا من فتح النافذة وإن لم يكن عليها قضبان حديدية بالخارج، فما كانوا ليتمكنوا من القيام بأي شيء؛ إذ لا يوجد شيء في الخارج سوى جدار مرتفع؛ يبدو أنه جدار خلفي لمصنعٍ ما أو شيء من هذا القبيل.» وأضاف وهو يفتح بابًا كان في الركن: «لكن ما هذا؟ مرحاض صغير.» أردف وهو يتوجَّه نحو كوَّة في الحائط مربَّعة الشكل بجوار الدَّرج: «وهذا. آه! سحارة كبيرة بما يكفي لإدخال أشياء مثل آنية صغيرة، لكنها ليست كبيرة بما يكفي ليتسلل من خلالها شخص بالغ. لن أعجب إن كنت على حق يا سيد هيثرويك؛ فمن المرجَّح أن يكون هذا هو المكان الذي احتُجِزَت فيه السيدتان. لكنهما اختفتا الآن!»

كان هيثرويك ينظر حوله. وفجأة وقعت عينه على شيء مألوف له. فتقدَّم، ومن فوق كرسي موضوع بالقرب من أحد الأسِرَّة أمسك بحقيبة يد من الحرير الأخضر. كان يعرفها جيدًا.

هتف هيثرويك يقول: «هذا يحسم الأمر.» وأردف: «لقد كانتا هنا! هذه هي حقيبة الآنسة هان … أقصد الآنسة فيذرستون، رأيتها تحملها عدة مرات. وهذه أشياؤها بداخلها: محفظتها، وحافظة بطاقاتها، وغير ذلك. لقد تركتها هنا خلفها.»

اتفق معه روبمور قائلًا: «أجل، صحيح.» وأكمل: «ومثلما قلت، لقد غادرن جميعًا في عجالة. أتصوَّر أنَّ الأمر حدث كالآتي: تلك المرأة التي كانت تعمل بالطبع سجَّانة لهاتين السيدتين التعيستي الحظ، حين اكتشفت أمر مقتل الرجل هناك، أتت إلى هنا، وحزمت أشياءها، وهربت. لكنها قبل أن تغادر، كانت تتمتَّع بما يكفي من الذوق لأن تصعد إلى هنا، وتفكَّ السلاسل، وتفتح المزلاج والباب! ومن المؤكَّد أنها انصرفت مسرعة، تاركة السيدتين حرتين. أما السيدتان، يا سيد هيثرويك، وحيث إنهما تتمتَّعان بشيء من المنطق السليم، فقد فعلتا ما كنت لأفعله مكانهما؛ هربتا بأسرع ما أمكنهما. هذا هو ما حدث يا سيدي!»

دسَّ هيثرويك حقيبة رونا في معطفه وتوجَّه نحو الباب.

وقال: «سأغادر إذن يا روبمور. ينبغي أن أحاول أن أعرف أين ذهبتا. ربما ذهبتا إلى مكتب بنتيني. سأذهب إلى هناك. لكن، ماذا عنك؟»

فأجابه روبمور: «حسنًا، سأذهب إلى شارع «بينكوف». ثمة الكثير مما ينبغي أن أفعله هناك. لكن لتذهب أنت خلف السيدتين يا سيد هيثرويك، فليس هناك ما يمكنك فعله هنا الآن. سأبقي على موظفك وذلك الرجل اليهودي؛ فقد يساعدان. أظن أننا سنقرأ عن بعض المفاجآت في الصحف غدًا، خاصة لو كان ماذرفيلد محظوظًا كما يتوقَّع.»

فسأله هيثرويك وهما ينزلان الدَّرج: «ماذا ستفعل بشأن هذا المنزل؟ أتظن أن المرأة ستعود؟»

فردَّ عليه روبمور: «أراهنك بحياتي أنها لن تعود! ليست هي مَن سيعود! أظنُّ أنها قطعت بالفعل مسافة كبيرة في هروبها من لندن، وقد يكون ذلك في أي اتجاه بحلول هذه اللحظة. أما عن المنزل؟ فسأوصد الباب الأمامي وسأضع المفتاح في جيبي. فسنكون في حاجةٍ لتفتيش المنزل تفتيشًا دقيقًا.»

ودَّعه هيثرويك للوقت الراهن وانطلق إلى شارع «فيكتوريا» وألقى بنفسه في أول سيارة أجرة فارغة صادفها، وطلب من السائق أن يتوجَّه بأسرع ما يمكنه إلى «لينكولنز إن فيلدز». كان قلقًا على رونا، لكنه كان يشعر أنها آمنة. وكان يحدوه الفضول أيضًا؛ إذ كان يريد أن يسمع قصَّتها، ليعرف ما حدث خلف الكواليس. شعر هيثرويك بأنه متأكد أنه سيجدها في مكتب بنتيني؛ فلا شك بأنها ستذهب هي والسيدة ليستوريل إلى هناك فور إطلاق سراحهما.

لكن الموظَّف الذي التقى به فور أن دخل يُهرع إلى المكتب الخارجي ثبَّط من روحه المعنوية حين هزَّ رأسه نافيًا.

فقد أجابه قائلًا: «السيد بنتيني ليس بالداخل يا سيدي. كان موجودًا حتى وقت ليس بالطويل، لكنه تلقَّى اتصالًا هاتفيًّا وذهب بعده في الحال. ولا، لا أعرف مَن الذي اتصل به يا سيد هيثرويك، ولا إلى أين ذهب؛ لكنه بدا منفعلًا بعض الشيء حين ذهب، وكان على عجلةٍ من أمره.»

استنتج هيثرويك أن السيدة ليستوريل استدعت بنتيني، وأنه ذهب للقائها هي ورونا. انصرف هيثرويك وهو في حيرةٍ من أمره بعض الشيء، ثم تذكَّر أن ماذرفيلد قطع وعدًا بأن يرسل له برقية من ساوثامبتون، فاتَّجه صوب شقته. وعند الدَّرج التقى بالحارس.

فقال الرجل: «ثمة آنسة شابة سألت عنك يا سيد هيثرويك. أتت مرتين. قلت لها إنني لا أعرف متى ستعود، أو ما إن كنت ستعود أصلًا. فقالت — لكن ها هي ذي الآنسة الشابة يا سيدي — إنها عائدة!»

التفت هيثرويك بسرعة ورأى رونا وهي تعبر الطريق. فأسرع هيثرويك ليلتقي بها غير عابئ بمن يشاهده، وأخذ يدَيها في يديه بطريقة جعلت الدماء تنبض في وجنتيها.

وسألها بسرعة: «أأنت بخير، أأنت سالمة؟»

«بالتأكيد؟»

فأجابته تقول: «أنا بخير وسالمة، شكرًا لك. كنت … لقد أتيت إلى هنا مرتين، لكنك كنت في الخارج. أتيت لأقترض بعض المال. لقد تركت حقيبتي ومحفظتي في … ذلك المكان الذي كنا محتجزتين فيه، و…»

فأخرج هيثرويك حقيبة اليد وأعطاها إياها وهو صامت. فراحت تحدِّق فيه.

وهتفت متعجبة: «كنت … هناك! كيف …»

فأجابها: «ذهبت إلى هناك ظهر اليوم. تفضلي، لنصعد إلى شقتي! لا يمكن أن نقف ونتحدَّث هنا. السيدة ليستوريل، أين هي؟»

ردَّت رونا: «تركتها في فيكتوريا، تهاتف الرائد بنتيني. هي أيضًا ليس معها نقود. كانت تريدني أن أنتظر حتى يصل الرائد بنتيني، لكنني ما كنت لأفعل. أتيت سيرًا إلى هنا. كنت … لقد رأيت أنك سترغب في معرفة أننا خرجنا، أخيرًا.»

لم يتحدَّث هيثرويك حتى دخلا غرفة الجلوس في شقته. وبعد أن راح يحدِّق فيها في صمت، وضع يده على كتفَي رونا، وبعد أن نظر لها طويلًا، انحنى فجأة واندفع يقبِّلها.

وقال بنبرة خفيضة: «يا إلهي! لم أكن أعرف كم كنت قلقًا عليكِ حتى رأيتكِ الآن! لكنني الآن أعرف!»

ثم التفت بعيدًا عنها فجأة كما قبَّلها فجأة، وأشعل الموقد بطريقة عادية، ووضع عليه غلاية ماء، وبدأ تحضيرات كانت تشير إلى نيته في إعداد الشاي. وراحت رونا تشاهده من كرسي وثير كان قد دفعها فيه بألفة.

قالت رونا فجأة: «الحرية! كلانا يكتشف شيئًا. حين تُسجَن ليل نهار، لبعض الوقت …»

فسألها وهو يلتفت إليها: «كيف كان ذلك؟ بالطبع نعرف كل شيء عن عملية الاختطاف، لكن ماذا عن بقية القصة، وحتى يومنا هذا؟ كان باسيفيري بالطبع، أليس كذلك؟»

فأجابته: «باسيفيري ورجل آخر. رجل طويل القامة حليق الوجه، لم نسمع اسمه قط. لكن باسيفيري كان هو المسئول الأول. أما عن كيفية حدوث ذلك، فقد التقى بنا الرجلان عند الطريق الغائر في ريفرسريد، وأجبرانا على ركوب سيارة تحت تهديد المسدسات، وانطلقا بنا إلى لندن، إلى ويستمنستر تحديدًا، ثم إلى منزلٍ هناك؛ ذلك المنزل الذي ذهبتَ إليه اليوم. وهناك …»

قال هيثرويك: «لحظة.» وهو يبحث عن الأكواب وصحونها. ثم أردف: «ماذا عن سائق السيارة؟ لا بد أنه كان شريكًا في الجريمة.»

«لا شك في ذلك، لكننا لم نرَه بعد ذلك قط. لم نرَ إلا هذين الرجلين وتلك المرأة التي كانت سجَّانة لنا وكانت تحضر لنا الطعام. كانا يطعماننا جيدًا، ووفَّرا لنا كتبًا وصحفًا، وأعمال تطريز أيضًا. لكنهما كانا متسلطين جدًّا بشأن السيدة ليستوريل وجواهرها. لا بد أنهما كانا يعرفان كل شيء عن تلك المجوهرات؛ لأنهما حصلا على أوراقها الخاصة …»

قال هيثرويك: «أعرف كل شيء عن ذلك. سأخبرك بجانبي من القصة حين تتناولين بعض الشاي. أعتقد أنهما أجبراها على كتابة تلك الخطابات، أليس كذلك؟»

قالت رونا: «لقد أجبراها على فعل ذلك تمامًا كما أجبرانا على ركوب السيارة، بالمسدسات! وقد كانا جادين في التهديد. أعتقد أنهما حصلا على المجوهرات الآن، صحيح؟»

فأجابها هيثرويك: «لا نعرف بأمر ذلك بعد. أصدف أن أخبرتك السيدة ليستوريل بقيمة تلك المجوهرات؟»

«لم تكن تتحدَّث عن شيء آخر غيرها تقريبًا. قيمتها تتراوح بين ثمانين ألف جنيه وتسعين ألفًا. إنها منزعجة للغاية بشأن تلك الجواهر. لكن المسألة حرفيًّا كانت حياتها في مقابل تلك الجواهر. لا أعرف ما كانا سيفعلان بي. لكنني الآن بخير!»

فتح هيثرويك علبة من الصفيح، وأخرج منها كعكة برقوق، وأعطاها رونا لتتفحَّصها.

وسألها بإعجاب قائلًا: «ما رأيك بهذه الكعكة؟ إنها هدية من عمتي في الريف، كعكة لذيذة وشهية.» ثم أكمل يقول: «أجل، أجل، أنت الآن بخير. لكن، يا إلهي …»

لم تقُل رونا شيئًا. رأت رونا أن ارتياحه لدى رؤيتها كان أكبرَ كثيرًا مما كان يرغب في إظهاره. فصبَّت الشاي؛ وجلسا يتناقشان في الأحداث الراهنة حتى بدأت غيوم الغسق تلف الحجرة بأكملها في الظلام.

فقالت رونا أخيرًا: «ينبغي لي أن أعود إلى ريفرسريد. لقد تأخَّر الوقت.»

فقال هيثرويك الذي كان قد أخبرها بكلِّ ما يعرف: «انتظري قليلًا! ستصلني برقية من ماذرفيلد قريبًا. لا تذهبي إلى ريفرسريد الليلة. اتصلي بالليدي ريفرسريد وأخبريها أنكِ ستمكثين في المدينة. ستكون أختها قد وصلت إلى هناك بحلول هذا الوقت، ومن المؤكَّد أنها أخبرتها بكل شيء. انتظري حتى نتلقَّى البرقية من ماذرفيلد، ثم سنذهب لنتناول الطعام في مكانٍ ما، ويمكنكِ أن تمكثي ليلتكِ في فندقكِ القديم في سُري. أريد أن تعرفي ما حدث في ساوثامبتون و…»

توقَّف إذ سمعا طرْقًا على بابه.

فهتف يقول: «لا بد أن هذه هي برقية ماذرفيلد. والآن …»

عاد بعد لحظة ومعه رسالة في يده.

وقال: «إنها من ماذرفيلد. سُلِّمَت في غرب ساوثامبتون في السادسة وتسع عشرة دقيقة. لا يقول فيها إن كان قد قبض على الرجل أو لا! كل ما يقوله هو قابلني في واترلو، سأصل في الثامنة وعشرين دقيقة. حسنًا …»

قالت رونا: «ماذا حدث يا تُرى؟ لكن باسيفيري …»

فغمغم هيثرويك: «تمامًا كما يقول روبمور.»

نظر في ساعته وقال: «هيا بنا.» ثم أكمل يقول: «لدينا ما يكفي من الوقت لنحصل على شيءٍ من طعام العشاء، في «واترلو»، وسنكون على الرصيف حين يصل قطار الثامنة والثلث. كانت شهيتي لتصبح أكبر لو كنت رأيت باسيفيري في قبضة ماذرفيلد وكويجمان أولًا!»

كانت المساحة الشاسعة بين مباني المحطة ومدخل الرصيف في محطة «واترلو» تعجُّ بالناس حين خرج هيثرويك ورونا من المطعم في الثامنة وعشر دقائق. وكان هيثرويك يسأل عن الرصيف الذي سيصل إليه القطار حين شعر بلمسةٍ خفيفة على ذراعه. وبعد أن التفت بسرعة رأى روبمور. ابتسم إليه روبمور ابتسامةً هادئة صَحِبتها غمزةٌ ذات مغزًى.

وقال: «أظنُّ أنك هنا للسبب نفسه يا سيد هيثرويك. برقية ماذرفيلد، صحيح؟»

فأجابه هيثرويك: «صحيح. وأنت؟»

فقال مصدِّقًا: «الحال نفسه.» ثم أضاف: «يمكن القول إنني هنا من أجل قطار الثامنة والثلث ومعي المساعدة. هناك أربعة رجال في الأرجاء. هل سمعت أيَّ شيء عن هاتين السيدتين يا سيد هيثرويك؟»

أجابه وهو يشير إلى رونا: «هذه واحدة منهما. إنهما آمنتان. ستعرف بما حدث فيما بعدُ. لكن بخصوص هذا الأمر؛ ماذا تفهم من برقية ماذرفيلد؟ هل فشل في مهمته؟»

فردَّ روبمور: «سأخبرك بما فهمت من برقيته. أظن أننا سنجد باسيفيري على متن ذلك القطار، ومعه ماذرفيلد وكويجمان يراقبانه عن قرب. ولسببٍ ما في نفسه، يريد ماذرفيلد أن يلقي القبض على باسيفيري هنا؛ هنا بالتحديد! هذا هو ما فهمت. لقد وقعت عيناهما على باسيفيري هناك وقرَّرا تعقُّبه إلى المدينة. وفور أن يصل القطار …»

قاطعته صيحة حادة ومفاجئة من رونا، مما جعل الرجلين يلتفتان إليها. أمسكت رونا بذراع هيثرويك، وفي الوقت نفسه كانت تشير بيدها الأخرى نحو المسافة التي تقع خلفهم.

وقالت: «باسيفيري؛ بنفسه! هناك، تحت تلك الساعة! أتريان! إنه يتجه نحو البوابات!»

وبحركة سريعة وغير لافتة وضع روبمور يده على كتف رونا وأدارها وسحبها بين مجموعة من الوقوف.

غمغم قائلًا: «ابتعدي عن الأنظار أيتها الآنسة! سيتعرَّف الرجل عليكِ! والآن، قولي مرة أخرى أيُّ الرجال هو. ذلك الرجل ذو الوجه الشاحب والقبعة المرتفعة؟ رأيته. من السهل تذكُّر شكله أيضًا. لا بأس! انتظرا هنا أنتما الاثنان. وإذا تحرَّك في هذا الاتجاه، فتحرك أنت بعيدًا في أيِّ اتجاه يا سيد هيثرويك. انتظرا!»

انسلَّ روبمور مبتعدًا. وبعد لحظةٍ رأوه يتحدَّث إلى عدة رجالٍ يبدو عليهم الهدوء، والذين سرعان ما رمقوا باسيفيري بنظرة خاطفة. كان هيثرويك أيضًا يراقب باسيفيري. كان باسيفيري الهادئ المطمئن وغير المريب تمامًا قد اتخذ موقعًا له عند المخرج الذي لا بد للركَّاب في ساوثامبتون أن يخرجوا منه؛ كان يدخِّن سيجارًا في هدوء وبتذوق واضح.

همس هيثرويك يقول: «أنت واثقة أنه هو؟»

فصرَّحت رونا: «باسيفيري؟ إنه هو! ما كنت لأخطئه! لديَّ أسباب قوية للغاية تجعلني أتذكَّر مظهره بالكامل. لكن؛ ها هو ذا! يا له من جريء!»

قال هيثرويك: «في الواقع، ثمة شيء على وشك الحدوث! لنبتعد، لنبتعد كثيرًا! يمكننا متابعة الأوضاع من هنا من دون أن يرانا أحد. إن وقعت عينه عليكِ …»

حينها أتى روبمور عائدًا وانضم إليهما.

وغمغم يقول: «كل شيء على ما يرام! أربعة أزواج من العيون، إضافةً إلينا؛ أي ثلاثة أزواج أخرى، وكلها مسلطة عليه! رجالي قريبون منه أيضًا. هل تريانهم؟ هذا واحد، والثاني، وذلك الثالث، والرابع! كلهم حوله، وهو لا يعرف ذلك. لن أدعه يتمكَّن من الفِرار، سواء ظهر ماذرفيلد أو لم يظهر. إنه شخص هادئ، إذن؟»

فقال هيثرويك: «حان موعد وصول القطار.» كانت يدا رونا على ذراعه، وشعر بأنهما ترتجفان. فهمس لها وهو يميل عليها: «أجل، هذا ما أشعر به أنا أيضًا. إنها لحظة حرجة. لكن ذلك الوغد الواقف هناك …»

كان باسيفيري ينظر إلى الساعة الكبيرة. وبعد ذلك التفت عنها صوب الرصيف فيما وراء البوابات، بينما ينظر في ترقُّب إلى سطحه المُضاء. نظر إليه الآخرون أيضًا. مرَّت دقيقة. ومن بين الظلام في الطرف الأقصى من المحطة الشاسعة، ظهر مهر يجر حمولة العربات الثقيلة خلفه ببطء واقترب من جانب الرصيف يتنهَّد كمارد منهك. بدأ ركَّاب العربات الأولى يقفزون من القطار وبدءوا يتجمَّعون نحو المخرج.

فغمغم روبمور يقول: «والآن حان الوقت. ابتعدا أنتما! سيراقبه رجالي هو والشخص القادم لملاقاته؛ فهو ينتظر شخصًا ما.»

لم يحدث شيء في غضون الدقيقة الأولى. تقدَّم جميع الركَّاب المنصرفين من الرجال والنساء والمدنيين والجنود والبحَّارة وذهبوا كلٌّ في طريقه. وشيئًا فشيئًا كان ذلك الجمْع ينقص ويتفرَّق. أمسكت رونا بذراع هيثرويك فجأة للمرة الثانية، ورأى أنها كانت تحدِّق بشيء خلف الحاجز.

وهتفت رونا تقول: «هناك! هناك، ذلك الرجل الذي يرتدي معطفًا رماديًّا وقبَّعة بلون بني فاتح! هذا هو الرجل الذي قاد السيارة! لقد رآه باسيفيري!»

نظر هيثرويك ورأى باسيفيري يرفع يده إشارة لرجلٍ يافع ناضر الوجه، وكان ذلك الرجل يقترب من جامعي التذاكر، ويحمل في يده اليمنى طردًا صغيرًا مربَّع الشكل. لكنه رأى ما هو أكثر من ذلك. بالقرب من ذلك الرجل ومن خلفه سار ماذرفيلد يتبعه من جانب وكويجمان من الجانب الآخر. واقتربا منه أكثرَ حين اقترب الرجل من البوابة، وعلى الجانب الآخر من البوابة اقترب المحقِّقون من باسيفيري.

فهمس روبمور قائلًا: «حانت اللحظة.» وانسلَّ بسرعة إلى الأمام.

حدث الأمر بسرعة شديدة حتى إن هيثرويك ورونا لم يعرفا كيفية حدوث الأمر بالتحديد. قبل أن يدركا أن الرجال كانوا محاصرين، أو قبل أن يعرف الوقوفُ المحدقون على الرصيف أن شيئًا ما يحدث أمام أعينهم، كان باسيفيري والرجل الذي معه سجينين مكبَّلين بالأغلال وسط مجموعة صغيرة من رجالٍ صامتين يسرعون بهما بعيدًا. وفي غضون لحظة ذاب الشرطيون وأسيراهم في الأطراف الخارجية للمحطة. وأدرك المراقبان فجأةً أن ماذرفيلد كان يقف بالقرب منهما ممسكًا بالطرد المربَّع في يده وتعلو ملامحه ابتسامة خافتة لكنها توحي بارتياح كبير. رفع ماذرفيلد الطرد أمامهم.

وقال: «بشكل محكم يا سيد هيثرويك، بشكل محكم للغاية! محكم على نحوٍ استثنائي، أليس كذلك؟»

لكن هيثرويك كان يعلم أنه لم يكن يشير بحديثه إلى الطرد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤